الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131659 / تحميل: 8004
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس.

قوله: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا ربّ أرني الخ، بيان للشبهة الّتي دعته إلى السؤال وهى تفرّق أجزاء الجسد بعد الموت تفرّقاً يؤدّي إلى تغيّرها وانتقالها إلى أمكنة وحالات متنوّعة لا يبقى معها من الأصل شئ.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أنّ الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضاً، ثمّ فرّعت على ذلك تعجّب إبراهيم وسؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرّق أجزاء الجسد وفناء أصلها من الصور والأعراض وبالجملة عدم بقائها حتّى تتميّز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدّي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامّين معاً لأنّ المفروض أنّ بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكلّ واحد منهما اُعيد تامّاً بقي الآخر ناقصاً لا يقبل الإعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.

وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعيّة البدن للروح - وإن كان وافياً لدفع الشبهتين جميعاً، إلّا أنّ الّذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمّن مادّة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضاً، بل إنّما تشتمل على تفرّق الأجزاء واختلاطها وتغيّر صورها وحالاتها، وهذه مادّة الشبهة الاُولى، فالآية إنّما تتعرّض لدفعها وإن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اُجيب به في الآية كما مرّ، وما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قولهعليه‌السلام فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات أنّ الطيور كانت هي النسر والبطّ والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضاعليه‌السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها أنّها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العيّاشيّ عن صالح بن سهل عن الصادقعليه‌السلام وفي بعضها: أنّها النعامة والطاووس والوزّة والديك، رواه العيّاشيّ عن معروف بن خرّبوذ

٤٠١

عن الباقرعليه‌السلام ونقل عن ابن عبّاس، وروي من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس أيضاً: أنّها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والّذي تشترك فيه جميع الروايات والأقوال: الطاووس.

قولهعليه‌السلام : وفرّقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة ممّا اتّفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت وقيل إنّها كانت أربعة وقيل سبعة.

وفي العيون مسنداً عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي، قال الرضا: إنّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم: أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي بالخلّة، الحديث.

اقول: وقد تقدّم في أخبار جنّة آدم كلام في عليّ بن محمّد بن الجهم وفي هذه الرواية الّتي رواها عن الرضاعليه‌السلام فارجع.

واعلم: أنّ الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أنّ مقام الخلّة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإنّ الخلّة هي الحاجة، والخليل إنّما يسمّى خليلاً لأنّ الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء.

٤٠٢

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤)

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦١ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٦٢ ) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( ٢٦٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ٢٦٤ ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٥ ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢٦٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ٢٦٧ ) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٨ ) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو

٤٠٣

الْأَلْبَابِ ( ٢٦٩ ) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ٢٧٠ ) إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٧١ ) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٢ ) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢٧٣ ) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٤ )

( بيان)

سياق الآيات من حيث اتّحادها في بيان أمر الإنفاق، ورجوع مضامينها وأغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنّها نزلت دفعة واحدة، وهي تحثّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أوّلاً مثلاً لزيادته ونموّه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربّما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلّف عن شأنه على أيّ حال وتنهى عن الرياء في الإنفاق وتضرب مثلاً للإنفاق ريائاً لا لوجه الله، وأنّه لا ينمو نمائاً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإنفاق بالمنّ والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثمّ تأمر بأن يكون الإنفاق من طيّب المال لامن خبيثه بخلاً وشحّاً، ثمّ تعيّن المورد الّذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثمّ تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

٤٠٤

وبالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، وتبيّن أوّلاً وجهه وغرضه وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيّته وهو أن لا يتعقّبه المنّ والأذى، وثالثاً وصف مال الإنفاق وهو أن يكون طيّباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإنفاق وهو أن يكون فقيراً اُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.

( كلام في الإنفاق)

الإنفاق من أعظم ما يهتمّ بأمره الإسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسّل إليه بأنحاء التوسّل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفّارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.

وإنّما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة الّتي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد ماليّ من غيرهم، ليقرب اُفقهم من اًفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كلّه ايجاد حياة نوعيّة متوسّطة متقرّبة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادّة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإنّ القرآن يرى أنّ شأن الدين الحقّ هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمّن سعادة الإنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقّة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيّبة يتنعّم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادّة.

ولا يتمّ ذلك إلّا بالحياة الطيّبة النوعيّة المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلّا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلّا بالجهات

٤٠٥

الماليّة والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد ممّا اقتنوه بكدّ اليمين وعرق الجبين، فإنّما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبويّة على سائرها أفضل التحيّة صحّتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياتهعليه‌السلام ونفوذ أمره.

وهي الّتي يتأسّف عليها ويشكو انحراف مجراها أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدباراً، والشرّ فيه إلّا إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلّا طمعاً، فهذا أو ان قويت عدّته وعمّت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلّا فقيراً يكايد فقراً؟ أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً أو متمرّداً كأنّ باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيّام عن صدق القرآن في نظريّته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال - حيث إنّ الناس بعد ظهور المدنيّة الغربيّة استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، والإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانيّة واستيفاء الهوسات النفسانيّة، وأعدّوا له ما استطاعوا من قوّة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اُولي القوّة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلّا الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتّى تفرّد بسعادة الحياة المادّيّة نزر قليل من الناس وسلب حقّ الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقيّة من الطرفين، كلّ يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغنيّ والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالميّة الكبرى، وظهرت الشيوعيّة، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنسانيّ، وما يهدّد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق وانفتاح أبواب الرباء الّذي

٤٠٦

سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق ويذكر أنّ في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيّام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيّام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى ان قال -فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم - ٣٠ - ٤٣، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترآئى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحثّ الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ، المراد بسبيل الله كلّ أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض دينيّ فعل الفعل لأجله، فإنّ الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإنّ ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أنّ قوله تعالى: كمثل حبّة أنبتت الخ، على تقدير قولنا كمثل من

٤٠٧

زرع حبّة أنبتت الخ فإنّ الحبّة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الّذي اُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكنّ التدبّر يعطي خلاف ذلك فإنّ جلّ الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١، فإنّه مثل من يدعو الكفّار لامثل الكفّار، وقوله تعالى:( نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس - ٢٤، وقوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) النور - ٣٥، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنّها اقتصر فيها على مادّة التمثيل الّذي يتقوّم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أنّ المثل في الحقيقة قصّة محقّقة أو مفروضة مشابهة لاُخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصوّرها إلى كمال تصوّر الممثّل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيّعت اللبن من الأمثال الّتي لها قصص محقّقة يقصد بالتمثيل تذكّر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إنّ الأمثال لا تتغيّر، وكقولنا: مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مأة حبّة، وهي قصّة مفروضة خياليّة.

والمعنى الّذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الّذي يوزن به حال الممثّل ربّما كان تمام القصّة الّتي هي المثل كما في قوله تعالى:( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية إبراهيم - ٢٦، وقوله تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، وربّما كان بعض القصّة ممّا يتقوّم به غرض التمثيل وهو الّذي نسمّيه مادّة التمثيل، وإنّما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصّة كما في المثال الأخير (مثال الإنفاق والحبّة) فإنّ مادّة التمثيل إنّما هي

٤٠٨

الحبة المنبتة لسبعمأة حبّة وإنّما ضممنا إليها الّذي زرع لتتميم القصّة.

وما كان من أمثال القرآن مادّة التمثيل فيه تمام المثل فإنّه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادّة التمثيل فيه بعض القصّة فإنّه اقتصر على مادّة التمثيل فوضعت موضع تمام القصّة لأنّ الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً و وجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادّته الستر سمّي به لأنّه يستر الحبّات الّتي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن أسخف الإشكال ما اُورد على الآية أنّه تمثيل بما لا تحقّق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبّة، وفيه أنّ المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقّق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيّليّة أكثر من أن تعدّ وتحصى، على أنّ اشتمال السنبلة على مأة حبّة وإنبات الحبّة الواحدة سبعمأة حبّة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدّد لفضله كما قال تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، فأطلق الكثرة ولم يقيّدها بعدد معيّن.

وقيل: إنّ معناه أنّ الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدلّ عليه الآية، وفيه أنّ الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحقّ الكلام فيه حينئذ أن يصدّر بإنّ كقوله تعالى:( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن - ٦١، وأمثال ذلك.

ولم يقيّد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائاً أنّ المال قد فات عنه ولم يخلّف بدلاً، لكنّه لو تأمّل قليلاً وجد أنّ المجتمع الإنسانيّ

٤٠٩

بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنّها جميعاً متّحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحّة والاستقامة، وعىّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكنّ الخلقة إنّما جهّز الإنسان بالبصر ليميّز به الأشياء ضوئاً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامّة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أوّلاً كدّاً وتعباً لا يتحمّل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأمّا لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادّخره لبعض الأعضاء الاُخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقيّة أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربّما زاد على المآت والاُلوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل الّتي يمكّنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبّة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيّما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعيّة كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

وإذا كان الإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلّف، فإنّ الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلّا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغنيّ للفقير لدفع شرّه، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربّما أورث في نفس الفقير أثراً سيّئاً، وربّما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكنّ الإنفاق الّذي لايراد به إلّا وجه الله ولا يبتغي فيه إلّا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثّر إلّا الجميل ولا يتعقّبه إلّا الخير.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) الخ الإتباع اللحوق والإلحاق، قال تعالى:( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء - ٦١،

٤١٠

أي لحقوهم، وقال تعالى:( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص - ٤٢، أي ألحقناهم. والمنّ هو ذكر ما ينغّص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى:( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصّلت - ٨، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقّع الضرر، والحزن الغمّ الّذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثمّ المقابلة يشهد بأنّ المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند ردّ السائل إذا لم يتكلّم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفّع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإنّ أذى المنفق للمنفق عليه يدلّ على عظم إنفاقه والمال الّذي أنفقه في عينه، وتأثّره عمّا يسوئه من السؤال، وهما علّتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإنّ المؤمن متخلّق بأخلاق الله، والله سبحانه غنيّ لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجّل في المؤاخذة على السيّئة، ولا يغضب عند كلّ جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غنيّ حليم.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم ) الخ تدلّ الآية على حبط الصدقة بلحوق المنّ والأذى، وربّما يستدلّ بها على حبط كلّ معصية أو الكبيرة خاصّة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المنّ والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، لمّا كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنّه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلّق النهي بالرئاء كما علّقه على المنّ والأذى، بل إنّما شبّه المتصدّق الّذي يتبع صدقته بالمنّ والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أنّ عمل المرائي

٤١١

باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أوّلاً صحيحاً ثمّ عرضه البطلان.

واتّحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدلّ على أنّ المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الّذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحبّ واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.

ويظهر من الآية: أنّ الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله واليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الّذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الّذي ينفق رئائاً لأنّه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبّه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عامّ وهو أنّ المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.

وخلاصة معنى المثل: أنّ حال المرائي في إنفاقه رئائاً وفي ترتّب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الّذي عليه شئ من التراب إذا اُنزل عليه وابل المطر، فإنّ المطر وخاصّة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزيّنها بزينة النبات، إلّا أنّ التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقرّ في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الّذي لا يجذب الماء، ولا يتربّى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحلّ صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

وهذا حال المرائي فإنّه لمّا لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتّب على عمله ثواب

٤١٢

وإن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتّب الثواب، فإنّه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.

وقد ظهر من الآية: أنّ قبول العمل يحتاج إلى نيّة الإخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: إنّما الأعمال بالنيّات.

قوله تعالى: ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإنّ وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الّذي أمره بشئ وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإنّ الآمر يستقبل المأمور أوّلاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلّف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عزّوجلّ.

وأمّا قوله: وتثبيتاً من أنفسهم فقد قيل: إنّ المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبّت أي يتثبّتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبّت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شئ من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأنّ شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلّا بتكلّف.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أنّ الله سبحانه لمّا أطلق القول أوّلاً في مدح الإنفاق في سبيل الله، وأنّ له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتّب عليهما الثواب، وهما الإنفاق ريائاً الموجب لعدم صحّة العمل من رأس والإنفاق الّذي يتبعه منّ أو أذى فإنّه يبطل بهما وإن انعقد أوّلاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين إلّا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النيّة أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أوّلاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصّة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المنّ والأذى، وهم الّذين ينفقون أموالهم

٤١٣

ابتغاء وجه الله ثمّ يقرّون أنفسهم على الثبات على هذه النيّة الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه ممّا يجعل النيّة غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النيّة الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز وكلمة من نشويّة وقوله أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدّر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادّته.

قوله تعالى: ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية، الأصل في مادّة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيّدة الّتي تزيد وتعلو في نموّها، والاُكّل بضمّتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطلّ أضعف المطر القليل الأثر.

والغرض من المثل أنّ الإنفاق الّذي اُريد به وجه الله لا يتخلّف عن أثرها الحسن البتّة، فإنّ العناية الإلهيّة واقعة عليه متعلّقة به لانحفاظ اتّصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النيّة في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أنّ الجنّة الّتي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي اُكلها إيتائاً جيّداً البتّة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطلّ.

ولوجود هذا الاختلاف ذيّل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ، الودّ هو الحبّ وفيه معنى التمنّي، والجنّة: الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك لأنّها تجنّ الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصحّ ذلك

٤١٤

لإفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون - ٥٠، وكرّر في كلامه قوله: جنّات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجارياً تحتها.

ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإنّ الجنّة والبستان وما هو من هذا القبيل إنّما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنّة العنب أو جنّة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتّى، ولذلك قال تعالى ثانياً: له فيها من كلّ الثمرات.

والكبر كبر السنّ وهو الشيخوخة، والذرّيّة الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرّيّة الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعيّة إلى الجنّة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب الّتي يتوصّل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإنّ صاحب الجنّة لو فرض شابّاً قويّاً لأمكنه أن يستريح إلى قوّة يمينه لو اُصيبت جنّته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرّيّة ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لأنّه لا يرى لنفسه إلّا أيّاماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرّيّة الضعفاء، واحترقت الجنّة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنّة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوّة أو الأيّام الخالية حتّى يهيّئ لنفسه نظير ما كان قد هيّأها، ولا لذرّيّته قوّة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنّة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والإثمار.

والإعصار الغبار الّذي يلتفّ على نفسه بين السماء والأرض كما يلتفّ الثوب على نفسه عند العصر.

وهذا مثل ضربه الله للّذين ينفقون أموالهم ثمّ يتبعونه منّاً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحّته واستقامته، وانطباق المثل على الممثّل ظاهر، ورجا منهم التفكّر لأنّ أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنّما تصدر

٤١٥

من الناس ومعهم حالات نفسانيّة كحبّ المال والجاه والكبر والعجب والشحّ، لا تدع للإنسان مجال التثبّت والتفكّر وتميّز النافع من الضارّ، ولو تفكّروا لتبصّروا.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ، التيمّم هو القصد والتعمّد، والخبيث ضدّ الطيّب، وقوله: منه، متعلّق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمّموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدّر على ما قيل والتقدير إلّا لإغماضكم فيه، أو المقدّر باء المصاحبة والتقدير إلّا بمصاحبة الإغماض.

ومعنى الآية ظاهر، وإنّما بيّن تعالى كيفيّة مال الإنفاق، وأنّه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الّذي لا يأخذه المنفق إلّا بإغماض، فإنّه لا يتّصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصوّر بصورة التخلّص، فلا يفيد حبّاً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا أنّ الله غنيّ حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيّب المال، أو أنّه غنيّ محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جلّ جلاله.

قوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) إقامة للحجّة على أنّ اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيّبه فإنّه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما أنّ في المنهىّ عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيّب المال وبذله إلّا لما يرونه مؤثّراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنّه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أنّ البذل وذهاب المال والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مرّ، مع أنّ الّذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) النجم - ٤٨.

وبالجملة لمّا كان إمساكهم عن بذل طيّب المال خوفاً من الفقر خطاء نبّه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنّه وضع السبب موضع المسبّب، أعني أنّه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدلّ على أنّه خوف مضرّ لهم فإنّ الشيطان لا

٤١٦

يأمر إلّا بالباطل والضلال إمّا ابتدائاً ومن غير واسطة، وإمّا بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنّه حقّ.

ولمّا كان من الممكن أن يتوهّم أنّ هذا الخوف حقّ وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاءأوّلا ، فإنّ هذا الإمساك والتثاقل منهم يهيّئ في نفوسهم ملكة الإمساك وسجيّة البخل، فيؤدّي إلى ردّ أوامر الله المتعلّقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدّي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار والفقر والمسكنة الّتي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكلّ جناية وفحشاء، قال تعالى:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ - إلى ان قال -الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة - ٧٩.

ثمّ بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليمثانياً ، فإنّ الله قد بيّن للمؤمنين: أنّ هناك حقّاً وضلالاً لا ثالث لهما، وأنّ الحقّ وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وأنّ الضلال من الشيطان، قال تعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، وقال تعالى:( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس - ٣٥، وقال تعالى في الشيطان:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص - ١٥، والآيات جميعاً مكّيّة، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأنّ هذا الخاطر الّذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإنّ مغفرة الله والزيادة الّتي ذكرها في الآيات السابقة إنّما هما في البذل من طيّبات المال.

فقوله تعالى: والله يعدكم الخ، نظير قوله: الشيطان يعدكم الخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب، وفيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجّة الآية: أنّ اختياركم الخبيث على الطيّب إنّما هو لخوف الفقر،

٤١٧

والجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أمّا خوف الفقر فهو إلقاء، شيطانيّ، ولا يريد الشيطان بكم إلّا الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتّبعوه، وأمّا مايستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة والمغفرة اللّتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحقّ لأنّ الّذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حقّ، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شئ فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ، الإيتاء هو الإعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام والإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الّذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة الّتي لا تقبل البطلان والكذب البتّة.

والجملة تدلّ على أنّ البيان الّذي بيّن الله به حال الإنفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف الّتي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة الّتي هي أساس التشريعات الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، المعنى ظاهر، وقد اُبهم فاعل الإيتاء مع أنّ الجملة السابقة عليه تدلّ على أنّه الله تبارك وتعالى ليدلّ الكلام على أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبّس بها يتضمّن الخير الكثير، لامن جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإنّ مجرّد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ِ ) إلى آخرالآيات القصص - ٧٦، وإنّما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأنّ الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعيّ بالعاقبة والخاتمة.

قوله تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ، اللبّ هو العقل لأنّه في الإنسان

٤١٨

بمنزلة اللبّ من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأنّ لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنّما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

والتذكّر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدّماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدلّ على أنّ اقتناص الحكمة يتوقّف على التذكّر، وأنّ التذكّر يتوقّف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكّده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار.

وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالةأوّلا: على أنّ المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، وحبس حقوقهم الماليّة، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإنّ في مطلق المعصية أنصاراً ومكفّرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى:( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا - إلى ان قال -وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ ) الزمر - ٥٤، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣١، وقال تعالى:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء - ٢٨.

ومن هنا يظهر: وجه اتيان الأنصار بصيغة الجمع فإنّ في مورد مطلق الظلم أنصاراً.

وثانياً: أنّ هذا الظلم وهو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنّه لا يقبل التوبة، ويتأيّد بذلك ما وردت به الروايات: أنّ التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلّا بردّ الحقّ إلى مستحقّه، وأنّه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ

٤١٩

الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - إلى أن قال -فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدّثّر - ٤٨.

وثالثاً: أنّ هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلّا لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.

ورابعاً: أنّ المتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عدّ تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصّلت - ٧، والسورة مكّيّة ولم تكن شرّعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) الخ، الإبداء هو الإظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب وربّما يقال: إنّ الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

وقد مدح الله سبحانه كلّاً من شقّى الترديد، لكون كلّ واحد من الشقّين ذا آثار صالحة، فأمّا إظهار الصدقة فإنّ فيه دعوة عمليّة إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والإنفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أنّ في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدّخرة ليوم بؤسهم فيؤدّي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كلّ الخير، وأمّا إخفاؤها فإنّه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمنّ والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلّة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السرّ أخلص طهارة.

ولمّا كان بناء الدين على الإخلاص وكان العمل كلّما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجّح سبحانه جانب صدقة السرّ فقال: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإنّ كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

( سورة البقرة آية ٢٨٢ - ٢٨٣)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٨٢ ) وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِذَا تَدَايَنتُم ) الخ، التداين، مداينة بعضهم بعضاً، والإملال والإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال، والمضارّة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الإثنين وغيره، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والرهان، وقرء فرهن بضمّتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.

والإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى: فإن كان الّذي عليه الحقّ،

٤٦١

لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.

والضمير البارز في قوله: أن يملّ هو فليملل وليّه، فائدته تشريك من عليه الحقّ مع وليّه، فإنّ هذه الصورة تغاير الصورتين الاُوليين بأنّ الوليّ في الصورتين الاُوليين هو المسؤول بالأمر المستقلّ فيه بخلاف هذه الصورة فإنّ الّذي عليه الحقّ يشارك الوليّ في العمل فكأنّه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليّه.

وقوله: أن تضلّ إحداهما، على تقدير حذر أن تضلّ إحديهما، وفي قوله: إحداهما الاُخرى وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأوّل إحداهما لاعلى التعيين، ومن الثاني إحداهما بعد ضلال الاُخرى، فالمعنيان مختلفان.

وقوله: واتّقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر والنهى، وأمّا قوله: ويعلّمكم الله والله بكلّ شئ عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث:( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ) النساء - ١٧٦، فالمراد به الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.

وما قيل: إنّ قوله: واتّقوا الله ويعلّمكم الله يدلّ على أنّ التقوى سبب للتعليم الإلهيّ، فيه أنّه وإن كان حقّاً يدلّ عليه الكتاب والسنّة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أنّ هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها.

ويؤيّد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانياً فإنّه لو لاكون قوله ويعلّمكم الله، كلاماً مستأنفاً كان مقتضى السياق أن يقال: يعلّمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: واتّقوا الله ويعلّمكم الله والله بكلّ شئ عليم، اُظهر الاسم أوّلاً وثانياً لوقوعه في كلامين مستقلّين، وأظهر ثالثاً ليدلّ به على التعليل، كأنّه قيل: هو بكلّ شئ عليم لأنّه الله.

٤٦٢

واعلم: أنّ الآيتين تدلّان على ما يقرب من عشرين حكماً من اُصول أحكام الدين والرهن وغيرهما، والأخبار فيها وفيما يتعلّق بها كثيرة لكنّ البحث عنها راجع إلى الفقه، ولذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانّه من الفقه.

٤٦٣

( سورة البقرة آية ٢٨٤)

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٨٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) ، كلام يدلّ على ملكه تعالى لعالم الخلق ممّا في السماوات والأرض، وهو توطئة لقوله بعده: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إنّ له ما في السماوات والأرض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.

وربّما استظهر من الآية: كون السماء مسانخاً لأعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو ممّا في السماوات، ولله ما في السماوات كما أنّ ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان ممّا في الأرض، ولله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدى أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرّف فيه بالمحاسبة.

قوله تعالى: ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، ومعنى ما في أنفسكم ما استقرّ في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقرّ في النفس إلّا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالإيمان والكفر والحبّ والبغض والعزم وغيرها فإنّها هي الّتي تقبل الإظهار والإخفاء. أمّا إظهارها فإنّما تتمّ بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحسّ ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسيّة المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانيّة من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحبّ وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأمّا إخفاؤها فبالكفّ عن فعل ما يدلّ على وجودها في النفس.

٤٦٤

وبالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكّن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتاً تامّاً يعتدّ به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا وقوله: أو تخفوها فإنّ الوصفين يدلّان على أنّ ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشئاً للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء، وهذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالاً أو ملكات، وأمّا الخطّورات والهواجس النفسانيّة الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان وكذلك التصوّرات الساذجة الّتي لاتصديق معها كتصوّر صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتّة لأنّها كما عرفت غير مستقرّة في النفس، ولا منشأ لصدور الأفعال.

فتحصّل: أنّ الآية إنّما تدلّ على الأحوال والملكات النفسانيّة الّتي هي مصادر الأفعال من الطاعات والمعاصي، وأنّ الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى:( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة - ٢٢٥، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) الاسراء - ٣٦، فجميع هذه الآيات دالّة على أنّ للقلوب وهي النفوس أحوالاً وأوصافاً يحاسب الإنسان بها، وكذا قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) النور - ٩، فإنّها ظاهرة في أنّ العذاب إنّما هو على الحبّ الّذي هو أمر قلبيّ، هذا.

فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم: أنّ الآية إنّما تدلّ على المحاسبة بما في النفوس سواء اُظهر أو اُخفي، وأمّا كون الجزاء في صورتي الإخفاء والإظهار على حدّ سواء، وبعبارة اُخرى كون الجزاء دائراً مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجرّي مثلاً فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتّى لما توهّموا أنّها تدلّ على المؤاخذة على كلّ خاطر نفسانيّ مستقرّ في النفس أو غيره، وليس إلّا تكليفاً بما لا يطاق، فمن

٤٦٥

ملتزم بذلك ومن مؤوّل يريد به التخلّص.

فمنهم من قال: إنّ الآية تدلّ على المحاسبة بكلّ ما يرد القلب، وهو تكليف بما لا يطاق، لكنّ الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها الآية.

وفيه: أنّ الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مرّ. على أنّ التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب. على أنّه تعالى يخبر بقوله:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحجّ - ٧٨، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

ومنهم من قال: إنّ الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدّمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنّها مخصوصة بالكفّار.

ومنهم من قال: إنّ المعنى: إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

ومنهم من قال: إنّ المراد بالآية مطلق الخواطر إلّا أنّ المراد بالمحاسبة الإخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإنّ الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى:( فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) المائدة - ١٠٥، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الآية كما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الإشعار بأنّ المراد بما في النفوس هي الصفات والأحوال النفسانيّة السيّئة، وإن كانت المغفرة ربّما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضاً لكنّه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصّة. وقوله: إنّ الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

٤٦٦

( بحث روائي)

في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولانطيقها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير. فلمّا اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون الآية، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها إلى آخرها.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن أحمد ومسلم وأبي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة، وروى قريباً منه بعدّة من الطرق عن ابن عبّاس. وروي النسخ أيضاً بعدّة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة.

وروي عن الربيع بن أنس: أنّ الآية محكمة غير منسوخة وإنّما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله الّتي عملها في الدنيا.

وروي عن ابن عبّاس بطرق: أنّ الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها. فهي محكمة غير منسوخة.

وروي عن عائشة أيضاً: أنّ المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغمّ والحزن إذا همّ بالمعصية ولم يفعلها، فالآية أيضاً محكمة غير منسوخة.

وروي من طريق عليّ عن ابن عبّاس في قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فإنّها لم تنسخ، ولكنّ الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ممّا لم تطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم وهو قوله: يحاسبكم

٤٦٧

به الله يقول يخبركم. وأمّا أهل الشكّ والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.

اقول: والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنّها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدّم: أنّ ظاهر الآية هو: أنّ المحاسبة إنّما تقع على ما كسبته القلوب إمّا في نفسها وإمّا من طريق الجوارح، وليس في الخطور النفسانيّ كسب، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات والهمم النفسانيّة، فهذا ما تدلّ عليه الآية وتؤيّده سائر الآيات على ما تقدّم.

وأمّا حديث النسخ خاصّة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجّيّة.

أوّلها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدّم بيانه.

ثانيها: اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو ممّا لا يرتاب العقل في بطلانه. ولاسيّما منه تعالى، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربّما زاد إشكالاً على إشكال فإنّ ظاهر قوله في الرواية: فلمّا اقترئها القوم الخ أنّ النسخ إنّما وقع قبل العمل وهو محذور.

ثالثها: أنّك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أنّ قوله: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها، لا يصلح لأن يكون ناسخاً لشئ، وإنّما يدلّ على أنّ كلّ نفس إنّما يستقبلها ما كسبته سواء شقّ ذلك عليها أو سهل، فلو حمّل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الّذين من قبلنا فإنّما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومنّ إلّا نفسها، فالجملة أعني قوله: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل.

رابعها: أنّه سيجئ أيضاً: أنّ وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانيّة أصلاً، ومواجهة الناسخ للمنسوخ ممّا لابدّ منه في باب النسخ.

بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الّذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السماوات وما في الأرض إلى آخر الآية على ما سيأتي إنشاء الله.

٤٦٨

( سورة البقرة آية ٢٨٥ - ٢٨٦)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( ٢٨٥ ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٨٦ )

( بيان)

الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصّل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبيّنة لغرضها، وقد مرّ في ما مرّ أنّ غرض السورة بيان أنّ من حقّ عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، وهذا هو الّذي تشتمل عليه الآية الاُولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، وفي السورة قصص تقصّ ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوّة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرّد ونقض المواثق والكفر، وهذا هو الّذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنّب عند ذيل الآية الاُولى وتمام الآية الثانية، فبالآيتين يردّ آخر الكلام في السورة إلى أوّله وختمه إلى بدئه.

ومن هنا يظهر خصوصيّة مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أنّ الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الّذي يجب أن يتّصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حقّ الربوبيّة، فذكر أنّ المتّقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة، فلاجرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، وبيّن بالمقابلة حال الكفّار والمنافقين.

٤٦٩

ثمّ فصّل القول في أمر أهل الكتاب وخاصّة اليهود وذكر أنّه منّ عليهم بلطائف الهداية، وأكرمهم بأنواع النعم، وعظائم الحباء، فلم يقابلوه إلّا بالعتوّ وعصيان الأمر وكفر النعمة، والردّ على الله وعلى رسله، ومعاداة ملائكته، والتفريق بين رسل الله وكتبه. فقابلهم الله بحمل الإصر الشاقّ من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.

ثمّ عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنّهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربّهم فيما أنعم عليهم بالهداية والإرشاد إلّا بأنعم القبول والسمع والطاعة، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرّقين بين أحد من رسله، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الّذي أحاطت به ذلّة العبوديّة وعزّة الربوبيّة، فإنّهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحقّ اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حقّ الإجابة. لأنّ وجودهم مبنيّ على الضعف والجهل فربّما قصروا عن التحفّظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطاء، أو قصّروا في القيام بواجب العبوديّة فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيّئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجأوا إلى جناب العزّة ومنبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، ولا يحمل عليهم إصراً، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين.

فهذا هو المقام الّذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصّل من السورة، لا ما ذكروه: أنّ الآيتين متعلّقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تبدوه يحاسبكم به الله الآية الدالّ على التكليف بما لا يطاق، وأنّ الآية الاُولى: آمن الرسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، والآية الثانية ناسخة لذلك!

وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول: أنّ البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة فإنّ هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واستقراره فيها لمّا قارن الاستقبال التامّ من مؤمني الأنصار للدين الإلهيّ وقيمهم لنصرة رسول الله بالأموال والأنفس، وترك

٤٧٠

المؤمنين من المهاجرين الأهلين والبنين والأموال والأوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الّذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيّه بالسمع والقبول، وشكر منه لهم، ويدلّ عليه بعض الدلالة آخر الآية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فإنّ الجملة يؤمي إلى أنّ سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.

وفي الآية من الإجمال والتفصيل، والإيجاز ثمّ الإطناب، وأدب العبوديّة وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب.

قوله تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، تصديق لإيمان الرسول والمؤمنون، وإنّما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما اُنزل إليه من ربّه ثمّ ألحقهم به تشريفاً له، وهذا دأب القرآن في الموارد الّتي تناسب التشريف أن يكرم النبيّ بإفراده وتقديم ذكره ثمّ إتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الفتح - ٢٦، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) التحريم - ٨.

قوله تعالى: ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) ، تفصيل للإجمال الّذي تدلّ عليه الجملة السابقة، فإنّ ما اُنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الّذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد آمن بجميع ذلك، كلّ على ما يليق به.

قوله تعالى: ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) ، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، وقد مرّ في قوله تعالى:( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) البقرة - ١٢٧، النكتة العامّة في هذا النحو من الحكاية، وأنّه من أجمل السياقات القرآنيّة، والنكتة المختصّة بالمقام مضافاً إلى أنّ فيه تمثيلاً لحالهم وقالهم أنّ هذا الكلام إنّما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلّا بلسان حالهم، وإن كانوا قالوه فقد قاله كلّ منهم وحده وفي نفسه، وأمّا تكلّمهم به لساناً واحداً فليس إلّا بلسان الحال.

٤٧١

ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيّين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا الخ، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه، وهما جميعاً من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.

والوجه في هذه التفرقة أنّ قولهم: لا نفرق الخ مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا وأطعنا.

وقد بدء تعالى بالإخبار عن حال كلّ واحد منهم على نعت الإفراد فقال: كلّ آمن بالله ثمّ عدل إلى الجمع فقال: لا نفرّق بين أحد إلى آخر الآيتين، لأنّ الّذي جرى من هذه الاُمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أنّ اليهود فرّقت بين موسى وبين عيسى ومحمّد، والنصارى فرّقت بين موسى وعيسى، وبين محمّد فانشعبوا شعباً وتحزّبوا أحزاباً وقد كان الله تعالى خلقهم اُمّة واحدة على الفطرة، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنّما وقعت على جماعتهم، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كلّ ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان فإنّه أمر قائم بالفرد حقيقة.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) ، قولهم سمعنا وأطعنا، إنشاء وليس بإخبار وهو كناية عن الإجابة إيماناً بالقلب وعملاً بالجوارح، فإنّ السمع يكنّي به لغة عن القبول والإذعان. والإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والإطاعة يتمّ به أمر الإيمان.

وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حقّ الربوبيّة في دعوتها. وهذا تمام الحقّ الّذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، وهو العبادة كما قال تعالى:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) الذاريات - ٥٧، وقال تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ) يس - ٦١.

وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحقّ الّذي جعله لنفسه على عبده حقّاً آخر

٤٧٢

لعبده على نفسه وهو المغفرة الّتي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبوديّة كما ذكره أوّل ما شرّع الشريعة لآدم وولده فقال:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة - ٣٨، وليس إلّا المغفرة.

والقوم لمّا قالوا: سمعنا وأطعنا وهو الإجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبيّة حقّها سألوه تعالى حقّهم الّذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا وأطعنا: غفرانك ربّنا وإليك المصير، والمغفرة والغفران: الستر، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبوديّة، ويظهر عند مصير العبد إلى ربّه، ولذلك عقّبوا قولهم: غفرانك ربّنا بقولهم: وإليك المصير.

قوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، الوسع هو الجدة والطاقة، والأصل في الوسع هو السعة المكانيّة ثمّ يتخيّل لقدرة الإنسان شبه الظرفيّة لما يصدر عنه من الأفعال الاختياريّة، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنّه تسعه قدرته، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثمّ سمّيت الطاقة وسعاً فقيل وسع الإنسان أي طاقته وظرفيّة قدرته.

وقد عرفت: أنّ تمام حقّ الله تعالى على عبده: أن يسمع ويطيع، ومن البيّن أنّ الإنسان إنّما يقول:( سَمْعًا ) فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، وأمّا ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع والقبول. ومن البيّن أيضاً أنّ الإنسان إنّما يقول:( طَاعَةٌ ) فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل، فإنّ الإطاعة هي مطاوعة الإنسان وتأثّر قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثّر مثلاً، وأمّا ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحلّ بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولّد من أبويه مرّة ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلّق بذلك تكليف مولويّ، فإجابة داعي الحقّ بالسمع والطاعة لاتتحقّق إلّا في ما هو اختياريّ للإنسان تتعلّق به قدرته، وهو الّذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضرّه، فالكسب نعم الدليل على أنّ ما كسبه الإنسان إنّما وجده وتلبّس به من طريق الوسع والطاقة.

٤٧٣

فظهر ممّا ذكرنا أنّ قوله: لا يكلّف الله، كلام جار على سنّة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلّفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم والإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، وهي أيضاً السنّة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمّنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين: سمعنا وأطعنا من غير زيادة ولا نقيصة.

والجملة أعني قوله: لا يكلّف الله نفساً، متعلّقة المضمون بما تقدّمها وما تأخّر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.

أمّا بالنسبة إلى ما تقدّمها فإنّها تفيد: أنّ الله لا يكلّف عباده بأزيد ممّا يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم أن يأتوا به.

وأمّا بالنسبة إلى ما تأخّر عنها فإنّها تفيد أنّ ما سأله النبيّ والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطاء والنسيان، وعدم حمل الإصر عليهم، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم به، كلّ ذلك وإن كانت اُموراً حرجيّة لكنّها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإنّ الّذي يمكن أن يحمّل عليهم ممّا لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرّد والمعصية، وأمّا المؤاخذة على الخطاء والنسيان فإنّهما وإن كانا بنفسهما غير اختياريّين لكنّهما اختياريّان من طريق مقدّماتهما. فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدّماتهما أو بإيجاب التحفّظ عنهما، وخاصّة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستنداً إلى سوء الاختيار، ومثله الكلام في حمل الإصر فإنّه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزائاً لتمرّده عن التكاليف السهلة بتبديلها ممّا يشقّ عليه ويحترج منه، فإنّ ذلك ليس من التكليف المنفيّ عنه تعالى غير الجائز عند العقل لأنّها ممّا اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، لمّا قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثمّ التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضاً إلى ما آل إليه، أمر الّذين كانوا من قبلهم وقد كانوا اُمماً أمثالهم استرحموا ربّهم وسألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان

٤٧٤

قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لأنّهم علموا بما علمهم الله أن لاحول ولا قوّة إلّا بالله، وأن لا عاصم من الله إلّا رحمته.

والنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان معصوماً من الخطاء والنسيان لكنّه إنّما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصحّ له أن يسأل ربّه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ) ، الإصر هو الثقل على ما قيل، وقيل هو حبس الشئ بقهره، وهو قريب من المعنى الأوّل فإنّ في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه.

والمراد بالّذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصّة اليهود على ماتشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى،( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) الاعراف - ١٥٧.

قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) ، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائيّ بما لا يطاق، إذ قد عرفت أنّ العقل لا يجوّزه أبداً، وأنّ كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: وقالوا سمعنا وأطعنا يدلّ على خلافه بل المراد به جزاء السيّئآت الواصلة إليهم من تكليف شاقّ لا يتحمّل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه.

قوله تعالى: ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ) ، العفو محو أثر الشيئ، والمغفرة ستره، والرحمة معروفة، وأمّا بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغويّة يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرّج من الفرع إلى الأصل، وبعبارة اُخرى من الأخصّ فائدة إلى الأعمّ، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب وإمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه، والرحمة هي العطيّة الإلهيّة الّتي هي الساترة على الذنب وهيئته.

وعطف هذه الثلاثة أعني قوله: واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا على قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر: بأنّ المراد

٤٧٥

من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلّق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها. ومنه يظهر أنّ المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربّنا فإنّه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدّم وهذه مغفرة خاصّة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطاء، فسؤال المغفرة غير مكرّر.

وقد كرّر لفظ الربّ في هذه الأدعية أربع مرّات لبعث صفة الرحمة بالإيماء والتلويح إلى صفة العبوديّة فإنّ ذكر الربوبيّة يخطر بالبال صفة العبوديّة والمذلّة.

قوله تعالى: ( أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ، استيناف ودعاء مستقلّ، والمولى هو الناصر لكن لا كلّ ناصر بل الناصر الّذي يتولّى أمر المنصور فإنّه من الولاية بمعنى تولّى الأمر، ولمّا كان تعالى وليّاً للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨، وقال تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

وهذا الدعاء منهم يدلّ على أنّهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لأصل الدين هم إلّا في إقامتة ونشره والجهاد لإعلان كلمة الحقّ، وتحصيل اتّفاق كلمة الاُمم عليه، قال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف - ١٠٨، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الّذي يتعقّب الجهاد والقتال والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والإنذار، كلّ ذلك لحسم مادّة الاختلاف من بين هذا النوع، ويشير إلى ما به من الأهمّيّة في نظر شارع الدين قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى - ١٣، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدلّ على جعلهم الدعوة العامّة في الدين أوّل ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة، والله أعلم.

والحمد لله

٤٧٦

الفهرس

( سورة البقرة آية ١٨٣ - ١٨٥ ). ٢

( بيان ). ٢

( بحث روائي ). ٢٣

( سورة البقرة آية ١٨٦ ). ٢٩

( بيان ). ٢٩

( بحث روائي ). ٣٣

( سورة البقرة آية ١٨٧ ). ٤٣

( بيان ). ٤٣

( بحث روائي ). ٤٨

( سورة البقرة آية ١٨٨ ). ٥١

( بيان ). ٥١

( بحث روائي ). ٥٢

( بحث علمي اجتماعي ). ٥٣

( سورة البقرة آية ١٨٩ ). ٥٥

( بيان ). ٥٥

( بحث روائي ). ٥٨

( سورة البقرة آية ١٩٠ - ١٩٥ ). ٦٠

( بيان ). ٦٠

( بحث اجتماعي ). ٧٠

( بحث روائي ). ٧٢

( سورة البقرة آية ١٩٦ - ٢٠٣ ). ٧٥

( بيان ). ٧٥

( بحث روائي ). ٨٤

( بحث روائي آخر ). ٨٨

٤٧٧

( سورة البقرة آية ٢٠٤ - ٢٠٧ ). ٩٧

( بيان ). ٩٧

( بحث روائي ). ١٠١

( سورة البقرة آية ٢٠٨ - ٢١٠ ). ١٠٣

( بيان ). ١٠٣

( بحث روائي ). ١٠٧

( بحث روائي آخر ). ١٠٨

( سورة البقرة آية ٢١١ - ٢١٢ ). ١١٣

( بيان ). ١١٣

( سورة البقرة آية ٢١٣ ). ١١٥

( بيان ). ١١٥

( بدء تكوين الإنسان ). ١١٦

( تركبه من روح وبدن ). ١١٦

( شعوره الحقيقي وارتباطه بالأشياء ). ١١٧

( علومه العمليّة ). ١١٨

( جريه على استخدام غيره انتفاعا ). ١٢٠

( كونه مدنيا بالطبع ). ١٢٠

( حدوث الاختلاف بين افراد الإنسان ). ١٢١

( رفع الاختلاف بالدينظ ). ١٢٤

( الاختلاف في نفس الدين ). ١٢٥

( الإنسان بعد الدنيا ). ١٢٦

( كلام في عصمة الأنبياء ). ١٣٨

( كلام في النبوّة ). ١٤٤

( بحث روائي ). ١٤٧

( بحث فلسفي ). ١٥٢

( بحث اجتماعي ). ١٥٤

٤٧٨

( سورة البقرة آية ٢١٤ ). ١٦٤

( بيان ). ١٦٤

( سورة البقرة آية ٢١٥ ). ١٦٧

( بيان ). ١٦٧

( بحث روائي ). ١٦٩

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨ ). ١٧١

( بيان ). ١٧١

( كلام في الحبط ). ١٧٥

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء ). ١٨٠

( بحث روائي ). ١٩٧

( سورة البقرة آية ٢١٩ - ٢٢٠ ). ٢٠٠

( بيان ). ٢٠٠

( بحث روائي ). ٢٠٧

( سورة البقرة آية ٢٢١ ). ٢١١

( بيان ). ٢١١

( بحث روائي ). ٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣ ). ٢١٦

( بيان ). ٢١٦

( بحث روائي ). ٢٢٤

( سورة البقرة آية ٢٢٤ - ٢٢٧ ). ٢٣٢

( بيان ). ٢٣٢

( كلام في معنى القلب في القرآن ). ٢٣٤

( بحث روائي ). ٢٣٧

٤٧٩

( سورة البقرة آية ٢٢٨ - ٢٤٢ ). ٢٣٩

( بيان ). ٢٤١

( بحث روائي ). ٢٦٢

( بحث علمي ). ٢٧٣

( حياة المرأة في الامم غير المتمدنة ). ٢٧٣

( حياة المرئة في الاُمم المتمدنة ). ٢٧٥

( وهيهنا اُمم اُخرى ). ٢٧٦

( حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم ). ٢٧٩

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها ). ٢٨١

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية ). ٢٨٩

( بحث علمي آخر ). ٢٨٩

( سورة البقرة آية ٢٤٣ ). ٢٩٢

( بيان ). ٢٩٢

( بحث روائي ). ٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢ ). ٢٩٦

( بيان ). ٢٩٧

( كلام في معنى السكينة ). ٣٠٢

( بحث روائي ). ٣٠٩

( بحث علمي واجتماعي ). ٣١٥

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه ). ٣٢١

( سورة البقرة آية ٢٥٣ - ٢٥٤ ). ٣٢٤

( بيان ). ٣٢٤

( كلام في الكلام ). ٣٢٩

( بحث روائي ). ٣٣٩

( بحث فلسفي ). ٣٤١

٤٨٠

481