الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81090 / تحميل: 6241
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة هود الآية ١٠٠ - ١٠٨)

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى‏ نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ( ١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ لَمّا جَاءَ أَمْرُ رَبّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ( ١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى‏ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ( ١٠٢) إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ( ١٠٣) وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلّا لاَِجَلٍ مَعْدُودٍ( ١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلّمُ نَفْسٌ إِلّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ( ١٠٥) فَأَمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ( ١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّماوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا مَا شَاءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ( ١٠٧) وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا ما شَاءَ رَبّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ( ١٠٨)

٢

( بيان‏)

فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلّيّ يلخّص سنّة الله في عباده و ما يستتبعه الشرك في الاُمم الظالمة من الهلاك في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.

قوله تعالى: ( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى‏ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ ) الإشارة إلى ما تقدّم من القصص، و من تبعيضيّة أي الّذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن و البلاد أو أهلهم نقصّه عليك.

و قوله:( مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ ) الحصد قطع الزرع، شبّهها بالزرع يكون قائماً و يكون حصيداً، و المعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أنّ من القرى الّتي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها الّتي تدلّ عليها بالمرّة كقرى قوم لوط حين نزول قصّتهم في القرآن كما قال:( وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) العنكبوت: ٣٥ و قال:( وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الصافات: ١٣٨، و منها ما انمحت آثاره و انطمست أعلامه كقرى قوم نوح و عاد.

و إن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أنّ من تلك الاُمم و الأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم ألبتّة كاُمّة نوح و صالح، و منهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلّا أهل بيت لوط و لم يكن لوط منهم.

قوله تعالى: ( وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم و إهلاكهم إثر شركهم و فسوقهم و لكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا و خرجوا عن زيّ العبودية، و كلّما كان عمل و عقوبة عليه كان أحدهما ظلما إمّا العمل و إمّا العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.

فمحصّل القول أنّا عاقبناهم بظلمهم و لذا عقّبه بقوله:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ

٣

آلِهَتُهُمُ ) إلخ لأنّ محصّل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم، فالمفرّع عليه هو الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ ما ظَلَمْناهُمْ ) إلخ، و المعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم، الّتي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير و تدفع عنهم الشرّ، و لم تغنهم شيئاً لمّا جاء أمر ربّك و حكمه بأخذهم أو لمّا جاء عذاب ربّك.

و قوله:( وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) التتبيب التدمير و الإهلاك من التبّ و أصله القطع لأنّ عبادتهم الأصنام كان ذنباً مقتضياً لعذابهم و لمّا أحسّوا بالعذاب و البؤس فالتجئوا إلى الأصنام و دعوها لكشفه و دعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم و تغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.

و نسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز و هو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إيّاها، و هو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعوّ.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) الإشارة إلى ما تقدّم من أنباء القرى، و ذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنّه أليم شديد، و هذا من قبيل التشبيه الكلّيّ ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أنّ الحكم عامّ شامل لجميع الأفراد و هو نوع من فنّ التشبيه شائع و قوله:( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) بيان لوجه الشبه و هو الألم و الشدّة.

و المعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الاُمم الظالمة: قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و قوم فرعون أخذاً أليماً شديداً، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ) إلى آخر الآية الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة الّتي أخذها بظلمها أخذاً أليماً شديداً. و أنبأ أنّ أخذه كذلك يكون، و في ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة و علامة تدلّ على أنّ الله سبحانه و تعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، و أنّ أخذه سيكون أليماً شديداً فيوجب اعتباره بذلك و تحرّزه ممّا يستتبع

٤

سخط الله تعالى.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) أي ذلك اليوم الّذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الّذي يدلّ عليه ذكر عذاب الآخرة، و لذلك أتي بلفظ المذكّر كما قيل، و يمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر.

و وصف اليوم الآخر بأنّه مجموع له الناس دون أن يقال: سيجمع أو يجمع له الناس إنّما هو للدلالة على أنّ جمع الناس له من أوصافه المقضيّة له الّتي تلزمه و لا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر.

فمشخّص هذا اليوم أنّ الناس مجموعون لأجله - و اللّام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتمّ إلّا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد و لا يتخلّف عنه متخلّف: و للناس شأن من الشأن يرتبط به كلّ واحد منهم بالجميع، و يمتزج فيه الأوّل مع الآخر و الآخر مع الأوّل و يختلط فيه الكلّ بالبعض و البعض بالكلّ، و هو حساب أعمالهم من جهة الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية، و بالجملة من حيث السعادة و الشقاوة.

فإنّ من الواضح أنّ العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، و يرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضاً بما له من الأحوال القلبيّة، و كذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير و التأثّر، و كذلك أعمال الأوّلين بالنسبة إلى أعمال الآخرين و أعمال اللّاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، و في المتقدّمين أئمّة الهدى و الضلال المسئولون عن أعمال المتأخّرين، و في المتأخّرين الأتباع و الأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدّمين، قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الّذينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف ٦، و قال:( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٢.

ثمّ الجزاء لا يتخلّف الحكم الفصل.

٥

و هذا الشأن على هذا النعت لا يتمّ إلّا باجتماع من الناس بحيث لا يشذّ منهم شاذّ.

و من هنا يظهر أنّ مسألة الآحاد من الناس في قبورهم و جزاءهم فيها بشي‏ء من الثواب و العقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ و تذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل البيت (عليه السلام) غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة و الجزاء المقضيّ به هناك من الجنّة و النار الخالدتين فإنّ الّذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدّخر لفصل القضاء يوم القيامة، و ما يسكن فيه في البرزخ من جنّة أو نار إنّما هو كالنزل المعجّل للنازل المتهيّئ للقاء و الحكم، و ليس ما هناك حسابا تامّا و لا حكماً فصلاً و لا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) المؤمن: ٤٦، و قوله:( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) المؤمن: ٧٢ فترى الآية تعبّر عن عذابهم بالعرض على النار ثمّ يوم القيامة بدخولها و هو أشدّ العذاب، و تعبّر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثمّ بالسجر في النار و هو الاشتعال. و قوله تعالى:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) آل عمران: ١٧٠ فالآية صريحة في عالم القبر و لم تذكر حساباً و لا جنّة الخلد و إنّما ذكرت شيئاً من التنعّم إجمالاً.

و قوله تعالى:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: ١٠٠ تذكر الآية أنّهم بعد الموت في حياة برزخيّة متوسّطة بين الحياة الدنيويّة الّتي هي لعب و لهو و الحياة الاُخرويّة الّتي هي حقيقة الحياة كما قال:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) : العنكبوت: ٦٤.

و بالجملة الدنيا دار عمل و البرزخ دار تهيّؤ للحساب و الجزاء، و الآخرة

٦

دار حساب و جزاء، قال تعالى:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا ) التحريم: ٨ فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور و هيّؤه في البرزخ ثمّ يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم و إذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو و اللعب.

و قوله:( وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) كالمتفرّع بظاهره على الجملة السابقة.( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أنّ اللفظ غير مقيّد بالناس و إطلاقه يشعر بأنّه مشهود لكلّ من له أن يشهد كالناس و الملائكة و الجنّ، و الآيات الكثيرة الدالّة على حشر الجنّ و الشياطين و حضور الملائكة هناك يؤيّد إطلاق الشهادة كما ذكر.

قوله تعالى: ( وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ) أي إنّ لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله و الله يحكم لا معقّب لحكمه و لا رادّ لقضائه، و لا يؤخّر اليوم إلّا لأجل يعدّه فإذا تمّ العدد و حلّ الأجل حقّ القول و وقع اليوم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فاعل( يَأْتِ) ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الّذي تؤخّر القيامة إليه لا تتكلّم نفس إلّا بإذنه، قال تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) العنكبوت: ٥.

و ذكر بعضهم كما في المجمع أنّ المعنى يوم يأتي القيامة و الجزاء، و لازمه إرجاع الضمير إلى القيامة و الجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، و هو تكلّف لا حاجة إليه.

و ذكر آخرون- كما في تفسير صاحب المنار- أنّ المعنى في الوقت الّذي يجي‏ء فيه ذلك اليوم المعيّن لا تتكلّم نفس من الأنفس الناطقة إلّا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنّه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الّذي هو فاعل يأتي.

و هو خطأ لاستلزامه ظرفيّة اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في

٧

لوقت الّذي يجي‏ء فيه ذلك الوقت المعيّن أو اليوم الّذي يجي‏ء فيه ذلك اليوم المعيّن، و التفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصّاً و معيّناً و الآخر عامّاً و مرسلاً لا ينفع في دفع محذور ظرفيّة الشي‏ء لنفسه و مظروفيّة الزمان - و هو ظرف بذاته - لزمان آخر، و هو محال لا ينقلب ممكناً بتغيير اللفظ.

و ما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق و التحديد مجرّد تصوير لا تغني شيئاً فإنّ اليوم الّذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف و ذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقاً و تحديداً و سعة و ضيقاً، نعم ربّما يؤخذ الزمان متّحداً بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثاً من الحوادث و تلغى ظرفيّته فيجعل مظروفاً لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجّة و يوم عاشوراء في المحرّم، قال تعالى:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) الجاثية: ٢٧ فإن صحّت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.

و قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أي لا تتكلّم نفس ممّن حضر إلّا بإذن الله سبحانه، و حذف أحد التائين المجتمعين في المستقبل من باب التفعّل شائع قياسيّ.

و الباء في قوله:( بِإِذْنِهِ ) للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلّم كما في قوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) النبأ: ٣٨ و المعنى لا تتكلّم نفس بشي‏ء من الكلام إلّا بالكلام الّذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلّم فيها الواحد منهم بما اختاره و أراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.

و قد ذكرت الصفة أعني عدم تكلّم نفس إلّا بإذنه من خواصّ يوم القيامة المعرّفة له، و ليست بمختصّة به فإنّه لا تتكلّم أيّ نفس من النفوس و لا يحدث أيّ حادث من الحوادث دائماً إلّا بإذنه من غير أن يختصّ ذلك بيوم القيامة.

و قد تقدّم في بعض أبحاثنا السابقة أنّ غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرّفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصّة به يعمّه و غيره كقوله تعالى:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن- ١٦ و قوله:( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ) المؤمن: ٣٣ و قوله:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات، و من المعلوم أنّه

٨

تعالى لا يخفى عليه شي‏ء دائماً، و ليس لشي‏ء منه عاصم دائماً، و لا يملك نفس لنفس شيئاً إلّا بإذنه دائماً، و له الخلق و الأمر دائماً.

لكنّ الّذي يهدي إليه التدبّر في أمثال قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) : ق: ٢٢ و قوله حكاية عن المجرمين:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: ١٢، و قوله:( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ - إلى أن قال -هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس: ٣٠ إنّ يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد و يزيل الستر و الحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهوراً تامّاً و ينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة و عند ذلك لا يختلج في صدورهم شكّ أو ريب، و لا يهجس قلوبهم هاجس، و يعاينون أنّ الله هو الحقّ المبين، و يشاهدون أنّ القوّة لله جميعاً، و أنّ الملك و العصمة و الأمر و القهر له وحده لا شريك له.

و تسقط الأسباب عمّا كان يتوهّم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا و ينقطع البين و تزول روابط التأثير الّتي بين الأشياء و عند ذلك تنتثر كواكب الأسباب و تنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، و لا تبقى لذي ملك ملك يستقلّ به، و لا لذي سلطان و قوّة ما يتعزّز معه، و لا لشي‏ء ملجأ و ملاذ يلجأ إليه و يلوذ به و يعتصم بعصمته، و لا ستر يستر شيئاً عن شي‏ء و يحجبه دونه، و الأمر كلّه لله الواحد القهّار لا يملك إلّا هو(١) .

و هذا معنى قوله:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) و قوله:( ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ) و قوله:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) إلى غير ذلك من الآيات و هي جميعاً تنفي ما تزيّنه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيويّة الّتي ليست إلّا لهواً و لعباً أنّ هذه الأسباب تملك معنى التأثير، و تتلبّس بأوصاف الملك و السلطنة و القوّة و العصمة و العزّة و الكرامة تلبّساً حقيقيّاً

____________________

(١) و في هذه الأوصاف آيات كثيرة جداً لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.

٩

استقلاليّاً، و أنّها هي المعطية و المانعة و النافعة و الضارّة لا بغية في سواها و لا خير فيما عداها.

و من هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله.( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) و قد تكرّر هذا المعنى في آيات اُخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَوابا ) النبأ: ٣٨، و قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) المرسلات: ٣٥.

و ذلك أنّ الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق- ٩ و يقول:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) البقرة: ٢٨٤ فيبيّن أنّ الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال و الأعراض الحسنة أو السيّئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيويّة.

فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس و مطويّات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، و ما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، و التكلّم الّذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنّما هو باستخدام أصوات مؤلّفة تدلّ بنحو من الوضع و الاعتبار على معان تستكنّ في ضمائرنا، و إنّما الباعث لنا على وضعها و تداولها الحاجة الاجتماعيّة إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلّق الحسّ به.

و التكلّم من الأسباب الاجتماعيّة نتوسّل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة و هو متقوّم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان، و لو كنّا ممدّين بحسّ ينال المعاني الذهنيّة و يعاينها كما يهتدي - مثلاً البصر إلى الأضواء و الألوان و اللمس إلى الحرارة و البرودة و الخشونة - و الملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات و التكلّم بها و لا كان بيننا ما يسمّى كلمة أو كلاماً، و كذا لو كان النوع الإنسانيّ يعيش في حياته الدنيا عيشة انفراديّة غير اجتماعيّة لم يكن من النطق خبر و لا انعقدت له نطفة.

كلّ ذلك لأنّ النشأة الدنيا كالمؤلّف من شهادة و غيب و هو المحسوس المعاين

١٠

و ما هو وراء الحسّ، و الناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عمّا في ضميرهم من المقاصد و الاطّلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحّضة في الشهادة مؤلّفة من اُمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلّم و النطق و لو تبرّعنا إطلاق الكلام على شي‏ء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم و اطّلاع ذلك البعض على ذلك.

و هذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ، و هذا هو الّذي يظهر من قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ - إلى أن قال -يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ ) الرحمن: ٤١.

فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقّق الكذب و الزور هناك و قد نصّ القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الأنعام: ٢٤ و قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) المجادلة- ١٨.

قلت: هذا من ظهور الملكات كما أنّ الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكّر فيه و يكشف عمّا في ضميره لنفسه بالتكلّم لأنّه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، و هو مع ذلك يتصوّر صورة كلام يدلّ ما يطالعه من المعاني الذهنيّة، و ربّما يتكلّم بلسانه أيضاً بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة و الباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلّم و النطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.

و هؤلاء المشركون و المنافقون لمّا اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا و عاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات و العادات النفسانيّة و إلّا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربّه و هو تعالى يعاين باطنه و ظاهره و أعماله

١١

محضرة، و صحيفته منشورة، و الأشهاد قائمة و جوارحه بما عملت ناطقة، و الأسباب و منها الكذب ساقطة هالكة، و قد انقلب سرّه علانية ثمّ يكذب رجاء أن يغرّ الله سبحانه و تعالى فيظهر عليه بحجّة مدلّسة كاذبة، و ينجو بذلك.

و هذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثمّ عدم استطاعتهم، قال تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) القلم: ٤٣ فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلّا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، و لو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجّة لهم عليه.

فإن قلت: لو كان كما ذكرت و لم يكن هناك إلى التكلّم حاجة و لا له مصداق فما معنى الاستثناء الّذي في قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) و ما في معناها من الآيات؟ و ما معنى ما تكرّر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.

قلت: لا ريب أنّ الإنسان و هو في هذه النشأة مختار في أعماله الّتي منها التكلّم فله نسبة متساوية إلى كلّ فعل من أفعاله و تركه و هما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلاً تعيّن أحد الجانبين تعيّناً اضطراريّاً لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، و الآثار الضروريّة الّتي تترتّب على الفعل و منها الجزاء الّذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقّق.

و النشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنسانيّ و ليس هناك إلّا الإنسان و عمله الّذي أتى به و قد لزمه لزوماً ضروريّاً، و ما يرتبط به العمل من الصحائف و الأشهاد و ربّه الّذي إليه يرجع الأمر و بيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطراراً، كما قال تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) طه: ١٠٨ و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحقّ فلا يستجيبون، و إذا تكلّم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلّم الدنيويّ الّذي كان ناشئاً عن اختياره و كاشفاً عن أمر خبيي‏ء في نفسه فقد ختم على فمه و لا سبيل له إلى التكلّم بما يريد، و كيفما يريد، قال تعالى:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما

١٢

كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥، و قال:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) المرسلات: ٣٦ فإنّ العذر إنّما يكون في الجزاء الّذي فيه شوب اختيار و لتحقّقه إمكان وجود و عدم و أمّا العمل السيّئ المفروغ منه و الجزاء الّذي تعقّبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧ أي إنّ جزاءكم نفس عملكم الّذي عملتموه، و لا يتغيّر ذلك بعذر و لا تعلّل و إنّما كان يتغيّر لو كان جزاء دنيويّاً أمره بيد الحاكم المجازيّ يختار فيه ما يراه و يشاؤه.

و بالجملة هو إذا تكلّم هو عن سؤال كان تكلّمه عن اضطرار إليه و مطابقاً لما عنده من العمل الظاهر الّذي لا ستر عليه هناك ألبتّة، و لو تكلّم كذباً كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدّم و عملاً من أعماله يظهر ظهوراً لا كلاماً يعدّ جواباً لسؤال فيختم على فيه و يستنطق سمعه و بصره و جلده و يده و رجله و يحضر العمل الّذي عمله و يستشهد الأشهاد و الله على كلّ شي‏ء شهيد.

فقد تلخّص من جميع ما قدّمناه أنّ معنى قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أنّ التكلّم يومئذ ليس على وتيرة التكلّم الدنيويّ كشفاً اختياريّاً عمّا في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلّم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإنّ هذا التملّك الاختياريّ الّذي هو من لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلّمه و إنّما هو منوط بإذن الله و مشيّته، و إن أحسنت التدبّر وجدت أنّ مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلّم الإنسان و سائر أفعاله و إحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أنّ خاصّة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه و رجوع الغيب شهادة و عليك بإحكام التدبّر في المعارف الّتي يلقّنها الكلام الإلهيّ في المعاد فإنّها معضلة عويصة عميقة.

و ذكر بعضهم أنّ معنى قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أنّها لا تتكلّم فيه إلّا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعاً لأنّ الناس ملجؤن هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح و أمّا غير القبيح فهو مأذون فيه.

١٣

و فيه أنّه تخصيص من غير مخصّص فاليوم ليس بيوم عمل حتّى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن و لا يؤذن في القبيح، و الإلجاء الّذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرّق فيه بين العمل الحسن و القبيح مع كون كليهما اختياريّين لأنّ الحسن و القبح إنّما يعنون بهما الأفعال الاختياريّة.

على أنّ الله تعالى يقول:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) و من المعلوم أنّ الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شي‏ء.

و قال آخرون: إنّ معنى الآية أنّه لا يتكلّم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلّا بإذنه.

و هذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) طه: ١٠٩ و فيه أنّ ذلك تقييد من غير شاهد عليه و لو كان المراد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: لا تكلّم نفس عن نفس أو في نفس إلّا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله:( لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) .

و قد تحصّل ممّا قدّمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلّم يوم القيامة و الآيات النافية له.

توضيحه: أنّ الآيات المتعرّضة لمسألة التكلّم فيه صنفان: صنف ينفي التكلّم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله:( لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ ) الرحمن: ٣٩، و قوله:( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) النحل: ١١١.

و صنف ينفي الكلام على أيّ نعت كان من صدق أو كذب كقوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) المرسلات: ٣٥، و قوله:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الشعراء: ١٠١.

و الصنف الأوّل يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) النبأ: ٣٨ و الصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) لكن بالبناء على ما تقدّم توضيحه في معنى إناطة التكلّم بإذنه حتى يفيد أنّهم ملجؤن في ما تكلّموا به مضطرّون إلى ما يأذن

١٤

الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلّموا بما يختارون و يريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك ممّا يختصّ بيوم القيامة من الوصف.

و بذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: و نفي الكلام في ذلك اليوم إلّا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا و المثبتة له مطلقا انتهى. و قد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) و قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ ) الآية.

و ذلك أنّه - أوّلاً - لم يفرّق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أنّ نفي الكلام إلّا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقاً، و ليس كذلك.

و - ثانياً - لم يبيّن معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجّه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختصّ به.

و قد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر و هو أنّ يوم القيامة يشتمل على مواقف قد اُذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، و لم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، و قد ورد ذلك في بعض الروايات.

و هذا الجواب و إن كان بظاهره متميّزاً من الوجه السابق إلّا أنّه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه.

و قد يجاب بأنّ المراد بعدم التكلّم و النطق أنّهم لا ينطقون بحجّة، و إنّما يتكلّمون بالإقرار بذنوبهم، و لو بعضهم بعضاً، و طرح بعضهم الذنوب على بعض، و هذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام و لا يشتمل على حجّة: ما تكلّمت بشي‏ء و لا نطقت بشي‏ء فسمّي من يتكلّم بما لا حجّة فيه غير متكلّم لأنّه لم يأت بحقّ الكلام الّذي كان من الواجب أن يشتمل على حجّة فكأنّه ليس بكلام فنفي التكلّم ناظر إلى عدّ الكلام الّذي لا جدوى فيه غير كلام ادّعاءً.

و فيه: أنّه لو صحّ فإنّما يصحّ في مثل قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) و أمّا مثل قوله:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فلا يرجع إلى معنى محصّل.

١٥

و قد يجاب كما نقله الآلوسيّ عن الغرر و الدرر للمرتضى أنّ يوم القيامة يوم طويل ممتدّ فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه، و يؤذن لهم في بعض آخر منه.

و فيه أنّ الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، و على قولهم يكون مثلاً معنى قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) هذا يوم لا ينطقون في بعضه و هو خلاف الظاهر، و يرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الّذي اُجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإنّ مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني و هذا الوجه الرابع واحد و إنّما الفرق أنّ الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة و هذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أنّ الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى و عدم اشتماله عليه.

و قد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: إنّ الاستثناء في قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) منقطع لا متّصل أي لا تتكلّم نفس باقتدار من عندها إلّا بإذنه تعالى و محصّل الوجه أنّ الممنوع من التكلّم يوم القيامة هو الّذي يكون بقدرة من الإنسان، و الجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى.

و فيه: أنّ تكلّم الإنسان كسائر أفعاله الاختياريّة ليس مستنداً إلى قدرته محضاً في وقت قطّ بل هو منسوب إلى قدرته مستمدّاً من قدرة الله تعالى و إذنه فكلّما تكلّم الإنسان أو فعل فعلاً بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى و يعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلّم يوم القيامة إلّا واحداً منها هو إذنه تعالى، و يصير الاستثناء متّصلاً و يرجع إلى ما قدّمناه من الوجه أوّلاً أنّ التكلّم الممنوع هو الاختياريّ منه على حدّ التكلّم الدنيويّ، و الجائز ما كان مستنداً إلى السبب الإلهيّ فقط و هو إذنه و إرادته، و الظرف ظرف الاضطرار و الإلجاء لكنّهم يرون أنّ سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإنّ الناس ملجؤن عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف و الإقرار و قول الصدق و اتّباع الحقّ، و قد قدّمنا أنّ السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل و بروز الحقائق عند ذلك.

١٦

قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) السعادة و الشقاوة متقابلان فسعادة كلّ شي‏ء أن ينال ما لوجوده من الخير الّذي يكمل بسببه و يلتذّ به فهي في الإنسان - و هو مركّب من روح و بدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنيّة و الروحيّة فيتنعّم به و يلتذّ، و شقاوته أن يفقد ذلك و يحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم و الملكة، و الفرق بين السعادة و الخير أنّ السعادة هي الخير الخاصّ بالنوع أو الشخص و الخير أعمّ.

و ظاهر قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين. و هو الملائم ظاهراً لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن و كافر و مستضعف كالأطفال و المجانين و كلّ من لم تتمّ عليه الحجّة في الدنيا إلّا أنّ الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل و الاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم و هو أنّه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، و أنّه ينتهي إلى جنّة أو نار.

و المستضعفون و إن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحقّ بعمله الجنّة و من استحقّ بعمله النار لكن من الضروريّ أنّهم لا يذهبون سدى و لا يدوم عليهم الحال بالإبهام و الانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنّة أو نار، قال تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة: ١٠٦ و لازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء و الأشقياء فما منهم إلّا سعيد أو شقيّ.

فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر:( وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ) الشورى: ٨ حيث إنّ الجملة:( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) بمعونة السياق تفيد الحصر و إن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.

١٧

و الّذي تدلّ عليه الآية أنّ من كان هناك من أهل الجمع إمّا شقيّ متّصف بالشقاء و إمّا سعيد متلبّس بالسعادة و أمّا أنّ هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ و أنّهما هل هما ذاتيّان لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزليّة لا يتخلّف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شي‏ء من ذلك غير أنّ وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان و العمل الصالح، و الندب إلى اختيار الطاعة و ترك المعصية يدلّ على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠.

و بذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة و الشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك قال الرّازيّ في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد و على بعضهم بأنّه شقيّ، و من حكم الله عليه بحكم و علم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه. و إلّا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا و علمه جهلا، و ذلك محال فثبت أنّ السعيد لا ينقلب شقيّا، و أنّ الشقيّ لا ينقلب سعيدا.

قال: و روي عن عمر أنّه قال: لمّا نزل قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شي‏ء قد فرغ منه أم على شي‏ء لم يفرغ منه؟ فقال: على شي‏ء قد فرغ منه يا عمر و جفّت به الأقلام و جرت به الأقدار و لكن كلّ ميسّر لما خلق له. قال و قالت المعتزلة: روي عن الحسن أنّه قال: فمنهم شقيّ بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.

و أيضاً فلا نزاع أنّه إنّما شقي بعمله و إنّما سعد بعمله و لكن لمّا كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله و قدره كان الدليل الّذي ذكرناه باقيا. انتهى.

و هو من عجيب المغالطة أمّا الّذي سمّاه دليلا قاطعاً فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زماناً لنتيجته و أثره فمن البديهيّ أنّ الحكم الحقّ الآن باتّصاف موضوع مّا بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتّصاف بها إلّا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم و هو الآن كما أنّ حكمنا في الليل بأنّ الهواء مضي‏ء بعد كم ساعة

١٨

- و هو حكم حقّ- لا يوجب إضاءة الهواء ليلا. و حكمنا بأنّ الصبيّ سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.

فقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و هو خبر منه تعالى بأنّ جماعة منهم أشقياء يوم القيامة و آخرون سعداء يوم القيامة أن كان حكما بشقاوتهم و سعادتهم كذلك فإنّما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنّهم كذا و كذا يوم القيامة و من المسلّم أنّه لا يتغيّر عمّا هو عليه في ظرفه و إلّا لزم أن يكون خبره تعالى كذباً و علمه جهلاً لا أنّه حكم صادر منه هذا الآن بأنّهم كذا و كذا هذا الآن، و لا أنّه حكم صادر منه هذا الآن بأنّهم كذا و كذا دائماً. و هو ظاهر.

و ليت شعري ما الّذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنّهم مؤمنون دائماً أو كافرون دائماً و في الجنّة قبل يوم القيامة و في النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها و في غيرها كالشقاوة و السعادة على حدّ سواء.

و أمّا ما أورده من الرواية و فيها قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ( و لكن كلّ ميسّر لما خلق له ) فلا دلالة لها على ما ذكره أصلاً و سيجي‏ء توضيح ذلك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و أمّا قوله أخيراً: ( لا نزاع أنّه إنّما شقي بعمله و إنّما سعد بعمله و لكن لمّا كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله و قدره كان الدليل الّذي ذكرناه باقيا ) يريد أنّ تعلّق القضاء بالعمل - و من المحال أن يتخلّف متعلّقه عمّا قضى عليه - توجب صيرورته ضروريّ الثبوت، و يكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريّا متساوي الفعل و الترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه و لا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، و إنّما بين الفاعل و فعله، و بين الفعل و الأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتّفاقيّة جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك و ذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين و لا تأثير حقيقيّ لأحدهما في الآخر.

١٩

و هذه مغالطة اُخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب و نسبة الإمكان فإنّ للعمل علّة تامّة يجب بها وجوده، و هي إرادة الإنسان، و سلامة أدوات العمل منه، و وجود مادّة قابلة للعمل، و الزمان، و المكان، و عدم الموانع و العوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت و تمّت و كملت كان ثبوت العمل ضروريّا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، و له إلى كلّ واحد من أجزاء علّته التامّة و من جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإنّ العمل لا يجب وجوده بمجرّد تحقّق الإرادة فقط بل يمكن و إنّما يجب لو انضمّت إليه بقيّة أجزاء العلّة.

فالعمل المتحقّق بضرورة العلّة التامّة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلّة التامّة، و نسبة الإمكان إلى إرادة الإنسان، و لا تبطل نسبته الوجوبيّة إلى العلّة التامّة نسبته الإمكانيّة إلى إرادة الإنسان، و لا تقلبها عن الإمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإنسان بالإمكان دائماً كما أنّ نسبته إلى المجموع الحاصل من الإنسان و بقيّة أجزاء العلّة التامّة بالوجوب دائماً و طرفا الفعل و الترك متساويان بالنسبة إلى الإنسان أبداً كما أنّ أحد الطرفين من الفعل و الترك متعيّن بالنظر إلى العلّة التامّة أبداً.

ينتج أنّ الفعل اختياريّ للإنسان في عين أنّه لا يخلو في وجوده عن علّة تامّة موجبة له، و القضاء الحتم من صفاته تعالى الفعليّة منتزع عن مقام الفعل و هو سلسلة العلل المترتّبة بحسب نظام الوجود، و كون المعلولات ضروريّة بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كلّ مقضيّ بالنسبة إلى ما تعلّق به من القضاء الإلهيّ لا ينافي كونه اختياريّا للإنسان نسبته إليه نسبة الإمكان. فقد بان أنّه أخذ نسبة العمل إلى الإنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهّم أنّ كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهيّ يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإنسان لا ممكنه.

و بتقرير آخر واضح: تعلّق علمه تعالى مثلاً بأنّ خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقّق الاحتراق المقيّد بالنار لأنّه الّذي تعلّق به العلم الحقّ لا وجوب تحقّق الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقّق علم

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المسألة الواحدة والعشرون

حكم قطع أعضاء الحيّ

والبحث فيه من نواح:

١ - حكم أصل القطع.

٢ - المنقول منه.

٣ - الأعضاء المنقولة.

٤ - المنقول إليه.

٥ - الغاية من النقل.

٦ - كيفيّة النقل ووسيلته.

أمّا الناحية الأُولى، فلقائِلٍ أنْ يقول بحرمة قطع الحيّ بعض أعضاء بدنه للغير ؛ فإنّه إضرار بالنفس والبدن، والإضرار حرام في الشريعة، سواء بنفسه أو بغيره، وسواء انجرّ إلى تلف النفس أم لم ينجر.

ووجوب حفظ النفس المحترمة كفاية إنّما هو بالطرق المتعارفة، لا بقطع أعضاء بدن المكلّفين وزرعها في بدن المضطرّ، فإنّ هذا النحو من الحفظ لم يذكره الفقهاء، فضلاً عن وروده في الكتاب والسنّة.

أقول : الإضرار بالنفس على ثلاثة أوجه:

الأوّل : إلقاء النفس إلى التهلكة بأيّ وجهٍ كان، وهذا حرام منصوص لا إشكال فيه.

الثاني : إتلاف الأعضاء المهمّة كقطع اليد أو الرجل واللسان، أو قلع

١٨١

العين، ونظائر ذلك ممّا يعلم بعدم رضى الشارع به، ومثله التسبيب لابتلاء النفس بالأمراض الخطيرة: كالسلّ والسرطان والإيدز والجذام وأمثالها، ودليل الحرمة هو العلم المذكور سواءٌ وُجد دليل لفظي عليها، أم لا وهذه الحرمة في بعض الموارد: كقلع عينٍ واحدةٍ لزرعها في رأس عالم جليل ذي مكانةٍ دينيّةٍ أعمى - مثلاً - مبنيّة على الاحتياط.

الثالث : الإضرار بأدون من الوجهين المذكورين، وهذا غير محرّم لعدم الدليل عليه، فإنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار )(١) ، لا يدلّ على حرمة الإضرار بالنفس ظاهراً(٢) ، والرجوع إلى أصالة البراءة، بل إلى بناء العقلاء على تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم يعطي الجواز، وترى العقلاء يقدمون على بعض الأضرار بمشيٍ زائدٍ، أو أكلٍ زائدٍ، أو عملٍ شاقٍّ، ولا يذمّ أحدٌ أحداً على ذلك، ولاحظ المسألة الخامسة والعشرين.

لا يجوز مساعدة المحتاج على الوجه الأوّل، بلا إشكالٍ حتّى إذا فرضنا علم المساعد بموته بعد دقائق، فإنّه لا يجوز إتلاف نفسه في هذه الدقائق اليسيرة.

وهل تجوز بالوجه الثاني، بدعوى أنّ حرمته إنّما هي إذا كان الإتلاف لغرضٍ عقلائي، فيجوز قطع أحد يديه لتُزرع في بدن مقطوع اليدين، أو قلع عينه لزرعها في رأس الأعمى، وإن لم يجز قطع اليدين وقلع العينين معاً ؟ فيه بحث واحتمالات.

وأمّا مساعدة الغير بالوجه الثالث فهي راجحة ولا إشكال فيها، وإذا توقّف حياة أحد عليها تجب.

___________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و٢٩٢. نسخة الكومبيوتر.

(٢) لاحظ بحثه في الجزء الثاني، في كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها، ص٤٠٤ إلى ص٤١٥.

١٨٢

وعدم ورده في الفقه، إنّما هو لعدم إمكان هذه الأقسام من المساعدات الطبّيّة في الزمان السابق، لا لعدم وجوبها، فلاحظ.

لكنّ لأحدٍ أنْ يمنع الوجوب، لعدم دليل لفظي يتمسّك بإطلاقه في مثل المقام - كما أشرنا إليه سابقاً - والدليل اللّبّي لا يشمل ما شكّ في شموله له، بل يقتصر فيه على القدر المتيقَّن.

فإنْ قلت: إنّ إهداء كليةٍ واحدةٍ برعاية الطبيب الماهر، وإن لم يستلزم ضرراً لصاحبها بالفعل، لكنّه يخاف على نفسه إذا ابتليت كليته الأُخرى بالنقص والمرض في المستقبل، فلم تقدر على دفع سموم الدم إلى المثانة، ولم يجد من يعطيه الكلية بلا عوض، ولم يقدر هو على عوضها.

قلت : يمكن الاعتماد على استصحاب سلامتها من الأمراض، أو استصحاب عدم حدوث المرض عليها في المستقبل. لكنّ الاستصحاب المذكور لا يدفع احتمال الضرر والخوف منه ؛ فلا يجوز له إهدائها دفعاً للضرر، حتّى إذا كان هذا الغير ابنه وكان مرضه حرجيّاً للوالد، فإنّ قاعدة لا حرج معارضة أو مزاحمة بقاعدة حرمة الإضرار بالنفس.

وإن شئت فقل: يشكل إجراء قاعدة لا حرج في مثل المقام، كما أشرنا إليه في أوائل الكتاب.

إلاّ أن يُدّعى أنّ احتمال مثل هذا الضرر في المستقبل ضعيف، ولا يوجب العقلاء دفعه، فلاحظ.

وأمّا الناحية الثانية: فالمنقول منه قد يكون غير بالغ، أو مجنوناً، وقد يكون ميّتاً، وقد يكون رشيداً بالغاً، وقد يكون جنيناً أو سقطاً، وقد يكون حيواناً، وقد يكون غير محترم النفس.

أمّا الثالث: فقد مرّ حكمه، وأمّا الأوّلان فلا يجوز قطع أعضائهما لعدم ولاية الولي عليهما بهذا الحدّ، إلاّ أنْ يفرض توقّف نفقتهما على هذا العمل

١٨٣

وبدونه تقع سلامتهما في خطر مهم، وأمّا الرابع فله ذلك بمقدار مأذون له شرعاً كما عرفت.

ولا يجوز الأخذ من الجنين بوجه، وأمّا الذي سقط تلقائيّاً، أو أجهض في الموارد المرخّص فيها ذلك - كما سبق بيانه - فلا مانع لزرع بعض أعضائه في الغير ؛ إذا رضي الوالدان به، بعد إتيان ما يجب من تجهيزه إنْ أمكن وإلاّ قبله.

إذا كان ترك العمليّة يوجب تلف النفس المحترمة، أو مشقّة شديدة لوالدي السقط - كما إذا كان المريض من أقربائهما مثلاً - وفي غير الفرضين المذكورين ؛ يشكل ترك واجب لأجل تحصيل مالٍ غير محتاجٍ إليه.

وأمّا الحيوان فإن كان ممّا يؤكل لحمه وأخذ العضو بعد ذبحه فلا كلام، وإنْ كان غير مأكول اللحم، فإن زرع عضوه في البطن فلا إشكال فيه قبل التذكية أو بعدها، وإن زرع في الظاهر بعد تذكيته، فقد ورد في موثّقة زرارة أنّه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ الصلاة في وبر كلّ شيءٍ حرام أكله، فالصلاة في: وبره، وشعره، وجلده، وبوله، وروثه، وكلّ شيءٍ منه، فاسد ؛ لا تُقبل تلك الصلاة حتّى يُصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله... )(١) .

وإنْ أخذ قبل تذكيته، أو أخذ من حيوانٍ نجسٍ العين، كالكلب والخنزير، فمضافاً إلى هذا الإشكال تزيد مشكلة النجاسة المُبْطلة للصلاة، بل للغسل، بل الوضوء إذا زُرع في محلّ أعضاء الوضوء، وكذا إذا أخذ من الكافر غير الكتابي.

___________________

(١) ص٣٤٥ ج٤ الوسائل نسخة الكومبيوتر نقلاً عن الكافي.

١٨٤

وأجاب عنه بعض الفقهاء الأجلاّء: أنّه بعد الزرع يصبح جزءً من بدن الإنسان، ومحكوماً بحكمه فلا يجري عليه حكم غير المذكّى، وحكم الكلب والخنزير والكافر، أي هو يصير طاهراً بعد الزرع بالتّبع. وأنا فيه متوقّف، والله العالم.

وأمّا الأخير فإن كان حربيّاً، أو مرتدّاً سواء كان حيّاً، أم ميّتاً فيجوز أخذ العضو منه لمسلم رضي أم لا، بعوض أم بغير عوض، وأمّا المحكوم بالإعدام حدّاً فلا يجوز ذلك في حقّه، وإنّما يجب قتله حسب ما عيّنه الشرع، وقطع العضو أمر زائد لا دليل عليه، فهو ظلمٌ محرّم.

وأمّا المحكوم بالإعدام قصاصاً فهو - أيضاً - كذلك قبل القصاص وبعده، إلاّ إذا صولح على ذلك ورضي به.

وأما الناحية الثالثة: فقد تبيّن ممّا تقدّم حول الضرر الضابطة في جواز ما يُنقل من الأعضاء وما لا يُنقل.

وعلى كلٍّ، لا شبهة في جواز نقل الدم إلى الغير بعوض أو بغير عوض، وقد صرّح بعض فقهائنا بصحّة بيعه(١) .

وأمّا الناحية الرابعة: فان كان المنقول إليه مسلماً فلا إشكال فيه، وإما إذا كان كافراً فهل يجوز للمؤمن أنْ يعطيه عضوه ؟ فيه تردد. وأمّا إذا دفع إليه بعوض، وكان في أشدّ الحاجة إليه، فالظاهر أنّه جائز، لكنّ الأحوط بل الأقوى: عدم جواز دفعه إلى الناصبي والمبتدع، ومَن يُريد تخريب الدين، وتضعيف المؤمنين، في غير فرض الاضطرار إلى ماله بخصوصه.

وقد يكون المنقول منه والمنقول إليه شخصاً واحداً. ولا بأس حينئذٍ في النقل إذا كان

___________________

(١) وهو سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره .

١٨٥

الفرض حفظ العضو الأهم، وقد يكون العضو بلاستيكيّاً، وهذا لا إشكال في زرعه إذا لم يكن غصبيّاً.

وأمّا الناحية الخامسة: فالغاية قد تكون حفظ النفس من التلف، وقد تكون رفع الحرج الشديد، وقد تكون مجرّد أخذ المال، أمّا مع الحاجة الشديدة إليه، أو لا معها، بل لجمع المال فقط، كما أنّ الغاية للمنتقل إليه قد تكون حفظ نفسه، وقد تكون رفع الحرج عنها، وقد تكون أغراضاً تجمّليّة بحتة، وربما تختلف الأحكام المتعلّقة بالقطع والمقطوع منه بالنسبة إلى بعض هذه الغايات حسب الفتاوى، فلابُدّ للمكلّفين من الرجوع إلى مقلَّديهم ( بفتح اللام ) في ذلك.

وأمّا الناحية السادسة: فالعمليّة قد تقترن بعدّة أُمورٍ محرّمةٍ، أو غير جائزة بعنوانها الأوّلي، ونذكر بعضها من باب المثال:

١ - ٢ - نظر الأجنبي إلى بدن الأجنبيّة وبالعكس، أو نظر أحدهما إلى عورة الآخر، ولو كان الطبيب والمريض من جنسٍ واحدٍ.

٣ - ٤ - لمس الأجنبي بدن الأجنبيّة أو بالعكس، أو لمس العورة ولو بين المثلين.

٥ - الاضطرار إلى أكل طعام وشراب نجسين ك ،ما في مستشفيات البلاد الغربيّة وغير الإسلاميّة، أيّام العمليّة حتّى حصول القدرة، وكذا عند الفحوص الطبيّة قبل العمليّة.

٦ - الاضطرار إلى أداء الصلاة في لباسٍ نجسٍ، أو بدن نجس كذلك.

٧ - الصلاة عن جلوس أو عن استلقاء أو اضطجاع لا عن قيام، حتّى يقدر عليه.

ثمّ الأربعة الأُولى متعلّقة بالمنقول منه، والمنقول إليه والطبيب ومساعديه المراقبين للمرضى في المستشفيات جميعاً.

١٨٦

أقول : إذا أُجريت العمليّة لحفظ النفس أو لرفع مرض حرجي لا شبهة في جواز كلّ الأُمور السبعة للمريض، والأُمور الأربعة للطبيب، إذا لم يمكن الاجتناب عن بعضها: كلبس شيءٍ مانعٍ عن المسّ بالبدن ونحو ذلك.

وأمّا إذا أُجريت للتجمّل فقط فلا ترتفع حرمة المحرّمات، ولا لزوم الواجبات في حقّهما.

وأمّا المنقول منه فإن قصد حفظ النفس المحترمة ؛ فيجوز له كلّ ذلك، كما يجوز للمنقول إليه، وإن قصد رفع المرض الحرجي، فإن كان حرجيّاً له أيضاً لمكان علاقته بالمريض، فالحكم هو الجواز لنفي الحرج، وإن لم يكن له حرجيّاً فربّما يشكل إقدامه على العمليّة وإن كان قطع العضو جائزاً لمكان تلك المحرّمات والواجبات الضمنيّة، وجريان قاعدة نفي الحرج في حقّ المنقول إليه لا يكفي للمنقول منه، وكفايته للطبيب إنّما هي بدليلٍ خاصٍّ مرّ في المسألة الثانية، إلاّ أنْ يدّعى القطع بعدم الفرق بينهما، فتأمّل.

وإنْ قصد المال لحاجةٍ شديدةٍ إليه، فالظاهر جواز الأُمور المذكورة ؛ لقاعدة نفي الحرج والضرر، وإن قصد جمع المال فقط فيشكل الأمر، حتّى في فرض حفظ حياة المنقول إليه إذا لم يقصده، فضلاً عن فرض التجمّل، بل الظاهر عدم رفع الحرمة والوجوب في حقّه، فلاحظ وتأمّل.

١٨٧

المسألة الثانية والعشرون

أحكام متعلّقة باللّمس والنظر وتشريح الميّت وغير ذلك

١ - هل ترتفع حرمة النظر والمسّ المحرّمين للطلاب والطالبات في كلّيّة الطبّ في مقام تعلّمهم - فإنّه واجب كفائي - وهل يفرق الحكم الشرعي بالنسبة إلى الأحياء والأموات ؟

( ج ) : أمّا المسّ فالظاهر عدم الاحتياج إليه غالباً ؛ لإمكان لبس ما يمنع مسّ البدن باليد، فلا مجوّز لرفع حرمته أصلاً، وأمّا النظر إلى الوجه والكفّين، فلا بأس به مطلقاً بغير قصد الشهوة واللّذة، وكذا إلى الكافرات بمقدار ما تعارف عدم حجابهن، بل وكذا إلى المبتذلات اللاّئي إذا نُهين لا ينتهين، وأمّا إلى بدن المسلمات غير المبتذلات فلا.

وأمّا السؤال عن جواز إلباس المساعدة للطبيب لباسه، أو نزعه، ممّا يستلزم المسّ المحرّم، وأنّه عادة رسميّة رائجة حين العمليّة، أو الفراغ منها ؟

فجوابه : أنّ حرمة المسّ لا تزول بهذه العادات غير الإسلامية.

٢ - هل يجوز الرجوع للتداوي والعمليّة إلى الجنس المخالف، إذا استلزم النظر والمسّ المحرّمين، مع إمكان الرجوع إلى المماثل أو لا يجوز ؟

( ج ) : لا يجوز الرجوع إلى الجنس المخالف، إلاّ مع تعذّر المماثل الصالح للعلاج والتشخيص، وحينئذٍ يجوز النظر والمسّ للطبيب - أيضاً - كما مرّ دليله في المسألة الثانية، ويقدّم المحارم على غيرهم، ووجهه واضح في النظر إلى غير العورة، ومسه، فإنّه يجوز لهم، وأمّا في مسّ العورة والنظر إليها

١٨٨

فليس حكمه بواضح، فهو أحوط.

٣ - هل يجوز النظر إلى العورة ومسّها في مقام التداوي مطلقاً أو بشرط ؟

( ج ) : يجوز بشرط تداوي المرض الحرجي للمريض، ويزيد للمخالف شرط فقد المماثل أيضاً.

وربّما قيل بتقديم المحارم على غيرهم، وهو أحوط، كما أشرنا إليه آنفاً.

٤ - هل يجب على مَن يتعلّم الطبّ الغسل بمسّ بدن الميّت، مع أنّه يتكرّر في كثيرٍ من الأيّام، بل ربّما في كلّ يومٍ مرّاتٍ ؟

( ج ) : نعم يجب الغسل عند الصلاة، وطريق التخلّص عن الغسل لبس سترٍ يمنع عن مسّ اليد ببدن الميّت مباشرةً، وهو أمرٌ سهلٌ.

وأمّا إذا مسّ القطعة المبانة منه، فعند بعض الفقهاء المعاصرين أنّه لا يجب على الماسّ الغسل(١) ، وعند المشهور وجوبه بمسّها إذا اشتملت على العظم دون المجرّد عنه كاللحم فإنّه لا يجب(٢) بمسه، وأمّا مسّ العظم المجرّد ففي وجوب الغسل به، أقوال أربعة.

هذا كلّه إذا لم يغسّل الميّت، وأمّا إذا غُسّل الميّت أو جاؤا به من مقابر المسلمين، فلا يجب الغسل بمسّه، فإنّ وجوب الغسل بمسّ الميّت إنّما هو بمسّه بعد البرودة، وقبل غسله، وبدون حائل.

٥ - إذا لم يمكن تعلّم الطبّ إلاّ بالنظر واللّمس المحرّمين فما هو الحكم ؟

( ج ) : يقول بعض الفقهاء المعاصرين: إنّه إذا توقف بقاء حياة

___________________

(١) وهو السيّد السيستاني ( طال عمره ) وهو من المراجع المشهورين اليوم.

(٢) لاحظ كتاب الطهارة من جواهر الكلام.

١٨٩

المسلمين - ولو في الزمان المستقبل على تعلّم الطبّ المتوقّف على النظر والمسّ المحرّمين، جازا مع الاقتصار على مقدار الضرورة، بشرط عدم التلذّذ والريبة.

٦ - هل يجوز للذكور تعلّم الأمراض النسائيّة، بحيث يصبحوا أخصّائيّين ( اختصاصيّين ) فيبتلون بالمسّ والنظر في أيّام التعلّم ؟

( ج ) : أمّا نفس التعلّم، فلا شكّ في جوازه، لجواز النظر والمسّ حين المعالجة والعمليّة بشرطٍ سبق، وأمّا النظر والمسّ في أيّام التعلّم ففي جوازهما نظر، إلاّ إذا توقّفت حياة المسلمين في المستقبل على تعلّمه الطبّ، فيجوزان.

وإذا علم أو أحتمل قيام إناث بمقدار الحاجة لتعلّم الطبّ ( قسم الأمراض النسائيّة ) فيشكل أو يحرم عليهم المسّ والنظر.

٧ - هل يجوز إجبار المتعلّمات على تعلّم الأمراض النسائيّة بمقدار حاجة النساء في هذا العصر، حتّى لا يفتقرن إلى الرجال ولا إلى إرائة أبدانهنّ لهم ؟

( ج ) : والأظهر عندي جوازه بل لزومه على الحكومة الإسلاميّة، ويمكن أنْ نسنده إلى الفهم من مذاق الشرع.

هذا إذا لم يكتف بمَن اشتغلن برضاهنّ بتعلّم الطبّ لمقدار الحاجة، وإلاّ فلا معنى للإجبار.

وعلى كلٍّ، لا يدفع وجوب الإجبار المذكور بقيام السيرة من صدر الإسلام إلى اليوم على عدمه، فإنّ الشرائط الحاضرة لم تكن متوفّرة في السابق، ومع هذا التفاوت الوسيع بين الحال والماضي لا مجال للتمسك بالسيرة، فلاحظ.

٨ - المعتدّة التي يحرم خروجها من بيتها، هل يجوز خروجها للعلاج ؟

( ج ) : المعتدّة المريضة يجوز خروجها للتداوي والعلاج ؛ لنفي الحرج

١٩٠

والضرر، وأمّا الطبيبة المعتدّة، فلا يجوز خروجها لعلاج المرضى إذا وجد غيرها لعلاجهم، ومع عدمه إنّما يجوز الخروج إذا لم يمكن العلاج في بيتها، واستلزم عدم خروجها تلف النفس، أو كان مرض المريض حرجيّاً لها لمكان قرابته منها مثلاً، وأمّا إذا كان المرض حرجيّاً للمريض فقط، ولم يوجد غيرها للتداوي ففي جواز خروجها من بيتها وجهان.

نعم، إذا أوجب عدم خروجها من بيتها فقدان مؤنتها المحتاج إليها بالفعل، أو عزلها من قبل إدارة المستشفى، وكان حرجيّاً لها لضيق معيشتها ؛ جاز لها الخروج بقدر الضرورة. وهذا لا يخصّ الطبيبة بل هو - كنظائره - عام.

٩ - ما معنى الضرورة المجوّزة للنظر والمسّ المحرّمين، حتّى مسّ العورة للمريض والطبيب ؟

( ج ) : للضرورة هنا معنيان: حفظ النفس من التلف، وكون تحمل المرض حرجياً للمريض، وأمّا إذا لم يبلغ المرض حدّ الحرج والضرر، فلا يبيح ما هو محرّم في نفسه للمريض والطبيب والمضمّد.

١٠ - هل يجوز للمرأة الطبيبة، أو المساعدة للطبيب أنْ تكشف عن ذراعيها في المختبر، أو محلّ العمليّة إذا ألزمها القانون بذلك ؟

( ج ) : لا يجوز لها ذلك، ولا حرمة للقوانين المخالفة لقوانين الإسلام.

١١ - أصبحت المصافحة مع الأجانب والأجنبيّات في بيئة الجامعات والكليّات والمختبرات من الواجبات العرفيّة وتاركها يوهن، فتكون له مشقّة نفسيّة، فهل ترخصونها لهنّ ؟

( ج ) : كلاّ، هي حرام في غير المحارم، إلاّ إذا كانت من وراء ساتر.

١٢ - هل يجوز تقطيع أعضاء الميّت للتشريح والتعلّم، أو للزراعة ؟

١٩١

( ج ) : أمّا حكم النزع للترقيع والزراعة فقد تقدّم، وأمّا التشريح فلا يجوز بميّت مسلم، ويجوز تقطيع أعضاء الميّت غير المسلم أو مَن شكّ في إسلامه.

ويقول السيّد الأُستاذ الخوئيرضي‌الله‌عنه : نعم إذا توقّف حياة مسلمٍ حيٍّ على تشريح بدن مسلم ميّتٍ، جاز ولكن يجب على مَن يقطعه الديّة(١) .

أقول : في كلّ بلد يوجد جثّة غير مسلم فيكتفي بها لقضاء الحاجة، وأمّا إذا فرضنا عدم وجود ذلك، ولم يتيسّر لهم إلاّ الميّت المسلم، وفرضنا توقّف حياة المسلمين - ولو في المستقبل على وجود الأخصائيّين الذين لا يتيسّر لهم العلم إلاّ بالتشريح لا يبعد جواز تقطيع الميت المسلم، وهل يكون ذلك بعد الصلاة عليه أو بعد دفنه؟ فيه وجهان.

١٣ - قد تدّعي المريضة مرضاً في بدنها أو في عورتها، ولا يعلم الطبيب أنّ المرض مهمٌ أو غير مهم، يمكن تحمّله لها بلا مشقّة، أو يعلم أنّه غير حرجي، فهل يجوز له النظر أو المسّ لتشخيص المرض على نحو الدقّة ؟ وكذا الحال في المريض والطبيبة ؟

( ج ) : إذا كان المرض حرجيّاً للمريض والمريضة ؛ جاز النظر واللمس في فرض فقدان المماثل، وإذا لم يكن حرجيّاً لا يجوزان للمخالف والمماثل، وعند شكّ الطبيب في بلوغ المرض درجة الحرج، لا يبعد الاعتماد على قول المريض والمريضة في فرض عدم اتّهامهما.

١٤ - قد يشكّ الطبيب في تحقّق الضرورة المجوِّزة لمس المرأة والنظر إليها ؛ لأنّه يحتمل وجود المماثلة لها، أو يعلم بوجودها، ولكن المريضة

___________________

(١) توضيح المسائل، وغيره من كتبهقدس‌سره .

١٩٢

تدّعي أنّها راجعتها ولم تنتفع بعلاجها، فهل يكفي هذا الادّعاء للطبيب لجواز علاجها حتّى يمسّ عورتها، وكذا الكلام في حقّ الطبيبة والمريض ؟

( ج ) : أفتى بعض الفقهاء بجواز الاعتماد على قول المريض بامتناع المراجعة إلى المحرم والمماثل، والظاهر عدم الفرق بينه وبين قوله بعدم انتفاعه من المحرم أو المماثل.

وعلى كلٍّ، إذا علم بوجود المماثل ؛ لا يجوز للطبيب النظر والمس في فرض سكوت المريض.

١٩٣

المسألة الثالثة والعشرون

حول إفشاء الأسرار

( البحث الأوّل ) في نقل بعض الأحاديث:

١ - في الحديث الصحيح عن الباقرعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المجالس بالأمانة )(١) .

أقول : قضيّة الإطلاق عدم جواز إفشاء ما لا يرضى به أهل المجلس ؛ بل الأصل عدم الجواز إلاّ إذا أُحرز رضاهم بالإفشاء، ومع ذكر عدم الإفشاء يصير عدم الجواز آكد، وأخذ الميثاق يصير أشدّ تأكيداً.

والظاهر عدم خصوصيّة للمجلس، فيشمل الحكم المكالمات الهاتفيّة والمكاتبة وأمثالها.

نعم في شمول الحديث لغير المسلمين نظر، لاحتمال الانصراف، أو لما يُفهم من مذاق الشرع في غير أهل الذمّة.

٢ - وفي صحيح ابن سنان قال: قلت له: ( أي الإمام الصادق -عليه‌السلام - ) عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال: ( نعم. قلت: يعني سفلتيه ؟ قال: ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه)(٢) .

أقول : فمَن لا يرضى بإذاعة صلاة ليله مثلاً، يشكل أو يحرم إذاعته ،

___________________

(١) ص٤٧١ ج٨ الوسائل، وفي الباب روايات، لكن ليس فيها ما يُعتبر سنداً، إلاّ ما ذكرناه هنا.

(٢) ص٢٩٤ ج١٢ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

١٩٤

فضلاً عن حرمة إذاعة ما يضرّ بماله وعرضه ونفسه(١) .

٣ - وفي معتبرة معلّى بن خنيس.. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قال الله عزّ وجلّ: قد نابذني من أذّل عبدي المؤمن )(٢) .

٤ - وفي صحيح ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال:

( قال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله -: ألا أُنبئكم بشراركم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعائب )(٣) .

والمستفاد من هذه الأحاديث الأربعة حرمة إفشاء ما في المجالس، وحرمة إذاعة أسرار المؤمن، وحرمة إذلال المؤمن، والنميمة، والتّفريق بين الأحبّة، وطلب العيب للبراء.

وأمّا حرمة الغيبة، وحرمة سوء الظن، وحرمة التجسّس، فيدلّ عليها قوله تبارك وتعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) ( الحجرات ٢ ).

وقد استُثني من حرمة الغيبة ما إذا كانت مصلحة الغيبة أقوى من تركها، وما إذا كان المغتاب ( بالفتح ) متجاهراً بالفسق، وفرض تظلّم المظلوم بإظهار ما فعل به الظالم ؛ لقوله تعالى:( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (٤) ، وفي جرح الرواة، وجرح الشهود، وغير ذلك كما فُصِّل في الكتب الفقهيّة(٥) .

___________________

(١) لاحظ ص٢٢٦ ج١ من كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها.

(٢) لاحظ بقيّة الأحاديث في ذلك في ص٢٢٩ ج١ حدود الشريعة.

(٣) ص٦١٦ ج٨ الوسائل.

(٤) النساء آية ١٤٨.

(٥) لاحظ ص٧٥ إلى ص٨٣ ج٢ حدود الشريعة.

١٩٥

والجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أمرين:

١ - من جملة ما استثناه شيخنا الأنصاريقدس‌سره في مكاسبه المحرّمة من حرمة الغيبة قصد ردع المغتاب من المنكَر(١) ولكنّ سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره ناقشه نقاشاً متيناً(٢) .

٢ - ومن جملة ما استثناه الشيخ المذكور نصح المستشير(٣) ، فإنّ النصيحة واجبةٌ للمستشير.

أقول : أمّا وجوب النصح فيدلّ عليه صحيح معاوية بن وهب، عن الصادقعليه‌السلام :

( يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب ). ومثله صحيح الحذّاء(٤) .

لكنّ النسبة بينه وبين حرمة الغيبة هي العموم من وجه، ففي مورد الاجتماع تقع المزاحمة فلابُدّ من الأخذ بالأهمّ، وهو يختلف باختلاف الموارد والحالات.

واعلم أنّه يجب حفظ الأيمان، ويحرم الحنث كتاباً وسنةً وهذا ممّا لا إشكال فيه ؛ لكن قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما رواه الشيعة(٥) وأهل السنّة: ( إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها ) وهذا استثناء من وجوب حفظ الأيمان وحرمة الحنث، وهو أصلٌ مهمٌ.

___________________

(١) لاحظ المكاسب المحرَّمة.

(٢) مصباح الفقاهة بحث الغيبة.

(٣) المكاسب المحرَّمة.

(٤) ص٥٩٤ ج١١ الوسائل.

(٥) ص١٧٥ ج١٦ وسائل الشيعة.

١٩٦

أصلٌ مفيدٌ

لا يجب إعلام مَن أخطأ في الموضوعات، كمَن صلّى إلى غير جهة القبلة وهو يزعم أنّها القبلة، أو يفطر يوماً من رمضان وهو يزعم أنّه يوم عيد، وهكذا. نعم، إذا علم الحكم والموضوع ثمّ خالف ؛ يجب على الإنسان أمر المتخلِّف بالمعروف أو نهيه عن المنكر، وإذا جهل الحكم فيجب على الإنسان إرشاد الجاهل، وأمّا إذا علم الحكم وجهل الموضوع فلا يجب على المكلَّفين تنبيهه.

نعم، استثنوا منه النفوس والأعراض، بل بعضهم الأموال الخطيرة، فمَن زعم أنّ زيداً كافرٌ مهدور الدم، وقصد بالفعل قتله يجب على الغير بيان الواقع وأنّه غير مهدور الدم، بل وردْعه ودفْعه عنه أيضاً، أو اعتقد امرأةً أجنبيّةً زوجته فأراد مباشرتها، يجب على الغير إعلامه وردْعه، يُفهم ذلك من مذاق الشرع.

إذا تقرّرت هذه الأحكام الفقهيّة العامّة لجميع المسلمين، بل المكلّفين من غير اختصاص الأطبّاء، وإن كان الأطبّاء وموظفو الأمن العام أكثر الناس ابتلاء ببعض هذه المسائل، نذكر في كتابنا هذا عدّةً من الموارد، التي هي محلّ ابتلاء الأطبّاء المتديّنين المقيّدين بأحكام دينهم - وقليلاً ما هم - والله الموفق -.

١ - إذا علم الطبيب بعد الفحوصات الطبّيّة أنّ الرجل لن يستطيع الإنجاب، وذلك لعدم وجود حيوانات منويّة في منيّه، ثمّ يأتي بعد ذلك ويخبر الطبيب أنّه بعد العلاج استطاع أن ينجب طفلاً، فهل يجوز أو يجب

١٩٧

على الطبيب أن يخبره عن استحالة الإنجاب في حقّه أم لا يجوز ؟

يحتمل جواز أخبار الطبيب للزوج بأنّه لم يكن قابلاً للإنجاب، فانّ مجرّد هذا لا يدلّ على اتّهام الزوجة بالزنا المحرّم، لاحتمال انتقال النطفة إلى رحمها من الأرض ونحوها كما قد يتّفق، أو بطريقٍ طبّيٍّ على غفلةٍ منها مثلا، أو أنّها أُكرهت على الزنا، فإخبار الطبيب لا يستلزم سوء ظنٍّ بها، لكن إذا علم أو احتمل الطبيب إقدام الزوج على قتلها وإفضاحها وهتك شرفها، لا يجوز الإخبار ظاهرا ؛ لما عرفت من حرمة إذلال المؤمن مؤكّدة، بناءً على عدم الفرق بين المباشرة والتسبّب، وهذه الحرمة ثابتة في حقّه، حتّى وإن فرضنا حلفه في أوّل شغله على عدم إخفاء الحال على المريض، فإنّ الحرمة المذكورة تمنع عن العمل بالحلف ؛ كما عرفت من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمّا إذا علم أنّه لا يترتّب على إخباره إلا طلاقها فيحتمل الجواز ؛ لأنّ الطلاق غير محرم.

ثمّ إنّه إذا علم الطبيب بإقرارها، أو غيره أنّها زنت ؛ يجب عليه أن ينهاها عن نسبة الولد إلى زوجها، من باب النهي عن المنكر.

وعلى كلٍّ، إذا جاز الإخبار للطبيب فإنّما هو جائزٌ غير واجب، وله أن لا يخبر الزوج أصلا ولكن لا يدلّسه إذا سأله.

٢ - لا يجوز إخبار الطبيب السلطة أو الزوج بزنى الزوجة ؛ لحرمة الغيبة، وحرمة الإذلال، وحرمة إذاعة السرّ، كما أنّه لا يجوز للطبيب وغيره عند سؤال الزوج عن فجور زوجته أن يكذب، بل إمّا يسكت أو يتورّى.

٣ - إذا تبيّن بالفحوص الطبيّة أنّ أحد الشخصين المقبلَين على الزواج اللذين طلبا فحص ما قبل الزواج، لا ينجب أو ينجب طفلا مشوّهاً إذا ما تمّ ذلك الزواج، فهل يقوم الطبيب بإخطار الفرد الآخر منهما، أم أن النقص

١٩٨

المذكور يعتبر سرّاً من الأسرار التي لا يجوز إفشاءها، أو يعلّق الجواز والمنع على طلب الآخر معرفة النتيجة وعدم طلبه.

أقول : للمورد صور، فإن أقبلا على الطبيب بشرط أن يبيّن حقيقة حال كلٍّ منهما للآخر، كما لعلّه الغالب، فالظاهر وجوب إخبارهما بالحقيقة ؛ لانعقاد الإجارة مشروطة بذلك، ويقول الله تعالى:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، ولو لم يبيّن لا يستحقّ الأُجرة، وقَسَمُ الطبيب على عدم إفشاء السرّ لا يشمل المورد جزماً.

وإن أراد منه الفحص وإعلان النتيجة لكلٍّ منهما منفردا، فلا يجوز له إخبار الغير لحرمة إذاعة السرّ وللقسم - إن حلف أوّلاً على عدم إفشاء حال المرضى -.

وأمّا إذا أطلقا الطلب ولم يبيّنا أحد القسمين السابقين، فالمتبادَر من الإطلاق هو القسم الأوّل، لاسيّما مع السؤال عن النتيجة.

٤ - إذا علم الطبيب أنّ مريضه مدمن خمرٍ، وهو سائق أو طيّار، فهل يجب عليه الإبلاغ أو يحرم ؟

أقول : يجب على الطبيب، من باب النهي عن المنكر، أن ينهى المريض عن شرب الخمر أوّلاً، وعن السياقة في حال السكر ثانياً، فان لم يرتدع، أو علم الطبيب من أوّل أنّه لا يرتدع ؛ وجب عليه إبلاغ الجهات المسؤولة الحكوميّة لما مرّ ذيل عنوان ( أصل مفيد ) عن قريب، ويجوز إعلام مَن يريد السفر مع المدمن المذكور بالحال.

وبالجملة : حفظ النفوس أهمّ من حفظ عرض واحد مقصر.

٥ - إذا علم الطبيب باجتهاده، أو بإقرار المريض أنّه مبتلى بالزنا، أو

___________________

(١) المائدة آية ١.

١٩٩

باللّواط، أو بالمساحقة، أو بالسرقة، أو بقتل شخص أو أشخاص، مثلاً، فما هو وظيفته في الإبلاغ والسكوت ؟

وكذا غير الطبيب - إلاّ مَن كان وليّ القتيل، أو مالك المال المسروق ونحو ذلك، فيجوز له الرجوع إلى الجهات المسؤولة للقصاص وتحصيل حقّه، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

أقول : لا يجوز له الإبلاغ لما مرّ، وإنّما يجب عليه نهي المتخلّف عن المعاصي، نعم إذا علم أنّه يريد قتل شخص آخر، أو أنّه مفسد يريد إدامة فساده ؛ يجب عليه إبلاغ الحكومة لما مرّ في الأصل المفيد.

٦ - إذا علم الطبيب عن مريضته: أنّها قامت بترك وليدها غير الشرعيّ في الطريق العام تفاديا للفضيحة، فهل يسكت أو يبلّغ السلطات ؟

( ج ) : لا يجوز له ولغيره افضاح المرأة لما مرّ، وإنّما يجب عليه وعلى جميع المسلمين كفاية حفظ اللقيطة من التلف، ولو بردّها إلى أُمّها، وإذا فُرض عدم حفظه إلا بأُمّه، جاز بل وجب إبلاغ السلطات والتعريف بأُمّه.

٧ - إذا علم الطبيب أنّ المرأة المزوّجة تخون زوجها، لا يجوز له إبلاغ الزوج أو الحكومة، ولو قذفها ولم يقدر على إثبات الزنا يُجْلَد ثمانين جلدةً وهو حدّ القذف.وإذا سأله زوجها عن سبب مرضها النفسي، فهل له أن يخبره بأنّه خوف خيانتها بك ؟

لا يجوز له الكذب ولا الصدق !

٨ - إذا علم الطبيب أنّ السائق يضعف نور عينه، والسياقة خطر له وللناس، فقد مرّ حكم الطبيب المذكور، في جواب السؤال الرابع.

٩ - شخص أحد عينيه لا يبصر، وهو يطلب من الطبيب كتمانه، لئلاّ تفارقه زوجته أو خطيبته، وتطلب هي منه حال عينه، فما هو حكمه ؟ وكذا في عكس المفروض.

( ج ) : لايجوز إفشاء عيبه حتّى لزوجته بوجهٍ، بل الأظهر عدم جوازه

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431