الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131657 / تحميل: 8004
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

كانت أمراً عظيماً، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبّر عنها المتكلّم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أنّ العظماء يتكلّمون عن عظماء الرجال وعظائم الاُمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم، ولذلك اُبهم في الآية كثير من جهات القصّة ممّا لا يتقوّم به أصلها ليدلّ على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضاً اُبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصّة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.

وأمّا التصريح باسم إبراهيمعليه‌السلام فإنّ للقرآن عناية تشريف بهعليه‌السلام ، قال تعالى:( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ) الأنعام - ٨٣، وقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ففي ذكرهعليه‌السلام بالاسم عناية خاصّة.

ولما ذكرناه من النكتة ترى أنّه تعالى يذكر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الروم - ٢٧، وقال تعالى:( قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ - إلى قوله -قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ ) ، أي أنّى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) يوسف - ٨٢.

وإنّما قال هذا القول استعظاماً للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدّي إلى الإنكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصّة: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) يوسف - ٥١، وسيجئ توضيحه قريباً.

على أنّ الرجل نبيّ مكلّم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم

٣٨١

عن الشكّ والارتياب في البعث الّذي هو أحد اُصول الدين.

قوله تعالى: ( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) ، ظاهره توفّيه بقبض روحه وإبقاؤه على هذا الحال مأة عامّ ثمّ إحياؤه بردّ روحه إليه.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بالموت هو الحال المسمّى عند الأطبّاء بالسُبات وهو أن يفقد الموجود الحيّ الحسّ والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان، أيّاماً أو شهوراً أو سنين، كما أنّه الظاهر من قصّة أصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة وتسع سنين ثمّ بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصّة تشبه القصّة.

قال: والّذي وجد من موارد اتّفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة أمر غير مألوف وخارق للعادة لكنّ القادر على توفّي الإنسان بالسبات زماناً كعدّة سنين قادر على إلقاء السبات مأة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النصّ من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلّا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتجّ الله بهذا السبات ورجوع الحسّ والشعور إليه ثانياً بعد سلبه مأة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم اُلوفاً من السنين، هذا ملخّص ما ذكره.

وليت شعري كيف يصحّ الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصّة أصحاب الكهف من قبيل السبات (على تقدير تسليمه) بمجرّد شباهة ما بين القصّتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الّذي اختلقه للآية؟ وهل هو إلّا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقاً للعادة فليجز له إماتته مأة سنة ثمّ إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلّا أنّ هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالاً من غير دليل يدلّ عليه، وقد تأوّل لذلك أيضاً قوله تعالى في ذيل الآية: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، وسيجئ التعرّض له.

وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مأة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: أنّى يحيي هذه الله، وقوله بعده، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه

٣٨٢

وانظر إلى حمارك، وقوله: وانظر إلى العظام، ممّا لاريب فيه.

قوله تعالى: ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) ، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدلّ على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوماً وانتباهاً، ثمّ شاهد اختلاف وقتيهما فتردّد في تخلّل الليلة بين الوقتين وعدم تخلّلها فقال يوماً (لو تخلّلت الليلة) أو بعض يوم (لو لم تتخلّل) قال: بل لبثت مأة عام.

قوله تعالى: ( فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ - إلى قوله- لَحْمًا ) ، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرّر فيها قوله: انظر ثلاث مرّات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنّه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجئ بقوله: ولنجعلك متخلّلاً في الكلام وكان الظاهر أن يتأخّر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أنّ بيان ما استعظمه هذا المارّ بالقرية - وهو إحياء الموتى بعد طول المدّة وعروض كلّ تغيّر عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانياً بالنظر إلى العظام؟ لكنّ التدبّر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيّات القصّة أيضاحاً ينحلّ به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.

( القصّة)

التدبّر في الآية يعطي أنّ الرجل كان من صالحي عبادالله، عالماً بمقام ربّه، مراقباً لأمره، بل نبيّاً مكلّماً فإنّ ظاهر قوله: أعلم أنّ الله، أنّه بعد تبيّن الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: ثمّ بعثه قال كم لبثت، أنّه كان مأنوساً بالوحي والتكليم، وأنّ هذا لم يكن أوّل وحي يوحى إليه وإلّا كان حقّ الكلام أن يقال: فلمّا بعثه قال الخ أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسىعليه‌السلام :( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) طه - ١١، وقوله تعالى فيه أيضاً:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ) القصص - ٣٠.

٣٨٣

وكيف كان فقد كانعليه‌السلام خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته الّتي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاماً وشراباً يتغذّى بهما، فلمّا سار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية الّتي ذكر الله تعالى أنّها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصداً نفس القرية، وإنّما مرّ بها مروراً ثمّ وقف معتبراً بما يشاهده من أمر القرية الخربة الّتي كان قد اُبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منهعليه‌السلام ، فإنّه يشير إلى الموتى بقوله: أنّى يحيي هذه الله، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإشارة إلى نفس القرية لكان حقّ الكلام أن يقال: أنّى يعمر هذه الله. على أنّ القرية الخربة ليس من المترقّب عمرانها بعد خرابها، ولا أنّ عمرانها بعد الخراب ممّا يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.

ثمّ إنّه تعمّق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدّة مكثها مع ما يصاحبه من تحوّلها من حال إلى حال، وتطوّرها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسياً منسيّاً، وعند ذلك قال: أنّى يحيى هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحلّ إلى جهتين: (أحديهما): استعظام طول المدّة والإحياء مع ذلك، (والثانية): استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيّرات غير المحصورة، فبيّن الله له الأمر من الجهتين جميعاً: أمّا من الجهة الأولى فإماتته ثمّ إحيائه وسؤاله وأمّا من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه.

فأماته الله مأة عام ثمّ بعثه، وقد كان الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مرّ ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوماً أو بعض يوم نظراً إلى اختلاف الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدّم من النهار وبعثه في الطرف المؤخّر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوماً من غير ترديد، فردّ الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مأة عام، فرأى من نفسه أنّه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.

٣٨٤

ثمّ استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مأة عام بقوله: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك! وذلك: أنّ قوله: لبثت يوماً أو بعض يوم يدلّ على أنّه لم يحسّ بشئ من طول المدّة وقصره، وإنّما استدلّ على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظلّ ونحوهما، فلمّا اُجيب بقوله تعالى: بل لبثت مأة عام كان الجواب في مظنّة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغيّر شئ من هيئة بدنه، والإنسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغيّر لا محالة بدنه عمّا هو عليه من النضارة والطراوة وكان تراباً وعظاماً رميمة، فدفع الله تعالى هذا الّذي يمكن وأن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغيّر شئ منهما عمّا كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاماً رميمة، فحال الحمار يدلّ على طول مدّة المكث وحال الطعام والشراب يدلّ على إمكان أن يبقى طول هذه المدّة على حال واحد من غير أن يتغيّر شئ من هيئته عمّا هي عليه.

ومن هنا يظهر أنّ الحمار أيضاً قد اُميت وكان رميماً وكأنّ السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.

وبالجملة تمّ عند ذلك البيان الإلهيّ: أنّ استعظامه طول المدّة قد كان في غير محلّه حيث أخذ الله منه الاعتراف بأنّ مأة سنة - مدّة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبيّن له أنّ تخلّل الزمان بين الإماتة والإحياء بالطول والقصر لا يؤثّر في قدرته الحاكمة على كلّ شئ، فليست قدرة مادّيّة زمانيّة حتّى يتخلّف حالها بعروض تغيّرات أقلّ أو أزيد على المحلّ، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) المعارج - ٧، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) النحل - ٧٧.

ثمّ قال تعالى: ولنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدلّ على أنّ هناك غيرها من الغايات، والمعنى أنّا فعلنا بك ما فعلنا لنبيّن لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبيّن أنّ الغرض الإلهيّ لم يكن في ذلك منحصراً في بيان الأمر له نفسه بل هناك

٣٨٥

غاية اُخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: وانظر إلى العظام الخ بيان الأمر له فقط، ومن إماتته وإحيائه بيان الأمر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: ولنجعلك الخ على قوله: وانظر إلى العظام الخ.

وممّا بيّنا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرّات في الآية فلكلّ واحد من الموارد الثلاث غرض خاصّ به لا يشاركه فيه غيره.

وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميّت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم - ٥٦.

ثمّ بيّن الله له الجهة الثانية الّتي يشتمل عليه قوله: أنّي يحيى هذه الله وهو: أنّه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كلّ هذه التغيّرات والتحوّلات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والإنشاز الإنماء، وظاهر الآية أنّ المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الّذين أحياهم الله تعالى!

ومن الغريب ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالعظام العظام الّتي في الأبدان الحيّة فإنّها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإنّ الّذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيى الموتى إنّه على كلّ شئ قدير، وقد احتجّ الله على البعث بمثلها وهو الأرض الميتة الّتي يحييها الله بالإنبات، وهذا كما ترى تكلّف من غير موجب.

وقد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرّر لقوله: أنّى يحيى هذه الله.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، رجوع منه بعد التبيّن إلى علمه الّذي كان معه قبل التبيّن، كأنّهعليه‌السلام لمّا خطر بباله الخاطر الّذي ذكره بقوله: أنّي يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة

٣٨٦

ثمّ لمّا بيّن الله له الأمر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلاً، بل علم يليق بالاعتماد عليه.

وهذا أمر كثير النظائر فكثيراً ما يكون للإنسان علم بشئ ثمّ يخطر بباله ويهجس في نفسه خطّر ينافيه، لا للشكّ وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل اُخرى فيقنع نفسه حتّى تنكشف الشبهة ثمّ يعود فيقول أعلم أنّ كذا كذا وليس كذا كذا فيقرّر بذلك علمه ويطيّب نفسه!

وليس معنى الكلام: أنّه لمّا تبيّن له الأمر حصل له العلم وقد كان شاكّاً قبل ذلك فقال أعلم الخ كما مرّت الإشارة إليه لأنّ الرجل كان نبيّاً مكلّماً وساحة الأنبياء منزّه عن الجهل بالله وخاصّة في مثل صفة القدرة الّتي هي من صفات الذاتأولا: ولأنّ حقّ الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدّي معناهثانياً: ولأنّ حصول العلم بتعلّق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلّقها بكلّ شئ وقد قال: أعلم أنّ الله بكلّ شئ قدير، نعم ربّما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الاُمور فحكم بأنّ الّذي يحيي الموتى يقدر على كلّ ما يريد أو اُريد منه، لكنّه اعتقاد حدسيّ معلول الروع والاستعظام النفسانيّين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أيّ حال لا يستحقّ التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإلهيّ مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهيّ كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصّة: فلمّا تبيّن له قال: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير، على أنّه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياءثالثا .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) ، قد مرّ أنّه معطوف على مقدّر والتقدير: واذكر إذ قال الخ وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: قال أو لم تؤمن، وترتيب الكلام: أو لم تؤمن إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ وليس بشئ.

٣٨٧

وفي قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة:

أوّلاً على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل الرؤية دون البيان الاستدلاليّ، فإنّ الأنبياء وخاصّة مثل النبيّ الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدراً من أن يعتقد البعث ولا حجّة له عليه، والاعتقاد النظريّ من غير حجّة عليه إمّا اعتقاد تقليديّ أو ناش عن اختلال فكريّ وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيمعليه‌السلام ، على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل ما سأل بلفظ كيف، وإنّما يستفهم بكيف عن خصوصيّة وجود الشئ لا عن أصل وجوده فإنّك إذا قلت: أرأيت زيداً كان معناه السؤال عن تحقّق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيداً كان أصل الرؤية مفروغاً عنه وإنّما السؤال عن خصوصيّات الرؤية. فظهر أنّهعليه‌السلام إنّما سأل البيان بالإرائة والإشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.

وثانياً: على أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل أن يشاهد كيفيّة الإحياء لا أصل الإحياء كما أنّه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، وهذا السؤال متصوّر على وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون سؤالاً عن كيفيّة قبول الأجزاء المادّيّة الحياة، وتجمّعها بعد التفرّق والتبدّد، وتصوّرها بصورة الحيّ، ويرجع محصّله إلى تعلّق القدرة بالإحياء بعد الموت والفناء.

الوجه الثاني: أن يكون عن كيفيّة إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها الّذي به تلبّس الحياة ويرجع محصّله إلى السؤال عن السبب وكيفيّة تأثيره، وهذا بوجه هو الّذي يسمّيه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عزّ من قائل:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣.

وإنّما سأل إبراهيمعليه‌السلام عن الكيفيّة بالمعنى الثاني دون المعنى الأوّل:أمّا أوّلا: فلأنّه قال: كيف تحيي الموتى، بضمّ التاء من الإحياء فسأل عن كيفيّة الإحياء الّذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحيّ بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتّى يكون سؤالاً عن كيفيّة تجمّع الأجزاء وعودها إلى صورتها الأولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفيّة بالمعنى الثاني لكان من الواجب

٣٨٨

أن يرد على الصورة الثانية.وأمّا ثانياً: فلأنّه لو كان سؤاله عن كيفيّة قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شئ من الحيوان بعد موته،وأمّا ثالثاً: فلأنّه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: وأعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير لا بقوله: واعلم أنّ الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإنّ المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزّة والحكمة فإنّ العزّة والحكمة - وهما وجدان الذات كلّ ماتفقده وتستحقّه الأشياء وإحكامه في أمره - إنّما ترتبطان بإفاضة الحياة لااستفاضة المادّة لها فافهم ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل بقوله: ربّ أرني حصول العلم بكيفيّة حصول الإحياء دون مشاهدة كيفيّة الإحياء، وأنّ الّذي اُجيب به في الآية لا يدلّ على أزيد من ذلك، قال: ما محصّله: أنّه ليس في الكلام ما يدلّ على أنّ الله سبحانه أمره بالإحياء، ولا أنّ إبراهيمعليه‌السلام فعل ما أمره به، فما كلّ أمر يقصد به الامتثال، فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبراً تريد أنّ هذه كيفيّته، ولا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.

قال: وفي القرآن شئ كثير ممّا ورد فيه الخبر في صورة الأمر، والكلام هيهنا مثل لإحياء الموتى، ومعناه خذ أربعة من الطير فضمّها إليك وآنسها بك حتّى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوان استعداداً لذلك، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها فإنّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرّق أمكنتها وبعدها، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين.

قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهنّ فإنّ معناه أملهنّ أي أوجد ميلها إاليك وأنسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإنّ صار إذا تعدّى بإلى

٣٨٩

كان بمعنى الإمالة، وما ذكره المفسّرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطّعهنّ أجزائاً بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، وأمّا ما قيل: إنّ قوله: إليك متعلّق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهنّ والمعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطّعهنّ فخلاف ظاهر الكلام.

وثانياً: أنّ الظاهر: أنّ ضمائر فصرهنّ ومنهنّ وادعهنّ ويأتينك جميعاً راجعة إلى الطير، ويلزم على قولهم: أنّ المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كلّ جزء منها على جبل ثمّ دعوتهنّ أن يفرّق بين الضمائر فيعود الأوّلان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الأجزاء وهو خلاف الظاهر.

وأضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوهاً اُخرى نتبعها بها.

وثالثاً: أنّ إرائه كيفيّة الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفيّة تجمع أجزائها وتغيّر صورها إلى الصورة الاُولى الحيّة فهي ممّا لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء ومزجه إيّاها ووضعه على جبل بعيد، جزئاً منها فكيف يتصوّر على هذا مشاهدة ما يعرض ذرّات الأجزاء من الحركات المختلفة والتغيّرات المتنوّعة، وإن كان المراد إرائة كيفيّة الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين الّتي هي الإرادة الإلهيّة المتعلّقة بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أنّ هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزّهة عن الكيفيّة.

ورابعاً: أنّ قوله: ثمّ اجعل، يدلّ على التراخي الّذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله: فصرهنّ بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.

وخامساً: أنّه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإنّ العزيز هو الغالب الّذي لا ينال، هذا ما ذكروه.

وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإنّ اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله: كيف تحيي وإجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مرّ بيانها كلّ ذلك ينافي هذا المعنى، على أنّ الجزء في قوله تعالى:( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.

٣٩٠

وأمّا الوجوه الّتي ذكروها فالجواب عن الأوّل: أنّ معنى صرهنّ قطّعهنّ، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى:( الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ) البقرة - ١٨٧، حيث ضمّن معنى الإفضاء.

وعن الثاني: أنّ جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع ضمير ادعهنّ ويأتينك إليها مع أنّها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلّا بمادّتها في قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١٠، وقوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن ) يس - ٨٢، وحقيقة الأمر: أنّ الخطاب اللفظيّ فرع وجود المخاطب قبل الخطاب وأمّا الخطاب التكوينيّ فالأمر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإنّ الخطاب فيه هو الايجاد ومن المعلوم أنّ الوجود فرع الايجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرّع على قوله كن وهو خطاب الأمر.

وعن الثالث: أنّا نختار الشقّ الثاني وأنّ السؤال إنّما هو عن كيفيّة فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفيّة قبول المادّة وحياتها، وقوله: إنّ البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهيّة الّتي هي من صفاته كما يدلّ ظاهر القرآن وعليه المسلمون.

قلنا: إنّ الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والإحياء ونحوهما، والّذي لاسبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠.

فالإرادة منتزعة من الفعل، وهو الإيجاد المتّحد مع وجود الشئ، وهو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية أنّ هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كلّ شئ إذ قال: فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شئ الآية، وقد ذكر الله تعالى أنّه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.

ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم

٣٩١

عليه‌السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسىعليه‌السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة إنّما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيّليّ الّذي تدلّ عليه ألفاظهم نظير النسبة الّتي بين ألفاظنا العاديّة ومعانيها وقد خفي عليهم أنّ ذلك إنّما هو عن اتّصال باطنيّ بقوّة إلهيّة غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة.

وعن الرابع: أنّ التراخي المدلول عليه بقوله: ثمّ كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الأجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر.

وعن الخامس: أنّ الإشكال مقلوب عليهم فإنّ الّذي ذكروه هو أنّ الله إنّما بين كيفيّة الإحياء لإبراهيم بالبيان العلميّ النظريّ دون الشهوديّ، فيرد عليهم أنّ المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزّة والحكمة، وقد عرفت ممّا قدّمنا أنّ الأنسب على ما بيّناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.

ويظهر ممّا ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره بعض آخر من المفسّرين: أنّ المراد بالسؤال في الآية إنّما هو السؤال عن إشهاد كيفيّة الإحياء بمعنى كيفيّة قبول الأجزاء صورة الحياة.

قال: ما محصّله: أنّ السؤال لم يكن في أمر دينيّ - والعياذ بالله - ولكنّه سؤال عن كيفيّة الإحياء ليحيط علماً بها، وكيفيّة الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيمعليه‌السلام طلب علم لا يتوقّف الإيمان على علمه، ويدلّ على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشكّ أنّه يحكم فيهم، ولكنّه سأل عن كيفيّة حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلاً عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وإنّما جاء التقرير أعني قوله: أو لم تؤمن، بعده لأنّ تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفيّة كما علمت إلّا أنّها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادّعى مدّع: أنّه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنّك

٣٩٢

عاجز عن حمله، والله سبحانه لمّا علم برائة إبراهيمعليه‌السلام عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظيّ في العبارة الاُولى لكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنصّ عليه بحيث يفهمها كلّ من سمعها فهماً لا يتخالجه فيه شكّ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيّات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوده، ورؤية الكيفيّة لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئاً، وإنّما أفادت أمراً لا يجب الإيمان به.

ثمّ قال بعد كلام له طويل: إنّ الآية تدلّ على فضل إبراهيمعليه‌السلام حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيراً ما أراه بعد ما أماته مأة عام.

وأنت بالتدبّر في الآية والتأمّل فيما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإنّ السؤال إنّما وقع عن كيفيّة إحيائه تعالى لا عن كيفيّة قبول الأجزاء الحياة ثانياً فقد قيل: كيف تحيي، بضمّ التاء لا بفتحها، على أنّ إجراء الأمر على يد إبراهيمعليه‌السلام يدلّ على ذلك ولو كان السؤال عن كيفيّة القبول لكفى في ذلك إرائة شئ من الموتى يحييه الله كما في قصّة المارّ على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، ولم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا هو الّذي أشرنا إليه آنفاً: أنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهيّة ومصدريتهم للاُمور الخارقة بنفوسهم العاديّة فينتج ذلك مثلاً: أن لا فرق بين تكوّن الحياة بيد إبراهيم وتكوّنه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، وهذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ. ألا ترى أنّه فسّر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكوّن والأشكال المتصوّرة مع أنّ هذا التردّد الفكريّ من اللغو الّذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيمعليه‌السلام ، مع أنّ الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشئ فإنّ إبراهيمعليه‌السلام قال: كيف

٣٩٣

تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الإنسان أو الأعمّ منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه إلّا تكوّن الحياة في أربعة من الطير:

ثمّ ذكر فضل إبراهيمعليه‌السلام على عزير (يريد به صاحب القصّة في الآية السابقة) بما ذكر فأخذ القصّة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفيّة الّتي فسّرها بما فسّرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعاً، مع أنّ الآيتين جميعاً - على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيّتان عن الكيفيّة بالمعنى الّذي ذكره كلّ ذلك واضح بالرجوع إلى ما مرّ فيهما.

على أنّ المناسب لبيان الكيفيّة ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزّة والحكمة كما في قوله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فصّلت - ٣٩، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفيّة وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الأحقاف - ٣٣، ففيه أيضاً بيان الكيفيّة بإرائة الأمثال ثمّ ختم الكلام بصفة القدرة.

قوله تعالى: ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، بلى كلمة يردّ به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتاً كقوله تعالى:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الأعراف - ١٧٢، ولو قالوا نعم لكان كفراً، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنّت الأرض وأرض مطمئنّة إذا كانت فيه انخفاض يستقرّ فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.

وقد قال تعالى: أو لم تؤمن، ولم يقل: ألم تؤمن للإشعار بأنّ للسؤال والطلب محلّاً لكنّه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دلّ على أنّ المتكلّم تلقّى السؤال منبعثاً عن عدم الإيمان، فكان عتاباً وردعاً عن مثل هذا السؤال، وذلك أنّ الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاماً عن أنّ هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاماً عن وجه السؤال حتّى ينتج عتاباً وردعاً

٣٩٤

والإيمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على أنّ الإيمان بالله سبحانه لا يتحقّق مع الشكّ في أمر الإحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأنّ المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.

وكذا قوله تعالى حكاية عنهعليه‌السلام : ليطمئنّ قلبي، مطلق يدلّ على كون مطلوبهعليه‌السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كلّ خطور قلبيّ وأعراقه، فإنّ الوهم في إدراكاتها الجزئيّة وأحكامها لمّا كانت معتكفة على باب الحسّ وكان جلّ أحكامها وتصديقاتها في المدركات الّتي تتلقّاها من طريق الحواسّ فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدّقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلّيّة العقليّة الحقّة من الاُمور الخارجة عن المادّة الغائبة عن الحسّ فإنّها تستنكف عن قبولها وإن سلّمت مقدّماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاماً مناقضة لها، ثمّ تثير الأحوال النفسانيّة المناسبة لاستنكافها فتقوّى وتتأيّد بذلك في تأثيرها المخالف، وإن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلاتضرّها إلّا أذى، كما أنّ من بات في دار مظلمة فيها جسد ميّت فإنّه يعلم: أنّ الميّت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضرّ شيئاً، لكنّ الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيّلة أن تصوّر للنفس صوراً هائلة موحشة من أمر الميّت ثمّ تهيّج صفة الخوف فتتسلّط على النفس، وربّما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.

فقد ظهر: أنّ وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينيّة لا ينافي الإيمان والتصديق دائماً، غير أنّها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلّا بالحسّ أو المشاهدة، ولذلك قيل: إنّ للمعاينة أثراً لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتّى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

وقد ظهر من هنا وممّا مرّ سابقاً أنّ إبراهيمعليه‌السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحسّ الّذي يتعلّق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنّما كان يسأل مشاهدة فعل الله

٣٩٥

سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وإن كان لا ينفكّ عن الأمر المحسوس الّذي هو قبول الأجزاء المادّيّة للحياة بالاجتماع والتصوّر بصورة الحيّ، فهوعليه‌السلام إنّما كان يسأل حقّ اليقين.

قوله تعالى: ( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) ، صرهنّ بضمّ الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القرائة الاُخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدلّ على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدلّ على تضمين معنى الإمالة. فالمعنى: اقطعهنّ مميلاً إليك أو أملهنّ إليك قطعاً إيّاهنّ على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.

وكيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير الخ، جواب عن ما سأله إبراهيمعليه‌السلام بقوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلّم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتّب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصّةً القرآن الّذي هو خير كلام ألقاه خير متكلّم إلى خير سامع واع، وليست القصّة على تلك البساطة الّتي تترآئى منها في بادي النظر، ولو كان كذلك لتمّ الجواب بإحياء ميّت ما كيف كان، ولكان الزائد على ذلك لغواً مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد اُخذ فيها قيود وخصوصيّات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما اُريد إحيائه أن يكون طيراً، وأن يكون حيّاً، وأن يكون ذا عدد أربعة، وأن يقتل ويخلط ويمزج أجزاؤها، وأن يفرّق الأجزاء المختلطة أبعاضاً ثمّ يوضع كلّ بعض في مكان بعيد من الآخر كقلّة هذا الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الإحياء بيد إبراهيمعليه‌السلام (نفس السائل) بدعوته إيّاهنّ، وأن يجتمع الجميع عنده.

فهذه كما ترى خصوصيّات زائدة في القصّة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، وقد ذكروا لها وجوهاً من النكات لا تزيد الباحث إلّا عجباً (يعلم صحّة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصّلات التفاسير).

٣٩٦

وكيف كان فهذه الخصوصيّات لا بدّ أن تكون مرتبطة بالسؤال، والّذي يوجد في السؤال - وهو قوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى - أمران.

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو أنّ المسئول مشاهدة الإحياء من حيث أنّه وصف لله سبحانه لا من حيث أنّه وصف لأجزاء المادّة الحاملة للحياة.

وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنّه خصوصيّة زائدة.

أمّا الأوّل: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهنّ، ثمّ اجعل، بصيغة الأمر ويقول ثمّ ادعهنّ يأتينك، فإنّه تعالى جعل إتيانهنّ سعياً وهو الحياة مرتبطاً متفرّعاً على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الّذي يفيض عنه حياة ما اُريد إحيائه، ولا إحياء إلّا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إيّاهنّ بأمر الله، قد كانت متّصلة نحو اتّصال بأمر الله الّذي منه تترشّح حياة الإحياء، وعند ذلك شاهده إبراهيم ورأى كيفيّة فيضان الأمر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إيّاهنّ غير متّصلة بأمر الله الّذي هو أن يقول لشئ أرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتّصلة إلّا بالتخيّل كان هو أيضاً كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون، فلا تأثير جزافيّ في الوجود.

وأما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدلّ على أنّ لكثرة الأموات وتعدّدها دخلاً في السؤال، وليس إلّا أنّ الأجساد بموتها وتبدّد أجزائها وتغيّر صورها وتحوّل أحوالها تفقد حالة التميّز والارتباط الّذي بينها فتضلّ في ظلمة الفناء والبوار، وتصير كالأحاديث المنسيّة لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوّة المحيية ولا محاط في الواقع.

وهذا هو الّذي أورده فرعون على موسىعليه‌السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله:( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه - ٥١.

وبالجملة فأجاب الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعلّ اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقلّ زماناً) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها، ويعرفها معرفة تامّة أوّلاً، ثمّ يقتلها ويخلط أجزائها خلطاً دقيقاً ثمّ يجعل

٣٩٧

ذلك أبعاضاً، وكلّ بعض منها على جبل لتفقد التميّز والتشخّص، وتزول المعرفة، ثمّ يدعوهنّ يأتينه سعياً، فإنّه يشاهد حينئذ أنّ التميّز والتصوّر بصورة الحياة كلّ ذلك تابع للدعوة الّتي تتعلّق بأنفسها، أي إنّ أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس، فإنّ البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظلّ إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظلّ وإلى أيّ حال تحوّل الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظلّ حتّى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد حيّاً من الإحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنّما يتعلّق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أوّلاً ثمّ يتبعه أجزاء المادّة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علماً فيتعيّن الجسد بتعيّن الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى: ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً أي مسرعات مستعجلات.

وهذا هو الّذي يستفاد من قوله تعالى:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة - ١١، وقد مرّ بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرّد النفس، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه إنشاء الله.

فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنّما أمر بذلك ليعرفها فلا يشكّ فيها عند إعادة الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميّز أوّلاً وزوالهما ثانياً، وقوله: فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً أي اذبحهنّ وبدّد أجزائهن واخلطها ثمّ فرّقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء وهي غير متميّزة، وهذا من الشواهد على أنّ القصّة إنّما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سوريّة فإنّ أرض بابل لا جبل بها، وقوله ثمّ ادعهنّ، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان، ويمكن أن يستفاد ذلك مضافاً إلى دلالة ضمير( هُنَّ ) الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهنّ، فإنّ الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثمّ نادهنّ فإنّها كانت على جبال بعيدة عن موقفهعليه‌السلام واللفظ المستعمل في البعيد خاصّة هوالنداء دون الدعاء، وقوله: يأتينك سعياً، أي يتجسّدن واتّصفن

٣٩٨

بالإتيان والإسراع إليك.

قوله تعالى: ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، أي عزيز لا يفقد شيئاً بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئاً إلّا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح وإيجادها دون العكس.

وفي قوله تعالى: واعلم أنّ الخ، دون أن يقال: إنّ الله الخ، دلالة على أنّ الخطور القلبيّ الّذي كان إبراهيم يسأل ربّه المشاهدة ليطمئنّ قلبه من ناحيته كان راجعاً إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية: أخرج الطيالسيّ وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان.

وفي تفسير البرهان: أبو عليّ الطبرسيّ قال: اختلف في وقت هذه المحاجّة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد إلقائه في النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، عن الصادقعليه‌السلام .

اقول: الآية وإن لم تتعرّض لكونها قبل أو بعد لكنّ الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإنّ قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجّته أباه وقومه وكسره الأصنام تعطي أنّ أوّل ما لاقى إبراهيمعليه‌السلام نمرود وكان حين رفع أمره إليه في قضيّة كسر الأصنام مجرماً عندهم، فحكم عليه بالإحراق، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلاً عن تكليمه في أمر ربّه: أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجّه نمرود حينئذ لحاجّه في أمر الله وأمر الأصنام دون أمر الله وأمر نفسه!

وفي عدّة من الروايات الّتي روتها العامّة والخاصّة في قوله تعالى: أو كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها الآية أنّ صاحب القصّة أرميا النبيّ وفي عدّة

٣٩٩

منها: أنّها عزير، إلّا أنّها آحاد غير واجبة القبول، وفي أسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصّة غير مذكورة في التوراة، والّتي في الروايات من القصّة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنّها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانّها.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قالعليه‌السلام : وهذه آية متشابهة، ومعناها أنّه سأل عن الكيفيّة والكيفيّة من فعل الله عزّوجلّ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض في توحيده نقص، الحديث.

اقول: وقد اتّضح معنى الحديث ممّا مرّ.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّ بن أسباط: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام سئل عن قول الله: قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي أكان في قلبه شكّ قال لا ولكن أراد من الله الزيادة، الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالحعليهما‌السلام وقد مرّ بيانه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن ابن أبي أيّوب عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكلها سباع البحر، ثمّ يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فتعجّب إبراهيم فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، فقال الله عزّوجلّ: فصرهنّ إليك أي قطّعهنّ ثمّ اخلط لحمهنّ، وفرّقهنّ على عشرة جبال، ثمّ دعاهنّ فقال: احيى بإذن الله فكانت تجتمع وتتألّف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إنّ الله عزيز حكيم.

أقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وروي

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481