الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 126458
تحميل: 7209


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126458 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة البقرة آية ٢٨٢ - ٢٨٣)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٨٢ ) وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِذَا تَدَايَنتُم ) الخ، التداين، مداينة بعضهم بعضاً، والإملال والإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال، والمضارّة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الإثنين وغيره، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والرهان، وقرء فرهن بضمّتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.

والإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى: فإن كان الّذي عليه الحقّ،

٤٦١

لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.

والضمير البارز في قوله: أن يملّ هو فليملل وليّه، فائدته تشريك من عليه الحقّ مع وليّه، فإنّ هذه الصورة تغاير الصورتين الاُوليين بأنّ الوليّ في الصورتين الاُوليين هو المسؤول بالأمر المستقلّ فيه بخلاف هذه الصورة فإنّ الّذي عليه الحقّ يشارك الوليّ في العمل فكأنّه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليّه.

وقوله: أن تضلّ إحداهما، على تقدير حذر أن تضلّ إحديهما، وفي قوله: إحداهما الاُخرى وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأوّل إحداهما لاعلى التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الاُخرى، فالمعنيان مختلفان.

وقوله: واتّقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر والنهى، وأمّا قوله: ويعلّمكم الله والله بكلّ شئ عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث:( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) النساء - ١٧٦، فالمراد به الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.

وما قيل: إنّ قوله: واتّقوا الله ويعلّمكم الله يدلّ على أنّ التقوى سبب للتعليم الإلهيّ، فيه أنّه وإن كان حقّاً يدلّ عليه الكتاب والسنّة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أنّ هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.

ويؤيّد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانياً فإنّه لو لاكون قوله ويعلّمكم الله، كلاماً مستأنفاً كان مقتضى السياق أن يقال: يعلّمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: واتّقوا الله ويعلّمكم الله والله بكلّ شئ عليم، اُظهر الاسم أوّلاً وثانياً لوقوعه في كلامين مستقلّين، وأظهر ثالثاً ليدلّ به على التعليل، كأنّه قيل: هو بكلّ شئ عليم لأنّه الله.

٤٦٢

واعلم: أنّ الآيتين تدلّان على ما يقرب من عشرين حكماً من اُصول أحكام الدين والرهن وغيرهما، والأخبار فيها وفيما يتعلّق بها كثيرة لكنّ البحث عنها راجع إلى الفقه، ولذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانّه من الفقه.

٤٦٣

( سورة البقرة آية ٢٨٤)

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٨٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) ، كلام يدلّ على ملكه تعالى لعالم الخلق ممّا في السماوات والأرض، وهو توطئة لقوله بعده: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إنّ له ما في السماوات والأرض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.

وربّما استظهر من الآية: كون السماء مسانخاً لأعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو ممّا في السماوات، ولله ما في السماوات كما أنّ ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان ممّا في الأرض، ولله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدى أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرّف فيه بالمحاسبة.

قوله تعالى: ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، ومعنى ما في أنفسكم ما استقرّ في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقرّ في النفس إلّا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالإيمان والكفر والحبّ والبغض والعزم وغيرها فإنّها هي الّتي تقبل الإظهار والإخفاء. أمّا إظهارها فإنّما تتمّ بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحسّ ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسيّة المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانيّة من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحبّ وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأمّا إخفاؤها فبالكفّ عن فعل ما يدلّ على وجودها في النفس.

٤٦٤

وبالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكّن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتاً تامّاً يعتدّ به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا وقوله: أو تخفوها فإنّ الوصفين يدلّان على أنّ ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشئاً للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء، وهذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالاً أو ملكات، وأمّا الخطّورات والهواجس النفسانيّة الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان وكذلك التصوّرات الساذجة الّتي لاتصديق معها كتصوّر صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتّة لأنّها كما عرفت غير مستقرّة في النفس، ولا منشأ لصدور الأفعال.

فتحصّل: أنّ الآية إنّما تدلّ على الأحوال والملكات النفسانيّة الّتي هي مصادر الأفعال من الطاعات والمعاصي، وأنّ الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى:( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة - ٢٢٥، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الاسراء - ٣٦، فجميع هذه الآيات دالّة على أنّ للقلوب وهي النفوس أحوالاً وأوصافاً يحاسب الإنسان بها، وكذا قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) النور - ٩، فإنّها ظاهرة في أنّ العذاب إنّما هو على الحبّ الّذي هو أمر قلبيّ، هذا.

فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم: أنّ الآية إنّما تدلّ على المحاسبة بما في النفوس سواء اُظهر أو اُخفي، وأمّا كون الجزاء في صورتي الإخفاء والإظهار على حدّ سواء، وبعبارة اُخرى كون الجزاء دائراً مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجرّي مثلاً فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتّى لما توهّموا أنّها تدلّ على المؤاخذة على كلّ خاطر نفسانيّ مستقرّ في النفس أو غيره، وليس إلّا تكليفاً بما لا يطاق، فمن

٤٦٥

ملتزم بذلك ومن مؤوّل يريد به التخلّص.

فمنهم من قال: إنّ الآية تدلّ على المحاسبة بكلّ ما يرد القلب، وهو تكليف بما لا يطاق، لكنّ الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها الآية.

وفيه: أنّ الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مرّ. على أنّ التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب. على أنّه تعالى يخبر بقوله:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحجّ - ٧٨، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

ومنهم من قال: إنّ الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدّمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنّها مخصوصة بالكفّار.

ومنهم من قال: إنّ المعنى: إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

ومنهم من قال: إنّ المراد بالآية مطلق الخواطر إلّا أنّ المراد بالمحاسبة الإخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإنّ الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى:( فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) المائدة - ١٠٥، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الآية كما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الإشعار بأنّ المراد بما في النفوس هي الصفات والأحوال النفسانيّة السيّئة، وإن كانت المغفرة ربّما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضاً لكنّه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصّة. وقوله: إنّ الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

٤٦٦

( بحث روائي)

في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولانطيقها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير. فلمّا اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون الآية، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها إلى آخرها.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن أحمد ومسلم وأبي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة، وروى قريباً منه بعدّة من الطرق عن ابن عبّاس. وروي النسخ أيضاً بعدّة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة.

وروي عن الربيع بن أنس: أنّ الآية محكمة غير منسوخة وإنّما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله الّتي عملها في الدنيا.

وروي عن ابن عبّاس بطرق: أنّ الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها. فهي محكمة غير منسوخة.

وروي عن عائشة أيضاً: أنّ المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغمّ والحزن إذا همّ بالمعصية ولم يفعلها، فالآية أيضاً محكمة غير منسوخة.

وروي من طريق عليّ عن ابن عبّاس في قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فإنّها لم تنسخ، ولكنّ الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ممّا لم تطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم وهو قوله: يحاسبكم

٤٦٧

به الله يقول يخبركم. وأمّا أهل الشكّ والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.

اقول: والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنّها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدّم: أنّ ظاهر الآية هو: أنّ المحاسبة إنّما تقع على ما كسبته القلوب إمّا في نفسها وإمّا من طريق الجوارح، وليس في الخطور النفسانيّ كسب، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات والهمم النفسانيّة، فهذا ما تدلّ عليه الآية وتؤيّده سائر الآيات على ما تقدّم.

وأمّا حديث النسخ خاصّة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجّيّة.

أوّلها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدّم بيانه.

ثانيها: اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو ممّا لا يرتاب العقل في بطلانه. ولاسيّما منه تعالى، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربّما زاد إشكالاً على إشكال فإنّ ظاهر قوله في الرواية: فلمّا اقترئها القوم الخ أنّ النسخ إنّما وقع قبل العمل وهو محذور.

ثالثها: أنّك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أنّ قوله: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها، لا يصلح لأن يكون ناسخاً لشئ، وإنّما يدلّ على أنّ كلّ نفس إنّما يستقبلها ما كسبته سواء شقّ ذلك عليها أو سهل، فلو حمّل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الّذين من قبلنا فإنّما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومنّ إلّا نفسها، فالجملة أعني قوله: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل.

رابعها: أنّه سيجئ أيضاً: أنّ وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانيّة أصلاً، ومواجهة الناسخ للمنسوخ ممّا لابدّ منه في باب النسخ.

بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الّذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخر الآية على ما سيأتي إنشاء الله.

٤٦٨

( سورة البقرة آية ٢٨٥ - ٢٨٦)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( ٢٨٥ ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٨٦ )

( بيان)

الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصّل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبيّنة لغرضها، وقد مرّ في ما مرّ أنّ غرض السورة بيان أنّ من حقّ عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، وهذا هو الّذي تشتمل عليه الآية الاُولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، وفي السورة قصص تقصّ ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوّة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرّد ونقض المواثق والكفر، وهذا هو الّذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنّب عند ذيل الآية الاُولى وتمام الآية الثانية، فبالآيتين يردّ آخر الكلام في السورة إلى أوّله وختمه إلى بدئه.

ومن هنا يظهر خصوصيّة مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أنّ الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الّذي يجب أن يتّصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حقّ الربوبيّة، فذكر أنّ المتّقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة، فلاجرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، وبيّن بالمقابلة حال الكفّار والمنافقين.

٤٦٩

ثمّ فصّل القول في أمر أهل الكتاب وخاصّة اليهود وذكر أنّه منّ عليهم بلطائف الهداية، وأكرمهم بأنواع النعم، وعظائم الحباء، فلم يقابلوه إلّا بالعتوّ وعصيان الأمر وكفر النعمة، والردّ على الله وعلى رسله، ومعاداة ملائكته، والتفريق بين رسل الله وكتبه. فقابلهم الله بحمل الإصر الشاقّ من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.

ثمّ عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنّهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربّهم فيما أنعم عليهم بالهداية والإرشاد إلّا بأنعم القبول والسمع والطاعة، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرّقين بين أحد من رسله، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الّذي أحاطت به ذلّة العبوديّة وعزّة الربوبيّة، فإنّهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحقّ اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حقّ الإجابة. لأنّ وجودهم مبنيّ على الضعف والجهل فربّما قصروا عن التحفّظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطاء، أو قصّروا في القيام بواجب العبوديّة فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيّئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجأوا إلى جناب العزّة ومنبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، ولا يحمل عليهم إصراً، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين.

فهذا هو المقام الّذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصّل من السورة، لا ما ذكروه: أنّ الآيتين متعلّقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به الله الآية الدالّ على التكليف بما لا يطاق، وأنّ الآية الاُولى: آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، والآية الثانية ناسخة لذلك!

وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول: أنّ البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة فإنّ هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واستقراره فيها لمّا قارن الاستقبال التامّ من مؤمني الأنصار للدين الإلهيّ وقيمهم لنصرة رسول الله بالأموال والأنفس، وترك

٤٧٠

المؤمنين من المهاجرين الأهلين والبنين والأموال والأوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الّذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيّه بالسمع والقبول، وشكر منه لهم، ويدلّ عليه بعض الدلالة آخر الآية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فإنّ الجملة يؤمي إلى أنّ سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.

وفي الآية من الإجمال والتفصيل، والإيجاز ثمّ الإطناب، وأدب العبوديّة وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب.

قوله تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، تصديق لإيمان الرسول والمؤمنون، وإنّما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما اُنزل إليه من ربّه ثمّ ألحقهم به تشريفاً له، وهذا دأب القرآن في الموارد الّتي تناسب التشريف أن يكرم النبيّ بإفراده وتقديم ذكره ثمّ إتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الفتح - ٢٦، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) التحريم - ٨.

قوله تعالى: ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) ، تفصيل للإجمال الّذي تدلّ عليه الجملة السابقة، فإنّ ما اُنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الّذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد آمن بجميع ذلك، كلّ على ما يليق به.

قوله تعالى: ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) ، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، وقد مرّ في قوله تعالى:( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة - ١٢٧، النكتة العامّة في هذا النحو من الحكاية، وأنّه من أجمل السياقات القرآنيّة، والنكتة المختصّة بالمقام مضافاً إلى أنّ فيه تمثيلاً لحالهم وقالهم أنّ هذا الكلام إنّما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلّا بلسان حالهم، وإن كانوا قالوه فقد قاله كلّ منهم وحده وفي نفسه، وأمّا تكلّمهم به لساناً واحداً فليس إلّا بلسان الحال.

٤٧١

ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيّين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا الخ، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه، وهما جميعاً من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.

والوجه في هذه التفرقة أنّ قولهم: لا نفرق الخ مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا وأطعنا.

وقد بدء تعالى بالإخبار عن حال كلّ واحد منهم على نعت الإفراد فقال: كلّ آمن بالله ثمّ عدل إلى الجمع فقال: لا نفرّق بين أحد إلى آخر الآيتين، لأنّ الّذي جرى من هذه الاُمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أنّ اليهود فرّقت بين موسى وبين عيسى ومحمّد، والنصارى فرّقت بين موسى وعيسى، وبين محمّد فانشعبوا شعباً وتحزّبوا أحزاباً وقد كان الله تعالى خلقهم اُمّة واحدة على الفطرة، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنّما وقعت على جماعتهم، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كلّ ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان فإنّه أمر قائم بالفرد حقيقة.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) ، قولهم سمعنا وأطعنا، إنشاء وليس بإخبار وهو كناية عن الإجابة إيماناً بالقلب وعملاً بالجوارح، فإنّ السمع يكنّي به لغة عن القبول والإذعان. والإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والإطاعة يتمّ به أمر الإيمان.

وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حقّ الربوبيّة في دعوتها. وهذا تمام الحقّ الّذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، وهو العبادة كما قال تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) الذاريات - ٥٧، وقال تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ) يس - ٦١.

وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحقّ الّذي جعله لنفسه على عبده حقّاً آخر

٤٧٢

لعبده على نفسه وهو المغفرة الّتي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبوديّة كما ذكره أوّل ما شرّع الشريعة لآدم وولده فقال:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة - ٣٨، وليس إلّا المغفرة.

والقوم لمّا قالوا: سمعنا وأطعنا وهو الإجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبيّة حقّها سألوه تعالى حقّهم الّذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا وأطعنا: غفرانك ربّنا وإليك المصير، والمغفرة والغفران: الستر، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبوديّة، ويظهر عند مصير العبد إلى ربّه، ولذلك عقّبوا قولهم: غفرانك ربّنا بقولهم: وإليك المصير.

قوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، الوسع هو الجدة والطاقة، والأصل في الوسع هو السعة المكانيّة ثمّ يتخيّل لقدرة الإنسان شبه الظرفيّة لما يصدر عنه من الأفعال الاختياريّة، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنّه تسعه قدرته، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثمّ سمّيت الطاقة وسعاً فقيل وسع الإنسان أي طاقته وظرفيّة قدرته.

وقد عرفت: أنّ تمام حقّ الله تعالى على عبده: أن يسمع ويطيع، ومن البيّن أنّ الإنسان إنّما يقول:( سَمْعًا ) فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، وأمّا ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع والقبول. ومن البيّن أيضاً أنّ الإنسان إنّما يقول:( طَاعَةٌ ) فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل، فإنّ الإطاعة هي مطاوعة الإنسان وتأثّر قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثّر مثلاً، وأمّا ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحلّ بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولّد من أبويه مرّة ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلّق بذلك تكليف مولويّ، فإجابة داعي الحقّ بالسمع والطاعة لاتتحقّق إلّا في ما هو اختياريّ للإنسان تتعلّق به قدرته، وهو الّذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضرّه، فالكسب نعم الدليل على أنّ ما كسبه الإنسان إنّما وجده وتلبّس به من طريق الوسع والطاقة.

٤٧٣

فظهر ممّا ذكرنا أنّ قوله: لا يكلّف الله، كلام جار على سنّة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلّفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم والإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، وهي أيضاً السنّة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمّنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين: سمعنا وأطعنا من غير زيادة ولا نقيصة.

والجملة أعني قوله: لا يكلّف الله نفساً، متعلّقة المضمون بما تقدّمها وما تأخّر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.

أمّا بالنسبة إلى ما تقدّمها فإنّها تفيد: أنّ الله لا يكلّف عباده بأزيد ممّا يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم أن يأتوا به.

وأمّا بالنسبة إلى ما تأخّر عنها فإنّها تفيد أنّ ما سأله النبيّ والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطاء والنسيان، وعدم حمل الإصر عليهم، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم به، كلّ ذلك وإن كانت اُموراً حرجيّة لكنّها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإنّ الّذي يمكن أن يحمّل عليهم ممّا لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرّد والمعصية، وأمّا المؤاخذة على الخطاء والنسيان فإنّهما وإن كانا بنفسهما غير اختياريّين لكنّهما اختياريّان من طريق مقدّماتهما. فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدّماتهما أو بإيجاب التحفّظ عنهما، وخاصّة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستنداً إلى سوء الاختيار، ومثله الكلام في حمل الإصر فإنّه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزائاً لتمرّده عن التكاليف السهلة بتبديلها ممّا يشقّ عليه ويحترج منه، فإنّ ذلك ليس من التكليف المنفيّ عنه تعالى غير الجائز عند العقل لأنّها ممّا اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، لمّا قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثمّ التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضاً إلى ما آل إليه، أمر الّذين كانوا من قبلهم وقد كانوا اُمماً أمثالهم استرحموا ربّهم وسألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان

٤٧٤

قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لأنّهم علموا بما علمهم الله أن لاحول ولا قوّة إلّا بالله، وأن لا عاصم من الله إلّا رحمته.

والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان معصوماً من الخطاء والنسيان لكنّه إنّما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصحّ له أن يسأل ربّه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ) ، الإصر هو الثقل على ما قيل، وقيل هو حبس الشئ بقهره، وهو قريب من المعنى الأوّل فإنّ في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه.

والمراد بالّذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصّة اليهود على ماتشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى،( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) الاعراف - ١٥٧.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) ، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائيّ بما لا يطاق، إذ قد عرفت أنّ العقل لا يجوّزه أبداً، وأنّ كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: وقالوا سمعنا وأطعنا يدلّ على خلافه بل المراد به جزاء السيّئآت الواصلة إليهم من تكليف شاقّ لا يتحمّل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه.

قوله تعالى: ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) ، العفو محو أثر الشيئ، والمغفرة ستره، والرحمة معروفة، وأمّا بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغويّة يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرّج من الفرع إلى الأصل، وبعبارة اُخرى من الأخصّ فائدة إلى الأعمّ، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب وإمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه، والرحمة هي العطيّة الإلهيّة الّتي هي الساترة على الذنب وهيئته.

وعطف هذه الثلاثة أعني قوله: واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا على قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر: بأنّ المراد

٤٧٥

من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلّق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها. ومنه يظهر أنّ المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربّنا فإنّه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدّم وهذه مغفرة خاصّة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطاء، فسؤال المغفرة غير مكرّر.

وقد كرّر لفظ الربّ في هذه الأدعية أربع مرّات لبعث صفة الرحمة بالإيماء والتلويح إلى صفة العبوديّة فإنّ ذكر الربوبيّة يخطر بالبال صفة العبوديّة والمذلّة.

قوله تعالى: ( أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ، استيناف ودعاء مستقلّ، والمولى هو الناصر لكن لا كلّ ناصر بل الناصر الّذي يتولّى أمر المنصور فإنّه من الولاية بمعنى تولّى الأمر، ولمّا كان تعالى وليّاً للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨، وقال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

وهذا الدعاء منهم يدلّ على أنّهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لأصل الدين هم إلّا في إقامتة ونشره والجهاد لإعلان كلمة الحقّ، وتحصيل اتّفاق كلمة الاُمم عليه، قال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف - ١٠٨، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الّذي يتعقّب الجهاد والقتال والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والإنذار، كلّ ذلك لحسم مادّة الاختلاف من بين هذا النوع، ويشير إلى ما به من الأهمّيّة في نظر شارع الدين قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى - ١٣، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدلّ على جعلهم الدعوة العامّة في الدين أوّل ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة، والله أعلم.

والحمد لله

٤٧٦

الفهرس

( سورة البقرة آية ١٨٣ - ١٨٥ ). ٢

( بيان ). ٢

( بحث روائي ). ٢٣

( سورة البقرة آية ١٨٦ ). ٢٩

( بيان ). ٢٩

( بحث روائي ). ٣٣

( سورة البقرة آية ١٨٧ ). ٤٣

( بيان ). ٤٣

( بحث روائي ). ٤٨

( سورة البقرة آية ١٨٨ ). ٥١

( بيان ). ٥١

( بحث روائي ). ٥٢

( بحث علمي اجتماعي ). ٥٣

( سورة البقرة آية ١٨٩ ). ٥٥

( بيان ). ٥٥

( بحث روائي ). ٥٨

( سورة البقرة آية ١٩٠ - ١٩٥ ). ٦٠

( بيان ). ٦٠

( بحث اجتماعي ). ٧٠

( بحث روائي ). ٧٢

( سورة البقرة آية ١٩٦ - ٢٠٣ ). ٧٥

( بيان ). ٧٥

( بحث روائي ). ٨٤

( بحث روائي آخر ). ٨٨

٤٧٧

( سورة البقرة آية ٢٠٤ - ٢٠٧ ). ٩٧

( بيان ). ٩٧

( بحث روائي ). ١٠١

( سورة البقرة آية ٢٠٨ - ٢١٠ ). ١٠٣

( بيان ). ١٠٣

( بحث روائي ). ١٠٧

( بحث روائي آخر ). ١٠٨

( سورة البقرة آية ٢١١ - ٢١٢ ). ١١٣

( بيان ). ١١٣

( سورة البقرة آية ٢١٣ ). ١١٥

( بيان ). ١١٥

( بدء تكوين الإنسان ). ١١٦

( تركبه من روح وبدن ). ١١٦

( شعوره الحقيقي وارتباطه بالأشياء ). ١١٧

( علومه العمليّة ). ١١٨

( جريه على استخدام غيره انتفاعا ). ١٢٠

( كونه مدنيا بالطبع ). ١٢٠

( حدوث الاختلاف بين افراد الإنسان ). ١٢١

( رفع الاختلاف بالدينظ ). ١٢٤

( الاختلاف في نفس الدين ). ١٢٥

( الإنسان بعد الدنيا ). ١٢٦

( كلام في عصمة الأنبياء ). ١٣٨

( كلام في النبوّة ). ١٤٤

( بحث روائي ). ١٤٧

( بحث فلسفي ). ١٥٢

( بحث اجتماعي ). ١٥٤

٤٧٨

( سورة البقرة آية ٢١٤ ). ١٦٤

( بيان ). ١٦٤

( سورة البقرة آية ٢١٥ ). ١٦٧

( بيان ). ١٦٧

( بحث روائي ). ١٦٩

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨ ). ١٧١

( بيان ). ١٧١

( كلام في الحبط ). ١٧٥

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء ). ١٨٠

( بحث روائي ). ١٩٧

( سورة البقرة آية ٢١٩ - ٢٢٠ ). ٢٠٠

( بيان ). ٢٠٠

( بحث روائي ). ٢٠٧

( سورة البقرة آية ٢٢١ ). ٢١١

( بيان ). ٢١١

( بحث روائي ). ٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣ ). ٢١٦

( بيان ). ٢١٦

( بحث روائي ). ٢٢٤

( سورة البقرة آية ٢٢٤ - ٢٢٧ ). ٢٣٢

( بيان ). ٢٣٢

( كلام في معنى القلب في القرآن ). ٢٣٤

( بحث روائي ). ٢٣٧

٤٧٩

( سورة البقرة آية ٢٢٨ - ٢٤٢ ). ٢٣٩

( بيان ). ٢٤١

( بحث روائي ). ٢٦٢

( بحث علمي ). ٢٧٣

( حياة المرأة في الامم غير المتمدنة ). ٢٧٣

( حياة المرئة في الاُمم المتمدنة ). ٢٧٥

( وهيهنا اُمم اُخرى ). ٢٧٦

( حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم ). ٢٧٩

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها ). ٢٨١

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية ). ٢٨٩

( بحث علمي آخر ). ٢٨٩

( سورة البقرة آية ٢٤٣ ). ٢٩٢

( بيان ). ٢٩٢

( بحث روائي ). ٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢ ). ٢٩٦

( بيان ). ٢٩٧

( كلام في معنى السكينة ). ٣٠٢

( بحث روائي ). ٣٠٩

( بحث علمي واجتماعي ). ٣١٥

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه ). ٣٢١

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤ ). ٣٢٤

( بيان ). ٣٢٤

( كلام في الكلام ). ٣٢٩

( بحث روائي ). ٣٣٩

( بحث فلسفي ). ٣٤١

٤٨٠