الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138823 / تحميل: 8842
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بل الظاهر أنّ الفعل أعني يقاتلونكم، للحال والوصف للإشارة، والمراد به الّذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكّة.

فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحجّ - ٤٠، إذنٌ ابتدائيّ للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.

على أنّ الآيات الخمس جميعاً متعرّضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، لأصل الحكم، وقوله تعالى:( لَا تَعْتَدُوا ) الخ، تحديد له من حيث الانتظام، وقوله تعالى:( وَاقْتُلُوهُمْ ) الخ تحديد له من حيث التشديد، وقوله تعالى:( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الخ، تحديد له من حيث المكان، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) الخ تحديد له من حيث الأمد والزمان، وقوله تعالى:( الشَّهْرُ الْحَرَامُ ) الخ، بيان أنّ هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا ) ، إيجاب لمقدّمته الماليّة وهو الإنفاق للتجهيز والتجهّز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضاً كما احتمله بعضهم، ولا أن تكون نازلة في شؤون متفرّقه كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكّة الّذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنّما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنّما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حقّ الإنسانيّة المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبيّنه، فإنّ الدفاع محدود بالذات، والتعدّي خروج عن الحدّ، ولذلك عقّبه بقوله تعالى:( وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْتَدُوا ) الخ الاعتداء هو الخروج عن الحدّ، يقال عدا واعتدى إذا جاوز حدّه، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كلّ ما يصدق عليه أنّه اعتداء كالقتال

٦١

قبل أن يدعى إلى الحقّ، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدوّ، وغير ذلك ممّا بيّنه السنّة النبوّية.

قوله تعالى: ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ - إلى قوله -مِنَ الْقَتْلِ ) ، يقال ثقف ثقافة أي وجد وأدرك فمعنى الآية معنى قوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالباً وهو الشدّة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكّة بالمؤمنين بعد هجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبلها.

فالمعنى شدّدوا على المشركين بمكّة كلّ التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتّى ينجرّ ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشدّ فإنّ ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشدّ من القتل لأنّ في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.

قوله تعالى: ( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ) الخ، فيه نهى عن القتال عند المسجد الحرام حفظاً لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.

قوله تعالى: ( فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، الانتهاء الامتناع والكفّ، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الإسلام فإنّ ذلك هو المراد بقوله ثانياً: فان انتهوا فلا عدوان، وأمّا هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ولا تقاتلوهم عند المسجد، وعلى هذا فكلّ من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فإنّ الله، وقوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتّصل به من الكلام من غير تكرار.

وفي قوله تعالى: فإنّ الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبّب إعطاء لعلّة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) ، تحديد لأمد

٦٢

القتال كما مرّ ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتّخاذ الأصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكّة، ويدلّ عليه قوله تعالى: ويكون الدين لله. والآية نظيرة لقوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الي قوله -وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال - ٤٠، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وإن ردّت فلا ولاية إلّا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أنّ القتال إنّما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلّا عن دعوة إلى الدين الحقّ وهو الدين الذى يستقرّ على التوحيد.

ويظهر من هذا الّذي ذكرناه أنّ هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة - ٢٩، بناء على أنّ دينهم لله سبحانه. وذلك أنّ الآية أعني قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة خاصّة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الأصنام ويقرّ بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرّون به، وإن كان ذلك كفراً منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنّهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ، لكنّ الإسلام قنع منهم بمجرّد التوحيد، وإنّما أمر بقتالهم حتّى يعطوا الجزيه لإعلاء كلمة الحقّ على كلمتهم وإظهار الإسلام على الدين كلّه.

قوله تعالى: ( فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلّا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبّب كما مرّ نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى:( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) التوبة - ١١.

قوله تعالى: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) ، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر

٦٣

الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنّهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدّوا النّبيّ وأصحابه عن الحجّ عام الحديبيّة ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنّما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاصّ عقّب ببيان عامّ يشمل جميع الحرمات وأعمّ من هذا البيان العامّ قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أنّ الله سبحانه إنّما شرّع القصاص في الشهر الحرام لأنّه شرّع القصاص في جميع الحرمات وإنّما شرع القصاص في الحرمات لأنّه شرّع جواز الاعتداء بالمثل.

ثمّ ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأنّ فيه استعمالاً للشدّة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادّة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحبّ المعتدين، وهم أحوج إلى محبّة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله مع المتّقين.

وأمّا أمره تعالى بالاعتداء مع أنّه لا يحبّ المعتدين فإنّ الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء وأمّا إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلّا تعالياً عن ذلّ الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبّر مع المتكبّر، والجهر بالسوء لمن ظلم.

قوله تعالى: ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الإنفاق هيهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أوّل الآيات بكونه في سبيل الله، كما مرّ، والباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوّة والاستطاعة والقدرة فإنّ اليد مظهر لذلك، وربّما يقال: إنّ الباء للسببيّة ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدى أنفسكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعّلة بضمّ العين ليس

٦٤

في اللّغة مصدر على هذا الوزن غيره.

والكلام مطلق اُريد به النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أنّ البخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوّة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدّة بظهور العدوّ عليهم، وكما أنّ التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤدّيين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروّة.

ثمّ ختم سبحانه وتعالى الكلام بالإحسان فقال: وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين، وليس المراد بالإحسان الكفّ عن القتال أو الرّأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكفّ في مورد الكفّ، والشدّة في مورد الشدّة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقّه إحسان على الإنسانيّة باستيفاء حقّها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أنّ الكفّ عن التجاوز في استيفاء الحقّ المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبّة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين، وهو الواجب على كلّ متديّن بالدين أن يجلبها من ربّه بالاتّباع. قال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) آل عمران - ٣١، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء وأنّ الله لا يحبّ المعتدين وختمت بالأمر بالإحسان وأنّ الله يحبّ المحسنين، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.

الجهاد الذى يأمر به القرآن:

كان القرآن يامر المسلمين بالكفّ عن القتال والصبر على كلّ أذى في سبيل الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - إلى قوله -لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) الكافرون - ٦، وقال تعالى:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ) المزمّل - ١٠، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ) النساء - ٧٧، كأنّ هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاة ) البقرة - ١٠٩.

٦٥

ثمّ نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكّة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحجّ - ٤٠، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الّذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال - ٤٠، وكذا قوله تعالى:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) البقرة - ١٩٠.

ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة - ٢٩.

ومنها آيات القتال مع المشركين عامّة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥، وكقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦.

ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفّار كقوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) التوبة - ١٢٣.

وجملة الأمر أنّ القرآن يذكر أنّ الإسلام ودين التوحيد مبنيّ على أساس الفطرة وهو القيّم على إصلاح الإنسانيّة في حياتها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، فإقامته والتحفّظ عليه أهمّ حقوق الإنسانيّة المشروعة كما قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى - ١٣، ثمّ يذكر أنّ الدفاع عن هذا الحقّ الفطريّ المشروع حقّ آخر فطريّ، قال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ

٦٦

كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحجّ - ٤٠، فبيّن أنّ قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع. ونظيره قوله تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) البقرة - ٢٥١، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال:( ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)) الأنفال - ٨، ثمّ قال تعالى: بعد عدّة آيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، فسمّى الجهاد والقتال الّذي يدعى له المؤمنون محيياً لهم، ومعناه أنّ القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالاً ابتدائيّاً كلّ ذلك بالحقيقة دفاع عن حقّ الإنسانيّة في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانيّة وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقّها إعادة لحياتها وإحياؤها بعد الموت.

ومن هناك يستشعر الفطن اللّبيب: أنّه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعيّ في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى فإنّ هذا القتال الّذى تذكره الآيات المذكورة إنّما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنيّة، أو لإعلاء كلمة الحقّ على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية. مع أنّ آية القتال معهم تتضمّن أنّهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ فهم وإن كانوا على التوحيد لكنّهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حقّ الإنسانيّة الفطريّ يوجب حملهم على الدين الحقّ.

والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنّه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتمّ أمره إلّا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال وهوالقتال لإقامة الإخلاص في التوحيد، قال تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) الصف - ٩، وأظهرمنه قوله تعالى:( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء - ١٠٥، وأصرح منه قوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) ، النور - ٥٥، فقوله تعالى: يعبدونني

٦٧

يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئاً، مع أنّه تعالى يعدّ بعض الإيمان شركاً، قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقّاً.

وربّما يتوهّم المتوهّم: أنّ ذلك وعد بنصر إلهيّ بمصلح غيبّي من غير توسّل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنّهم في الأرض، فإنّ الاستخلاف إنّما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.

على أنّ قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) المائدة - ٥٤، - على ما سيجئ في محلّه - يشير إلى دعوة حقّة، ونهضة دينيّة ستقع عن أمر إلهيّ ويؤيّد أنّ هذه الواقعة الموعودة إنّما تقع عن دعوة جهاد.

وبما مرّ من البيان يظهر الجواب عما ربّما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنّه خروج عن طور النهضات الدينيّة المأثورة عن الأنبياء السالفين فإنّ دينهم إنّما كان يعتمد في سيره وتقدّمه على الدعوة والهداية، دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربّما سمّاه بعضهم كالمبلّغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الإجبار والإكراه.

وذلك أنّ القرآن يبيّن أنّ الإسلام مبنيّ على قضاء الفطرة الإنسانيّة الّتي لا ينبغي أن يرتاب أنّ كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضى بأنّ التوحيد هو الأساس الّذي يجب بناء القوانين الفرديّة والإجتماعيّة عليه، وأنّ الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حقّ مشروع للإنسانيّة يجب استيفاؤه بأىّ وسيلة ممكنة. وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجرّدة والصبر على الأذى في جنب الله، ثمّ الدفاع عن بيضة الإسلام ونفوس

٦٨

المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثمّ القتال الابتدائيّ الّذي هو دفاع عن حقّ الإنسانيّة وكلمة التوحيد ولم يبدء بشئ من القتال إلّا بعد إتمام الحجّة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنّة النبويّة، قال تعالى:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل - ١٢٥، والآية مطلقة، وقال تعالى:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الأنفال - ٤٢.

وأمّا ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقّف إحياء الإنسانيّة على تحميل الحقّ المشروع على عدّة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجّة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فإنّ المتمرّد المتخلّف عن القوانين المدنيّة يدعى إلى تبعيّتها ثمّ يحمّل عليه بأيّ وسيلة أمكنت ولو انجرّ إلى القتال حتّى يطيع وينقاد طوعاً أو كرهاً.

على أنّ الكره إنّما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثمّ التعليم والتربية الدينيّان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطريّ وكلمة التوحيد طوعاً.

وأمّا ما ذكروه: أنّ سائر الأنبياء جروا على مجرّد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدلّ على عدم اتّساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال: كنوح وهود وصالحعليهم‌السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كلّ جانب، وكذلك كان عيسىعليه‌السلام أيّام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنّما انتشرت دعوته وقبلت حجّته في زمان طروّ النسخ على شريعته وكان ذلك أيّام طلوع الإسلام.

على أنّ جمعاً من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصّه التوراة، والقرآن يذكر طرفاً منه، قال تعالى:( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) آل عمران - ١٤٧، وقال تعالى - يقصّ دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ - إلى أن قال -يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ - إلى أن قال تعالى -قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا

٦٩

فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) المائدة - ٢٤، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ٢٤٦، إلى آخر قصّة طالوت وجالوت.

وقال تعالى في قصّة سليمان وملكة سبا:( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - إلى أن قال تعالى -ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) النمل - ٣٧، ولم يكن هذا الّذي كان يهدّدهم بها بقوله: فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها (إلخ) إلّا قتالاً ابتدائيّاً عن دعوة ابتدائيّة.

( بحث اجتماعي)

لاريب أنّ الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان وسائر الاجتماعات المختلفة النّوعيّة الّتي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنّما هو مبنيّ على أساس الاحتياج الفطريّ الموجود فيها الّذي يراد به حفظ الوجود والبقاء.

وكما أنّ الفطرة والجبلّة أعطتها حقّ التصرّف في كلّ ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالإنسان يتصرّف في الجماد والنبات والحيوان حتّى في الإنسان بأيّ وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقّاً في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرّفاتها في غيرها وإذعانها بأنّ لها حقّاً في ذلك كذلك أعطتها حقّ الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتمّ حقّ التصرّف بدون حقّ الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع في البقاء، فكلّ نوع يحفظ وجوده وبقاؤه بالشعور والحركة يرى لنفسه حقّ الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأنّ ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرّفه المذكور، ويدلّ على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنّها تتوسّل عند التنازع بأدواتها البدنيّة الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون والأنياب والمخالب والأظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك، وبعضها الّذي لم يتسلّح بشئ من هذه الأسلحة الطبيعيّة القويّة تستريح إلى الفرار إو الاستتار أوالخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات،

٧٠

وبعضها الّذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربّما أخذ بها في الدفاع كالقرد والدبّ والثعلب وأمثالها.

والإنسان من بين الحيوان مسلّح بالشعور الفكريّ الّذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرّف للانتفاع، وله فطرة كسائر الأنواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أنّ للإنسان حقّاً في التصرّف، وحقّاً في الدفاع عن حقّه الفطريّ، وهذا الحقّ الّذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الّذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد الّتي يهمّ بها فيها في الاجتماع الإنسانيّ دون حكم الاستخدام الّذي يحكم به حكماً أوّليّاً فطريّاً فيستخدم به كلّ ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيويّة فإنّ هذا الحكم معدّل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحسّ بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثمّ علم بأنّ سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطرّ إلى المصالحة والموافقة على التمدّن والعدل الاجتماعيّ بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدّله الاجتماع بتعديله.

ومن هنا يعلم: أنّ الإنسان لا يستند في شئ من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الّذي يذعن به في أوّل أمره فإنّ هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أوّل وروده في الاجتماع واعترف بأنّه لا ينبغي أن يتصرّف في منافع غيره إلّا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنّما يستند في ذلك إلى حقّ الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقّا ثمّ يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.

فكلّ قتال دفاع في الحقيقة حتّى أنّ الفاتحين من الملوك والمتغلّبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعاً من الحقّ كحقّ الحاكميّة ولياقة التأمّر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

فقد تبيّن: أنّ الدفاع عن حقوق الإنسانيّة حقّ مشروع فطريّ مباح الاستيفاء للإنسان نعم لمّا كان هذا حقّاً مطلوباً لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهميّة فلا يقدم على الدفاع إلّا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحقّ

٧١

الضائع المستنقذ في الأهميّة الحيويّة، وقد أثبت القرآن أنّ أهمّ حقوق الإنسانيّة هو التوحيد والقوانين الدينيّة المبنيّة عليه كما أنّ عقلاء الاجتماع الإنسانيّ على أنّ أهمّ حقوقها هو حقّ الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنسانيّ الّتي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.

( بحث روائي)

في المجمع عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبيّة وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج هو وأصحابه في العام الّذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبيّة ثمّ صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكّة ثلاثة أيّام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.

أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور بطرق عن ابن عبّاس وغيره.

وفي المجمع أيضاً عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أوّل آية نزلت في القتال فلمّا نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتّى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.

أقول: وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أنّ الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.

وفي المجمع في قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلاً من الكفّار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن الله سبحانه: أنّ الفتنة في الدين - وهو الشرك - أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز.

٧٢

اقول: وقد عرفت: أنّ ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة أنّها نزلت دفعة واحدة.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة الآية، بطرق عن قتادة، قال: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله. قال: حتّى يقال: لا إله إلّا الله، عليها قاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليها دعا، وذكر لنا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: إنّ الله أمرني ان اُقاتل الناس حتّى: يقولوا: لا إله إلّا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين، قال: وإنّ الظالم الّذي أبى أن يقول لا إله إلّا الله يقاتل حتّى يقول: لا إله إلّا الله.

اقول: قوله: وإنّ الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبيّ وهي استفادة حسنة، وروي نظير ذلك عن عكرمة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج البخاريّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: إنّه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إنّ الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني: إنّ الله حرّم دم أخي: قالا: ألم يقل الله: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة؟ قال: قاتلنا حتّى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

اقول: وقد أخطاء في معنى الفتنة و أخطاء السائلان، وقد مرّ بيانه، وإنّما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.

وفي المجمع في قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: وهو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، عن العلاء بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال: إذا كان المشركون ابتداؤهم باستحلاهم، رأى المسلمون بما أنّهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحّاس في ناسخه عن جابر بن عبدالله قال: لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغزو في الشهر الحرام حتّى يغزى، ويغزو

٧٣

فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ.

وفي الكافي عن معاوية بن عمّار قال: سألت أباعبدالله عن رجل قتل رجلاً في الحلّ ثمّ دخل الحرم فقالعليه‌السلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتّى يخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ. قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقام عليه الحدّ في الحرم لأنّه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله: عزّوجلّ: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلّا على الظالمين.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: لوأنّ رجلاً أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وُفّق. أليس الله يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين، يعني المقتصدين؟

وروى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه يقول الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.

وفي الدرّ المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال: كنّا بالقسطنطينيّة، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صفّ عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتّى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيّوب، صاحب رسول الله فقال: يا أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنّما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله إنّ أموالنا قد ضاعت وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيّه - يردّ علينا ما قلنا -: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو.

اقول: واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيّد ما ذكرناه: أنّ الآية مطلقة تشمل جانبي الإفراط والتفريط في الإنفاق جميعاً بل تعمّ الإنفاق وغيره.

٧٤

( سورة البقرة آية ١٩٦ - ٢٠٣)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٩٦ ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( ١٩٧ ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( ١٩٨ ) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٩٩ ) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( ٢٠٠ ) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( ٢٠١ ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٢٠٢ ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٠٣ )

( بيان)

نزلت الآيات في حجّة الوداع، آخر حجّة حجّها رسول الله، وفيها تشريع حجّ التمتّع.

قوله تعالى: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ، تمام الشئ هو الجزء الّذي بانضمامه

٧٥

إلى سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو، ويترتّب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضمّ تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشئ ترتّب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتّب عليه لولا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنساناً عالماً أو شجاعاً أو عفيفاً كماله، وربّما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشئ داخلاً فيه اهتماماً بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحجّ والعمرة هو المعنى الأوّل الحقيقيّ والدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن اُحصرتم فما استيسر من الهدى، فإنّ ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمّه إلى أجزائه المأتيّ بها بعد الشروع ولا معنى يصحّح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال وهو ظاهر.

والحجّ هو العمل المعروف بين المسلمين الّذي شرّعه إبراهيم الخليلعليه‌السلام وكان بعده بين العرب ثمّ أمضاه الله سبحانه لهذه الاُمّة شريعة باقية إلى يوم القيامة.

ويبتدي هذا العمل بالإحرام والوقوف في العرفات ثمّ المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وفيها اُمور مفروضة اُخر، وهو على ثلاثة أقسام: حجّ الأفراد، وحجّ القران، وحجّ التمتّع الّذي شرّعه الله في آخر عهد رسول الله.

والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعنى الحجّ: والعمرة عبادتان لايتمّان إلّا لوجه الله ويدلّ عليه قوله تعالى: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله الآية.

قوله تعالى:( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) الخ، الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعيّة عن الإتمام بسبب مرض أو عدوّ بعد الشروع بالإحرام والاستيسار صيرورة الشئ يسيراً غير عسير كأنّه يجلب اليُسر لنفسه، والهدى هو ما يقدّمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محلّ للتقرّب به، وأصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية الّتي هي السوق إلى المقصود، والهدى والهدية كالتمر والتمرة. والمراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجّه من النعم.

٧٦

قوله تعالى: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ) الخ، الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدلّ على أنّ المراد بالمرض هو خصوص المرض الّذي يتضرّر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والإتيان بقوله: أو أذى من رأسه بلفطة أو الترديد يدلّ على أنّ المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوامّ فهو كناية عن التأذّي من الهوامّ كالقمّل على الرأس فهذان الأمران يجوّزان الحلق مع الفدية بشئ من الخصال الثلاث: الّتي هي الصيام، والصدقة، والنسك.

وقد وردت السنّة أنّ الصيام ثلاثة أيّام، وأنّ الصدقة إطعام ستّة مساكين، وأنّ النسك شاة.

قوله تعالى: ( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) ، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدوّ أو غير ذلك فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، أي تمتّع بسبب العمرة من حيث ختمها والإحلال إلى زمان الإهلال بالحجّ فما استيسر من الهدى، فالباء للسّببيّة، وسببيّة العمرة للتمتّع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالإحلال.

قوله تعالى: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ، ظاهر الآية أنّ ذلك نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحجّ من الميقات فإنّ ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

فإن قيل: إنّ ترتّب قوله: فما استيسر من الهدى، على قوله: فمن تمتّع ترتّب الجزاء على الشرط مع أنّ اشتمال الشرط على لفظ التمتّع مشعر بأنّ الهدى واقع بإزاء التمتّع الّذي هو نوع تسهيل شرّع له تخفيفاً فهو جبران لذلك.

قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فإنّ ذلك يناسب التجويز للتمتّع في أثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الإهلال بالحجّ بعد، على أنّ هذا الاستشعار لو صحّ فإنّما يتمّ به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتّع بالعمرة إلى الحجّ لا كون الهدى جبراناً لما فاته من الإهلال بالحجّ من الميقات دون مكّة، وظاهر الآية كون قوله: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدى

٧٧

إخباراً عن تشريع التمتّع لا إنشاء للتشريع فإنّه يجعل التمتّع مفروغاً عنه ثمّ يبني عليه تشريع الهدى، ففرق بين قولنا: من تمتّع فعليه هدى وقولنا تمتّعوا وسوقوا الهدى، وأمّا إنشاء تشريع التمتّع فإنّما يتضمّنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

قوله تعالى: ( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) ، جعل الحجّ ظرفاً للصيام باعتبار اتّحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الّذي يعدّ زماناً للحجّ، وهو من زمان إحرام الحجّ إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيّام، ولذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ وقت الصيام قبل يوم الاضحى أو بعد أيّام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلّا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنّما هو بعد الرجوع فإنّ ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، ولم يقل حين الرجوع على أنّ الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.

قوله تعالى: ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكمّلة للعشرة لا متمّة دلالة على أنّ لكلّ من الثلاثة والسبعة حكماً مستقلّاً آخر على ما مرّ من معنى التمام والكمال في أوّل الآية فالثلاثة عمل تامّ في نفسه، وإنّما تتوقّف على السبعة في كمالها لا تمامها.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، أي الحكم المتقدّم ذكره وهو التمتّع بالعمرة إلى الحجّ لغير الحاضر، وهو الّذي بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً على ما فسّرته السنّة، وأهل الرجل خاصّته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإنّ المسافر من البلاد النائية للحجّ - وهو عمل لا يخلو من الكدّ ومقاساة التعب ووعثاء الطريق - لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة والإنسان إنّما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدّله الله سبحانه من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ والإهلال بالحجّ من المسجد الحرام من غير ان يسير ثانياً إلى الميقات.

٧٨

وقد عرفت: أنّ الجملة الدالّة على تشريع المتعة إنّما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن الخ، دون قوله: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، هو كلام مطلق غير مقيّد بوقت دون وقت ولاشخص دون شخص ولاحال دون حال.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، التشديد البالغ في هذا التذييل مع أنّ صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحجّ ينبئ عن أنّ لمخاطبين كان المترقّب من حالهم إنكار الحكم أو التوقّف في قبوله وكذلك كان الأمر فإنّ الحجّ خاصّة من بين الأحكام المشرّعة في الدين كان موجوداً بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفاً عندهم معمولاً به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الإسلام على ماكان تقريباً إلى آخر عهد النبيّ فلم يكن تغيير وضعه أمراً هيّناً سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالإنكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخطبهم فيبيّن لهم أنّ الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنّه حكم عامّ لا يستثنى فيه أحد من نبيّ أو اُمّة فهذا هو الموجب للتشديد الّذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.

قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ - ألى قوله -فِي الْحَجِّ ) ، أي زمان الحجّ أشهر معلومات عند القوم وقد بيّنته السنّة وهي: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة.

وكون زمان الحجّ من ذي الحجّة بعض هذا الشهر دون كلّه لا ينافي عدّه شهراً للحجّ فإنّه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أنّ المجئ إنّما هو في بعضه دون جميعه.

وفي تكرارلفظ الحجّ ثلاث مرّات في الآية على أنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإنّ المراد بالحجّ الأوّل زمان الحجّ وبالحجّ الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولو لا الإظهار لم يكن بدّ من إطناب غير لازم كما قيل.

وفرض الحجّ جعله فرضاً على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: وأتمّوا الحجّ

٧٩

والعمرة لله الآية، والرفث كما مرّ مطلق التصريح بما يكنّى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكنّ السنّة فسّرت الرفث بالجماع، والفسوق، بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) ، تذكرة بأنّ الأعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلّا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبيّن اُصول المعارف ويقصّ القصص ويذكر الشرائع ويشفّع البيان في جميعها بالعظة والوصيّة لئلّا يفارق العلم العمل فإنّ العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: واتّقوني يا اُولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلّم الّذي يدلّ على كمال الاهتمام والاقتراب والتعيّن.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ) ، هو نظير قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ - إلى أن قال -فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ) الجمعة - ١٠ فبدّل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسّرت السنّة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلّت الآية على إباحة البيع أثناء الحجّ.

قوله تعالى: ( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) ، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدلّ على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) الخ أي واذكروه ذكراً يماثل هدايته إيّاكم وأنّكم كنتم من قبل هدايته إيّاكم لمن الضالّين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) ، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أنّ قريشاً وحلفائها وهم الحُمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو عرفات.

٨٠

وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثمّ الدالّة على التأخير اعتبار للترتيب الذكريّ، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أنّ أحكام الحجّ هي الّتي ذكرت غير أنّه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربّما قيل: إنّ في الآيتين تقديماً وتأخيراً في التأليف، والترتيب: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.

قوله تعالى: ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ - إلى قوله -ذِكْرًا ) ، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشدّ منه لأنّ نعمته في حقّه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى:( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) أعظم من حقّ آبائه عليه، وقد قيل: إنّ العرب كانت في الجاهليّة إذا فرغت من الحجّ مكثت حيناً في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدّله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشدّ من ذكرهم وأو في قوله أو أشدّ ذكراً، للإضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدّة وهو أمر يقبل الشدّة في الكيفيّة كما يقبل الكثرة في الكمّيّة، قال تعالى:( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) الأحزاب - ٤١، وقال تعالى:( وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب - ٣٥، فإنّ الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصوراً في اللّفظ، بل هو أمر يتعلّق بالحضور القلبيّ واللّفظ حاك عنه، فيمكن أن يتّصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ) آل عمران - ١٩١، وأن يتّصف بالشدّة في مورد من الموارد، ولمّا كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، مورداً يستوجب التلهّي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الّذي أمر به فيه بالشدّة دون الكثرة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ( فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) الخ تفريع على قوله تعالى: فاذكروا الله كذكركم آبائكم، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعمّ من الكافر الّذي لا يذكر إلّا آبائه أي لا يبتغي إلّا المفاخر الدنيويّة ولا يطلب إلّا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الّذي لا يريد إلّا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئاً لم يرد إلّا ما يرتضيه له ربّه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال

٨١

بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أنّ من الناس من لا يريد إلّا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلّا ما يرتضيه له ربّه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.

ومن هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أنّ من يريد الدنيا لا يقيّده بأن يكون حسناً عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتّع به في الحياة الأرضيّة كلّها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإنّ ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيّئة ولا يريد ولا يسأل ربّه إلّا الحسنة دون السيّئة.

والمقابلة بين قوله: وما له في الآخرة من خلاق، وقوله: أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا، تعطي أنّ أعمال الطائفة الاُولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، وقال تعالى:( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا ) الأحقاف - ٢٠، وقال تعالى:( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) الكهف - ١٠٥.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، إسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدلّ على شموله للدنيا والآخرة معاً، فالحساب جار، كلّما عمل عبد شيئاً من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاءً وفاقاً.

فالمحصّل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإنّ الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله ممّا يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله ولا تكونوا ممّن لا خلاق له بتركه ذكر ربّه فتكونوا قانطين آئسين.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ) ، الأيّام المعدودات هي أيّام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة، والدليل على أنّ هذه الأيّام بعد العشرة من ذي الحجّة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحجّ،

٨٢

والدليل على كونها ثلاثة أيّام قوله تعالى: فمن تعجّل في يومين الخ، فإن التعجّل في يومين إنّما يكون إذا كانت الأيّام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجّل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسّرت في الروايات بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ ) ، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاجّ ولم يقيّد بشئ أصلاً، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجّل أو في التأخّر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أنّ من أتمّ عمل الحجّ فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجّل في يومين أو تأخّر، ومن هنا يظهر: أنّ الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخّر والتعجّل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أيّ حال.

وأمّا قوله: لمن اتّقى، فليس بياناً للتعجّل والتأخّر وإلّا لكان حقّ الكلام أن يقال: على من اتّقى، بل الظاهر أنّ قوله: لمن اتّقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية، والمراد أنّ هذا الحكم لمن اتّقى وأمّا من لم يتّق فليس له، ومن اللازم أن يكون هذه التقوى تقوىً ممّا نهى الله سبحانه عنه في الحجّ واختصّه به فيؤل المعنى أنّ الحكم إنّما هو لمن اتّقى تروك الإحرام أو بعضها أمّا من لم يتّق فيجب أن يقيم بمنى ويذكر الله في أيّام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمّه أهل البيت كما سيجئ إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإنّ التقوى لا تتمّ والمعصية لا تجتنب إلّا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦.

وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: أنّكم إليه تحشرون، مع ما في نسك الحجّ من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأنّ الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع والإفاضة يوماً يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحداً.

٨٣

( بحث روائي)

في التهذيب وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، قال: هما مفروضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهمأ السلام) قالوا: سألناهما عن قوله: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، قالا: فإنّ تمام الحجّ أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتّقاء ما يتّقي المحرّم فيهما.

اقول: والروايات غير منافية لما قدّمناه من معنى الأتمام فإنّ فرضهما وأدائهما هو إتمامهما.

وفي الكافي عن الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين حجّ حجّة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة وصلّى بها ثمّ قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها وأهلّ بالحجّ وساق مأة بدنة وأحرم الناس كلّهم بالحجّ لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتّى إذا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثمّ صلّى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثمّ قال: أبدء بما بدء الله عزّوجلّ به فأتى الصفا فبدء بها ثمّ طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلمّا قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة، وهو شيئ أمر الله عزّوجلّ به فأحلّ الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع من أجل الهدى الّذي معه، إنّ الله عزّوجلّ يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتّى يبلغ الهدى محلّه، قال سراقة بن جعثم الكنانيّ: علمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الّذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بل للأبد، وإنّ رجلاً قام فقال: يا رسول الله نخرج حجّاجاً ورؤسنا تقطر من نسائنا؟

٨٤

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّك لن تؤمن بها أبداً، قال:عليه‌السلام : وأقبل عليّعليه‌السلام من اليمن حتّى وافى الحجّ فوجد فاطمة قد أحلّت ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستفتياً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ بأيّ شئ أهللت؟ فقال بما أهلّ به النبيّ، فقال: لا تحلّ أنت فأشركه في الهدى وجعل له سبعاً وثلثين ونحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلثاً وستّين فنحرها بيده ثمّ أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثمّ أمر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أكلنا لأن منه جميعاً والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاجّ المفرد، قال: وسألته: ليلاً أحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نهاراً؟ فقال: نهاراً، فقلت: أيّ ساعة؟ قال: صلاة الظهر.

اقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام قال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامه فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدى فليس لأحد إلّا أن يتمتّع لأنّ الله أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: فما استيسر من الهدى شاة.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في المتمتّع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنّه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة أيّام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جمّاله؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين. قيل: وما الحصبة؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم اليس هو يوم عرفة مسافراً؟ إنّا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ، يقول: في ذي الحجّة.

وروي الشيخ عن الصادقعليه‌السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس له متعة.

اقول: يعني أنّ ما دون المواقيت فساكنة يصدق عليه أنّه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمّه أهل البيت.

وفي الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: الحجّ أشهر معلومات، قال: الحجّ

٨٥

أشهر معلومات شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ليس لأحد أن يحجّ فيما سواهنّ.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: فمن فرض فيهنّ الخ، الفرض التّلبية والإشعار والتقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ.

وفي الكافي عنهعليه‌السلام في قوله تعالى: فلا رفث الخ، الرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربّكم الآيه يعني الرزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى فليشتروليبع في الموسم.

اقول: ويقال: إنّهم كانوا يتأثّمون بالتجارة في الحجّ فرفع الله ذلك بالآيه.

وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربّكم، رواه جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام .

اقول: وفيه تمسّك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الأفراد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس الآيه، قال: إنّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتّى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجل يكنّي أبا سيّار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفة. فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيّار ثمّ أفاضوا فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، قال: رضوان الله والجنّة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا.

وعنهعليه‌السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنّة.

٨٦

وعن عليّعليه‌السلام في الدنيا المرئه الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرئة السوء.

أقول: والروايات من قبيل عدّ المصداق والآيه مطلقة، ولمّا كان رضوان الله تعالى ممّا يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التامّ في الآخرة صحّ أن يعدّ من حسنات الدنيا كما في الرواية الاُولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: وأذكروا الله في أيّام معدودات الآية، قال: وهي أيّام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال: الرجل منهم كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جلّ شأنه: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشدّ ذكراً، قال: والتكبير: الله اكبر، الله اكبر، لا إله إلّا الله والله اكبر ولله الحمد، الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.

وفيه عنهعليه‌السلام قال: والتكبير في أيّام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات.

وفي الفقيه في قوله تعالى: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه الآية، سئل الصادقعليه‌السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفوراً له لا ذنب له.

وفي تفسير العيّاشيّ عنهعليه‌السلام قال يرجع مغفوراً له لا ذنب له لمن اتّقى.

وفي الفقيه عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لمن اتّقى الآية، قال: يتّقي الصيد حتّى ينفر أهل منى.

وعن الباقرعليه‌السلام لمن اتّقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم الله في إحرامه.

وعنه أيضاً: لمن اتّقى الله عزّوجلّ.

وعن الصادقعليه‌السلام لمن اتّقى الكبائر.

أقول: قد عرفت ما يدلّ عليه الآية، ويمكن التمسّك بعموم التّقوى كما في الروايتين الأخيرتين.

٨٧

( بحث روائي آخر)

في الدرّ المنثور أخرج البخاريّ والبيهقيّ عن ابن عبّاس أنّه سئل عن متعة الحجّ فقال: أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكّة، قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدى فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلّد الهدى فإنّه لا يحلّ حتّى يبلغ الهدى ثمّ أمرنا عشيّة التروية أن نهلّ بالحجّ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصّفا والمروة وقد تمّ حجّنا وعلينا الهدى كما قال الله: فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحجّ والعمرة فإنّ الله أنزله في كتابه وسنّة نبيّه وأباحه للناس غير أهل مكّة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وأشهر الحجّ الّتي ذكر الله: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، فمن تمتّع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج البخاريّ ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتّع رسول الله في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهلّ بالعمرة ثمّ أهلّ بالحجّ فتمتّع الناس مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعمره إلى الحجّ فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد، فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ لشئ حرّم منه حتّى يقضى حجّه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلّل ثمّ ليهلّ بالحجّ فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج الحاكم وصحّحه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجّاجاً حتّى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحلّ إلّا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، قلنا أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيّاً؟ فبلغ ذلك رسول

٨٨

الله فقام خطيباً فقال: أبالله تعلمون أيّها الناس؟ فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هدياً ولحللت كما أحلّوا، فمن لم يكن معه هدى فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هدياً فلينحر فكنّا ننحر الجزور عن سبعة. قال عطاء: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن أبي شيبة والبخاريّ ومسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحجّ ولم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء.

أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ اُخرى قريبة المعنى ممّا نقله في الدرّ المنثور.

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النّسائيّ عن مطرف، قال: بعث إلىّ عمران بن حصين في مرضه الّذي توفّي فيه فقال: إنّي كنت محدّثك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم عليّ وإن متّ فحدّث بها عنّي إنّي قد سلم علىّ وأعلم أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه نبيّ الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.

وفي صحيح الترمذيّ أيضاً وزاد المعاد لابن القيّم سئل عبدالله بن عمر عن متعة الحجّ، قال: هي حلال فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أأمر أبي تتّبع أم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الرجل: بل أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لقد صنعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي صحيح الترمذيّ وسنن النسائيّ وسنن البيهقيّ وموطأ مالك وكتاب الاُمّ للشافعيّ عن محمّد بن عبدالله أنّه سمع سعد بن أبى وقّاص والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فقال: الضحّاك لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.

وفي الدرّ المنثور أخرج البخاريّ ومسلم والنسائيّ عن أبي موسى، قال: قدمت

٨٩

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بالبطحاء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: هل سقت من هدى؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ حلّ فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثمّ أتيت امرأه من قومي فمشطتني رأسي وغسّلت رأسي فكنت اُفتي الناس في أمارة أبي بكر وأمارة عمر فإنّي لقائم بالموسم إذ جائني رجل فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيّها الناس من كنّا أفتيناه بشئ فليتّئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا فلمّا قدم قلت: ماذا الّذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله قال: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، وأن نأخذ بسنّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحلّ حتّى نحر الهدى.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبدالله فقال: على يدي دار الحديث تمتّعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يحلّ لرسول الله ما شاء ممّا شاء وإنّ القرآن نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم الله وأفصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم.

وفي مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال: هي سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعني المتعة ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً.

وفي جمع الجوامع للسيوطيّ عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ وقال: فعلتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهي عنها وذلك أنّ أحدكم يأتي من اُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهل بالحجّ وخرج إلى منى يلبّي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلّا يوماً والحجّ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم فيمن يطرء عليهم.

وفي سنن البيهقيّ عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إنّ ابن الزبير ينهي عن المتعة وإبن عبّاس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتّعنا مع رسول

٩٠

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر فلمّا ولى عمر خطب النّاس، فقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإنّهما كانتا متعتين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهي عنهما واُعاقب عليهما إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا غيّبته بالحجارة والاُخرى متعة الحجّ.

وفي سنن النسائيّ عن ابن عبّاس قال: سمعت عمر يقول: والله إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعني العمرة في الحجّ.

وفي الدرّ المنثور أخرج مسلم عن عبدالله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان عليّ يأمر بها فقال عثمان لعليّ كلمة فقال عليّعليه‌السلام : لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: ولكنّا كنّا خائفين.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي ذرّ كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي ذرّ قال: لا تصلح المتعتان إلّا لنا خاصّة يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جدّاً لكنّا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيريّ عن نهيه. فإنّ هذا النهى ربّما يبحث فيه من جهة كون ناهيه محقّاً أو معذوراً فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلاميّ خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.

وربّما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلّق بالكتاب أو السنّة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنّة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.

فنقول: أمّا الاستدلال على النهي عن التمتّع بأنّه هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى وأتمّوا الحجّ والعمرة لله الآيه وأنّ التمتّع ممّا كان مختصّاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء ممّا شاء وأنّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أنّ قوله تعالى: و

٩١

أتمّوا الحجّ والعمرة لله الآيه لا يدلّ على أزيد من وجوب إتمام الحجّ والعمرة بعد فرضهما. والدليل عليه قوله تعالى: فإنّ اُحصرتم الخ، وأمّا كون الآيه دالّة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحجّ، وأنّ عدم الفصل كان أمراً خاصّاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، أو به وبمن معه في تلك الحجّة (حجّة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد.

وفيه مع ذلك اعتراف بأنّ التمتّع كان سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في رواية النسائيّ عن ابن عبّاس من قوله: والله إنّي لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ في النهي أخذاً بالكتاب أو السنّة كما في رواية أبي موسى من قوله: أن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله قال: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله وأن نأخذ بسنّة نبيّنا لم يحلّ حتّى نحر الهدى انتهى، فقد عرفت أنّ الكتاب يدلّ على خلافه، وأمّا أنّ ترك التمتّع سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه لم يحلّ حتّى نحر الهدى ففيه:

أوّلاً: أنّه مناقض لما نصّ به نفسه على ما يثبته الروايات الاُخر الّتي مرّ بعضها آنفاً.

وثانياً: أنّ الروايات ناصّة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعها، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلّ بالعمرة وأهلّ ثانياً بالحجّ، وأنّه خطب وقال: أبا لله تعلّمون أيّها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادّعاه ابن تيميّة أنّ حجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حجّ قران وأنّ المتعة كانت تطلق على حجّ القران!

وثالثاً: أنّ مجرّد عدم حلق الرأس حتّى يبلغ الهدى محلّه ليس إحراماً للحجّ ولا يثبت به ذلك، والآيه أيضاً تدلّ على أنّ سائق الهدي الّذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتّع لا محالة.

ورابعاً: هب: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بغير التمتّع لكنّه أمر جميع أصحابه ومن معه بالتمتّع، وكيف يمكن أنّ يعدّ ما شأنه هذا سنّته؟ وهل يمكن أن يتحقّق أمر خصّ به رسول الله نفسه ويأمر اُمّته بغيره وينزل به الكتاب ثمّ يكون بعد سنّة متّبعة بين الناس؟!

٩٢

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ التمتّع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاجّ ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدلّ عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً انتهى. وكما في بعض الروايات قد علمت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله وأصحابه ولكنّي كرهت أن يعرّسوا بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم انتهى. ففيه أنّه اجتهاد في مقابل النصّ وقد نصّ الله ورسوله على الحكم، والله ورسوله أعلم بأنّ هذا الحكم يمكن أن يؤدّي إلى ما كان يخشاه ويكرهه! ومن أعجب الأمر أنّ الآيه الّتي تشرّع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الّذي أظهر أنّه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فهل التمتّع إلّا استيفاء الحظّ من المتاع والالتذاذ بطيّبات النكاح واللّباس وغيرهما؟ وهو الّذي كان يخشاه ويكرهه!

وأعجب منه: أنّ الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية! وأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمتّع بعين ما جعله سبباً للنهي حين قالوا كما في رواية الدرّ المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيّاً انتهى فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام خطيباً وردّ عليهم قولهم وأمرهم ثانياً بالتمتّع كما فرضه عليهم أوّلا.

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ التمتّع يوجب تعطّل أسواق مكّة كما في رواية السيوطيّ عن سعيد بن المسيّب من قوله: مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى.

ففيه أيضاً: أنّه اجتهاد في مقابل النصّ، على أنّ الله سبحانه يردّ عليه في نظير المسأله بقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة - ٢٨.

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ تشريع التمتّع لمكان الخوف فلا تمتّع في غير حال الخوف كما في رواية الدرّ المنثور عن مسلم عن عبدالله بن شقيق من قول عثمان لعليّعليه‌السلام ولكنّا كنّا خائفين انتهى. وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدرّ المنثور، قال

٩٣

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنّه خطب فقال: يا أيّها الناس والله ما التمتّع بالعمرة إلى الحجّ كما تصنعون، إنّما التمتّع أن يهلّ الرجل بالحجّ فيحضره عدوّ أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتّى يذهب أيّام الحجّ فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتّع تحلّة إلى العام المقبل ثمّ يحجّ ويهدي هدياً فهذا التمتّع بالعمرة إلى الحجّ الحديث.

ففيه: أنّ الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت أنّ الجملة الدالّة على تشريع حكم التمتّع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون قوله تعالى: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ الآية.

على أنّ جميع الروايات ناصّة في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بحجّه تمتّعاً، وأنّه أهل بإهلالين للعمرة والحجّ.

وأمّا الاستدلال عليه: بأنّ التمتّع كان مختصّاً بأصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في روايتي الدرّ المنثور عن أبي ذرّ، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد أنّه كان حكماً خاصّاً لأصحاب النبيّ لا يشمل غيرهم، ففيه أنّه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية.

على أنّ إنكار بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وأبي موسى ومعاوية (وروي أنّ منهم أبابكر) ينافي ذلك!

وأمّا الاستدلال عليه بالولاية وأنه إنّما نهى عنه بحقّ ولايته الأمر وقد فرض الله طاعة اُولي الأمر إذ قال( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) الآية النساء - ٥٩، ففيه أنّ الولاية الّتي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.

بيان ذلك: أنّ الآيات قد تكاثرت على وجوب اتّباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى:( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ) الأعراف - ٣، وما بيّنه رسول الله ممّا شرّعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى:( وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) التوبه - ٢٩، وقوله تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، فالمراد

٩٤

بالايتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهاكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الأوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى:( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) المائدة - ٤٥، وفي موضع آخر( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) المائدة - ٤٧، وفي موضع آخر( فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) المائدة - ٤٤، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب - ٣٦، وقال:( وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص - ٦٨ فإنّ المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعمّ ذلك، وقد نصّ القرآن على أنّه كتاب غير منسوخ وأنّ الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصّلت - ٤٢، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرّعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتّباعه على الاُمّة، اُولي الأمر فمن دونهم.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) إنّما يجعل لاُولى الأمر حقّ الطاعة في غير الأحكام فهم ومن دونهم من الاُمّة سواء في أنّه يجب عليهم التحفّظ لأحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالّذي يجب فيه طاعة اُولي الأمر إنّما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الاُمّة فيه: من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.

فكما أنّ الواحد من الناس له أن يتغذّى يوم كذا أو لا يتغذّى مع جواز الأكل له من مال نفسه، وله أن يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالاً، وله أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، وله أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كلّ ذلك إذا رآى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له أن يأخذ الربا، ولا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رآى صلاح نفسه في ذلك لأنّ ذلك كلّه يزاحم حكم الله تعالى، هذا كلّه في التصرّف الشخصيّ، كذلك وليّ الأمر له أن يتصرّف في الاُمور العامّة على طبق المصالح الكلّيّة مع حفظ الأحكام الإلهيّة على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حيناً، ويمسك عن ذلك حيناً،

٩٥

على حسب ما يشخّصه من المصالح العامّة، أو يأمر بالتعطيل العموميّ أو الإنفاق العموميّ يوماً إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.

وبالجملة كلّ ما للواحد من المسلمين أن يتصرّف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفّظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قِبَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتصرّف فيه بحسب الصلاح العامّ العائد إلى حال المسلمين مع التحفّظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.

ولو جاز لوليّ الأمر أن يتصرّف في الحكم التشريعيّ تكليفاً أو وضعاً بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتّة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إنّ حكم التمتّع من طيّبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين أن يقول القائل: إنّ إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرّيّة العامّة فيلزم إهمالها، أو أنّ إجراء الحدود ممّا لا تهضمه الإنسانيّة الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟!

وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدرّ المنثور: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، وأحمد عن الحسن: أنّ عمر بن الخطّاب همّ أن ينهي عن متعة الحجّ فقام إليه اُبيّ بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزل عمر.

٩٦

( سورة البقرة آية ٢٠٤ - ٢٠٧)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( ٢٠٤ ) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ( ٢٠٥ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ٢٠٦ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( ٢٠٧ )

( بيان)

تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أنّ الآيات السابقة أعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا الخ، تشتمل على تقسيم لهم غير أنّ تلك الآيات تقسّمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسّمهم من حيث النفاق والخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حجّ التمتّع ظاهرة.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الخ، أعجبه الشئ أي راقه وسرّه، وقوله: في الحياة الدنيا، متعلّق بقوله: يعجبك، أي إنّ الإعجاب في الدنيا من جهة أنّ هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلّا على الظاهر، وأمّا الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان وهو متعلّق الحياة بالدنيا إلّا أن يستكشف شيئاً من أمر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، والمعنى إنّه يتكلّم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحقّ، والعناية بصلاح الخلق، وتقدّم الدين والاُمّة وهو أشدّ الخصماء للحقّ خصومة، وقوله: ألدّ، أفعل التفضيل من لدّ لدوداً إذا اشتدّ خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألدّ الخصام أشدّ خصومة.

٩٧

قوله تعالى: ( وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ) الخ، التولّي هو تملّك الولاية والسلطان، ويؤيّده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزّة بالإثم، الدالّ على أنّ له عزّة مكتسبة بالإثم الّذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو العمل والإسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكّن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل واُوتي سلطاناً وتولّى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، ويمكن أن يكون التولّي بمعنى الإعراض عن المخاطبة والمواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدّل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد والإفساد.

قوله تعالى: ( وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) ، ظاهرة أنّه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها أي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولمّا كان قوام النوع الإنسانيّ من حيث الحياة والبقاء بالتغذّي والتوليد فهما الركنان القويمان الّذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أمّا التوليد فظاهر، وأمّا التغذّيّ فإنّما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى أنّه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان وأبادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون والوجود (الفساد التكوينيّ) فإنّ النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلّا بفساد، ولا حياة إلّا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعيّ في النشأة الطبيعيّة، وحاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدّره وقاضيه.

وإنّما هو الفساد المتعلّق بالتشريع فإنّ الله إنّما شرّع ما شرّعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانيّة والجامعة البشريّة، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه في قوله تعالى: كان الناس اُمّة واحدة.

فهذا الّذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنّما يفسد

٩٨

بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عمّا هو عليه، والتصرّف في التعاليم الدينيّة، بما يؤدّي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الإنسانيّة، وفساد الدنيا، وقد صدّق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الاُمّة الإسلاميّة، وتصرّفهم في أمر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين إلّا وبالاً، وللمسلمين إلّا انحطاطاً، وللاُمّة إلّا اختلافاً، فلم يلبث الدين حتّى صار لعبة لكلّ لاعب، ولا الإنسانيّة إلّا خطفة لكلّ خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، وذلك بهلاك الدين أوّلاً، وهلاك الإنسانيّة ثانياً، ولهذا فسّر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والإنسانيّة كما سيأتي إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ، العزّة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر أنّ قوله: بالإثم متعلّق بالعزّة، والمعنى أنّه إذا اُمر بتقوى الله أخذتة العزّة الظاهرة الّتي اكتسبها بالإثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك أنّ العزّة المطلقة إنّما هي من الله سبحانه كما قال تعالى:( تُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ) آل عمران - ٢٦، وقال تعالى:( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقين - ٨، وقال تعالى:( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء - ١٣٩.

وحاشا أن ينسب تعالى شيئاً إلى نفسه ويختصّه بإعطائه ثمّ يستعقب إثماً أو شرّاً فهذه العزّة إنّما هي عزّة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزّة بحسب ظاهر الحياه الدنيا لا عزّة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: بالإثم ليس متعلّقاً بقوله: أخذته، بأن يكون الباء للتعدية، والمعنى حملته العزّة على الإثم وردّ الأمر بالتقوى، وتجيبه الآمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببيّة، والمعنى ظهرت فيه العزّة والمناعة بسبب الإثم الّذي اكتسبه، وذلك أنّ إطلاق العزّة على هذه الحالة النفسانيّة وتسميته بالعزّة يستلزم إمضائها والتصديق منه تعالى بأنّها عزّة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سمّيت عزّة بالإثم.

وأمّا قوله تعالى:( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ

٩٩

فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ص - ٢، فليس من قبيل التسمية والإمضاء لكون العزّة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم أهلكنا من قبلهم الخ فهي هناك عزّة صوريّة غير باقية ولا أصيلة.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) الخ، مقابلته مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله الخ يفيد أنّ الوصف مقابل الوصف أي كما أنّ المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك، بيان أنّ هناك رجلاً معتزّاً بإثمه معجباً بنفسه متظاهراً بالإصلاح مضمراً للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والإنسانيّة إلّا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ومن الناس من يشري نفسه الخ، بيان أنّ هناك رجلاً آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلّا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلّا بربّه ولا ابتغاء له إلّا لمرضات الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيى به الحقّ، ويطيّب به عيش الإنسانيّة، ويدرّ به ضرع الإسلام، وبذلك يظهر ارتباط الّذيل بالصدر أعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله، فإنّ وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقرّ من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكنّ الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحقّ ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) البقرة - ٢٥١، وقال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) الحجّ - ٤٠، وقال تعالى:( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) الانعام - ٨٩، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدّة ممّن لا هوى له إلّا في نفسه لا يمكن سدّ ثلمته إلّا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممّن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلّا في ربّه، وإصلاح الأرض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ) التوبة - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481