الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن12%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131631 / تحميل: 8002
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481