الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131611 / تحميل: 8000
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الأخبار يدلّ على أنّ الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المعاملة، من غير أنّ يستثنوا أنفسهم من ذلك استناداً إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب. وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: لم يزل الله جلّ اسمه عالماً بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلت: - جعلت فداك - فلم يزل متكلّماً؟ قال: الكلام محدث، كان الله عزّوجلّ وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام.

وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرّة المحدّث عن الرضاعليه‌السلام فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانيّة أم بالعبرانيّة فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسنعليه‌السلام : سبحإنّ الله عمّا تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم متكلّمون ولكنّه سبحانه ليس كمثله شئ ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيّته ما خاطب به موسى من الأمر والنهى من غير تردّد في نفس - الخبر -.

وفي نهج البلاغة في خطبة لهعليه‌السلام : متكلّم لابرويّة، مريد لابهمّة، الخطّبة.

وفي النهج أيضاً في خطبة لهعليه‌السلام : الّذي كلّم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيماً، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولالهوات، الخطبة.

اقول: والأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة على أنّ كلامه تعالى الّذي يسمّيه الكتاب والسنّة كلاماً صفة فعل لا صفة ذات.

( بحث فلسفي)

ذكرالحماء: أنّ ما يسمّى عند الناس قولاً وكلاماً وهو نقل الإنسان لمتكلّم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلّفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخطّب أو السامع

٣٤١

نقل المعنى الموضوع له الّذي في ذهن المتكلّم إلى ذهن المخطّب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهّم، قالوا: وحقيقة الكلام متقوّمة بما يدلّ على معنى خفيّ مضمر، وأمّا بقيّة الخصوصيّات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعاً لاأزيد عدداً أو أقلّ ممّا ركّبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيّات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الّذي يتقوّم بها الكلام.

فالكلام اللفظيّ الموضوع الدالّ على ما في الضمير كلام، وكذا الإشارة الوافية لإرائه المعنى كلام كما ان إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول، وكذا الوجودات الخارجيّة لمّا كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علّته وكونه رابطاً متنزّلاً له يحكي بوجوده وجود علّته، ويدلّ بذاته على خصوصيّات ذات علّته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكلّ معلول بخصوصيّات وجوده كلام لعلّته تتكلّم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيّات بطور اللفّ كلمة من كلمات علّته، فكلّ واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علّته الفيّاضة، وكلّ مجموع منها، ومجموع العالم الإمكانيّ كلام الله سبحانه يتكلّم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته، فكما أنّه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلّم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء والصفات والعالم كلامه.

بل الدقّة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالّاً على نفسه فإنّ الدلالة بالأخرة شأن وجوديّ ليس ولا يكون لشئ بنحو الأصالة إلّا لله وبالله سبحانه، فكلّ شئ دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله سبحانه هو الدالّ على نفس هذا الشئ الدالّ، وعلى دلالته لغيره. فهو سبحانه هو الدالّ على ذاته بذاته وهو الدالّ على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدّم، فقد تحصّل بهذا البيان أنّ من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما

٣٤٢

عند موجده من الكمال.

اقول: ما نقلنا على تقدير صحّته لا يساعد عليه اللفظ اللغويّ، فإنّ الّذي أثبته الكتاب والسنّة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلّم الله، وقوله: وكلّم الله موسى تكليماً، وقوله: قال الله يا عيسى، وقوله: وقلنا يا آدم، وقوله: إنّا أوحينا إليك، وقوله: نبّأني العليم الخبير، ومن المعلوم أنّ الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شئ من هذه الموارد.

واعلم أنّ بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلميّة الّتي اشتغلت به الباحثون من المسلمين (وبذلك سمّي علم الكلام به) وهي أنّ كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟

ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنّهم فسّروا الكلام بأنّ المراد بالكلام هو المعاني الذهنيّة الّتي يدلّ عليه الكلام اللّفظيّ، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، وأمّا الكلام اللّفظيّ وهو الأصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.

وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنّهم فسّروا الكلام بالألفاظ الدالّة على المعنى التامّ دلالة وضعيّة فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: وأمّا المعاني النفسيّة الّتي تسمّيه الأشاعرة كلاماً نفسيّاً فهي صور علميّة وليست بالكلام.

وبعبارة اُخرى: إنّا لا نجد في نفوسنا عند التكلّم بكلام غير المفاهيم الذهنيّة الّتي هي صور علميّة فإنّ اُريد بالكلام النفسيّ ذلك كان علماً لا كلاماً، وإن اُريد به أمر آخر وراء الصورة العلميّة فإنّا لا نجد ورائها شيئاً بالوجدان، هذا.

وربّما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شئ واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقاً لصفتين أو أزيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنيّة علماً من جهة كونه انكشافاً للواقع، وكلاماً من جهة كونه علماً يمكن إفاضته للغير؟

اقول: والّذي يحسم مادّة هذا النزاع من أصله أنّ وصف العلم في الله سبحانه بأيّ معنى أخذناه أي سواء اُخذ علماً تفصيليّاً بالذات وإجماليّاً بالغير، أو اُخذ علماً

٣٤٣

تفصيليّاً بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الّذي هو عين الذات، أو اُخذ علماً تفصيليّاً قبل الإيجاد بعد الذات أو اُخذ علماً تفصيليّاً بعد الإيجاد وبعد الذات جميعاً، فالعلم الواجبيّ على جميع تصاويره علم حضوريّ غير حصوليّ. والّذي ذكروه وتنازعوا عليه إنّما هو من قبيل العلم الحصوليّ الّذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنيّة مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتّب عليها آثارها الخارجيّة فقد أقمنا البرهان في محلّه: أنّ المفاهيم والمهيّات لاتتحقّق إلّا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنساً من أنواع الحيوان الّتي تعمل الأعمال الحيويّة بالحواسّ الظاهرة والإحساسات الباطنة.

وبالجملة فالله سبحانه أجلّ من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والمهيّات الاعتباريّة ممّا لاملاك لتحقيقه إلّا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتباريّة في ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدّسة محلّا للتركيب، ومعرضاً لحدوث الحوادث، وكلامه محتملاً للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدّس.

وأمّا معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجئ إنشاء الله بيانه في موضع يليق به.

٣٤٤

( سورة البقرة آية ٢٥٥)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( ٢٥٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، قد تقدّم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، وأنّه سواء اُخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.

وقد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلّا هو، في قوله تعالى:( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) البقرة - ١٦٣، وضمير هو وإن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لمّا كان علماً بالغلبة يدلّ على نفس الذات من حيث إنّه ذات وإن كان مشتملاً على بعض المعاني الوصفيّة الّتي يلمح باللّام أو بالإطلاق إليها، فقوله: لا إله إلّا هو، يدلّ على نفي حقّ الثبوت عن الآلهة الّتي تثبت من دون الله.

وأمّا اسم الحيّ فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبّهة في دلالتها على الدوام والثبات.

والناس في بادي مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحسّ ما دام وجوده ثابتاً كالأحجار وسائر الجمادات، وقسم منها ربّما تغيّرت حاله وتعطّلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحسّ، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات فإنّا ربّما نجدها تعطّلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثمّ يطرأ عليها الفساد تدريجاً، وبذلك أذعن الإنسان بأنّ هناك وراء الحواسّ أمراً آخر

٣٤٥

هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلميّة والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمّى بالحياة ويسمّى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشّح عنه العلم والقدرة.

وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى:( اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) الحديد - ١٧، وقال تعالى:( أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) فصّلت - ٣٩، وقال تعالى:( وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ) الفاطر - ٢٢، وقال تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) الأنبياء - ٣٠، فهذه تشمل حياة أقسام الحيّ من الإنسان والحيوان والنبات.

وكذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى:( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ) يونس - ٧، وقال تعالى:( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، والإحيائان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخيّة، والثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحيّ أقسام.

والله سبحانه مع ما يقرّر هذه الحياة الدنيا يعدّها في مواضع كثيرة من كلامه شيئاً رديّاً هيّناً لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) الرعد - ٢٦، وقوله تعالى:( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) النساء - ٩٤، وقوله تعالى:( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الكهف - ٢٨، وقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) الأنعام - ٣٢، وقوله تعالى:( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) الحديد - ٢٠، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدّها متاعاً والمتاع ما يقصد لغيره، وعدّها عرضاً والعرض ما يعترض ثمّ يزول، وعدّها زينة والزينة هو الجمال الّذي يضمّ على الشئ ليقصد الشئ لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع، وعدّها لهواً واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عمّا يهمك، وعدّها لعباً واللعب هو الفعل الّذي يصدر لغاية خياليّة لحقيقيّة، وعدّها متاع الغرور وهو ما يغرّ به الإنسان.

ويفسّر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت - ٦٤، يبيّن أنّ

٣٤٦

الحياة الدنيا إنّما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها، وهي الحياة الّتي لاموت بعدها، قال تعالى:( آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥، فلهم في حياتهم الآخرة أن لايعتريهم الموت، ولايعترضهم نقص في العيش وتنغّص، لكنّ الأوّل من الوصفين أعني الأمن هو الخاصّة الحقيقة للحياة الضروريّة له.

فالحياة الاُخرويّة هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طروّ الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكنّ الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اُخر كثيرة أنّه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقيّة الاُخرويّة والمحيي للإنسان في الآخرة، وبيده تعالى أزمّة الاُمور، فأفاد ذلك أنّ الحياة الاُخرويّة أيضاً مملوكة لامالكة ومسخّرة لا مطلقة أعني أنّها إنّما ملكت خاصّتها المذكورة بالله لا بنفسها.

ومن هنا يظهر أنّ الحياة الحقيقيّة يجب أن تكون بحيث يستحيل طروّ الموت عليها لذاتها ولا يتصوّر ذلك إلّا بكون الحياة عين ذات الحيّ غير عارضة لها ولاطارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته، قال تعالى:( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) الفرقان - ٥٨، وعلى هذا فالحياة الحقيقيّة هي الحياة الواجبة، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات.

ومن هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) قصر حقيقيّ غير إضافيّ، وأنّ حقيقة الحياة الّتي لا يشوبها موت ولايعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى.

فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم الآية، وكذا في قوله تعالى:( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) آل عمران - ١، أن يكون لفظ الحيّ خبراً بعد خبر فيفيد الحصر لأنّ التقدير، الله الحيّ فالآية تفيد أنّ الحياة لله محضاً إلّا ما أفاضه لغيره.

وأمّا اسم القيّوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيّام فيعال من القيام وصف يدلّ على المبالغة والقيام هو حفظ الشئ وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه، كلّ

٣٤٧

ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العاديّة بين الانتصاب وبين كلّ منها.

وقد اثبت الله تعالى أصل القيام باُمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى:( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد - ٣٣، وقال تعالى - وهو أشمل من الآية السابقة -:( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) آل عمران - ١٨، فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود (وليس الوجود إلّا الإعطاء والمنع) إلّا بالعدل بإعطاء كلّ شئ ما يستحقّه ثمّ بين أنّ هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزّته يقوم على كلّ شئ وبحكمته يعدل فيه.

وبالجملة لمّا كان تعالى هو المبدء الّذي يبتدى منه وجود كلّ شئ وأوصافه وآثاره لامبدء سواه إلّا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كلّ شئ من كل جهة بحقيقة القيام الّذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قطّ إلّا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلّا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره إلّا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، وحصره على القيام، وأوّل الحصرين هو الّذي يدلّ عليه كون القيّوم في الآية خبراً بعد خبر لله (الله القيّوم)، والحصر الثاني هو الّذي تدلّ عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة ولا نوم.

وقد ظهر من هذا البيان أنّ اسم القيّوم أمّ الأسماء الإضافيّة الثابتة له تعالى جميعاً وهي الأسماء الّتي تدلّ على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

قوله تعالى: ( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) ، السنة بكسر السين الفتور الّذي يأخذ الحيوان في أوّل النوم، والنوم هو الركود الّذي يأخذ حواسّ الحيوان لعوامل طبيعيّة تحدث في بدنه، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه.

وقد اُورد على قوله: سنة ولا نوم أنّه على خلاف الترتيب الّذي تقتضيه البلاغة فإنّ المقام مقام الترقّي، والترقّي في الإثبات إنّما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، وفلان يجود بالمئآت بل بالاُلوف وفي النفي

٣٤٨

بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين ولاعشرة، ولا يجود بالاُلوف ولا بالمئآت، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم ولاسنة.

والجواب: أنّ الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات والنفي دائماً كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصحّ العكس، بل المراد هو صحّة الترقّي وهي مختلفة بحسب الموارد، ولمّا كان أخذ النوم أقوى تأثيراً وأضرّ على القيّوميّة من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفى تأثير السنة وأخذها أوّلاً ثمّ يترقّى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيراً، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثّر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره ولاما هو أقوى منه.

قوله تعالى: ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) لمّا كانت القيّوميّة التامّة الّتي له تعالى لا تتمّ إلّا بأن يملك السماوات والأرض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أنّ التوحيد التامّ في الاُلوهيّة لا يتمّ إلّا بالقيّوميّة، ولذلك ألحقها بها أيضاً.

وهاتان جملتان كلّ واحدة منهما مقيّدة أو كالمقيّدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الّذي يشفع عنده إلّا بإذنه، وقوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مع قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء.

فأمّا قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى (بالكسر) للموجودات وملكه تعالى (بالضمّ) لها، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الأوصاف والآثار بالله سبحانه هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض، فالجملة تدلّ على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار.

وقد تمّ بقوله: القيّوم لا تأخذه سنة ولانوم له ما في السماوات وما في الأرض أنّ السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرّف إلّا وهو له ومنه، فيقع من ذلك في الوهم أنّه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم

٣٤٩

ما شأنها؟ وكيف يتصوّر فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلّا لله سبحانه؟

فاُجيب بأنّ تصرّف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسّط في التصرّف، وبعبارة اُخرى شفاعة في موارد المسبّبات بإذن الله سبحانه، فإنّما هي شفعاء، والشفاعة - وهي بنحو توسّط في إيصال الخير أو دفع الشرّ، وتصرّف ما من الشفيع في أمر المستشفع - إنّما تنافي السلطإنّ الإلهيّ والتصرّف الربوبيّ المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله، ولم يعتمد على مشيّة الله تعالى بل كانت مستقلّة غير مرتبطة وما من سبب من الأسباب ولا علّة من العلل إلّا وتأثيره بالله ونحو تصرّفه بإذن الله، فتأثيره وتصرّفه نحو من تأثيره وتصرّفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلّا سلطانه ولا قيّوميّة إلّا قيّوميّته المطلقة عزّ سلطانه.

وعلى ما بيّناه فالشفاعة هي التوسّط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعمّ من الشفاعة التكوينيّة وهي توسّط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعيّة أعني التوسّط في مرحلة المجازاة الّتي تثبتها الكتاب والسنّة في يوم القيامة على ما تقدّم البحث عنها في قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ) البقرة - ٤٨، وذلك أنّ الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الّذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيّوميّة والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً، بل المتماسّين بالتكوين ظاهراً فلا موجب لتقييدهما بالقيّوميّة والسلطنة التشريعيّتين حتّى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.

فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) الم السجدة - ٤، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أنّ حدّها كما ينطبق على الشفاعة التشريعيّة كذلك ينطبق على السببيّة التكوينيّة، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسّك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسبّبه، فنظام

٣٥٠

السببيّة بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة، قال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، وقال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم - ٣٤، وقد مرّ بيانه في تفسير قوله تعالى:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ) البقرة - ١٨٦.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) ، سياق الجملة مع مسبوقيّتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء - ٢٨، فالظاهر أنّ ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الّذي تدلّ عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسّط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه، ولا يقدر غيرهم أيضاً أن يستفيد سوئاً من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدّره.

وإلى نظير هذا المعنى يدلّ قوله تعالى:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم - ٦٤، وقوله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) الجنّ - ٢٨، فإنّ الآيات تبيّن إحاطته تعالى بالملائكة والأنبياء لئلّا يقع منهم ما لم يرده، ولا يتنزّلوا إلّا بأمره، ولا يبلّغوا إلّا ما يشاؤه. وعلى ما بيّناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، وبما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، ويؤل المعنى إلى الشهادة والغيب.

وبالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، تبييناً لتمام الإحاطة الربوبيّة والسلطة

٣٥١

الإلهيّة أي إنّه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء.

ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكّر العاقل وهو قوله( هُم ) في المواضع الثلاثة إلى الشفعاء ما قدّمناه من أنّ الشفاعة أعمّ من السببيّة التكوينيّة والتشريعيّة، وأنّ الشفعاء هم مطلق العلل والأسباب، وذلك لأنّ الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها أنّها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخصّ اُولي العقل من العبارة. وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بيّناته كقوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الأسراء - ٤٤، وقوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وبالجملة قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير وكماله، فإنّ من كمال التدبير أن يجهل المدبّر (بالفتح) بما يريده المدبّر (بالكسر) من شأنه ومستقبل أمره لئلّا يحتال في التخلّص عمّا يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبّر (بالكسر) تدبيره، كجماعة مسيّرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتّى لا يدروا من أين سيروا، وفي أين نزلوا، وإلى أين يقصد بهم.

فيبيّن تعالى بهذه الجملة أنّ التدبير له وبعلمه بروابط الأشياء الّتي هو الجاعل لها، وبقيّة الأسباب والعلل وخاصّة اُولوا العلم منها وإن كان لها تصرّف وعلم لكن ما عندهم من العلم الّذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنّما هو من علمه تعالى وبمشيّته وإرادته، فهو من شئون العلم الإلهيّ، وما تصرّفوا به فهو من شئون التصرّف الإلهيّ وأنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلّا وهو بعض التدبير.

وفي قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدريّ أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أنّ العلم كلّه لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلّا وهو شئ من علمه تعالى، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من

٣٥٢

اختصاص القدرة والعزّة والحياة بالله تعالى، قال تعالى:( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة - ١٦٥، وقال تعالى:( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء - ١٣٩، وقال تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن - ٦٥، ويمكن أن يستدلّ على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف - ٨٣، وقوله تعالى:( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) آل عمران - ٦٦، إلى غير ذلك من الآيات، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه، لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) ، الكرسيّ معروف وسمّي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض، وربّما كنّي بالكرسيّ عن الملك فيقال: كرسيّ الملك، ويراد منطقة نفوذه ومتّسع قدرته.

وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السماوات وما في الأرض الخ، تفيد أنّ المراد بسعة الكرسيّ إحاطة مقام السلطنة الإلهيّة، فيتعيّن للكرسيّ من المعنى: أنّه المقام الربوبيّ الّذي يقوم به ما في السماوات والأرض من حيث إنّها مملوكة مدبّرة معلومة، فهو من مراتب العلم، ويتعيّن للسعة من المعنى: أنّها حفظ كلّ شئ ممّا في السماوات والأرض بذاته وآثاره، ولذلك ذيّله بقوله: ولا يؤده حفظهما.

قوله تعالى: ( وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ، يقال: آده يؤده أوداً إذا ثقل عليه وأجهده وأتعبه، والظاهر أنّ مرجع الضمير في يؤده، هو الكرسيّ وإن جاز رجوعه إليه تعالى، ونفي الأود والتعب عن حفظ السماوات والأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيّوميّة على ما في السماوات والأرض.

ومحصّل ما تفيده الآية من المعنى: إنّ الله لا إله إلّا هو له كلّ الحياة وله القيّوميّة المطلقة من غير ضعف ولافتور، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العليّ العظيم فإنّه تعالى لعلوّه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفاً في وجوده وفتوراً في أمره، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السماوات

٣٥٣

والأرض، وجملة: وهو العليّ العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، وهذا الحصر إمّا حقيقيّ كما هو الحقّ، فإنّ العلوّ والعظمة من الكمال وحقيقة كلّ كمال له تعالى، وإمّا دعوىّ لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختصّ العلوّ والعظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات والأرض عن العلوّ والعظمة في قبال علوّه وعظمته تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قال أبوذرّ: يا رسول الله ما أفضل ما اُنزل عليك؟ قال: آية الكرسيّ، ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثمّ قال: وإنّ فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على الحلقة.

اقول: وروي صدر الرواية السيوطيّ في الدرّ المنثورعن ابن راهويه في مسنده عن عوف بن مالك عن أبي ذرّ، ورواه أيضاً عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي ذرّ.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والطبرانيّ عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله أيّما اُنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، آية الكرسيّ.

اقول: وروي فيه هذا المعنى أيضاً عن الخطيب البغداديّ في تاريخه عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أيضاً عن الدارميّ عن أيفع بن عبدالله الكلاغيّ، قال: قال: رجل: يا رسول الله أيّ آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسيّ: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، الحديث.

اقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسيّ ممّا قد اشتهرت في صدر الإسلام حتّى في زمان حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وعن الصحابة. وليس إلّا للاعتناء التامّ بها وتعظيم أمرها، وليس إلا لشرافة ما تدلّ عليه من المعنى ورقّته ولطفه، وهو التوحيد الخالص

٣٥٤

المدلول عليه بقوله: الله لا إله إلّا هو، ومعنى القيّوميّة المطلقة الّتي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مرّ بيانه، وتفصيل جريان القيّوميّة في ما دقّ وجلّ من الموجودات من صدرها إلىّ ذيلها ببيان أنّ ما خرج منها من السلطنة الإلهيّة فهو من حيث إنّه خارج منها داخل فيها، ولذلك ورد فيها أنّها أعظم آية في كتاب الله، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإنّ مثل قوله تعالى،( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) طه - ٨، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسيّ غير أنّها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، ولذا ورد في بعض الأخبار أنّ آية الكرسيّ سيّدة آي القرآن رواها في الدرّ المنثور عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وورد في بعضها أنّ لكلّ شئ ذروة وذروة القرآن آية الكرسيّ، رواها العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان عن الصادقعليه‌السلام .

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن أبي أمامة الباهليّ: أنّه سمع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يقول: ما أرى رجلاً أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها. قلت: وما سوادها؟ قال: جميعها حتّى يقرء هذه الآية: الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم فقرء الآية إلى قوله: ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبيّ كان قبلي، قال عليّ فما بتّ ليلة قطّ منذ سمعتها من رسول الله إلّا قرئتها، الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن عبيد وابن أبي شيبة والدارميّ ومحمّد بن نصر وابن الضريس عنهعليه‌السلام ، ورواه أيضاً عن الديلميّ عنهعليه‌السلام ، والروايات من طرق الشيعة وأهل السنّة في فضلها كثيرة، وقولهعليه‌السلام : إنّ رسول الله قال: اُعطيت آية الكرسيّ من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى أيضاً في الدرّ المنثور عن البخاريّ في تاريخه وابن الضريس عن انس أنّ النبيّ قال: اُعطيت آية الكرسيّ من تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسيّ تحت العرش ومحاطاً له وسيأتي الكلام في بيانه.

٣٥٥

وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ: وسع كرسيّه السماوات والأرض، السماوات والأرض وسعن الكرسيّ أو الكرسيّ وسع السماوات والأرض؟ فقالعليه‌السلام : إنّ كلّ شئ في الكرسيّ.

اقول: وهذا المعنى مرويّ عنهم في عدّة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب، إذ لم يرو قرائة كرسيّه بالنصب والسماوات والأرض بالرفع حتّى يستصحّ بها هذا السؤال، والظاهر أنّه مبنيّ على ما يتوهّمه الأفهام العاميّة أنّ الكرسيّ جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة (أعني فوق عالم الأجسام) منه يصدر أحكام العالم الجسمانيّ، فيكون السماوات والأرض وسعته إذ كان موضوعاً عليها كهيئة الكرسيّ على الأرض، فيكون معنى السؤال أنّ الأنسب أنّ السماوات والأرض وسعت الكرسيّ فما معنى سعته لها؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فاُجيب بأنّ الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض.

وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ: وسع كرسيّه السماوات والأرض، قال: علمه.

وفيه أيضاً عنهعليه‌السلام في الآية السماوات والأرض وما بينهما في الكرسيّ، والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره.

أقول: ويظهر من الروايتين: أنّ الكرسيّ من مراتب علمه تعالى كما مرّ استظهاره، وفي معناهما روايات اُخرى.

وكذا يظهر منهما وممّا سيجئ: أنّ في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أنّ فوق هذا العالم الّذي نحن من أجزائها عالماً آخر موجوداتها اُمور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانيّة، والتعيّنات الوجوديّة الّتي لوجوداتنا، وهي في عين أنّها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أنّ وجودها عين العلم، كما أنّ الموجودات المحدودة الّتي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إنّ وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده، ولعلّنا نوفّق لبيان هذا العلم المسمّى بالعلم الفعليّ

٣٥٦

فيما سيأتي من الموارد المناسبة.

وما ذكرناه من علم غير محدود هو الّذي يرشد إليه قولهعليه‌السلام في الرواية: والعرش هو العلم الّذي لا يقدّر أحد قدره، ومن المعلوم أنّ عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عدداً، لاستحالة وجود عدد غير متناه، وكلّ عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقلّ ممّا يزيد عليه بواحد، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسيّ بعض العرش لكونه أيضاً علماً وإن كان محدوداً، بل عدم التناهي والتقدير إنّما هو من جهة كمال الوجود أي إنّ الحدود والقيود الوجوديّة يوجب التكثّر والتميّز والتمايز بين موجودات عالمنا المادّيّ، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف والأفراد، والأفراد بالحالات، والإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وسيجئ تمام الكلام فيه إنشاء الله تعالى.

وهذه الموجودات كما أنّها معلومة بعلم غير مقدّر أي موجودة في ظرف العلم وجوداً غير مقدّر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا هو الكرسيّ على ما يستظهر.

وربّما لوح إليه أيضاً قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، حيث جعل المعلوم: ما بين أيديهم وما خلفهم، وهما أعني ما بين الأيدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادّيّ، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرّقات الزمانيّة ونحوها، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدّرة وإلّا لم يصحّ الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلّا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدّرات من حيث هي محدودة مقدّرة والله اعلم.

وفي التوحيد عن حنّان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن العرش والكرسيّ فقالعليه‌السلام إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وصنع في القرآن صفة على حدة، فقوله: ربّ العرش العظيم يقول: ربّ الملك العظيم، وقوله: الرحمن على العرش استوى،

٣٥٧

يقول على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفيّة في الأشياء، ثمّ العرش في الوصل مفرد عن الكرسيّ، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعاً غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الّذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلّها، والعرش هو الباب الباطن الّذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والمشيّة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسيّ، وعلمه أغيب من علم الكرسيّ، فمن ذلك قال: ربّ العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسيّ، وهما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسيّ؟، قالعليه‌السلام : إنّه صار جارها لأنّ علم الكيفوفيّة فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنّيّتها وحدّ رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلّوا على صدق دعواهما لأنّه يختصّ برحمته من يشاء وهو القوّي العزيز.

أقول: قولهعليه‌السلام : لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالاً، فمرتبه العلم المقدّر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسمانيّ المقدّر المحدود ممّا لا قدر له ولا حدّ، وسيجئ شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ) الأعراف - ٥٤، وقولهعليه‌السلام : وبمثل صرّف العلماء، إشارة إلى أنّ هذه الألفاظ من العرش والكرسيّ ونظائرها أمثال مصرّفة مضروبة للناس وما يعقلها إلّا العالمون.

وفي الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام : في حديث: كلّ شئ خلق الله في جوف الكرسيّ خلا عرشه فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ.

اقول: وقد تقدّم توضيح معناه، وهو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الأخبار أنّ العرش هو العلم الّذي اطّلع الله عليه أنبيائه ورسله، والكرسيّ هو العلم الّذي لم يطّلع عليه أحداً كما رواه الصدوق عن المفضّل عن الصادقعليه‌السلام كأنّه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسيّ، أو أنّه مطروح

٣٥٨

كالرواية المنسوبة إلى زينب العطّارة.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ السماء والأرض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسيّ، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله.

اقول: ورواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام ، ولم يرو عنهمعليهم‌السلام للكرسيّ حملة إلّا في هذه الرواية، بل الأخبار إنّما تثبت الحملة للعرش وفقاً لكتاب الله تعالى كما قال:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) المؤمن - ٧، وقال تعالى:( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) الحاقّة - ١٧، ويمكن أن يصحّح الخبر بأنّ الكرسيّ - كما سيجئ بيانه - يتّحد مع العرش بوجه اتّحاد ظاهر الشئ بباطنه. وبذلك يصحّ عدّ حملة أحدهما حملة للآخر.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن معوية بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت: من ذا الّذي يشفع عنده إلّا بإذنه قال: نحن اُولئك الشافعون.

اقول: ورواه البرقيّ أيضاً في المحاسن، وقد عرفت أنّ الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينيّة والتشريعيّة معاً، فتشمل شفاعتهمعليهم‌السلام ، فالرواية من باب الجري.

٣٥٩

( سورة البقرة آية ٢٥٦ - ٢٥٧)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٥٦ ) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٥٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ، الإكراه هو الإجبار والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضمّ والضمّتين: إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق ويقابله الغىّ، فهما أعمّ من الهدى والضلال، فإنّهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل، والظاهر أنّ استعمال الرشد في إصابة محجّة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإنّ إصابة وجه الأمر من سالك الطريق أن يركب المحجّة وسواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحقّ أنّ معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصّة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال تعالى:( فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا ) النساء - ٦، وقال تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ) الأنبياء - ٥١، وكذلك القول في الغيّ والضلال، ولذلك ذكرنا سابقاً: أنّ الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغىّ هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإنسان الغويّ ماذا يريد وماذا يقصد.

وفي قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفى الدين الإجباري، لما أنّ الدين وهو سلسلة من المعارف العلميّة الّتي تتبعها اُخرى عمليّة يجمعها أنّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الاُمور القلبيّة الّتي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنّ الإكراه

٣٦٠

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481