الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126418
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126418 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)

التاريخ النقليّ ونعني به ضبط الحوادث الكلّيّة والجزئيّة بالنقل والحديث ممّا لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الأرض مهتمّاً به، ففي كلّ عصر من الأعصار على ما نعلمه عدّة من حفظته أو كتّابه والمؤلّفين فيه، وآخرون يعتورون ما ضبطه اُولئك ويأخذون ما أتحفوهم به، والإنسان ينتفع به في جهات شتّى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقصّ والحديث والتفكّه واُمور اُخرى سياسيّة أو اقتصاديّة أو صناعيّة وغير ذلك.

وإنّه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحّة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب:

أحدهما: أنّه لا يزال في كلّ عصر محكوماً للحكومة الحاضرة الّتي بيدها القوّة والقدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها ويغمض عمّا يضرّها ويفسد الأمر عليها، وليس ذلك إلّا ما لانشكّ فيه أنّ الحكومات المقتدرة في كلّ عصر تهتمّ بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضرّ به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق، فإنّ الفرد من الإنسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأيّ نحو أمكن، وهذا أمر لا يشكّ فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامّة الحاضرة في زمان حياته ويتأمّل به في تاريخ الاُمم الماضيّة والبعيدة.

وثانيهما: أنّ المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنيّة والعصبيّات القوميّة فيما يتحمّلون منها أو يقضون فيها، فإنّ حملة الأخبار في الماضين - والحكومة في أعصارهم حكومة الدين - كانوا منتحلين بنحلة ومتديّنين كلّ بدين، وكانت الإحساسات المذهبيّة فيهم قويّة والعصبيّات القوميّة شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخيّة من حيث اشتمالها على أحكام وأقضية كما أنّ العصبيّة المادّيّة والإحساسات القويّة اليوم للحريّة على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، ومن هنا

٣٢١

إنّك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألّف أو جمع من الأخبار أودع شيئاً يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كلّ مذهب موافق لاُصول مذهبه، وكذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخيّة عملته أيديهم إلّا وفيه بعض التأييد للمذهب المادّيّ.

على أنّ هيهنا عوامل اُخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط والأخذ والتحمّل والنقل والتأليف والحفظ عن التغيّر والفقدان سابقاً وهذه النقيصة وإن ارتفعت اليوم بتقرّب البلاد وتراكم وسائل الاتّصال وسهولة نقل الأخبار والانتقال والتحوّل لكن عمّت البليّة من جهة اُخرى وهي: أنّ السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنّيّة، وبحسب تحوّلها تتحوّل الأخبار من حال إلى حال، وهذا ممّا يوجب سوء الظنّ بالتاريخ حتّى كاد أن يورده مورد السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقليّ هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخيّة على أساس الآثار الأرضيّة، وهذا وإن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأوّل مثلاً، لكنّها غير خالية عن الباقي، وعمدته مداخلة المورّخ بما عنده من الإحساس والعصبيّة في الأقضيّة، وتصرّف السياسة فيها افشائاً وكتماناً وتغييراً وتبديلاً، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الّذي لا يقبل الإصلاح أبداً.

ومن هنا يظهر: أنّ القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنّه وحي إلهيّ منزّه عن الخطاء مبرّي عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمّن له يؤمّنه من الكذب والخطاء، فأغلب القصص القرآنيّة (كنفس هذه القصّة قصّة طالوت) يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإنّ كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة الّتي قد علمت كيفيّة تلاعب الأيدي فيها وبها، على أنّ مؤلّف هذه القصّة وهي قصّة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلاً، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافياً له في التواريخ وخاصّة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحقّ من الحقّ عزّ اسمه.

على أنّ القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنّه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدّما

٣٢٢

يرومه كتاب، التاريخ وإنّما هو كلام إلهيّ مفرّغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقصّ قصّة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنّما يأخذ من القصّة نكات متفرّقة يوجب الإمعان والتأمّل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصّة قصّة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى: ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً الخ، ثمّ يقول: وقال لهم نبيّهم: إنّ آية ملكه، ثمّ يقول: فلمّا فصل طالوت الخ، ثمّ يقول فلمّا برزوا لجالوت، ومن المعلوم أنّ اتّصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصّة طويلة، وقد نبّهناك بمثله فيما مرّ من قصّة البقرة وهو مطّرد في جميع القصص المقتصّة في القرآن، لا يختصّ بالذكر منها إلّا مواضع الحاجة فيها: من عبرة وموعظة وحكمة أو سنّة إلهيّة في الأيّام الخالية والاُمم الدارجة، قال تعالى:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) يوسف - ١١١، وقال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) النساء - ٢٦، وقال تعالى:( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) آل عمران - ١٣٨، إلى غير ذلك من الآيات.

٣٢٣

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤)

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ٢٥٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٥٤ )

( بيان)

سياق هاتين الآيتين لا يبعد كلّ البعد من سياق الآيات السابقة الّتي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الإنفاق ثمّ تقصّ قصّة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصّة بقوله تعالى: وإنّك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض، ثمّ ترجع إلى شأن قتال اُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصّة السابقة أعني: قصّة طالوت: ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى قيداً، ثمّ ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كلّه يؤيّد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً.

وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربّما يتوهّم: أن الرسالة وخاصّة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البيّنات الدالّة على حقّيّة الرسالة ينبغي أن تختم بها بليّة القتال: إمّا من جهة أنّ الله سبحانه لمّا أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيويّة والاُخرويّة بأرسال الرسل وإيتاء الآيات البيّنات كان من الحريّ أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع

٣٢٤

كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في اُممهم وخاصّة بعد انتشار دعوة الإسلام الّذي يعدّ الاتّحاد والاتّفاق من أركان أحكامه واُصول قوانينه؟ وإمّا من جهة أنّ إرسال الرسل وإيتاء بيّنات الآيات للدعوة إلى الحقّ لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإيمان من الصفات القلبيّة الّتي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوّة؟ وهذا هو الإشكال الّذي تقدّم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.

والّذي يجيب تعالى به: أنّ القتال معلول الاختلاف الّذي بين الاُمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجرّ أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلّة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكنّ الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الاُمور على سنّة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتالُ فهذا إجمال ما تفيده الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلوّ مقامهم ولذلك جئ في الإشارة بكلمة تلك الدالّة على الإشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإلهيّ الواقع بين الأنبياءعليهم‌السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضّل عليه، وللجميع فضل فإنّ الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أنّ بين الّذين بعدهم اختلافاً على ما يدلّ عليه ذيل الآية إلّا أنّ بين الاختلافين فرقاً، فإنّ الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتّحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين اُمم الأنبياء بعدهم فإنّه اختلاف بالإيمان والكفر، والنفى والإثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرّق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمّى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمّى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضّلنا، وفي مورد اُممهم اختلفوا.

ولمّا كان ذيل الآية متعرّضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدّمة على

٣٢٥

الآية أيضاً راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا - إلى قوله - بروح القدس مقدّمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكنّ الله يفعل ما يريد.

وعلى هذا فصدر الآية لبيان أنّ مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسلعليهم‌السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهيّ وإيتاء البيّنات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

وبعبارة اُخرى محصّل معنى الآية أنّ الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلّما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلاً جديداً، وكلّما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضّاً طريّاً، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البيّنات لايتمّ به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإنّ هذا الاختلاف إنّما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر:( نَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) آل عمران - ١٩، وقد مرّ بيانه في قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة - ٢١٣. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينيّاً، لكنّهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد أجرى الله في سنّة الإيجاد سببيّة ومسبّبيّة بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعيّاً أو لم يأمر به ولكنّه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيّب وليعلمنّ الله الّذين آمنوا وليعلمنّ الكاذبين.

وبالجملة القتال بين اُمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيّناتها إنّما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأمّا البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلّا القتال، فإنّ التجارب يعطي أنّ الحجّة لم تنجح وحدها قطّ إلّا إذا شفّع بالسيف، ولذلك كان كلّما

٣٢٦

اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحقّ والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً.

قوله تعالى: ( مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - أنّ الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدلّ على الفضيلة كالآيات البيّنات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسىعليه‌السلام فإنّ هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنّما يدلّ على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنّه لا يعدّ في نفسه منقبة وفضيلة إلّا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عزّ اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلّا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أنّ هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البيّنات، فحوّل وجه الكلام من التكلّم إلى الغيبة في الجملتين الاُوليين حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل وهو التكلّم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.

وقد اختلف المفسّرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلّم الله: موسىعليه‌السلام لقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٤، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كلّمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه إليه تقريباً سقطت به الوسائط جملة فكلّمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) النجم - ١٠، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لأنّ الوحي تكليم خفيّ، وقد سمّاه الله تعالى تكليماً حيث قال:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الآية الشورى - ٥١، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضيّة الّتي في قوله تعالى: منهم من كلّم الله.

والأوفق بالمقام كون المراد به موسىعليه‌السلام لأنّ تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى

٣٢٧

النازل قبل هذه السورة المدنيّة، قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ - إلى أن قال -قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ) الأعراف - ١٤٣، وهي آية مكّيّة فقد كان كون موسى مكلّماً معهوداً عند نزول هذه الآية.

وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافّة الخلق كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) السباء - ٢٨، وبجعله رحمةً للعالمين كما قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ١٠٧، وبجعله خاتماً للنبوّة كما قال تعالى:( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وبإيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكلّ شئ ومحفوظاً من تحريف المبطلين، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة - ٤٨، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، وقال تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء - ٨٨، وباختصاصه بدين قيّم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم - ٤٣، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدلّ عليه قوله تعالى في نوح:( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافّات - ٧٩، وقوله تعالى في إبراهيمعليه‌السلام :( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة - ١٢٤، وقوله تعالى فيه( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء - ٨٤، وقوله تعالى في إدريسعليه‌السلام ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم - ٥٧، وقوله تعالى في يوسف:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ) يوسف - ٧٦، وقوله في داودعليه‌السلام :( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣ إلى غير ذلك من مختصّات الأنبياء.

وكذا قيل: إنّ المراد بالرسل في الآية هم الّذين اختصّوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى الباقين،

٣٢٨

وقيل: لمّا كان المراد بالرسل في الآية هم الّذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصّة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمّد، وقد ذكر ما اختصّ به موسى من التكليم ثمّ ذكر رفع الدرجات وليس له إلّا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمكن أن يوجّه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: أنّ الوجه فيه عدم سبق ذكرهعليه‌السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

والّذي ينبغى أن يقال: أنّه لا شكّ أنّ ما رفع الله به درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود في الآية غير أنّه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإنّ كلّ ذلك تحكّم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسلعليهم‌السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكلّ من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

وما قيل: أنّ الاُسلوب يقتضي كون المراد به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ السياق في بيان العبرة للاُمم الّتي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعيّن أن يكون البعض الباقي محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فيه: أنّ القرآن يقضي بكون جميع الرّسل رسلاً إلى جميع الناس، قال تعالى:( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ) البقرة - ١٣٦، فإتيان الرسل جميعاً بالآيات البيّنات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الّذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك أصلاً يتفرّع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

( كلام في الكلام)

ثمّ إنّ قوله تعالى: منهم من كلّم الله، يدلّ على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنّه يدلّ على وقوع أمر حقيقيّ من غير مجاز وتمثيل وقد سمّاه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقاً حقيقيّاً أو إطلاقاً مجازيّاً، فالبحث في المقام من جهتين:

٣٢٩

الجهة الاولى: أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ ما خصّ الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم الّتي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإلهيّة الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفيّة على حواسّ الناس، كلّ ذلك أمور حقيقيّة واقعيّة من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسمّوا القوى العقليّة الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي الّتي تترشّح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنسانيّ بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهويّة والغضبيّة النفسانيّة الداعية إلى الشرّ والفساد بالشياطين والجنّ، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيّئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.

فإنّ الآيات القرآنيّة وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشكّ فيه إلّا مكابر متعسّف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوّزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهيّة من غير استثناء إلى المادّيّة المحضة النافية لكلّ ما وراء المادّة، وقد مرّ بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز. ففي مورد التكليم الإلهيّ لا محالة أمر حقيقيّ متحقّق يترتّب عليه من الآثار ما يترتّب على التكلّمات الموجودة فيما بيننا.

توضيح ذلك: أنّه سبحانه عبّر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) النساء - ١٦٣، وقوله تعالى:( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ) الآية، وقد فسّر تعالى هذا الإطلاق المبهم الّذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) الشورى - ٥١، فإنّ الاستثناء في قوله تعالى: إلّا وحياً الخ، لايتمّ إلّا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلّمه الله، تكليماً حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاصّ، فحدّ أصل التكليم حقيقة غير منفيّ عنه.

٣٣٠

والّذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أنّ الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنيّة يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاونيّ، ومنها التكلّم، وقد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلّفة والمختلطة إمارات دالّة على المعاني المكنونة في الضمير الّتي لا طريق إليها إلّا من جهة العلائم الاعتباريّة الوضعيّة، فالإنسان محتاج إلى التكلّم من جهة أنّه لا طريق له إلى التفهيم والتفهّم إلّا جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعليّة وأمارات وضعيّة، ولذلك كانت اللّغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات الّتي تنبّه لها الإنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضاً كانت اللّغات لا تزال تزيد وتتّسع بحسب تقدّم الاجتماع في صراطه، وتكثّر الحوائج الإنسانيّة في حياته الإجتماعيّة.

ومن هنا يظهر: أنّ الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالّة عليه بالوضع والاعتبار إنّما يتمّ في الإنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربّما لحق به بعض أنواع الحيوان ممّا لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأمّا الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاونيّ فلا تحقّق للكلام معه، فلو كان ثمّ إنسان واحد من غير أيّ اجتماع فرض لم تمسّ الحاجة إلى التكلّم قطعاً لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهّم، وكذلك غير الإنسان ممّا لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعيّ والحياة المدنيّة كالملك والشيطان مثلاً.

فالكلام لا يصدر منه تعالى على حدّ ما يصدر الكلام منّا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمّة إليه، الدلالة الاعتباريّة الوضعيّة فإنّه تعالى أجلّ شأناً وأنزه ساحةً أن يتجهّز بالتجهيزات الجسمانيّة، أو يستكمل بالدعاوي الوهميّة الاعتباريّة وقد قال تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى - ١١.

لكنّه سبحانه فيما مرّ من قوله:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) الشورى - ٥١، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وإن نفى

٣٣١

عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحدّه الاعتباريّ المعهود مسلوب عن الكلام الإلهيّ لكنّه بخواصّه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الاُمور الاعتباريّة الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدّم بيانه.

فقد: ظهر أنّ ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبيّ كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بيّن لنا إجمالاً أنّه كلام حقيقة على غير الصفة الّتي نعدّها من الكلام الّذي نستعمله، لكنّه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبّهنا من كلامه أنّ هذا الّذي يسمّيه كلاماً يكلّم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقّق؟ غير أنّه على أيّ حال لا يسلب عنه خواصّ الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة وإلقاؤها في ذهن السامع.

وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء والإماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحقّقه إلى تماميّة الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة ممّا لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات الّتي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله الّتي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات؟ وربّما قبل الانطباق على الزمان. قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) الأعراف - ١٤٣، وقال تعالى( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة - ٢٤٣، وقال تعالى:( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الأنعام - ١٥١، وقال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة - ١١٨، فالآيات كما ترى تفيد زمانيّة الكلام كما تفيد زمانيّة غيره من الأفعال كالخلق والإماتة والإحياء والرزق والهداية والتوبة على حدّ سواء.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، والبحث التفسيريّ المقصور على الآيات القرآنيّة في معنى الكلام، أمّا ما يقتضيه البحث الكلاميّ على ما اشتغل به السلف من المتكلّمين أو البحث الفلسفيّ فسيأتيك نبأه.

٣٣٢

واعلم: أنّ الكلام أو التكليم ممّا لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى:( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) النساء - ١٧١، اُريد به نفس الإنسان، وقال تعالى:( وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة - ٤١، وقال تعالى:( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ) الانعام - ١٥٥، وقال تعالى:( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) لقمان - ٢٧، وقد اُريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الإشارة إليه.

وأمّا لفظ القول فقد عمّ في كلامه تعالى الإنسان وغيره فقال تعالى في مورد الإنسان:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) طه - ١١٧، وقال تعالى في مورد الملائكة:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة - ٣٠، وقال أيضاً:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ) ص - ٧١، وقال في مورد ابليس( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص - ٧٥، وقال تعالى في غير مورد اُولي العقل:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، وقال تعالى:( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) الأنبياء - ٦٩، وقال تعالى:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) هود - ٤٤، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتّتها قوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، وقوله تعالى:( إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم - ٣٥.

والّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة ممّا له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلاً، وممّا سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إنّ الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدّمهما من الآيات) أنّ القول منه تعالى إيجاد أمر يدلّ على المعنى المقصود.

فأمّا في التكوينيّات فنفس الشئ الّذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإنّ من

٣٣٣

المعلوم أنّه إذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسّط بينه تعالى وبين الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيّات نفس الفعل وهو الإيجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.

وأمّا في غير التكوينيّات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنيّاً في الإنسان بأنّ كذا كذا، وذلك إمّا بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفيّة تأثيره في نفس النبيّ بحيث يوجد معه علم في نفسه بأنّ كذا كذا على حدّ ما مرّ في الكلام.

وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختصّ هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصيّة، وهي أنّ الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنّما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعيّ الّذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانيّة الإجتماعيّة، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) أنّ الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيوانيّ الاجتماعيّ وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجيّ العلميّ الّذي يستدعي وضع الاُمور الاعتباريّة.

ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهّم الذهنيّ المستخدم فيه الاعتبار اللغويّ والأصوات المؤلّفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقّق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحقّقه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلّف تأليفاً لفظيّاً وضعيّاً من فم مشقوق ينضمّ إليه أعضاء فعّالة للصوت من واحد، والتأثّر من ذلك بإحساس اُذن مشقوق ينضمّ إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتّب عليه أثر القول وخاصّته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللّفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.

وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى:( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) النمل - ١٨،

٣٣٤

وقال تعالى:( فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل - ٢٢، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل - ٦٨.

وهناك ألفاظ اُخر ربّما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣، والإلهام، قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، والنبأ، قال تعالى:( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم - ٣، والقصّ، قال تعالى:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الأنعام - ٥٧، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الّذي قلناه في أوّل الكلام من لزوم تحقّق أمر حقيقيّ معه يترتّب عليه أثر القول وخاصّته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقيّ المتحقّق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً، وفي الوحي خاصّة كلام سيأتي التعرّض له في سورة الشورى إنشاء الله.

وأمّا اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللّفظيّة على المورد، فالقول يسمّى كلاماً نظراً إلى السبب الّذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمّي هذا الفعل الإلهيّ في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاماً لأنّ العناية هناك إنّما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمّى قولاً بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمّي هذا الأمر الإلهيّ في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى:( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ ) ص - ٨٥، ويسمّى وحياً بعناية كونه خفيّاً عن غير الأنبياء ولذلك عبّر في موردهمعليهم‌السلام بالوحي كقوله:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء - ١٦٣.

الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفيّة الاستعمال فقد عرفت أنّ مفردات اللّغة إنّما انتقل الإنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الاُمور الجسمانيّة ابتدائاً ثمّ انتقل تدريجاً إلى المعنويّات، وهذا

٣٣٥

وإن أوجب كون استعمال اللّفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازيّاً ابتدائاً لكنّه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقّي الاجتماع وتقدّم الإنسان في المدنيّة والحضارة، يوجب التغيّر في الوسائل الّتي ترفع حاجته الحيويّة، والتبدّل فيها دائماً مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدّل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتّبة وذلك كما أنّ السراج في أوّل ما تنبّه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيّات مع فتيلة متّصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل، فركّبته الصناعة على هذه الهيئة أوّلاً وسمّاه الإنسان بالسراج، ثمّ لم يزل يتحوّل طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق، حتّى انتهت إلى هذه السرج الكهربائيّة الّتي لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أوّلاً، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفيّة أو فلزّيّة، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حدّ سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلّا أنّ الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتّب على المصنوع أوّلاً يترتّب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إلّا بغايتها في الحياة وأثرها المترتّب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصّة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغيّر وتبدّل، وإن تغيّر الشكل أحياناً أو الكيفيّة أو الكمّيّة أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقيّ وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغيّر، وقلّما يوجد اليوم في الاُمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي اُلوف واُلوف - شئ لم يتغيّر ذاته عمّا حدث عليه أوّلاً، غير أنّ بقاء الأثر والخاصّة أبقى لكلّ واحد منها اسمه الأوّل الّذي وضع له. وفي اللّغات شئ كثير من القسم الأوّل وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتّبع البصير.

فقد تحصّل أن استعمال الكلام والقول فيما مرّ مع فرض بقاء الأثر والخاصّة

٣٣٦

استعمال حقيقيّ لا مجازيّ.

فظهر من جميع ما بيّناه: أنّ إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقيّ واقعيّ، وأنّه من مراتب المعنى الحقيقيّ لهاتين اللّفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أنّ سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإرادة والإعطاء كذلك.

واعلم: أنّ القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقيّ واقعيّ غير اعتباريّ كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهّم أكثر الباحثين في المعارف الدينيّة: أنّ ما اشتملت عليه هذه البيانات اُمور اعتباريّة ومعاني وهميّة نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدّم والتصدّر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنّة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتّبة نظير ترتّب الآثار الخارجيّة على هذه المقامات الإجتماعيّة الاعتباريّة، أي إنّ الرابطة بين المقامات المعنويّة المذكورة وبين النتائج المترتّبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطراراً - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدّس، محكوماً بالآراء الاعتباريّة ومبعوثاً عن الشعور الوهميّ كالإنسان الواقع في عالم المادّة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقرّبين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقيّة المعنويّة الّتي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنّة إلّا أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريّات.

قوله تعالى: ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلّم دون الغيبة كما مرّ.

والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أنّ ما ذكره لهعليه‌السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البيّنات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس ممّا يختصّ ببعضهم دون بعض، قال تعالى:( قَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ

٣٣٧

مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا ) النمل - ٢، لكنّهما في عيسى بنحو خاصّ فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات كانت اُموراً متّكئة على الحياة مترشّحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسىعليه‌السلام وصرّح باسمه إذ لولا التصريح لم يدلّ على كونه فضيلة خاصّة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البيّنات وأيّدناه بروح القدس، إذ البيّنات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصّة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلّا مع التصريح باسمه ليعلم أنّها فيه بنحو خاصّ غير مشترك تقريباً، على أنّ في اسم عيسىعليه‌السلام خاصّة اُخرى وآية بيّنة وهي: أنّه ابن مريم لا أب له، قال تعالى:( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء - ٩١، فمجموع الابن والاُمّ آية بيّنة إلهيّة وفضيلة اختصاصيّة اُخرى.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، العدول إلى الغيبة ثانياً لأنّ لمقام مقام إظهار أنّ لمشيّة والإرادة الربّانيّة غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهيّة، وبالجملة وصف الاُلوهيّة هي الّتي تنافي تقيّد القدرة وتوجب إطلاق تعلّقها بطرفي الإيجاب والسلب فمسّت حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهيّة للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكنّ الله يفعل ما يريد وهو الوجه أيضاً في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: ( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنّه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أنّ الاختلاف بالإيمان والكفر وسائرالمعارف الأصليّة المبيّنة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنّما حدث بين الناس بالبغى، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.

قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ، أي ولو شاء الله لم يؤثّر الاختلاف في استدعاء القتال ولكنّ الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثّر

٣٣٨

هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جرياً على سنّة الأسباب.

ومحصّل معنى الآية والله العالم: أنّ الرسل الّتي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقرّبون عند ربّهم، مرتفع عن الناس اُفقهم وهم مفضّل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بيّنات أظهروا بها الحقّ كلّ الاظهار وبيّنوا طريق الهداية أتمّ البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلّا إلى الوحدة والاُلفة والمحبّة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثمّ التفرّق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ واُجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنّة الأسباب الّتي أرادها الله في عالم الصنع والإيجاد، والله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا ) الخ، معناه واضحٌ وفي ذيل الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق كفر وظلم.

( بحث روائي)

في الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: تلك الرسل فضّلنا الخ، في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن إصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفاً مع أميرالمؤمنين عليّ بن أبيطالبعليه‌السلام يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقالعليه‌السلام : على هذه الآية( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم - فنحن الّذين من بعدهم -وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) فنحن الّذين

٣٣٩

آمنّا وهُم الّذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم وربّ الكعبة ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل (رحمه الله).

أقول: وروي هذه القصّة المفيد والشيخ في أماليهما والقميّ في تفسيره، والرواية تدلّ على أنّهعليه‌السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعمّ من الكفر الخاصّ المصطلح الّذي له أحكام خاصّة في الدين، فإنّ النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنّهعليه‌السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفّين والخوارج معاملة الكفّار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردّة من الدين، فليس إلّا أنّه عدّهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كانعليه‌السلام يقول: اُقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنّه يدلّ على أنّ البيّنات الّتي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الّذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف ممّا لا تنفع فيه البيّنات من الرسل بل هو ممّا يؤدّي إليه الاجتماع الإنسانيّ الّذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً - إلى أن قال -وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢١٣، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) هود - ١١٩، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم ممّا لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الاُمة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) البقرة - ٢١٤، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.

وأمّا أنّ ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد

٣٤٠