الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138661 / تحميل: 8837
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

كانت أمراً عظيماً، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبّر عنها المتكلّم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أنّ العظماء يتكلّمون عن عظماء الرجال وعظائم الاُمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم، ولذلك اُبهم في الآية كثير من جهات القصّة ممّا لا يتقوّم به أصلها ليدلّ على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضاً اُبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصّة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.

وأمّا التصريح باسم إبراهيمعليه‌السلام فإنّ للقرآن عناية تشريف بهعليه‌السلام ، قال تعالى:( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ) الأنعام - ٨٣، وقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ففي ذكرهعليه‌السلام بالاسم عناية خاصّة.

ولما ذكرناه من النكتة ترى أنّه تعالى يذكر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الروم - ٢٧، وقال تعالى:( قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ - إلى قوله -قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ ) ، أي أنّى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) يوسف - ٨٢.

وإنّما قال هذا القول استعظاماً للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدّي إلى الإنكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصّة: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) يوسف - ٥١، وسيجئ توضيحه قريباً.

على أنّ الرجل نبيّ مكلّم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم

٣٨١

عن الشكّ والارتياب في البعث الّذي هو أحد اُصول الدين.

قوله تعالى: ( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) ، ظاهره توفّيه بقبض روحه وإبقاؤه على هذا الحال مأة عامّ ثمّ إحياؤه بردّ روحه إليه.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بالموت هو الحال المسمّى عند الأطبّاء بالسُبات وهو أن يفقد الموجود الحيّ الحسّ والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان، أيّاماً أو شهوراً أو سنين، كما أنّه الظاهر من قصّة أصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة وتسع سنين ثمّ بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصّة تشبه القصّة.

قال: والّذي وجد من موارد اتّفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة أمر غير مألوف وخارق للعادة لكنّ القادر على توفّي الإنسان بالسبات زماناً كعدّة سنين قادر على إلقاء السبات مأة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النصّ من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلّا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتجّ الله بهذا السبات ورجوع الحسّ والشعور إليه ثانياً بعد سلبه مأة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم اُلوفاً من السنين، هذا ملخّص ما ذكره.

وليت شعري كيف يصحّ الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصّة أصحاب الكهف من قبيل السبات (على تقدير تسليمه) بمجرّد شباهة ما بين القصّتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الّذي اختلقه للآية؟ وهل هو إلّا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقاً للعادة فليجز له إماتته مأة سنة ثمّ إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلّا أنّ هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالاً من غير دليل يدلّ عليه، وقد تأوّل لذلك أيضاً قوله تعالى في ذيل الآية: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، وسيجئ التعرّض له.

وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مأة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: أنّى يحيي هذه الله، وقوله بعده، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه

٣٨٢

وانظر إلى حمارك، وقوله: وانظر إلى العظام، ممّا لاريب فيه.

قوله تعالى: ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) ، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدلّ على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوماً وانتباهاً، ثمّ شاهد اختلاف وقتيهما فتردّد في تخلّل الليلة بين الوقتين وعدم تخلّلها فقال يوماً (لو تخلّلت الليلة) أو بعض يوم (لو لم تتخلّل) قال: بل لبثت مأة عام.

قوله تعالى: ( فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ - إلى قوله- لَحْمًا ) ، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرّر فيها قوله: انظر ثلاث مرّات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنّه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجئ بقوله: ولنجعلك متخلّلاً في الكلام وكان الظاهر أن يتأخّر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أنّ بيان ما استعظمه هذا المارّ بالقرية - وهو إحياء الموتى بعد طول المدّة وعروض كلّ تغيّر عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانياً بالنظر إلى العظام؟ لكنّ التدبّر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيّات القصّة أيضاحاً ينحلّ به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.

( القصّة)

التدبّر في الآية يعطي أنّ الرجل كان من صالحي عبادالله، عالماً بمقام ربّه، مراقباً لأمره، بل نبيّاً مكلّماً فإنّ ظاهر قوله: أعلم أنّ الله، أنّه بعد تبيّن الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: ثمّ بعثه قال كم لبثت، أنّه كان مأنوساً بالوحي والتكليم، وأنّ هذا لم يكن أوّل وحي يوحى إليه وإلّا كان حقّ الكلام أن يقال: فلمّا بعثه قال الخ أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسىعليه‌السلام :( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) طه - ١١، وقوله تعالى فيه أيضاً:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ) القصص - ٣٠.

٣٨٣

وكيف كان فقد كانعليه‌السلام خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته الّتي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاماً وشراباً يتغذّى بهما، فلمّا سار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية الّتي ذكر الله تعالى أنّها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصداً نفس القرية، وإنّما مرّ بها مروراً ثمّ وقف معتبراً بما يشاهده من أمر القرية الخربة الّتي كان قد اُبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منهعليه‌السلام ، فإنّه يشير إلى الموتى بقوله: أنّى يحيي هذه الله، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإشارة إلى نفس القرية لكان حقّ الكلام أن يقال: أنّى يعمر هذه الله. على أنّ القرية الخربة ليس من المترقّب عمرانها بعد خرابها، ولا أنّ عمرانها بعد الخراب ممّا يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.

ثمّ إنّه تعمّق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدّة مكثها مع ما يصاحبه من تحوّلها من حال إلى حال، وتطوّرها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسياً منسيّاً، وعند ذلك قال: أنّى يحيى هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحلّ إلى جهتين: (أحديهما): استعظام طول المدّة والإحياء مع ذلك، (والثانية): استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيّرات غير المحصورة، فبيّن الله له الأمر من الجهتين جميعاً: أمّا من الجهة الأولى فإماتته ثمّ إحيائه وسؤاله وأمّا من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه.

فأماته الله مأة عام ثمّ بعثه، وقد كان الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مرّ ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوماً أو بعض يوم نظراً إلى اختلاف الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدّم من النهار وبعثه في الطرف المؤخّر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوماً من غير ترديد، فردّ الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مأة عام، فرأى من نفسه أنّه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.

٣٨٤

ثمّ استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مأة عام بقوله: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك! وذلك: أنّ قوله: لبثت يوماً أو بعض يوم يدلّ على أنّه لم يحسّ بشئ من طول المدّة وقصره، وإنّما استدلّ على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظلّ ونحوهما، فلمّا اُجيب بقوله تعالى: بل لبثت مأة عام كان الجواب في مظنّة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغيّر شئ من هيئة بدنه، والإنسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغيّر لا محالة بدنه عمّا هو عليه من النضارة والطراوة وكان تراباً وعظاماً رميمة، فدفع الله تعالى هذا الّذي يمكن وأن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغيّر شئ منهما عمّا كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاماً رميمة، فحال الحمار يدلّ على طول مدّة المكث وحال الطعام والشراب يدلّ على إمكان أن يبقى طول هذه المدّة على حال واحد من غير أن يتغيّر شئ من هيئته عمّا هي عليه.

ومن هنا يظهر أنّ الحمار أيضاً قد اُميت وكان رميماً وكأنّ السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.

وبالجملة تمّ عند ذلك البيان الإلهيّ: أنّ استعظامه طول المدّة قد كان في غير محلّه حيث أخذ الله منه الاعتراف بأنّ مأة سنة - مدّة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبيّن له أنّ تخلّل الزمان بين الإماتة والإحياء بالطول والقصر لا يؤثّر في قدرته الحاكمة على كلّ شئ، فليست قدرة مادّيّة زمانيّة حتّى يتخلّف حالها بعروض تغيّرات أقلّ أو أزيد على المحلّ، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) المعارج - ٧، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) النحل - ٧٧.

ثمّ قال تعالى: ولنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدلّ على أنّ هناك غيرها من الغايات، والمعنى أنّا فعلنا بك ما فعلنا لنبيّن لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبيّن أنّ الغرض الإلهيّ لم يكن في ذلك منحصراً في بيان الأمر له نفسه بل هناك

٣٨٥

غاية اُخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: وانظر إلى العظام الخ بيان الأمر له فقط، ومن إماتته وإحيائه بيان الأمر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: ولنجعلك الخ على قوله: وانظر إلى العظام الخ.

وممّا بيّنا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرّات في الآية فلكلّ واحد من الموارد الثلاث غرض خاصّ به لا يشاركه فيه غيره.

وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميّت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم - ٥٦.

ثمّ بيّن الله له الجهة الثانية الّتي يشتمل عليه قوله: أنّي يحيى هذه الله وهو: أنّه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كلّ هذه التغيّرات والتحوّلات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والإنشاز الإنماء، وظاهر الآية أنّ المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الّذين أحياهم الله تعالى!

ومن الغريب ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالعظام العظام الّتي في الأبدان الحيّة فإنّها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإنّ الّذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيى الموتى إنّه على كلّ شئ قدير، وقد احتجّ الله على البعث بمثلها وهو الأرض الميتة الّتي يحييها الله بالإنبات، وهذا كما ترى تكلّف من غير موجب.

وقد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرّر لقوله: أنّى يحيى هذه الله.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، رجوع منه بعد التبيّن إلى علمه الّذي كان معه قبل التبيّن، كأنّهعليه‌السلام لمّا خطر بباله الخاطر الّذي ذكره بقوله: أنّي يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة

٣٨٦

ثمّ لمّا بيّن الله له الأمر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلاً، بل علم يليق بالاعتماد عليه.

وهذا أمر كثير النظائر فكثيراً ما يكون للإنسان علم بشئ ثمّ يخطر بباله ويهجس في نفسه خطّر ينافيه، لا للشكّ وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل اُخرى فيقنع نفسه حتّى تنكشف الشبهة ثمّ يعود فيقول أعلم أنّ كذا كذا وليس كذا كذا فيقرّر بذلك علمه ويطيّب نفسه!

وليس معنى الكلام: أنّه لمّا تبيّن له الأمر حصل له العلم وقد كان شاكّاً قبل ذلك فقال أعلم الخ كما مرّت الإشارة إليه لأنّ الرجل كان نبيّاً مكلّماً وساحة الأنبياء منزّه عن الجهل بالله وخاصّة في مثل صفة القدرة الّتي هي من صفات الذاتأولا: ولأنّ حقّ الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدّي معناهثانياً: ولأنّ حصول العلم بتعلّق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلّقها بكلّ شئ وقد قال: أعلم أنّ الله بكلّ شئ قدير، نعم ربّما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الاُمور فحكم بأنّ الّذي يحيي الموتى يقدر على كلّ ما يريد أو اُريد منه، لكنّه اعتقاد حدسيّ معلول الروع والاستعظام النفسانيّين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أيّ حال لا يستحقّ التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإلهيّ مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهيّ كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصّة: فلمّا تبيّن له قال: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير، على أنّه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياءثالثا .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) ، قد مرّ أنّه معطوف على مقدّر والتقدير: واذكر إذ قال الخ وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: قال أو لم تؤمن، وترتيب الكلام: أو لم تؤمن إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ وليس بشئ.

٣٨٧

وفي قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة:

أوّلاً على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل الرؤية دون البيان الاستدلاليّ، فإنّ الأنبياء وخاصّة مثل النبيّ الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدراً من أن يعتقد البعث ولا حجّة له عليه، والاعتقاد النظريّ من غير حجّة عليه إمّا اعتقاد تقليديّ أو ناش عن اختلال فكريّ وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيمعليه‌السلام ، على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل ما سأل بلفظ كيف، وإنّما يستفهم بكيف عن خصوصيّة وجود الشئ لا عن أصل وجوده فإنّك إذا قلت: أرأيت زيداً كان معناه السؤال عن تحقّق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيداً كان أصل الرؤية مفروغاً عنه وإنّما السؤال عن خصوصيّات الرؤية. فظهر أنّهعليه‌السلام إنّما سأل البيان بالإرائة والإشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.

وثانياً: على أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل أن يشاهد كيفيّة الإحياء لا أصل الإحياء كما أنّه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، وهذا السؤال متصوّر على وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون سؤالاً عن كيفيّة قبول الأجزاء المادّيّة الحياة، وتجمّعها بعد التفرّق والتبدّد، وتصوّرها بصورة الحيّ، ويرجع محصّله إلى تعلّق القدرة بالإحياء بعد الموت والفناء.

الوجه الثاني: أن يكون عن كيفيّة إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها الّذي به تلبّس الحياة ويرجع محصّله إلى السؤال عن السبب وكيفيّة تأثيره، وهذا بوجه هو الّذي يسمّيه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عزّ من قائل:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣.

وإنّما سأل إبراهيمعليه‌السلام عن الكيفيّة بالمعنى الثاني دون المعنى الأوّل:أمّا أوّلا: فلأنّه قال: كيف تحيي الموتى، بضمّ التاء من الإحياء فسأل عن كيفيّة الإحياء الّذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحيّ بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتّى يكون سؤالاً عن كيفيّة تجمّع الأجزاء وعودها إلى صورتها الأولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفيّة بالمعنى الثاني لكان من الواجب

٣٨٨

أن يرد على الصورة الثانية.وأمّا ثانياً: فلأنّه لو كان سؤاله عن كيفيّة قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شئ من الحيوان بعد موته،وأمّا ثالثاً: فلأنّه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: وأعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير لا بقوله: واعلم أنّ الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإنّ المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزّة والحكمة فإنّ العزّة والحكمة - وهما وجدان الذات كلّ ماتفقده وتستحقّه الأشياء وإحكامه في أمره - إنّما ترتبطان بإفاضة الحياة لااستفاضة المادّة لها فافهم ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل بقوله: ربّ أرني حصول العلم بكيفيّة حصول الإحياء دون مشاهدة كيفيّة الإحياء، وأنّ الّذي اُجيب به في الآية لا يدلّ على أزيد من ذلك، قال: ما محصّله: أنّه ليس في الكلام ما يدلّ على أنّ الله سبحانه أمره بالإحياء، ولا أنّ إبراهيمعليه‌السلام فعل ما أمره به، فما كلّ أمر يقصد به الامتثال، فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبراً تريد أنّ هذه كيفيّته، ولا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.

قال: وفي القرآن شئ كثير ممّا ورد فيه الخبر في صورة الأمر، والكلام هيهنا مثل لإحياء الموتى، ومعناه خذ أربعة من الطير فضمّها إليك وآنسها بك حتّى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوان استعداداً لذلك، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها فإنّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرّق أمكنتها وبعدها، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين.

قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهنّ فإنّ معناه أملهنّ أي أوجد ميلها إاليك وأنسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإنّ صار إذا تعدّى بإلى

٣٨٩

كان بمعنى الإمالة، وما ذكره المفسّرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطّعهنّ أجزائاً بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، وأمّا ما قيل: إنّ قوله: إليك متعلّق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهنّ والمعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطّعهنّ فخلاف ظاهر الكلام.

وثانياً: أنّ الظاهر: أنّ ضمائر فصرهنّ ومنهنّ وادعهنّ ويأتينك جميعاً راجعة إلى الطير، ويلزم على قولهم: أنّ المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كلّ جزء منها على جبل ثمّ دعوتهنّ أن يفرّق بين الضمائر فيعود الأوّلان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الأجزاء وهو خلاف الظاهر.

وأضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوهاً اُخرى نتبعها بها.

وثالثاً: أنّ إرائه كيفيّة الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفيّة تجمع أجزائها وتغيّر صورها إلى الصورة الاُولى الحيّة فهي ممّا لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء ومزجه إيّاها ووضعه على جبل بعيد، جزئاً منها فكيف يتصوّر على هذا مشاهدة ما يعرض ذرّات الأجزاء من الحركات المختلفة والتغيّرات المتنوّعة، وإن كان المراد إرائة كيفيّة الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين الّتي هي الإرادة الإلهيّة المتعلّقة بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أنّ هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزّهة عن الكيفيّة.

ورابعاً: أنّ قوله: ثمّ اجعل، يدلّ على التراخي الّذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله: فصرهنّ بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.

وخامساً: أنّه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإنّ العزيز هو الغالب الّذي لا ينال، هذا ما ذكروه.

وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإنّ اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله: كيف تحيي وإجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مرّ بيانها كلّ ذلك ينافي هذا المعنى، على أنّ الجزء في قوله تعالى:( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.

٣٩٠

وأمّا الوجوه الّتي ذكروها فالجواب عن الأوّل: أنّ معنى صرهنّ قطّعهنّ، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى:( الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ) البقرة - ١٨٧، حيث ضمّن معنى الإفضاء.

وعن الثاني: أنّ جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع ضمير ادعهنّ ويأتينك إليها مع أنّها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلّا بمادّتها في قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١٠، وقوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن ) يس - ٨٢، وحقيقة الأمر: أنّ الخطاب اللفظيّ فرع وجود المخاطب قبل الخطاب وأمّا الخطاب التكوينيّ فالأمر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإنّ الخطاب فيه هو الايجاد ومن المعلوم أنّ الوجود فرع الايجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرّع على قوله كن وهو خطاب الأمر.

وعن الثالث: أنّا نختار الشقّ الثاني وأنّ السؤال إنّما هو عن كيفيّة فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفيّة قبول المادّة وحياتها، وقوله: إنّ البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهيّة الّتي هي من صفاته كما يدلّ ظاهر القرآن وعليه المسلمون.

قلنا: إنّ الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والإحياء ونحوهما، والّذي لاسبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠.

فالإرادة منتزعة من الفعل، وهو الإيجاد المتّحد مع وجود الشئ، وهو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية أنّ هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كلّ شئ إذ قال: فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شئ الآية، وقد ذكر الله تعالى أنّه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.

ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم

٣٩١

عليه‌السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسىعليه‌السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة إنّما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيّليّ الّذي تدلّ عليه ألفاظهم نظير النسبة الّتي بين ألفاظنا العاديّة ومعانيها وقد خفي عليهم أنّ ذلك إنّما هو عن اتّصال باطنيّ بقوّة إلهيّة غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة.

وعن الرابع: أنّ التراخي المدلول عليه بقوله: ثمّ كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الأجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر.

وعن الخامس: أنّ الإشكال مقلوب عليهم فإنّ الّذي ذكروه هو أنّ الله إنّما بين كيفيّة الإحياء لإبراهيم بالبيان العلميّ النظريّ دون الشهوديّ، فيرد عليهم أنّ المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزّة والحكمة، وقد عرفت ممّا قدّمنا أنّ الأنسب على ما بيّناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.

ويظهر ممّا ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره بعض آخر من المفسّرين: أنّ المراد بالسؤال في الآية إنّما هو السؤال عن إشهاد كيفيّة الإحياء بمعنى كيفيّة قبول الأجزاء صورة الحياة.

قال: ما محصّله: أنّ السؤال لم يكن في أمر دينيّ - والعياذ بالله - ولكنّه سؤال عن كيفيّة الإحياء ليحيط علماً بها، وكيفيّة الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيمعليه‌السلام طلب علم لا يتوقّف الإيمان على علمه، ويدلّ على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشكّ أنّه يحكم فيهم، ولكنّه سأل عن كيفيّة حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلاً عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وإنّما جاء التقرير أعني قوله: أو لم تؤمن، بعده لأنّ تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفيّة كما علمت إلّا أنّها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادّعى مدّع: أنّه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنّك

٣٩٢

عاجز عن حمله، والله سبحانه لمّا علم برائة إبراهيمعليه‌السلام عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظيّ في العبارة الاُولى لكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنصّ عليه بحيث يفهمها كلّ من سمعها فهماً لا يتخالجه فيه شكّ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيّات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوده، ورؤية الكيفيّة لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئاً، وإنّما أفادت أمراً لا يجب الإيمان به.

ثمّ قال بعد كلام له طويل: إنّ الآية تدلّ على فضل إبراهيمعليه‌السلام حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيراً ما أراه بعد ما أماته مأة عام.

وأنت بالتدبّر في الآية والتأمّل فيما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإنّ السؤال إنّما وقع عن كيفيّة إحيائه تعالى لا عن كيفيّة قبول الأجزاء الحياة ثانياً فقد قيل: كيف تحيي، بضمّ التاء لا بفتحها، على أنّ إجراء الأمر على يد إبراهيمعليه‌السلام يدلّ على ذلك ولو كان السؤال عن كيفيّة القبول لكفى في ذلك إرائة شئ من الموتى يحييه الله كما في قصّة المارّ على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، ولم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا هو الّذي أشرنا إليه آنفاً: أنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهيّة ومصدريتهم للاُمور الخارقة بنفوسهم العاديّة فينتج ذلك مثلاً: أن لا فرق بين تكوّن الحياة بيد إبراهيم وتكوّنه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، وهذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ. ألا ترى أنّه فسّر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكوّن والأشكال المتصوّرة مع أنّ هذا التردّد الفكريّ من اللغو الّذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيمعليه‌السلام ، مع أنّ الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشئ فإنّ إبراهيمعليه‌السلام قال: كيف

٣٩٣

تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الإنسان أو الأعمّ منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه إلّا تكوّن الحياة في أربعة من الطير:

ثمّ ذكر فضل إبراهيمعليه‌السلام على عزير (يريد به صاحب القصّة في الآية السابقة) بما ذكر فأخذ القصّة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفيّة الّتي فسّرها بما فسّرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعاً، مع أنّ الآيتين جميعاً - على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيّتان عن الكيفيّة بالمعنى الّذي ذكره كلّ ذلك واضح بالرجوع إلى ما مرّ فيهما.

على أنّ المناسب لبيان الكيفيّة ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزّة والحكمة كما في قوله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فصّلت - ٣٩، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفيّة وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الأحقاف - ٣٣، ففيه أيضاً بيان الكيفيّة بإرائة الأمثال ثمّ ختم الكلام بصفة القدرة.

قوله تعالى: ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، بلى كلمة يردّ به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتاً كقوله تعالى:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الأعراف - ١٧٢، ولو قالوا نعم لكان كفراً، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنّت الأرض وأرض مطمئنّة إذا كانت فيه انخفاض يستقرّ فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.

وقد قال تعالى: أو لم تؤمن، ولم يقل: ألم تؤمن للإشعار بأنّ للسؤال والطلب محلّاً لكنّه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دلّ على أنّ المتكلّم تلقّى السؤال منبعثاً عن عدم الإيمان، فكان عتاباً وردعاً عن مثل هذا السؤال، وذلك أنّ الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاماً عن أنّ هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاماً عن وجه السؤال حتّى ينتج عتاباً وردعاً

٣٩٤

والإيمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على أنّ الإيمان بالله سبحانه لا يتحقّق مع الشكّ في أمر الإحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأنّ المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.

وكذا قوله تعالى حكاية عنهعليه‌السلام : ليطمئنّ قلبي، مطلق يدلّ على كون مطلوبهعليه‌السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كلّ خطور قلبيّ وأعراقه، فإنّ الوهم في إدراكاتها الجزئيّة وأحكامها لمّا كانت معتكفة على باب الحسّ وكان جلّ أحكامها وتصديقاتها في المدركات الّتي تتلقّاها من طريق الحواسّ فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدّقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلّيّة العقليّة الحقّة من الاُمور الخارجة عن المادّة الغائبة عن الحسّ فإنّها تستنكف عن قبولها وإن سلّمت مقدّماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاماً مناقضة لها، ثمّ تثير الأحوال النفسانيّة المناسبة لاستنكافها فتقوّى وتتأيّد بذلك في تأثيرها المخالف، وإن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلاتضرّها إلّا أذى، كما أنّ من بات في دار مظلمة فيها جسد ميّت فإنّه يعلم: أنّ الميّت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضرّ شيئاً، لكنّ الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيّلة أن تصوّر للنفس صوراً هائلة موحشة من أمر الميّت ثمّ تهيّج صفة الخوف فتتسلّط على النفس، وربّما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.

فقد ظهر: أنّ وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينيّة لا ينافي الإيمان والتصديق دائماً، غير أنّها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلّا بالحسّ أو المشاهدة، ولذلك قيل: إنّ للمعاينة أثراً لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتّى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

وقد ظهر من هنا وممّا مرّ سابقاً أنّ إبراهيمعليه‌السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحسّ الّذي يتعلّق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنّما كان يسأل مشاهدة فعل الله

٣٩٥

سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وإن كان لا ينفكّ عن الأمر المحسوس الّذي هو قبول الأجزاء المادّيّة للحياة بالاجتماع والتصوّر بصورة الحيّ، فهوعليه‌السلام إنّما كان يسأل حقّ اليقين.

قوله تعالى: ( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) ، صرهنّ بضمّ الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القرائة الاُخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدلّ على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدلّ على تضمين معنى الإمالة. فالمعنى: اقطعهنّ مميلاً إليك أو أملهنّ إليك قطعاً إيّاهنّ على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.

وكيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير الخ، جواب عن ما سأله إبراهيمعليه‌السلام بقوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلّم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتّب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصّةً القرآن الّذي هو خير كلام ألقاه خير متكلّم إلى خير سامع واع، وليست القصّة على تلك البساطة الّتي تترآئى منها في بادي النظر، ولو كان كذلك لتمّ الجواب بإحياء ميّت ما كيف كان، ولكان الزائد على ذلك لغواً مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد اُخذ فيها قيود وخصوصيّات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما اُريد إحيائه أن يكون طيراً، وأن يكون حيّاً، وأن يكون ذا عدد أربعة، وأن يقتل ويخلط ويمزج أجزاؤها، وأن يفرّق الأجزاء المختلطة أبعاضاً ثمّ يوضع كلّ بعض في مكان بعيد من الآخر كقلّة هذا الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الإحياء بيد إبراهيمعليه‌السلام (نفس السائل) بدعوته إيّاهنّ، وأن يجتمع الجميع عنده.

فهذه كما ترى خصوصيّات زائدة في القصّة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، وقد ذكروا لها وجوهاً من النكات لا تزيد الباحث إلّا عجباً (يعلم صحّة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصّلات التفاسير).

٣٩٦

وكيف كان فهذه الخصوصيّات لا بدّ أن تكون مرتبطة بالسؤال، والّذي يوجد في السؤال - وهو قوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى - أمران.

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو أنّ المسئول مشاهدة الإحياء من حيث أنّه وصف لله سبحانه لا من حيث أنّه وصف لأجزاء المادّة الحاملة للحياة.

وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنّه خصوصيّة زائدة.

أمّا الأوّل: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهنّ، ثمّ اجعل، بصيغة الأمر ويقول ثمّ ادعهنّ يأتينك، فإنّه تعالى جعل إتيانهنّ سعياً وهو الحياة مرتبطاً متفرّعاً على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الّذي يفيض عنه حياة ما اُريد إحيائه، ولا إحياء إلّا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إيّاهنّ بأمر الله، قد كانت متّصلة نحو اتّصال بأمر الله الّذي منه تترشّح حياة الإحياء، وعند ذلك شاهده إبراهيم ورأى كيفيّة فيضان الأمر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إيّاهنّ غير متّصلة بأمر الله الّذي هو أن يقول لشئ أرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتّصلة إلّا بالتخيّل كان هو أيضاً كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون، فلا تأثير جزافيّ في الوجود.

وأما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدلّ على أنّ لكثرة الأموات وتعدّدها دخلاً في السؤال، وليس إلّا أنّ الأجساد بموتها وتبدّد أجزائها وتغيّر صورها وتحوّل أحوالها تفقد حالة التميّز والارتباط الّذي بينها فتضلّ في ظلمة الفناء والبوار، وتصير كالأحاديث المنسيّة لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوّة المحيية ولا محاط في الواقع.

وهذا هو الّذي أورده فرعون على موسىعليه‌السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله:( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه - ٥١.

وبالجملة فأجاب الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعلّ اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقلّ زماناً) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها، ويعرفها معرفة تامّة أوّلاً، ثمّ يقتلها ويخلط أجزائها خلطاً دقيقاً ثمّ يجعل

٣٩٧

ذلك أبعاضاً، وكلّ بعض منها على جبل لتفقد التميّز والتشخّص، وتزول المعرفة، ثمّ يدعوهنّ يأتينه سعياً، فإنّه يشاهد حينئذ أنّ التميّز والتصوّر بصورة الحياة كلّ ذلك تابع للدعوة الّتي تتعلّق بأنفسها، أي إنّ أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس، فإنّ البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظلّ إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظلّ وإلى أيّ حال تحوّل الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظلّ حتّى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد حيّاً من الإحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنّما يتعلّق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أوّلاً ثمّ يتبعه أجزاء المادّة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علماً فيتعيّن الجسد بتعيّن الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى: ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً أي مسرعات مستعجلات.

وهذا هو الّذي يستفاد من قوله تعالى:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة - ١١، وقد مرّ بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرّد النفس، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه إنشاء الله.

فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنّما أمر بذلك ليعرفها فلا يشكّ فيها عند إعادة الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميّز أوّلاً وزوالهما ثانياً، وقوله: فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً أي اذبحهنّ وبدّد أجزائهن واخلطها ثمّ فرّقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء وهي غير متميّزة، وهذا من الشواهد على أنّ القصّة إنّما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سوريّة فإنّ أرض بابل لا جبل بها، وقوله ثمّ ادعهنّ، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان، ويمكن أن يستفاد ذلك مضافاً إلى دلالة ضمير( هُنَّ ) الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهنّ، فإنّ الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثمّ نادهنّ فإنّها كانت على جبال بعيدة عن موقفهعليه‌السلام واللفظ المستعمل في البعيد خاصّة هوالنداء دون الدعاء، وقوله: يأتينك سعياً، أي يتجسّدن واتّصفن

٣٩٨

بالإتيان والإسراع إليك.

قوله تعالى: ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، أي عزيز لا يفقد شيئاً بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئاً إلّا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح وإيجادها دون العكس.

وفي قوله تعالى: واعلم أنّ الخ، دون أن يقال: إنّ الله الخ، دلالة على أنّ الخطور القلبيّ الّذي كان إبراهيم يسأل ربّه المشاهدة ليطمئنّ قلبه من ناحيته كان راجعاً إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية: أخرج الطيالسيّ وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان.

وفي تفسير البرهان: أبو عليّ الطبرسيّ قال: اختلف في وقت هذه المحاجّة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد إلقائه في النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، عن الصادقعليه‌السلام .

اقول: الآية وإن لم تتعرّض لكونها قبل أو بعد لكنّ الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإنّ قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجّته أباه وقومه وكسره الأصنام تعطي أنّ أوّل ما لاقى إبراهيمعليه‌السلام نمرود وكان حين رفع أمره إليه في قضيّة كسر الأصنام مجرماً عندهم، فحكم عليه بالإحراق، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلاً عن تكليمه في أمر ربّه: أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجّه نمرود حينئذ لحاجّه في أمر الله وأمر الأصنام دون أمر الله وأمر نفسه!

وفي عدّة من الروايات الّتي روتها العامّة والخاصّة في قوله تعالى: أو كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها الآية أنّ صاحب القصّة أرميا النبيّ وفي عدّة

٣٩٩

منها: أنّها عزير، إلّا أنّها آحاد غير واجبة القبول، وفي أسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصّة غير مذكورة في التوراة، والّتي في الروايات من القصّة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنّها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانّها.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قالعليه‌السلام : وهذه آية متشابهة، ومعناها أنّه سأل عن الكيفيّة والكيفيّة من فعل الله عزّوجلّ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض في توحيده نقص، الحديث.

اقول: وقد اتّضح معنى الحديث ممّا مرّ.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّ بن أسباط: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام سئل عن قول الله: قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي أكان في قلبه شكّ قال لا ولكن أراد من الله الزيادة، الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالحعليهما‌السلام وقد مرّ بيانه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن ابن أبي أيّوب عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكلها سباع البحر، ثمّ يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فتعجّب إبراهيم فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، فقال الله عزّوجلّ: فصرهنّ إليك أي قطّعهنّ ثمّ اخلط لحمهنّ، وفرّقهنّ على عشرة جبال، ثمّ دعاهنّ فقال: احيى بإذن الله فكانت تجتمع وتتألّف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إنّ الله عزيز حكيم.

أقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وروي

٤٠٠

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481