الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138391 / تحميل: 8831
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

في تمييز الخير من غيره، وهو قوله تعالى: والله بما تعملون خبير.

قوله تعالى: ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ ما كان يشاهده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمنّ والأذى والتثاقل في إنفاق طيّب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجداً وحزناً فسلّاه الله تعالى بالتنبيه على أنّ أمر هذا الإيمان الموجود فيهم والهدى الّذي لهم إنّما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبيّ لا وجوده ولا بقائه حتّى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة.

والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هُداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقّق التلبّس. على أنّ هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبيّ وتطييب قلبه.

فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبيّ بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه صلّى الله عليه وآله، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه ُ ) الآيات القيامة - ١٧. فلمّا تمّ الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنّن والتغيّظ معاً، فإنّ ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ولكنّ الله يهدي من يشاء كما لا يخفى. فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أنّ ساحة المتكلّم الداعي منزّهة عن الانتفاع بما يتعقّب هذه الدعوة من المنافع، وإنّما يعود نفعه إلى المدعوّين، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقاً بل في حال لاتنفقون إلّا ابتغاء وجه الله، فقوله: ولا تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلّق الظرف أعني قوله:

٤٢١

فلأنفسكم.

ولمّا أمكن أن يتوهّم أنّ هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرّد اسم لا مسمّى له في الخارج، وليس حقيقته إلّا تبديل الحقيقة من الوهم عقّب الكلام بقوله: وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون، فبيّن أنّ نفع هذا الإنفاق المندوب وهو ما يترتّب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس أمراً وهميّاً، بل هو أمر حقيقيّ واقعيّ سيوفّيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.

وإبهام الفاعل في قوله: يوفّ إليكم، لما تقدّم أنّ السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنّه كلام لا متكلّم له، فلو كان هناك نفع فلسا معه لا غير.

قوله تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية، الحصر هو المنع والحبس، والأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات: والحصر والإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدوّ، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلّا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن اُحصرتم فمحمول على الأمرين وكذلك قوله: للفقراء الّذين اُحصروا في سبيل الله، وقوله عزّوجلّ: أو جائوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى. والتعفّف التلبّس بالعفّة، والسيماء العلامة، والإلحاف هو الإلحاح في السؤال.

وفي الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الّذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك: إمّا عدوّ أخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيّش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.

وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفّف دلالة على أنّهم غير متظاهرين بالفقر إلّا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.

٤٢٢

ومن هنا يظهر: أنّ المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافاً أنّهم لا يسألون الناس أصلاً حتّى ينجرّ إلى الإلحاف والإصرار في السؤال، فإنّ السؤال أوّل مرّة يجوّز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر وتهمّ بالسؤال في كلّ موقف، والإلحاف على كلّ أحد، كذا قيل، ولا يبعد أن يكون المراد نفى الإلحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإنّ مسمّى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربّما صار واجباً، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم.

وفي قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الّذي تستّروا به تعفّفاً من الانهتاك فإنّ كونهم معروفين بالفقر عند كلّ أحد لا يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلّهم. وأمّا معرفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحالهم بتوسّمه من سيماهم، وهو نبيّهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا ذهاب كرامتهم، وهذا - والله أعلم - هو السرّ في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) إلى آخر الآية، السرّ والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرّين ومعلنين، واستيفاء الأزمنة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلّى الله سبحانه منهم فوعدهم وعداً حسناً بلسان الرأفة والتلطّف فقال: لهم أجرهم عند ربّهم الخ.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء الآية، أخرج ابن ماجه عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهليّ و عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلّهم يحدّث عن رسول الله أنّه قال: ح، وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من

٤٢٣

أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكلّ درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكلّ درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثمّ تلا هذه الآية: والله يضاعف لمن يشاء.

وفي تفسير العيّاشيّ ورواه البرقيّ أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم الّتي تعملونها لثواب الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عمر بن مسلم قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم الّتي تعملونها لثواب الله، قلت: وما الإحسان؟ قال: إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوقّ ما فيه فساد صومك، وإذا حججت فتوقّ كلّ ما يحرم عليك في حجّتك وعمرتك، قال: وكلّ عمل تعمله فليكن نقيّاً من الدنس.

وفيه عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: أرأيت المؤمن له فضل على المسلم في شئ من المواريث والقضايا والأحكام حتّى يكون للمؤمن أكثر ممّا يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحداً إذا حكم الإمام عليهما، ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وزعمت أنّهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمن؟ قال: فقال: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة؟ فالمؤمنون هم الّذين يضاعف لهم الحسنات، لكلّ حسنة سبعين ضعفاً، فهذا من فضيلتهم، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحّة إيمانه اضعافاً مضاعفة كثيرةً ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء.

اقول: وفي هذا المعنى اخبار اُخر وهي مبتنية جميعاً على الأخذ بإطلاق قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، والأمر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، ولا يكون المورد مخصّصاً ولا مقيّداً، وإذا كانت

٤٢٤

الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقاً بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره، ويكون المعنى: والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكلّ محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقلّ كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، ولا ينافي هذا ما تقدّم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لأنّ الّذي نفينا هناك إنّما هو تقييده بالمنفقين، والمعنى الّذي تدلّ عليه الرواية نفى التقييد. وقولهعليه‌السلام : أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحداهما: هذه الآية من سوره البقرة، والاُخرى: قوله تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، وممّا يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين وترتّب الثواب عليها، وسيجئ البحث عنها في قوله تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ ) الآية النساء - ٩٨.

وفي المجمع قال: والآية عامّة في النفقة في جميع ذلك (يشير إلى الجهاد وغيره من أبواب البرّ) وهو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق في المصنّف عن أيّوب قال: أشرف على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من رأس تلّ، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو ليس في سبيل الله إلّا من قتل؟ ثمّ قال: من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكف به والديه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكفّ به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكفّ به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان.

وفيه أيضاً أخرج ابن المنذر والحاكم وصحّحه: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل البراء ابن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على اُمّك؟ وكان موسّعاً على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها؟ قال: فإنّ نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك منّاً ولا أذىّ.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، وفيها أنّ كلّ عمل

٤٢٥

يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، وكلّ نفقة في سبيل الله فهي صدقة.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية عن الصادقعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثمّ أذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادقعليه‌السلام : والصفوان هي الصخرة الكبيرة الّتي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنّة بربوة الآية وابل أي مطر، والطلّ ما يقع بالليل على الشجر والنبات، وقال في قوله تعالى: إعصار فيه نار الآية الإعصار الرياح.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات الآية، أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم، قال: من الذهب والفضّة وممّا أخرجنا لكم من الأرض، قال: يعني من الحبّ والتمر وكلّ شئ عليه زكاة.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذيّ وصحّحه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في سننه عن البراء بن عازب في قوله، ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلّته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلّقه في المسجد وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممّن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل الله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) قال: لو أنّ أحدكم اُهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه إلّا عن إغماض وحياء، قال: فكنّا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قول الله: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان

٤٢٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجئ قوم بألوان من التمر وهو من أردئ التمر، يؤدّونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى، وكان بعضهم يجئ بها عن التمر الجيّد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا تجيئوا منها بشئ وفي ذلك نزل: ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه، والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين، وفي رواية اُخرى عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى: أنفقوا من طيّبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهليّة فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها، فأبى الله تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.

اقول: وفي هذا المعنى أخبار كثيرة من طرق الفريقين.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: إنّ الشيطان يقول لا تنفقوا فإنّكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً أي يغفر لكم إن أنفقتم لله وفضلاً يخلف عليكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج الترمذيّ وحسّنه والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والبيهقيّ في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة: فأمّا لمّة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله، ومن وجد الاُخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثمّ قرء: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى: ومن يؤتى الحكمة فقد اُوتي خيراً كثيراً قال: المعرفة.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: قال: طاعة الله ومعرفه الإمام.

اقول: وفي معناه روايات اُخر وهي من قبيل عدّ المصداق.

وفي الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن بعض أصحابنا

٤٢٧

رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتّى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول اُمّته، وما يضمر النبيّ في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدّى العبد فرائض الله حتّى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم اُولوا الألباب، قال الله تبارك وتعالى: وما يتذكّر إلّا اُولوا الألباب.

وعن الصادقعليه‌السلام قال: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ولو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت، قال الله عزّوجلّ: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد اُوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلّا اُولوا الألباب.

اقول: وفي قوله تعالى: وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إنشاء الله.

وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق عن ابن عبّاس وابن جبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم: أنّ رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام وأنّ المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفّار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.

اقول: قد مرّ أنّ قوله: هداهم إنّما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفّار فالآية أجنبيّة عمّا في الروايات من قصّة النزول، على أنّ تعيين المورد في قوله: للفقراء الّذين اُحصروا الآية لا يلائمه كثير ملائمة، وأمّا مسألة الإنفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكوة، إنّ الزكاة علانية غير سرّ.

وفيه عنهعليه‌السلام : كلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان تطوّعاً فإسراره أفضل من إعلانه.

٤٢٨

اقول: وفي معنى الحديثين أحاديث اُخرى وقد تقدّم ما يتّضح به معناها.

وفي المجمع في قوله تعالى: للفقراء الّذين اُحصروا في سبيل الله الآية قال قال أبو جعفرعليه‌السلام نزلت الآية في أصحاب الصفّة، قال: وكذلك رواه الكلبيّ عن ابن عبّاس، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا نخرج في كلّ سريّة يبعثها رسول الله، فحثّ الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : إنّ الله يبغض الملحف.

وفي المجمع في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عبّاس نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كانت معه أربعة دراهم، فتصدّق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سرّاً وبواحد علانية فنزل، الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية، قال الطبرسيّ: وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام .

اقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره، والمفيد في الاختصاص، والصدوق في العيون.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبرانيّ وابن عساكر من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية قال: نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً وسرّاً درهماً وعلانية درهماً.

في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب في المناقب عن ابن عبّاس والسديّ ومجاهد والكلبيّ وأبي صالح والواحديّ والطوسيّ والثعلبيّ والطبرسيّ والماورديّ والقشيريّ والثماليّ والنقّاش والفتّال وعبدالله بن الحسين وعليّ بن حرب الطائيّ في تفاسيرهم: أنّه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضّة فتصدّق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سرّاً وبواحد علانية فنزل: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فسمّى

٤٢٩

كلّ درهم مالاً وبشّره بالقبول.

وفي بعض التفاسير: أنّ الآية نزلت في أبي بكر تصدّق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسرّ وعشرة بالعلانية.

اقول: ذكر الآلوسيّ في تفسيره في ذيل هذا الحديث: أنّ الإمام السيوطيّ تعقّبه بأنّ خبر تصدّقه بأربعين ألف دينار إنّما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة وليس فيه ذكر من نزول الآية، وكأنّ من ادّعى ذلك فهمه ممّا أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق، قال: لمّا قبض أبوبكر واستخلف عمر خطّاب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: أيّها الناس إنّ بعض الطمع فقر، وإنّ بعض اليأس غنى، وإنّكم تجمعون مالا تأكلون، وتؤمّلون ما لا تدركون، واعلموا أنّ بعض الشحّ شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرء الآية الكريمة وأنت تعلم أنّها لا دلالة فيها على نزولها في حقّه، انتهى.

وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق عن أبي أمامة وأبي الدرداء وابن عبّاس وغيرهم أنّ الآية نزلت في أصحاب الخيل.

اقول: والمراد بهم المرابطون الّذين ينفقون على الخيل ليلاً ونهاراً، لكنّ لفظ الآية أعني قوله: سرّاً وعلانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في الإنفاق على الخيل أصلاً.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج المسيّب: الّذين ينفقون الآية كلّها في عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفّان في نفقتهم في جيش العسرة.

اقول: والإشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الإشكال في سابقه.

٤٣٠

( سورة البقرة آية ٢٧٥ - ٢٨١)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( ٢٧٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٩ ) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٨٠ ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٢٨١ )

( بيان)

الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائيّ، كيف ولسانها غير لسان التشريع؟ وإنّما الّذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران - ١٣٠، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، وسياق الآية يدلّ على أنّ المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهى السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، وترك ما للغرماء

٤٣١

في ذمّة المدينين من الربا، ومن هنا يظهر معنى قوله: فمن جائه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله الآية على ما سيجئ بيانه.

وقد تقدّم على ما في سورة آل عمران من النهى قوله تعالى في سورة الروم وهي مكّيّة:( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الروم - ٣٩، ومن هنا يظهر أنّ الربا كان أمراً مرغوباً عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتّى تمّ أمر النهى عنه في سورة آل عمران، ثمّ اشتدّ أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع الّتي يدلّ سياقها على تقدّم نزول النهى عليها، ومن هنا يظهر: أنّ هذه الآيات إنّما نزلت بعد سورة آل عمران.

على أنّ حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله:( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) النساء - ١٦١، ويشعر به قوله: - حكاية عنهم -( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران - ٧٥، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدلّ على حرمته في الإسلام.

والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقوله: وأن تصدّقوا خير لكم، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران مقارناً لذكر الإنفاق والصدقة والحثّ عليه والترغيب فيه.

على أنّ الاعتبار أيضاً يساعد الارتباط بينهما بالتضادّ والمقابلة، فإنّ الربا أخذ بلا عوض كما أنّ الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيّئة المترتّبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتّبة على الصدقة وتحاذيها على الكلّيّة من غير تخلّف واستثناء، فكلّ مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبّة، وإقامة أصلاب المساكين والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الأمر واستقرار النظام والأمن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا.

وقد شدّد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدّد بمثله في شئ

٤٣٢

من فروع الدين إلّا في تولّي أعداء الدين، فإنّ التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، وأمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدّد القول فيها فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتّى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها كقتل النفس الّتي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولّي أعداء الدين.

وليس ذلك إلّا لأنّ تلك المعاصي لا تتعدّى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤمة، ولا تسري إلّا إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلّا في الأعمال والأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإنّ لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الإنسانيّة ويسقط حكمها فيصير نسياً منسيّاً على ما سيتّضح إنشاء الله العزيز بعض الاتّضاح.

وقد صدّق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدّد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة والتولّي والتحابّ والتمائل إلى أعداء الدين الاُمم الإسلاميّة في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم، لا يملكون مالاً ولا عرضاً ولا نفساً، ولا يستحقّون موتاً ولا حياةً، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامّة الفضائل.

وحيث ساق أكل الربا إلى ادّخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجّر ذلك إلى الحروب العالميّة العامّة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقيّ، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدّد الإنسانيّة بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثمّ كان عاقبة الّذين أسائوا السوآى.

وسيظهر لك إنشاء الله تعالى أنّ ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولّي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) ، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختلّ جهة مشيه، وللإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنّه لا محالة ذو أفعال

٤٣٣

وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الّذي يعيش فيه، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقاديّة عقلائيّة وضعها ونظّمها الإنسان ثمّ طبّق عليها أفعاله الانفراديّة والإجتماعيّة، فهو يقصد الأكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح، والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لاُمور وينقبض عن اُخرى في معاشرته، ويريد كلّ مقدّمة عند إرادة ذيها، وإذا طلب مسبّباً مال إلى جهة سببه.

وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متّحدة نحو اتّحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته.

وإنّما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوّة مودوعة فيه هي القوّة المميّزة بين الخير والشرّ والنافع والضارّ والحسن والقبيح وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وأمّا الإنسان الممسوس وهو الّذي اختلّت قوّته المميّزة فهو لا يفرّق بين الحسن والقبيح والنافع والضارّ والخير والشرّ، فيجري حكم كلّ مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنّه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنّه بالأخرة إنسان ذو إرادة، ومن المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانيّة بل لأنّه يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً والخير والنافع شرّاً وضارّاً وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد.

وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العاديّ عاديّاً دون العكس فإنّ لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربّما طبّقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختلّ عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيّله ويريده هو المتّبع عنده، فالعاديّ وغير العاديّ عنده على حدّ سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلّا مثل خلاف العادة من غير مزيّة لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.

وهذا حال المرابي في أخذه الربا (إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل)

٤٣٤

فإنّ الّذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإنسان الإجتماعيّة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الّذي يستغنى عنه ممّا عند غيره من المال الّذي يحتاج إليه، وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شئ ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك ينجرّ من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي، فإنّ هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.

وينجرّ من جانب المدين المؤدّي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شئ مع تزايد الحاجة وكلّما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضادّ التوازن والتعادل الاجتماعيّ ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنسانيّ الّذي هدته إليه الفطرة الإلهيّة.

وهذا هو الخبط الّذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإنّ المراباة يضطرّه أن يختلّ عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب أنّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزيّة، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدلّ تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنّما البيع مثل الربا.

ومن هذا البيان يظهر:أولا: أنّ المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقوم إلّا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنّه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى:( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) الروم - ٢٥، وقال تعالى:( وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ) النساء - ١٢٧، وأمّا كون المراد به المعنى المقابل للقعود فممّا لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية.

وثانياً: أنّ المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات الّتي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسّرين، فإنّ ذلك

٤٣٥

لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا، وبناء عمله عليه، ومحصّله أفعال اختياريّة صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.

وثالثاً: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا، ولم يقل: إنّما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجئ توضيحه.

ورابعاً: أنّ التشبيه أعني قوله: الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ لا يخلو عن إشعار بجواز تحقّق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإنّ الآية وإن لم تدلّ على أنّ كلّ جنون هو من مسّ الشيطان لكنّها لا تخلو عن إشعار بأنّ من الجنون ما هو بمسّ الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدلّ على أنّ هذا المسّ من فعل إبليس نفسه فإنّ الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجنّ وشرار الإنس، وإبليس من الجنّ، فالمتيقّن من إشعار الآية أنّ للجنّ شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلّهم.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرّف الجنّ في المجانين، ولا ضير في ذلك لأنّه مجرّد تشبيه خال عن الحكم حتّى يكون خطاء غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أنّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مسّ الشيطان فأمر غير ممكن لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.

ففيه: أنّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأيّ نحو كان من الاستناد إلّا مع بيان بطلانه وردّه على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه

٤٣٦

( َكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) فصّلت - ٤٢، وقال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق - ١٤.

وأمّا أنّ استناد الجنون إلى تصرّف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعيّة، فإنّها أيضاً مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.

على أنّه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إيّاه إشكال لأنّ التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنّما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقليّ عن مجرى الحقّ وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحاً وبالعكس، أو يرى الحقّ باطلاً وبالعكس جزافاً بتصرّف من الشيطان، فهذا هو الّذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأمّا ذهاب القوّة المميّزة وفساد حكمها تبعاً لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء اُسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.

على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعيّة كاختلال الأعصاب والآفة الدماغيّة أسباب قريبة ورائها الشيطان، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلّل الأسباب الطبيعيّة في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيّوبعليه‌السلام إذ قال:( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) ص - ٤١، وإذ قال:( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأنبياء - ٨٣، والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعيّة إلى الشيطان.

وهذا وما يشبهه، من الآراء المادّيّة الّتي دبّت في أذهان عدّة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث أنّ أصحاب المادّة لمّا سمعوا الإلهيّين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أنّ ذلك إبطال للعلل الطبيعيّة وإقامة لماوراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا أنّ المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مراراً.

٤٣٧

وخامساً: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسّرين: أنّ المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنّهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الّذي يتخبّطه الجنون. ووجه الفساد أنّ ظاهر الآية على ما بيّنا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهوراً فيما ليست بظاهرة فيه، وإنّما تبيّن حال آكل الربا يوم القيامة.

قال في تفسير المنار: وأمّا قيام آكل الربا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فقد قال ابن عطيّة في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبّط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جُنّ.

اقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: إنّ المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وأنّ الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنّهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود بل روى الطبرانيّ من حديث عوف بن مالك مرفوعاً إيّاك والذنوب الّتي لا تغفر: الغلول فمن غلّ شيئاً اُتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبّط.

ثمّ قال: والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطيّة لأنّه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدلّ على أنّ المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شئ من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسّراً للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الّذي قال به ابن عطيّة إلّا من لم يظهر له صحّته في الواقع.

ثمّ قال: وكان الوضّاعون الّذين يختلقون الروايات يتحرّون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسّرونه بها، وقلّما يصحّ في التفسير شئ، انتهى ما ذكره.

ولقد أصاب فيما ذكره من خطائهم لكنّه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أمّا ما قاله ابن عطيّة فهو ظاهر في نفسه فإنّ أولئك الّذين فتنهم المال واستعبدهم حتّى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصوداً لذاته، وتركوا

٤٣٨

لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعيّ تخرج نفوسهم عن الاعتدال الّذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلّبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتّى يكون خفّة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبّط الممسوس فإنّ التخبّط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، انتهى.

فإنّ ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحاً لكن لا هو معلول أكل الربا محضاً، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أمّا الأوّل فإنّما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبوديّة وإخلادهم إلى لذائذ المادّة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفّة الدينيّة والوقار النفسانيّ، وتأثّرت نفوسهم عن كلّ لذّة يسيرة مترائية من المادّة، وتعقّب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد محسوس من كلّ من حاله الحال الّذي ذكرنا وإن لم يمسّ الربا طول حياته.

وأمّا الثاني فلأنّ الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإنّ الله سبحانه يحتجّ على كونهم خابطين في قيمهم بقوله: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ، قد تقدّم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنّما الربا مثل البيع فإن من استقرّ به الخبط والاختلال كان واقفاً في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيّان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - أنّ الّذي تأمرني به كالّذي تنهاني عنه لا مزيّة له عليه، ولو قال: إنّ الّذي تنهاني عنه كالّذي تأمرني به كان عاقلاً غير مختلّ الإدراك فإنّ معنى هذا القول: أنّه يسلّم أنّ الّذي يؤمر به أصل ذو مزيّة يجب اتّباعه لكنّه يدّعي أنّ الّذي ينهي عنه

٤٣٩

ذو مزيّة مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزيّة وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا هو قول المرابي المستقرّ في نفسه الخبط، إنّما البيع مثل الربا، ولو أنّه قال: إنّ الربا مثل البيع لكان رادّاً على الله جاحداً للشريعة لا خابطاً كالممسوس.

والظاهر أنّ قوله تعالى: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك وإن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بقولهم: إنّما البيع مثل الربا نظمهما في سلك واحد، وإنّما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلاً وشبّهوا به البيع للمبالغة كما في قوله:

ومهمّه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

وكذا فساد ما ذكره آخرون: أنّه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بنائاً على ما فهموه: أنّ البيع إنّما حلّ لأجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقّق وفي غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر ممّا تقدّم.

قوله تعالى: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، جملة مستأنفة بنائاً على أنّ الجملة الفعليّة المصدّرة بالماضي لو كانت حالاً لوجب تصديرها بقد. يقال: جائني زيد وقد ضرب عمراً، ولا يلائم كونها حالاً ما يفيده أوّل الكلام من المعنى، فإنّ الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحقّقه، فلو كانت حالاً لإفادت: أنّ تخبّطهم لقولهم إنّما البيع مثل الربا إنّما هو في حال أحلّ الله البيع وحرّم الربا عليهم، مع أنّ الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلّيّة والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حاليّة وإنّما هي مستأنفة.

وهذه المستأنفة غير متضمّنة للتشريع الابتدائيّ على ما تقدّم أنّ الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدلّ عليها آية آل عمران:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران - ١٣٠، فالجملة أعني قوله: وأحلّ الله الخ لا تدلّ على إنشاء الحكم، بل على الإخبار

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481