الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126424
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126424 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الأخبار يدلّ على أنّ الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المعاملة، من غير أنّ يستثنوا أنفسهم من ذلك استناداً إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب. وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: لم يزل الله جلّ اسمه عالماً بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلت: - جعلت فداك - فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلام محدث، كان الله عزّوجلّ وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام.

وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرّة المحدّث عن الرضاعليه‌السلام فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانيّة أم بالعبرانيّة فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسنعليه‌السلام : سبحإنّ الله عمّا تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم متكلّمون ولكنّه سبحانه ليس كمثله شئ ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيّته ما خاطب به موسى من الأمر والنهى من غير تردّد في نفس - الخبر -.

وفي نهج البلاغة في خطبة لهعليه‌السلام : متكلّم لابرويّة، مريد لابهمّة، الخطّبة.

وفي النهج أيضاً في خطبة لهعليه‌السلام : الّذي كلّم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيماً، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولالهوات، الخطبة.

اقول: والأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة على أنّ كلامه تعالى الّذي يسمّيه الكتاب والسنّة كلاماً صفة فعل لا صفة ذات.

( بحث فلسفي)

ذكرالحماء: أنّ ما يسمّى عند الناس قولاً وكلاماً وهو نقل الإنسان لمتكلّم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلّفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخطّب أو السامع

٣٤١

نقل المعنى الموضوع له الّذي في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخطّب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهّم، قالوا: وحقيقة الكلام متقوّمة بما يدلّ على معنى خفيّ مضمر، وأمّا بقيّة الخصوصيّات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعاً لاأزيد عدداً أو أقلّ ممّا ركّبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيّات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الّذي يتقوّم بها الكلام.

فالكلام اللفظيّ الموضوع الدالّ على ما في الضمير كلام، وكذا الإشارة الوافية لإرائه المعنى كلام كما ان إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول، وكذا الوجودات الخارجيّة لمّا كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علّته وكونه رابطاً متنزّلاً له يحكي بوجوده وجود علّته، ويدلّ بذاته على خصوصيّات ذات علّته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكلّ معلول بخصوصيّات وجوده كلام لعلّته تتكلّم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيّات بطور اللفّ كلمة من كلمات علّته، فكلّ واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علّته الفيّاضة، وكلّ مجموع منها، ومجموع العالم الإمكانيّ كلام الله سبحانه يتكلّم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته، فكما أنّه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلّم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء والصفات والعالم كلامه.

بل الدقّة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالّاً على نفسه فإنّ الدلالة بالأخرة شأن وجوديّ ليس ولا يكون لشئ بنحو الأصالة إلّا لله وبالله سبحانه، فكلّ شئ دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله سبحانه هو الدالّ على نفس هذا الشئ الدالّ، وعلى دلالته لغيره. فهو سبحانه هو الدالّ على ذاته بذاته وهو الدالّ على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدّم، فقد تحصّل بهذا البيان أنّ من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما

٣٤٢

عند موجده من الكمال.

اقول: ما نقلنا على تقدير صحّته لا يساعد عليه اللفظ اللغويّ، فإنّ الّذي أثبته الكتاب والسنّة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلّم الله، وقوله: وكلّم الله موسى تكليماً، وقوله: قال الله يا عيسى، وقوله: وقلنا يا آدم، وقوله: إنّا أوحينا إليك، وقوله: نبّأني العليم الخبير، ومن المعلوم أنّ الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شئ من هذه الموارد.

واعلم أنّ بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلميّة الّتي اشتغلت به الباحثون من المسلمين (وبذلك سمّي علم الكلام به) وهي أنّ كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟

ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنّهم فسّروا الكلام بأنّ المراد بالكلام هو المعاني الذهنيّة الّتي يدلّ عليه الكلام اللّفظيّ، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، وأمّا الكلام اللّفظيّ وهو الأصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.

وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنّهم فسّروا الكلام بالألفاظ الدالّة على المعنى التامّ دلالة وضعيّة فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: وأمّا المعاني النفسيّة الّتي تسمّيه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً فهي صور علميّة وليست بالكلام.

وبعبارة اُخرى: إنّا لا نجد في نفوسنا عند التكلّم بكلام غير المفاهيم الذهنيّة الّتي هي صور علميّة فإنّ اُريد بالكلام النفسيّ ذلك كان علماً لا كلاماً، وإن اُريد به أمر آخر وراء الصورة العلميّة فإنّا لا نجد ورائها شيئاً بالوجدان، هذا.

وربّما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شئ واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقاً لصفتين أو أزيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنيّة علماً من جهة كونه انكشافاً للواقع، وكلاماً من جهة كونه علماً يمكن إفاضته للغير؟

اقول: والّذي يحسم مادّة هذا النزاع من أصله أنّ وصف العلم في الله سبحانه بأيّ معنى أخذناه أي سواء اُخذ علماً تفصيليّاً بالذات وإجماليّاً بالغير، أو اُخذ علماً

٣٤٣

تفصيليّاً بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الّذي هو عين الذات، أو اُخذ علماً تفصيليّاً قبل الإيجاد بعد الذات أو اُخذ علماً تفصيليّاً بعد الإيجاد وبعد الذات جميعاً، فالعلم الواجبيّ على جميع تصاويره علم حضوريّ غير حصوليّ. والّذي ذكروه وتنازعوا عليه إنّما هو من قبيل العلم الحصوليّ الّذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنيّة مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتّب عليها آثارها الخارجيّة فقد أقمنا البرهان في محلّه: أنّ المفاهيم والمهيّات لاتتحقّق إلّا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنساً من أنواع الحيوان الّتي تعمل الأعمال الحيويّة بالحواسّ الظاهرة والإحساسات الباطنة.

وبالجملة فالله سبحانه أجلّ من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والمهيّات الاعتباريّة ممّا لاملاك لتحقيقه إلّا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتباريّة في ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدّسة محلّا للتركيب، ومعرضاً لحدوث الحوادث، وكلامه محتملاً للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدّس.

وأمّا معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجئ إنشاء الله بيانه في موضع يليق به.

٣٤٤

( سورة البقرة آية ٢٥٥)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( ٢٥٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، قد تقدّم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، وأنّه سواء اُخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.

وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلّا هو، في قوله تعالى:( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) البقرة - ١٦٣، وضمير هو وإن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لمّا كان علماً بالغلبة يدلّ على نفس الذات من حيث إنّه ذات وإن كان مشتملاً على بعض المعاني الوصفيّة الّتي يلمح باللّام أو بالإطلاق إليها، فقوله: لا إله إلّا هو، يدلّ على نفي حقّ الثبوت عن الآلهة الّتي تثبت من دون الله.

وأمّا اسم الحيّ فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبّهة في دلالتها على الدوام والثبات.

والناس في بادي مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحسّ ما دام وجوده ثابتاً كالأحجار وسائر الجمادات، وقسم منها ربّما تغيّرت حاله وتعطّلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحسّ، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات فإنّا ربّما نجدها تعطّلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثمّ يطرأ عليها الفساد تدريجاً، وبذلك أذعن الإنسان بأنّ هناك وراء الحواسّ أمراً آخر

٣٤٥

هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلميّة والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمّى بالحياة ويسمّى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشّح عنه العلم والقدرة.

وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى:( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) الحديد - ١٧، وقال تعالى:( أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) فصّلت - ٣٩، وقال تعالى:( وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ) الفاطر - ٢٢، وقال تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) الأنبياء - ٣٠، فهذه تشمل حياة أقسام الحيّ من الإنسان والحيوان والنبات.

وكذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى:( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) يونس - ٧، وقال تعالى:( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، والإحيائان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخيّة، والثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحيّ أقسام.

والله سبحانه مع ما يقرّر هذه الحياة الدنيا يعدّها في مواضع كثيرة من كلامه شيئاً رديّاً هيّناً لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) الرعد - ٢٦، وقوله تعالى:( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) النساء - ٩٤، وقوله تعالى:( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الكهف - ٢٨، وقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) الأنعام - ٣٢، وقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) الحديد - ٢٠، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدّها متاعاً والمتاع ما يقصد لغيره، وعدّها عرضاً والعرض ما يعترض ثمّ يزول، وعدّها زينة والزينة هو الجمال الّذي يضمّ على الشئ ليقصد الشئ لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع، وعدّها لهواً واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عمّا يهمك، وعدّها لعباً واللعب هو الفعل الّذي يصدر لغاية خياليّة لحقيقيّة، وعدّها متاع الغرور وهو ما يغرّ به الإنسان.

ويفسّر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت - ٦٤، يبيّن أنّ

٣٤٦

الحياة الدنيا إنّما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها، وهي الحياة الّتي لاموت بعدها، قال تعالى:( آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥، فلهم في حياتهم الآخرة أن لايعتريهم الموت، ولايعترضهم نقص في العيش وتنغّص، لكنّ الأوّل من الوصفين أعني الأمن هو الخاصّة الحقيقة للحياة الضروريّة له.

فالحياة الاُخرويّة هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طروّ الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكنّ الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اُخر كثيرة أنّه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقيّة الاُخرويّة والمحيي للإنسان في الآخرة، وبيده تعالى أزمّة الاُمور، فأفاد ذلك أنّ الحياة الاُخرويّة أيضاً مملوكة لامالكة ومسخّرة لا مطلقة أعني أنّها إنّما ملكت خاصّتها المذكورة بالله لا بنفسها.

ومن هنا يظهر أنّ الحياة الحقيقيّة يجب أن تكون بحيث يستحيل طروّ الموت عليها لذاتها ولا يتصوّر ذلك إلّا بكون الحياة عين ذات الحيّ غير عارضة لها ولاطارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته، قال تعالى:( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) الفرقان - ٥٨، وعلى هذا فالحياة الحقيقيّة هي الحياة الواجبة، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات.

ومن هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) قصر حقيقيّ غير إضافيّ، وأنّ حقيقة الحياة الّتي لا يشوبها موت ولايعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى.

فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم الآية، وكذا في قوله تعالى:( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) آل عمران - ١، أن يكون لفظ الحيّ خبراً بعد خبر فيفيد الحصر لأنّ التقدير، الله الحيّ فالآية تفيد أنّ الحياة لله محضاً إلّا ما أفاضه لغيره.

وأمّا اسم القيّوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيّام فيعال من القيام وصف يدلّ على المبالغة والقيام هو حفظ الشئ وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه، كلّ

٣٤٧

ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العاديّة بين الانتصاب وبين كلّ منها.

وقد اثبت الله تعالى أصل القيام باُمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد - ٣٣، وقال تعالى - وهو أشمل من الآية السابقة -:( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) آل عمران - ١٨، فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود (وليس الوجود إلّا الإعطاء والمنع) إلّا بالعدل بإعطاء كلّ شئ ما يستحقّه ثمّ بين أنّ هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزّته يقوم على كلّ شئ وبحكمته يعدل فيه.

وبالجملة لمّا كان تعالى هو المبدء الّذي يبتدى منه وجود كلّ شئ وأوصافه وآثاره لامبدء سواه إلّا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كلّ شئ من كل جهة بحقيقة القيام الّذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قطّ إلّا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلّا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره إلّا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، وحصره على القيام، وأوّل الحصرين هو الّذي يدلّ عليه كون القيّوم في الآية خبراً بعد خبر لله (الله القيّوم)، والحصر الثاني هو الّذي تدلّ عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة ولا نوم.

وقد ظهر من هذا البيان أنّ اسم القيّوم أمّ الأسماء الإضافيّة الثابتة له تعالى جميعاً وهي الأسماء الّتي تدلّ على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

قوله تعالى: ( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) ، السنة بكسر السين الفتور الّذي يأخذ الحيوان في أوّل النوم، والنوم هو الركود الّذي يأخذ حواسّ الحيوان لعوامل طبيعيّة تحدث في بدنه، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه.

وقد اُورد على قوله: سنة ولا نوم أنّه على خلاف الترتيب الّذي تقتضيه البلاغة فإنّ المقام مقام الترقّي، والترقّي في الإثبات إنّما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، وفلان يجود بالمئآت بل بالاُلوف وفي النفي

٣٤٨

بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين ولاعشرة، ولا يجود بالاُلوف ولا بالمئآت، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم ولاسنة.

والجواب: أنّ الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات والنفي دائماً كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصحّ العكس، بل المراد هو صحّة الترقّي وهي مختلفة بحسب الموارد، ولمّا كان أخذ النوم أقوى تأثيراً وأضرّ على القيّوميّة من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفى تأثير السنة وأخذها أوّلاً ثمّ يترقّى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيراً، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثّر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره ولاما هو أقوى منه.

قوله تعالى: ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) لمّا كانت القيّوميّة التامّة الّتي له تعالى لا تتمّ إلّا بأن يملك السماوات والأرض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أنّ التوحيد التامّ في الاُلوهيّة لا يتمّ إلّا بالقيّوميّة، ولذلك ألحقها بها أيضاً.

وهاتان جملتان كلّ واحدة منهما مقيّدة أو كالمقيّدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الّذي يشفع عنده إلّا بإذنه، وقوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مع قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء.

فأمّا قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى (بالكسر) للموجودات وملكه تعالى (بالضمّ) لها، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الأوصاف والآثار بالله سبحانه هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فالجملة تدلّ على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار.

وقد تمّ بقوله: القيّوم لا تأخذه سنة ولانوم له ما في السماوات وما في الأرض أنّ السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرّف إلّا وهو له ومنه، فيقع من ذلك في الوهم أنّه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم

٣٤٩

ما شأنها؟ وكيف يتصوّر فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلّا لله سبحانه؟

فاُجيب بأنّ تصرّف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسّط في التصرّف، وبعبارة اُخرى شفاعة في موارد المسبّبات بإذن الله سبحانه، فإنّما هي شفعاء، والشفاعة - وهي بنحو توسّط في إيصال الخير أو دفع الشرّ، وتصرّف ما من الشفيع في أمر المستشفع - إنّما تنافي السلطإنّ الإلهيّ والتصرّف الربوبيّ المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله، ولم يعتمد على مشيّة الله تعالى بل كانت مستقلّة غير مرتبطة وما من سبب من الأسباب ولا علّة من العلل إلّا وتأثيره بالله ونحو تصرّفه بإذن الله، فتأثيره وتصرّفه نحو من تأثيره وتصرّفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلّا سلطانه ولا قيّوميّة إلّا قيّوميّته المطلقة عزّ سلطانه.

وعلى ما بيّناه فالشفاعة هي التوسّط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعمّ من الشفاعة التكوينيّة وهي توسّط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعيّة أعني التوسّط في مرحلة المجازاة الّتي تثبتها الكتاب والسنّة في يوم القيامة على ما تقدّم البحث عنها في قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ) البقرة - ٤٨، وذلك أنّ الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الّذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيّوميّة والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً، بل المتماسّين بالتكوين ظاهراً فلا موجب لتقييدهما بالقيّوميّة والسلطنة التشريعيّتين حتّى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.

فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) الم السجدة - ٤، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أنّ حدّها كما ينطبق على الشفاعة التشريعيّة كذلك ينطبق على السببيّة التكوينيّة، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسّك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسبّبه، فنظام

٣٥٠

السببيّة بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة، قال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، وقال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم - ٣٤، وقد مرّ بيانه في تفسير قوله تعالى:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ) البقرة - ١٨٦.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) ، سياق الجملة مع مسبوقيّتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء - ٢٨، فالظاهر أنّ ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الّذي تدلّ عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسّط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه، ولا يقدر غيرهم أيضاً أن يستفيد سوئاً من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدّره.

وإلى نظير هذا المعنى يدلّ قوله تعالى:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم - ٦٤، وقوله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) الجنّ - ٢٨، فإنّ الآيات تبيّن إحاطته تعالى بالملائكة والأنبياء لئلّا يقع منهم ما لم يرده، ولا يتنزّلوا إلّا بأمره، ولا يبلّغوا إلّا ما يشاؤه. وعلى ما بيّناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، وبما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، ويؤل المعنى إلى الشهادة والغيب.

وبالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، تبييناً لتمام الإحاطة الربوبيّة والسلطة

٣٥١

الإلهيّة أي إنّه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء.

ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكّر العاقل وهو قوله( هُم ) في المواضع الثلاثة إلى الشفعاء ما قدّمناه من أنّ الشفاعة أعمّ من السببيّة التكوينيّة والتشريعيّة، وأنّ الشفعاء هم مطلق العلل والأسباب، وذلك لأنّ الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها أنّها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخصّ اُولي العقل من العبارة. وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بيّناته كقوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الأسراء - ٤٤، وقوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير وكماله، فإنّ من كمال التدبير أن يجهل المدبّر (بالفتح) بما يريده المدبّر (بالكسر) من شأنه ومستقبل أمره لئلّا يحتال في التخلّص عمّا يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبّر (بالكسر) تدبيره، كجماعة مسيّرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتّى لا يدروا من أين سيروا، وفي أين نزلوا، وإلى أين يقصد بهم.

فيبيّن تعالى بهذه الجملة أنّ التدبير له وبعلمه بروابط الأشياء الّتي هو الجاعل لها، وبقيّة الأسباب والعلل وخاصّة اُولوا العلم منها وإن كان لها تصرّف وعلم لكن ما عندهم من العلم الّذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنّما هو من علمه تعالى وبمشيّته وإرادته، فهو من شئون العلم الإلهيّ، وما تصرّفوا به فهو من شئون التصرّف الإلهيّ وأنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلّا وهو بعض التدبير.

وفي قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدريّ أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أنّ العلم كلّه لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلّا وهو شئ من علمه تعالى، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من

٣٥٢

اختصاص القدرة والعزّة والحياة بالله تعالى، قال تعالى:( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة - ١٦٥، وقال تعالى:( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء - ١٣٩، وقال تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن - ٦٥، ويمكن أن يستدلّ على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف - ٨٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) آل عمران - ٦٦، إلى غير ذلك من الآيات، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه، لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، الكرسيّ معروف وسمّي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض، وربّما كنّي بالكرسيّ عن الملك فيقال: كرسيّ الملك، ويراد منطقة نفوذه ومتّسع قدرته.

وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السماوات وما في الأرض الخ، تفيد أنّ المراد بسعة الكرسيّ إحاطة مقام السلطنة الإلهيّة، فيتعيّن للكرسيّ من المعنى: أنّه المقام الربوبيّ الّذي يقوم به ما في السماوات والأرض من حيث إنّها مملوكة مدبّرة معلومة، فهو من مراتب العلم، ويتعيّن للسعة من المعنى: أنّها حفظ كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض بذاته وآثاره، ولذلك ذيّله بقوله: ولا يؤده حفظهما.

قوله تعالى: ( وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ، يقال: آده يؤده أوداً إذا ثقل عليه وأجهده وأتعبه، والظاهر أنّ مرجع الضمير في يؤده، هو الكرسيّ وإن جاز رجوعه إليه تعالى، ونفي الأود والتعب عن حفظ السماوات والأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيّوميّة على ما في السماوات والأرض.

ومحصّل ما تفيده الآية من المعنى: إنّ الله لا إله إلّا هو له كلّ الحياة وله القيّوميّة المطلقة من غير ضعف ولافتور، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العليّ العظيم فإنّه تعالى لعلوّه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفاً في وجوده وفتوراً في أمره، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السماوات

٣٥٣

والأرض، وجملة: وهو العليّ العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، وهذا الحصر إمّا حقيقيّ كما هو الحقّ، فإنّ العلوّ والعظمة من الكمال وحقيقة كلّ كمال له تعالى، وإمّا دعوىّ لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختصّ العلوّ والعظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات والأرض عن العلوّ والعظمة في قبال علوّه وعظمته تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قال أبوذرّ: يا رسول الله ما أفضل ما اُنزل عليك؟ قال: آية الكرسيّ، ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثمّ قال: وإنّ فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة.

اقول: وروي صدر الرواية السيوطيّ في الدرّ المنثورعن ابن راهويه في مسنده عن عوف بن مالك عن أبي ذرّ، ورواه أيضاً عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي ذرّ.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والطبرانيّ عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله أيّما اُنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، آية الكرسيّ.

اقول: وروي فيه هذا المعنى أيضاً عن الخطيب البغداديّ في تاريخه عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أيضاً عن الدارميّ عن أيفع بن عبدالله الكلاغيّ، قال: قال: رجل: يا رسول الله أيّ آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسيّ: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، الحديث.

اقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسيّ ممّا قد اشتهرت في صدر الإسلام حتّى في زمان حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وعن الصحابة. وليس إلّا للاعتناء التامّ بها وتعظيم أمرها، وليس إلا لشرافة ما تدلّ عليه من المعنى ورقّته ولطفه، وهو التوحيد الخالص

٣٥٤

المدلول عليه بقوله: الله لا إله إلّا هو، ومعنى القيّوميّة المطلقة الّتي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مرّ بيانه، وتفصيل جريان القيّوميّة في ما دقّ وجلّ من الموجودات من صدرها إلىّ ذيلها ببيان أنّ ما خرج منها من السلطنة الإلهيّة فهو من حيث إنّه خارج منها داخل فيها، ولذلك ورد فيها أنّها أعظم آية في كتاب الله، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإنّ مثل قوله تعالى،( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه - ٨، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسيّ غير أنّها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، ولذا ورد في بعض الأخبار أنّ آية الكرسيّ سيّدة آي القرآن رواها في الدرّ المنثور عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وورد في بعضها أنّ لكلّ شئ ذروة وذروة القرآن آية الكرسيّ، رواها العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان عن الصادقعليه‌السلام .

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن أبي أمامة الباهليّ: أنّه سمع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: ما أرى رجلاً أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها. قلت: وما سوادها؟ قال: جميعها حتّى يقرء هذه الآية: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم فقرء الآية إلى قوله: ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ كان قبلي، قال عليّ فما بتّ ليلة قطّ منذ سمعتها من رسول الله إلّا قرئتها، الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن عبيد وابن أبي شيبة والدارميّ ومحمّد بن نصر وابن الضريس عنهعليه‌السلام ، ورواه أيضاً عن الديلميّ عنهعليه‌السلام ، والروايات من طرق الشيعة وأهل السنّة في فضلها كثيرة، وقولهعليه‌السلام : إنّ رسول الله قال: اُعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى أيضاً في الدرّ المنثور عن البخاريّ في تاريخه وابن الضريس عن انس أنّ النبيّ قال: اُعطيت آية الكرسيّ من تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسيّ تحت العرش ومحاطاً له وسيأتي الكلام في بيانه.

٣٥٥

وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ: وسع كرسيّه السماوات والأرض، السماوات والأرض وسعن الكرسيّ أو الكرسيّ وسع السماوات والأرض؟ فقالعليه‌السلام : إنّ كلّ شئ في الكرسيّ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ عنهم في عدّة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب، إذ لم يرو قرائة كرسيّه بالنصب والسماوات والأرض بالرفع حتّى يستصحّ بها هذا السؤال، والظاهر أنّه مبنيّ على ما يتوهّمه الأفهام العاميّة أنّ الكرسيّ جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة (أعني فوق عالم الأجسام) منه يصدر أحكام العالم الجسمانيّ، فيكون السماوات والأرض وسعته إذ كان موضوعاً عليها كهيئة الكرسيّ على الأرض، فيكون معنى السؤال أنّ الأنسب أنّ السماوات والأرض وسعت الكرسيّ فما معنى سعته لها؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فاُجيب بأنّ الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض.

وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ: وسع كرسيّه السماوات والأرض، قال: علمه.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام في الآية السماوات والأرض وما بينهما في الكرسيّ، والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره.

أقول: ويظهر من الروايتين: أنّ الكرسيّ من مراتب علمه تعالى كما مرّ استظهاره، وفي معناهما روايات اُخرى.

وكذا يظهر منهما وممّا سيجئ: أنّ في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أنّ فوق هذا العالم الّذي نحن من أجزائها عالماً آخر موجوداتها اُمور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانيّة، والتعيّنات الوجوديّة الّتي لوجوداتنا، وهي في عين أنّها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أنّ وجودها عين العلم، كما أنّ الموجودات المحدودة الّتي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إنّ وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده، ولعلّنا نوفّق لبيان هذا العلم المسمّى بالعلم الفعليّ

٣٥٦

فيما سيأتي من الموارد المناسبة.

وما ذكرناه من علم غير محدود هو الّذي يرشد إليه قولهعليه‌السلام في الرواية: والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره، ومن المعلوم أنّ عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عدداً، لاستحالة وجود عدد غير متناه، وكلّ عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقلّ ممّا يزيد عليه بواحد، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسيّ بعض العرش لكونه أيضاً علماً وإن كان محدوداً، بل عدم التناهي والتقدير إنّما هو من جهة كمال الوجود أي إنّ الحدود والقيود الوجوديّة يوجب التكثّر والتميّز والتمايز بين موجودات عالمنا المادّيّ، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف والأفراد، والأفراد بالحالات، والإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وسيجئ تمام الكلام فيه إنشاء الله تعالى.

وهذه الموجودات كما أنّها معلومة بعلم غير مقدّر أي موجودة في ظرف العلم وجوداً غير مقدّر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا هو الكرسيّ على ما يستظهر.

وربّما لوح إليه أيضاً قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، حيث جعل المعلوم: ما بين أيديهم وما خلفهم، وهما أعني ما بين الأيدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادّيّ، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرّقات الزمانيّة ونحوها، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدّرة وإلّا لم يصحّ الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدّرات من حيث هي محدودة مقدّرة والله اعلم.

وفي التوحيد عن حنّان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن العرش والكرسيّ فقالعليه‌السلام إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وصنع في القرآن صفة على حدة، فقوله: ربّ العرش العظيم يقول: ربّ الملك العظيم، وقوله: الرحمن على العرش استوى،

٣٥٧

يقول على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفيّة في الأشياء، ثمّ العرش في الوصل مفرد عن الكرسيّ، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعاً غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الّذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلّها، والعرش هو الباب الباطن الّذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والمشيّة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسيّ، وعلمه أغيب من علم الكرسيّ، فمن ذلك قال: ربّ العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسيّ، وهما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسيّ؟، قالعليه‌السلام : إنّه صار جارها لأنّ علم الكيفوفيّة فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنّيّتها وحدّ رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلّوا على صدق دعواهما لأنّه يختصّ برحمته من يشاء وهو القوّي العزيز.

أقول: قولهعليه‌السلام : لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالاً، فمرتبه العلم المقدّر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسمانيّ المقدّر المحدود ممّا لا قدر له ولا حدّ، وسيجئ شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ) الأعراف - ٥٤، وقولهعليه‌السلام : وبمثل صرّف العلماء، إشارة إلى أنّ هذه الألفاظ من العرش والكرسيّ ونظائرها أمثال مصرّفة مضروبة للناس وما يعقلها إلّا العالمون.

وفي الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام : في حديث: كلّ شئ خلق الله في جوف الكرسيّ خلا عرشه فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ.

اقول: وقد تقدّم توضيح معناه، وهو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الأخبار أنّ العرش هو العلم الّذي اطّلع الله عليه أنبيائه ورسله، والكرسيّ هو العلم الّذي لم يطّلع عليه أحداً كما رواه الصدوق عن المفضّل عن الصادقعليه‌السلام كأنّه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسيّ، أو أنّه مطروح

٣٥٨

كالرواية المنسوبة إلى زينب العطّارة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ السماء والأرض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسيّ، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله.

اقول: ورواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام ، ولم يرو عنهمعليهم‌السلام للكرسيّ حملة إلّا في هذه الرواية، بل الأخبار إنّما تثبت الحملة للعرش وفقاً لكتاب الله تعالى كما قال:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) المؤمن - ٧، وقال تعالى:( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) الحاقّة - ١٧، ويمكن أن يصحّح الخبر بأنّ الكرسيّ - كما سيجئ بيانه - يتّحد مع العرش بوجه اتّحاد ظاهر الشئ بباطنه. وبذلك يصحّ عدّ حملة أحدهما حملة للآخر.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن معوية بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت: من ذا الّذي يشفع عنده إلّا بإذنه قال: نحن اُولئك الشافعون.

اقول: ورواه البرقيّ أيضاً في المحاسن، وقد عرفت أنّ الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينيّة والتشريعيّة معاً، فتشمل شفاعتهمعليهم‌السلام ، فالرواية من باب الجري.

٣٥٩

( سورة البقرة آية ٢٥٦ - ٢٥٧)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٥٦ ) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٥٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ، الإكراه هو الإجبار والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضمّ والضمّتين: إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق ويقابله الغىّ، فهما أعمّ من الهدى والضلال، فإنّهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل، والظاهر أنّ استعمال الرشد في إصابة محجّة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإنّ إصابة وجه الأمر من سالك الطريق أن يركب المحجّة وسواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحقّ أنّ معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصّة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال تعالى:( فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا ) النساء - ٦، وقال تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ) الأنبياء - ٥١، وكذلك القول في الغيّ والضلال، ولذلك ذكرنا سابقاً: أنّ الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغىّ هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإنسان الغويّ ماذا يريد وماذا يقصد.

وفي قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفى الدين الإجباري، لما أنّ الدين وهو سلسلة من المعارف العلميّة الّتي تتبعها اُخرى عمليّة يجمعها أنّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الاُمور القلبيّة الّتي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنّ الإكراه

٣٦٠