الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85848 / تحميل: 6683
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٨٧ و قال في يعقوب و أبويه إبراهيم و إسحاق (عليه السلام):( وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: ٧٣، و قال فيهم أيضاً:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦.

فأخبر أنّه هداهم إلى مستقيم صراطه و لم يقيّد ذلك بقيد، و أنّه اجتباهم و جمعهم و أخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك. فلا يبتغون إلّا ما يريده من الحقّ و لا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، و قد كرّر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان و استثنى المخلصين:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

فالحقّ أنّ يعقوب إنّما كان يحبّ يوسف و أخاه في الله سبحانه لما كان يتفرّس منهما التقوى و الكمال و من يوسف خاصّة ما كانت تدلّ عليه رؤياه أنّ الله سيجتبيه و يعلّمه من تأويل الأحاديث و يتمّ نعمته عليه و على آل يعقوب، و لم يكن حبّه هوى ألبتّة.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ مرادهم من قولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ضلاله في الدين، و قد عرفت أنّ سياق الآيات الكريمة يدفعه.

و يقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء و إنّما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته و العدول في أمرهم عن العدل و الاستقامة، و إذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية و الظلم في أخيهم و أبيهم. أجابوا عنه بأنّ ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوّة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوّة و ربّما اُجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغاراً مراهقين و من الجائز صدور أمثال هذه الاُمور عن الأطفال المراهقين. و هذه أوهام مدفوعة، و ليس قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) النساء: ١٦٣ الظاهر في نبوّة الأسباط صريحاً في إخوة يوسف.

١٠١

و الحقّ أنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف و أذنبوا بما ظلموا يوسف الصدّيق ثمّ تابوا إلى ربّهم و أصلحوا و قد استغفر لهم يعقوب و يوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) الآية: ٩٨ من السورة بعد قولهم:( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) و عن يوسف قوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الآية: ٩٢ من السورة بعد اعترافهم له بقولهم:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) .

و منها: قول بعضهم: إنّ إخوة يوسف إنّما حسدوه بعد ما قصّ عليهم رؤياه و قد كان يعقوب نهاه أن يقصّ رؤياه على إخوته و الحقّ أنّ الرؤيا إنّما أوجبت زيادة حسدهم و قد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) تتمّة قول إخوة يوسف و الآية تتضمّن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الّذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطّة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله:( وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ) الآية ١٠٢ من السورة.

و قد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث:( قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ - إلى قوله -إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

فأوردوا أوّلا ذكر مصيبتهم في يوسف و أخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما و جذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها و لا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، و هذه محنة حالّة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيّتهم و خيبة مسعاهم و ذلّتهم بعد العزّة و ضعفهم بعد القوّة، و هو انحراف من يعقوب في سيرته و طريقته.

ثمّ تذاكروا ثانياً في طريق التخلّص من الرزيّة بطرح كلّ منهم ما هيّأه من الخطّة و يراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، و آخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه و اللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه

١٠٢

و يمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم و ينبسط حبّه و حبائه فيهم.

ثمّ اتّفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني و هو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيّارة و يذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره و يعفى أثره.

فقوله تعالى:( اقْتُلُوا يُوسُفَ ) حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، و في ذكرهم يوسف وحده - و قد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف و أخاه معا:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا ) - دليل على أنّه كان مخصوصا بمزيد حبّ يعقوب و بلوغ عنايته و اهتمامه و إن كان أخوه أيضاً محبوّاً بالحبّ و الإكرام من بينهم و كيف لا؟ و يوسف هو الّذي رأى الرؤيا و بشّر بأخصّ العنايات الإلهيّة و الكرامات الغيبيّة، و قد كان أكبرهما و الخطر المتوجّه من قبله إليهم أقرب ممّا من قبل أخيه، و لعلّ في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حبّ يعقوب لاُمّهما الموجب لحبّه بالطبع لهما و تهييج حسد الإخوة و غيظهم و حقدهم بالنسبة إليهما.

و قوله:( أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضا ) حكاية رأيهم الثاني فيه، و المعنى صيّروه أو غرّبوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره و يستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء و نظير ذلك.

و الدليل عليه تنكير( أرض ) و لفظ الطرح الّذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أو الأثاث الّذي يستغني عنه و لا ينتفع به للإعراض عنه.

و في نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أنّ مجموع الرأيين كان هو المرضيّ عند أكثر الإخوة حتّى قال قائل منهم:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) إلخ.

و قوله:( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) أي افعلوا به أحد الأمرين حتّى يخلو لكم وجه أبيكم و هو كناية عن خلوص حبّه لهم بارتفاع المانع الّذي يجلب الحبّ و العطف إلى نفسه كأنّهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم و اختصّ حبّه بهم و انحصر إقباله عليهم.

١٠٣

و قوله:( وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) أي و تكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - و المال واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.

و في هذا دليل على أنّهم كانوا يرونه ذنبا، و إثما، و كانوا يحترمون أمر الدين و يقدّسونه لكن غلبهم الحسد و سوّلت لهم أنفسهم اقتراف الذنب و ارتكاب المظلمة و آمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكّنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهيّة و هو أن يقترفوا الذنب ثمّ يتوبوا.

و هذا من الجهل فإنّ التوبة الّتي شأنها هذا الشأن غير مقبولة ألبتّة فإنّ من يوطّن نفسه من قبل على المعصية ثمّ التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله و الخضوع لمقامه حقيقة بل إنّما يقصد المكر بربّه في دفع ما أوعده من العذاب و العقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطّن عليه نفسه أوّلاً: أن يذنب فيتوب فهي في الحقيقة تتمّة ما رامه أوّلا من نوع المعصية و هو الذنب الّذي تعقّبه توبة و ليست رجوعا إلى ربّه بالندم على ما فعل. و قد تقدّم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) الآية: النساء: ١٧ في الجزء الرابع من الكتاب.

و قيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا و انتظام الاُمور فيها و المعنى و تكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.

قوله تعالى: ( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) الجبّ هو البئر الّتي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، و إن بني بها سمّيت البئر طويّا، و الغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الّذي يغيب ما فيه من الأنظار و غيابة الجبّ قعره الّذي لا يرى لما فيه من الظلمة.

و قد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الّذي يشير إليه قوله:( أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضا ) إلّا أنّه قيّده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدّي

١٠٤

إلى هلاكه كأن يلقى في بئر و يترك فيها حتّى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمّن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبّب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكاً لذي رحم، و هو أن يلقى في بعض الآبار الّتي على طريق المارّة حتّى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه و يسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره و تقطع خبره، و السياق يشهد بأنّهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر ردّ منهم بالنسبة إليه و قد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.

و اختلف المفسّرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنّه كان أحد إخوته لقوله تعالى:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ) فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، و قيل: هو يهوذا، و قد كان أسنّهم و أعقلهم، و قيل: هو لاوى، و لا يهمّنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتّب فائدة هامّة عليه.

و ذكر بعضهم أنّ تعريف الجبّ باللّام يدلّ على أنّه كان جبّاً معهوداً فيما بينهم. و هو حسن لو لم يكن اللّام للجنس، و قد اختلفوا أيضاً في أنّ هذا الجبّ أين كان هو؟ على أقوال مختلفة لا يترتّب على شي‏ء منها فائدة طائلة.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) أصل( لا تَأْمَنَّا ) لا تأمننا ثمّ اُدغم بالإدغام الكبير.

و الآية تدلّ على أنّ الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجبّ، و أجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف و يفعلوا به ما عزموا عليه و قد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف و لا يخلّيه و إيّاهم فكان من الواجب قبلا أن يزكّوا أنفسهم عند أبيهم و يجلّوا قلبه من كدر الشبهة و الارتياب حتّى يتمكّنوا من أخذه و الذهاب به. و لذلك جاءوا أباهم و خاطبوه بقولهم:( يا أَبانا - و فيه إثارة للعطف و الرحمة و إيثار للمودّة -ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) أي و الحال أنّا لا نريد به إلّا الخير و لا نبتغي إلّا ما يرضيه و يسرّه.

ثمّ سألوه ما يريدونه و هو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الّذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم و غنمهم ليرتع و يلعب هناك، و هم حافظون له فقالوا:( أَرْسِلْهُ مَعَنا ) إلخ.

١٠٥

قوله تعالى: ( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الرتع هو توسّع الحيوان في الرعي و الإنسان في التنزّه و أكل الفواكه و نحو ذلك.

و قولهم:( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ ) اقتراح لمسئولهم كما تقدّمت الإشارة إليه و قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أكّدوه بوجوه التأكيد: إنّ و اللّام و الجملة الاسميّة على وزان قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) كما يدلّ أنّ كلّ واحدة من الجملتين تتضمّن نوعاً من التطييب لنفس أبيهم كأنّهم قالوا: ما لك لا تأمّنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيّانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنّا له لناصحون و إن كنت تخاف عليه غيرنا ممّا يصيبه أو يقصده بسوء كأن يدهمه المكروه و نحن مساهلون في حفظه و مستهينون في كلاءته فإنّا له لحافظون.

فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعيّ: ذكروا أوّلا أنّه في أمن من ناحيتهم دائماً ثمّ سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثمّ ذكروا أنّهم حافظون له ما دام عندهم، و بذلك يظهر أنّ قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) تأمين له دائميّ من ناحية أنفسهم، و قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) تأمين له موقت من غيرهم.

قوله تعالى: ( قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) هذا ما ذكر أبوهم جواباً لما سألوه، و لم ينف عن نفسه أنّه لا يأمنهم عليه و إنّما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانيّة لو ذهبوا به فقال و قد أكّد كلامه:( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) و قد كشف عن المانع أنّه نفسه الّتي يحزنها ذهابهم به و لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم و لئلّا يهيّج ذلك عنادهم و لجاجهم و هو من لطائف النكت.

و اعتذر إليهم في ذلك بقوله:( وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) و هو عذر موجّه فإنّ الصحاري ذوات المراتع الّتي تأوي إليها المواشي و ترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها و تكمن فيها للافتراس و الاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم و يغفلوا عنه فيأكله الذئب.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) تجاهلوا

١٠٦

لأبيهم كأنّهم لم يفقهوا إلّا أنّه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردّوه ردّ منكر مستغرب، و ذكروا لتطييب نفسه أنّهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس و شدّة، و أقسموا بالله إنّ أكل الذئب إيّاه و هم عصبة يقضي بخسرانهم و لن يكونوا خاسرين ألبتّة، و إنّما أقسموا - كما يدلّ عليه لام القسم - ليطيّبوا نفسه و يذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، و هذا شائع في الكلام، و في الكلام وعد ضمنيّ منهم له أنّهم لن يغفلوا، لكنّهم لم يلبثوا يوماً حتّى كذّبوا أنفسهم فيما أقسموا له و أخلفوه ما وعدوه إذ قالوا:( يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) الآية.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصّل إليه بالفكرة نحو فأَجمعوا أَمركم و شركاءكم. قال: و يقال: أجمع المسلمون على كذا اتّفقت آراؤهم عليه. انتهى.

و في المجمع: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجبّ أي قعر البئر و اتّفقت دواعيهم عليه فإنّ من دعاه داع واحد إلى الشي‏ء لا يقال فيه إنّه أجمع عليه فكأنّه مأخوذ من اجتماع الدواعي. انتهى.

و الآية تشعر بأنّهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول و أرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجبّ.

و جواب لمّا محذوف للدلالة على فجاعة الأمر و فظاعته، و هي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلّم يصف أمراً فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب و لا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه و الأحوال الّتي تؤدّي إليه فيجري في وصفه حتّى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثمّ وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدلّ بذلك على أنّ صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلّم أن يصرّح به و لا يطيق السامع أن يسمعه.

١٠٧

فكأنّ الّذي يصف القصّة - عزّ اسمه - لمّا قال:( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) سكت مليّا و أمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى و أسفا لأنّ السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبيّ ابن الأنبياء و لم يأت بجرم يستحقّ به شيئاً ممّا ارتكبوه فيه و هم إخوته و هم يعلمون مبلغ حبّ أبيه النبيّ الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصدّيق بأيدي إخوته، و يثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، و يزيّن بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربّوا في حجر النبوّة و نشئوا في بيت الأنبياء.

و لمّا حصل الغرض بالسكوت عن جواب لمّا جرى سبحانه في ذيل القصّة فقال:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الضمير ليوسف و ظاهر الوحي أنّه من وحي النبوّة، و المراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إيّاه في غيابة الجبّ، و كذا الظاهر أنّ جملة( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله:( وَ أَوْحَيْنا ) إلخ و متعلّق( لا يَشْعُرُونَ ) هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي و هم لا يشعرون بما أوحينا إليه.

و المعنى - و الله أعلم - و أوحينا إلى يوسف اُقسم لتخبرنّهم بحقيقة أمرهم هذا و تأويل ما فعلوا بك فإنّهم يرونه نفيا لشخصك و إنساء لاسمك و إطفاء لنورك و تذليلا لك و حطّا لقدرك و هو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزّة و عرش المملكة و إحياء لذكرك و إتمام لنورك و رفع لقدرك و هم لا يشعرون بهذه الحقيقة و ستنبّؤهم بذلك و هو قوله لهم و قد اتّكى على أريكة العزّة و هم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) إذ قال:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ - إلى أن قال -أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلخ.

انظر إلى موضع قوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ) فإنّه إشارة إلى أنّ هذا الّذي

١٠٨

تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، و قوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فإنّه يحاذي من هذه الآية الّتي نحن فيها قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

و قيل: في معنى الآية وجوه اُخر:

منها: أنّك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، و هو الّذي أخبرهم به في مصر و هم لا يعرفونه ثمّ عرّفهم نفسه.

و منها: أنّ المراد بإنبائه إيّاهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعّد من أساء إليه فيقول: لاُنبّئنّك و لاُعرّفنّك.

و منها: قول بعضهم كما روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بإنبائه إيّاهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم و هم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظنّ فقال: إنّ هذا الجام يخبرني أنّكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجبّ و بعتموه بثمن بخس.

و هذه وجوه لا تخلو من سخافة و الوجه ما قدّمناه، و قد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى:( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) المائدة: ١٠٥ و قوله:( وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) المائدة: ١٤ و قوله:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) المجادلة: ٦ إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.

و منها: قول بعضهم: إنّ المعنى و أوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك و هم لا يشعرون بهذا الوحي. و هذا الوجه غير بعيد لكنّ الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد و لا حاجة إليه ظاهرا.

و منها: قول بعضهم: إنّ معنى الآية لتخبرنّهم برقيّ حياتك و عزّتك و ملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم و يذلّهم لك و يجعل رؤياك حقّا و هم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.

و عمدة الفرق بين هذا القول و ما قدّمناه من الوجه أنّ في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلاميّ إلى الإنباء بالحال الخارجيّ و الوضع العينيّ، و لا

١٠٩

موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ) العشاء آخر النهار، و قيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، و إنّما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدّقهم فيما يقولون و لا يكذّبهم.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل السبق التقدّم في السير نحو( فَالسَّابِقاتِ سَبْقا ) و الاستباق التسابق و قال:( إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) ( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) انتهى، و قال الزمخشريّ في الكشّاف: نستبق أي نتسابق، و الافتعال و التفاعل يشتركان كالانتضال و التناضل و الارتماء و الترامي و غير ذلك، و المعنى نتسابق في العدو أو في الرمي. انتهى.

و قال صاحب المنار في تفسيره: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلّف كلّ منّا أن يسبق غيره فالاستباق تكلّف السبق و هو الغرض من المسابقة و التسابق بصيغتي المشاركة الّتي يقصد بها الغلب. و قد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، و منه( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، و قوله الآتي في هذه السورة( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتّباعه إرجاعه، و صيغة المشاركة لا تؤدّي هذا المعنى، و لم يفطن الزمخشريّ علّامة اللغة و من تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.

أقول: و الّذي مثل به من قوله تعالى:( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من موارد الغلب فإنّ من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات و المثوبات و القربات و أن يتقدّم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق و كذا قوله تعالى:( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) فإنّ المراد به قطعا أنّ كلّا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه و هذه لتمنعه من الفتح و هو معنى التسابق فالحقّ أنّ معنيي الاستباق و التسابق متّحدان صدقا على المورد،

١١٠

و في الصحاح: سابقته فسبقته سبقا و استبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى، و في لسان العرب: سابقته فسبقته، و استبقنا في العدو، أي تسابقنا. انتهى.

و لعلّ الوجه في تصادق استبق و تسابق أنّ نفس السبق معنى إضافيّ في نفسه، وزنة (افتعل) تفيد تأكّد معنى (فعل) و إمعان الفاعل في فعله و أخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب و اكتسب و حمل و احتمل و صبر و اصطبر و قرب و اقترب و خفي و اختفى و جهد و اجتهد و نظائرها، و طروّ هذه الخصوصيّة على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخصّ السبق لنفسه و لا يتمّ إلّا مع تسابق في المورد.

و قوله:( بِمُؤْمِنٍ لَنا ) أي بمصدّق لقولنا، و الإيمان يتعدّى باللّام كما يتعدّى بالباء قال تعالى:( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) العنكبوت: ٢٦.

و المعنى - أنّهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنّا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي - و لعلّه كان في عدو - فإنّ ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم و متاعهم و كان عنده يوسف على ما ذكروا - و تركنا يوسف عند رحلنا و متاعنا فأكله الذئب، و من خيبتنا و مسكنتنا أنّك لست بمصدّق لنا فيما نقوله و نخبر به و لو كنّا صادقين فيه.

و قولهم:( وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدّت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أنّ كلامه غير موجّه عند من يعتذر إليه و عذره غير مسموع و هو يعلم بذلك لكنّه مع ذلك مضطرّ أن يخبر بالحقّ و يكشف عن الصدق و إن كان غير مصدّق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.

قوله تعالى: ( وَ جاؤُا عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) الكذب بالفتح فالكسر مصدر اُريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بيّن الكذب.

و في الآية إشعار بأنّ القميص و عليه دم - و قد نكّر الدم للدلالة على هوان دلالته و ضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإنّ من

١١١

افترسته السباع و أكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزّق. و هذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب و لا الاُحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه و تناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع و أحوال خارجيّة تحفّ به و تنادي بالصدق و تكشف القناع عن قبيح سريرته و باطنه و إن حسنت صورته.

( كلام في أنّ الكذب لا يفلح)

من المجرّب أنّ الكذب لا يدوم على اعتباره و أنّ الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذّبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادّعاه، و الوجه فيه أنّ الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب و إضافات غير متغيّرة و لا متبدّلة فلكلّ حادث من الحوادث الخارجيّة الواقعة لوازم و ملزومات متناسبة لا ينفكّ بعضها من بعض، و لها جميعا فيما بينها أحكام و آثار يتّصل بعضها ببعض، و لو اختلّ واحد منها لاختلّ الجميع و سلامة الواحد تدلّ على سلامة السلسلة. و هذا قانون كلّيّ غير قابل لورود الاستثناء عليه.

فلو انتقل مثلاً جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأوّل و يبتعد منه و يغيب عنه و عن كلّ ما يلازمه و يتّصل به و يخلو عنه المكان الأوّل و يشغل به الثاني و أن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، و لو اختلّ واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأوّل اختلّت جميع اللوازم المحتفّة به.

و ليس في وسع الإنسان و لا أيّ سبب مفروض إذا ستر شيئاً من الحقائق الكونيّة بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات و الملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالّها الواقعيّة أو يحرّفها عن مجراها الكونيّة فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الاُخرى و إلّا فالثالثة و هكذا.

و من هنا كانت الدولة للحقّ و إن كانت للباطل جولة، و كانت القيمة للصدق و إن تعلّقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ )

١١٢

الزمر: ٣ و قال:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) المؤمن: ٢٨. و قال:( إِنَّ الّذينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) النحل: ١١٦ و قال:( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ق: ٥ و ذلك أنّهم لمّا عدّوا الحقّ كذبا بنوا على الباطل و اعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختلّ يناقض بعض أجزائه بعضا و يدفع طرف منه طرفا.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) هذا جواب يعقوب و قد فوجئ بنعي ابنه و حبيبه يوسف دخلوا عليه و ليس معهم يوسف و هم يبكون يخبرونه أنّ يوسف قد أكله الذئب و هذا قميصه الملطّخ بالدم، و قد كان يعلم بمبلغ حسدهم له و هم قد انتزعوه من يده بإلحاح و إصرار و جاؤا بقميصه و عليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه و أخبروا به.

فأضرب عن قولهم:( إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) إلخ بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) و التسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، و أبهم الأمر و لم يعيّنه ثمّ أخبر أنّه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم و ينتقم منهم لنفسه انتقاما و إنّما يكظم ما هجم نفسه كظما.

فقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف و بيان أنّه على علم من أنّ فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنّما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) إلى آخر الآية.

و قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) مدح للصبر و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب و التقدير: سأصبر على ما أصابني فإنّ الصبر جميل و تنكير الصبر و حذف صفته و إبهامها للإشارة إلى فخامة أمره و عظم شأنه أو مرارة طعمه و صعوبة تحمّله.

و قد فرّع قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) على ما تقدّم للإشعار بأنّ الأسباب الّتي أحاطت به و أفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلّا أن يسلك سبيل الصبر، و ذلك أنّه (عليه السلام) فقد أحبّ الناس إليه يوسف و هو ذا يذكر له أنّه صار

١١٣

اُكلة للذئب و هذا قميصه ملطخا بالدم و هو يرى أنّهم كاذبون فيما يخبرونه به، و يرى أنّ لهم صنعا في افتقاده و مكرا في أمره و لا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف و التجسّس ممّا آل إليه أمره و أين هو؟ و ما حاله؟ فإنّما أعوانه على أمثال هذه النوائب و أعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنّما هم أبناؤه و هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة و وقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ و بما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلّا الصبر.

غير أنّ الصبر ليس هو أن يتحمّل الإنسان ما حملّه من الرزيّة و ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة الّتي تطؤها الأقدام و تلعب بها الأيدي فإنّ الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه و جهّزه بما يقدم به على النوائب و الرزايا ما استطاع، و لا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهيّة بل الصبر هو الاستقامة في القلب و حفظ النظام النفساني الّذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانيّة من الاختلال، و ضبط الجمعيّة الداخليّة من التفرّق و التلاشي و نسيان التدبير و اختباط الفكر و فساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، و غيرهم المنهزمون عند أوّل هجمة ثمّ لا يلوون على شي‏ء.

و من هنا يعلم أنّ الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة و كسر سورتها إلّا أنّه ليس تمام السبب في إعادة العافية و إرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصّن به الإنسان لدفع العدوّ المهاجم، و أمّا عود نعمة الأمن و السلامة و حرّيّة الحياة فربّما احتاج إلى سبب آخر يجرّ إليه الفوز و الظفر، و هذا السبب في ملّة التوحيد هو الله عزّ سلطانه فعلى الإنسان الموحّد إذا نابته نائبة و نزلت عليه مصيبة أن يتحصّن أوّلا بالصبر حتّى لا يختلّ ما في داخله من النظام العبوديّ و لا يتلاشى معسكر قواه و مشاعره ثمّ يتوكّل على ربّه الّذي هو فوق كلّ سبب راجيا أن يدفع عنه الشرّ و يوجّه أمره إلى غاية صلاح حاله، و الله سبحانه غالب على أمره، و قد تقدّم شي‏ء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ٤٥ في الجزء الأوّل من الكتاب.

١١٤

و لهذا كلّه لمّا قال يعقوب (عليه السلام)( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) عقّبه بقوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) فتمّم كلمة الصبر بكلمة التوكّل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) الآية ٨٣ من السورة.

فقوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) - و هو من أعجب الكلام - بيان لتوكّله على ربّه يقول: إنّي أعلم أنّ لكم في الأمر مكرا و أنّ يوسف لم يأكله ذئب لكنّي لا أركن في كشف كذبكم و الحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة الّتي لا تغني طائلا بغير إذن من الله و لا أتشحّط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر و اُوكّل ربّي أن يظهر على ما تصفون أنّ يوسف قد قضى نحبه و صار اُكلة لذئب.

فظهر أنّ قوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) دعاء في موقف التوكّل و معناه: اللّهمّ إنّي توكّلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بنيّ هؤلاء، و الكلمة مبنيّة على توحيد الفعل فإنّها مسوقة سوق الحصر و معناها أنّ الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنّه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقّا إلّا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) ، و لتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر و لم يقل: و الله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه و ذكر اسم ربّه و أنّ الأمر منوط بحكمه الحقّ و هو من كمال توحيده و هو مستغرق في وجده و أسفه و حزنه ليوسف غير أنّه ما كان يحبّ يوسف و لا يتولّه فيه و لا يجد لفقده إلّا لله و في الله.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ) قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره. انتهى، و قال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، و أدليتها إذا أخرجتها. انتهى، و قيل بالعكس، و قال: الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.

و قوله:( قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ ) إيراده بالفصل مع أنّه متفرّع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنّه كان أمرا غير مترقّب الوقوع فإنّ الّذي يترقّب

١١٥

وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم و لذا قال:( قالَ يا بُشْرى) و نداء البشرى كنداء الأسف و الويل و نظائرهما للدلالة على حضوره و جلاء ظهوره.

و قوله:( وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ) مفاده ذمّ عملهم و الإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و يمكن أن يكون المراد به أنّ ذلك إنّما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الّذي قدّر له فإنّه لو لم يخرج من الجبّ و لم يسرّ بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما اُوتيه من الملك و العزّة.

و معنى الآية: و جاءت جماعة مارّة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجبّ ثمّ لمّا أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - و قد تعلّق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع و التجارة و الحال أنّ الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أنّ ذلك كان بعلمه تعالى و كان يسيّر يوسف هذا المسير ليستقرّ في مستقرّ العزّة و الملك و النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) الثمن البخس هو الناقص عن حقّ القيمة، و دراهم معدودة أي قليلة و الوجه فيه - على ما قيل - أنّهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها و لا يعدّون إلّا القليلة منها و المراد بالدراهم النقود الفضّيّة الدائرة بينهم يومئذ، و الشراء هو البيع، و الزهد هو الرغبة عن الشي‏ء أو هو كناية عن الاتّقاء.

و الظاهر من السياق أنّ ضميري الجمع في قوله:( وَ شَرَوْهُ ) ( وَ كانُوا ) للسيّارة و المعنى أنّ السيّارة الّذين أخرجوه من الجبّ و أسرّوه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص و هي دراهم معدودة قليلة و كانوا يتّقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.

و معظم المفسّرين على أنّ الضميرين لإخوة يوسف و المعنى أنّهم باعوا يوسف من السيّارة بعد أن ادّعوا أنّه غلام لهم سقط في البئر و هم إنّما حضروا هناك لإخراجه من الجبّ فباعوه من السيّارة و كانوا يتّقون ظهور الحال.

١١٦

أو أنّ أوّل الضميرين للإخوة و الثاني للسيّارة و المعنى أنّ الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة و كانت السيّارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد و الرغبة لئلّا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أنّ الأمر لا يخلو من مكر و أنّ الغلام ليس فيه سيماء العبيد.

و سياق الآيات لا يساعد على شي‏ء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيّارة و لم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتّى يعود ضمير( وَ شَرَوْهُ ) و( كانُوا ) أو أحدهما إليهم على أنّ ظاهر قوله في الآية التالية:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) أنّه اشتراه متحقّق بهذا الشراء.

و أمّا ما ورد في الروايات (أنّ إخوة يوسف حضروا هناك و أخذوا يوسف منهم بدعوى أنّه عبدهم سقط في البئر ثمّ باعوه منهم بثمن بخس) فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات و لا أنّه يدفع الروايات.

و ربّما قيل: إنّ الشراء في الآية بمعنى الاشتراء و هو مسموع و هو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) السياق يدلّ على أنّ السيّارة حملوا يوسف معهم إلى مصر و عرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر و أدخله في بيته.

و قد أعجبت الآيات في ذكر هذا الّذي اشتراه و تعريفه فذكر فيها أوّلا بمثل قوله تعالى:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) فأنبأت أنّه كان رجلا من أهل مصر، و ثانياً بمثل قوله:( وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) فعرّفته بأنّه كان سيّداً مصموداً إليه، و ثالثاً بمثل قوله:( وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ) فأوضحت أنّه كان عزيزا في مصر يسلّم له أهل المدينة العزّة و المناعة، ثمّ أشارت إلى أنّه كان له سجن و هو من شؤون مصدريّة الاُمور و الرئاسة بين الناس، و علم بذلك أنّ يوسف كان ابتيع أوّل يوم لعزيز مصر ملكها و دخل

١١٧

بيت العزّة.

و بالجملة لم يعرّف الرجل كلّ مرّة في كلامه تعالى إلّا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصّة، و لم يكن لأوّل مرّة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنّه كان رجلا من أهل مصر و بها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) .

و كيف كان، الآية تنبئ على إيجازها بأنّ السيّارة حملوا يوسف معهم و أدخلوه مصر و شروه من بعض أهلها فأدخله بيته و وصّاه امرأته قائلا:( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

و العادة الجارية تقضي أن لا يهتمّ السادة و الموالي بأمر أرقّائهم دون أن يتفرّسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة و الرشد، و يشاهد في سيماه الخير و السعادة، و على الخصوص الملوك و السلاطين و الرؤساء الّذين كان يدخل كلّ حين في بلاطاتهم عشرات و مآت من أحسن أفراد الغلمان و الجواري فما كانوا ليتولّعوا في كلّ من اقتنوه و لا ليتولّهوا كلّ من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه و رجاء الانتفاع به أو اتّخاذه ولدا معنى عميق و على الأخصّ من جهة أنّه أمر بذلك امرأته و سيّدة بيته و ليس من المعهود أن تباشر الملكات و العزيزات جزئيّات الاُمور و سفاسفها و لا أن تتصدّى السيّدات المنيعة مكانا، اُمور العبيد و الغلمان.

نعم إنّ يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يولّه الألباب، و كان قد اُوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، و هذه صفات لا تنمو في الإنسان إلّا و أعراقها ناجمة فيه أيّام صباوته و آثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.

فهذه هي الّتي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - و هو طفل صغير - حتّى تمنّى أن ينشأ يوسف عنده في خاصّة بيته فيكون من أخصّ الناس به ينتفع به في اُموره الهامّة و مقاصده العالية أو يدخل في اُرومته و يكون ولداً له و لامرأته بالتبنّي فيعود وارثاً لبيته.

١١٨

و من هنا يمكن أن يستظهر أنّ العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته و لذلك ترجّى أن يتبنّى هو و زوجته يوسف.

فقوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) أي العزيز( لِامْرَأَتِهِ ) و هي العزيزة( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) أي تصدّي بنفسك أمره و اجعلي له مقاما كريما عندك( عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا ) في مقاصدنا العالية و اُمورنا الهامّة( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) بالتبنّي.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال في المفردات: المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشي‏ء قال و يقال: مكّنته و مكّنت له فتمكّن، قال تعالى:( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ) ( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) ( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ) ( وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، و لكثرته في الكلام اُجرى مجرى فعال فقيل: تمكّن و تمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقرّ الشي‏ء من الأرض، و الإمكان و التمكين الإقرار و التقرير في المحلّ، و ربّما يطلق المكان المكانة لمستقرّ الشي‏ء من الاُمور المعنويّة كالمكانة في العلم و عند الناس و يقال: أمكنته من الشي‏ء فتمكّن منه أي أقدرته فقدر عليه و هو من قبيل الكناية.

و لعلّ المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتّع من مزايا الحياة و التوسّع فيها بعد ما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض و يتغرّب عن أرضه و مستقرّ أبيه.

و قد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصّته مرّتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجبّ و تسيير السيّارة إيّاه إلى مصر و بيعه من العزيز و هو قوله في هذه الآية( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) و ثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز و انتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) الآية ٥٦ من السورة و العناية في

١١٩

الموضعين واحدة.

و قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجبّ و بيعه و استقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الّذي حصل له من دخوله في بيت العزيز و استقراره فيه على أهناء عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشي‏ء بنفسه ليدلّ به على غزارة الأوصاف المذكورة له و ليس من القسم المذموم من تشبيه الشي‏ء بنفسه كقوله:

كأنّنا و الماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

بل المراد أنّ ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الّذي وصفناه و أخبرنا عنه فهو يتضمّن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمّنه ما حدّثناه فهو تلطّف في البيان بجعل الشي‏ء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه و أهميّتها و تعلّق النفس بها كما هو شأن التشبيه.

و من هذا الباب قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: ١١ و قوله تعالى:( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) الصافّات: ٦١ و المراد أنّ كلّ ما اتّصف من الصفات بما اتّصف به الله سبحانه لا يشبهه و لا يماثله شي‏ء، و أن كلّ ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنّة و ماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.

و إن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلّيّ ببعض أفراده ليدلّ به على أنّ سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكلّ ببعض أجزائه للدلالة على أنّ الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصّة خروجه من الجبّ و دخوله مصر و استقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإنّ إخوته حسدوه و حرّموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجبّ و سلبوه نعمة التمتّع في وطنه في البادية و باعوه من السيّارة ليغرّبوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسّل به إلى

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي. يا با محمّد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتّى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمّد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنّه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.

أقول: و الرواية تشهد على ما قدّمناه أنّ شمول الآية لعليّ (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمّة، و هذا الجري هو المراد ممّا ورد أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا.( وَ ما تَزْدادُ ) قال: الذكر و الاُنثى جميعا.

أقول: و قوله: الذكر و الاُنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.

و فيه، عن محمّد بن مسلم و غيره عنهما (عليهما السلام) قال:( ما تَحْمِلُ ) كلّ من اُنثى أو ذكر( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا( وَ ما تَزْدادُ ) عن اُنثى أو ذكر.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عمّن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله عزّوجلّ:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ ) قال: الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر( وَ ما تَزْدادُ ) كلّ شي‏ء تزداد على تسعة أشهر فكلّما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنّها تزداد بعدد الأيّام الّتي رأت في حملها من الدم.

أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسّرين:

و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

٣٦١

أقول: ليس المراد من( ما لم يكن) المعدوم الّذي ليس بشي‏ء بل الأمر الّذي بالقوّة ما لم يدخل في ظرف الفعليّة، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عبّاس: أنّ أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنّة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لا. فلمّا قفى من عنده قال: لأملأنّها عليك خيلاً و رجالاً، قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): يمنعك الله.

فلمّا خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إنّي ساُلهي محمّداً عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإنّ الناس إذا قتلت محمّداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمّد قم معي اُكلّمك فقام منه فخلّيا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلّمه و سلّ أربد السيف فلمّا وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سلّ سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست.

فلمّا خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حتّى إذا كانا بحرّة رقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ و اُسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوّي الله لعنكما الله و وقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا اُسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي.

حتّى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتّى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما

٣٦٢

تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ - إلى قوله -لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) قال: المعقّبات من أمر الله يحفظون محمّداً (صلّي الله و عليه وآله وسلّم). ثمّ ذكر أربد و ما قتله فقال:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ - إلى قوله -وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

أقول: و روي ما في معناه عن الطبريّ و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه:

أخشـى علـى أربد الحتـوف ولا

أرهب نوء السماء و الأسد

فجعني الرعد و الصواعق بالفارس

يـوم الكـريـهة النـجد

و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصّة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكّيّة بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضاً على ما مرّ من معناها.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال: ليس من عبد إلّا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردّى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بين القدر.

أقول: و روي أيضاً ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه. و روي ما في معناه عن الصادقين (عليهما السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال حدّثنا هذه الآية:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) الآية قال: من المقدّمات المؤخّرات المعقّبات الباقيات الصالحات.

أقول: ظاهره أنّ الباقيات الصالحات من مصاديق المعقّبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلّا بالملائكة الموكّلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدّمناه في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدّمات المؤخّرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدّمناه ظاهر.

و فيه، عن أبي عمرو المدائنيّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ أبي كان يقول:

٣٦٣

إنّ الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، عن أحمد بن محمّد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فصار الأمر إلى الله تعالى.

أقول: إشارة إلى ما قدّمناه من معنى الآية.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابليّ يقول: سمعت زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب الّتي تغيّر النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) قال: خوفاً للمسافر و طمعاً للمقيم.

و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ (عليه السلام): في قوله تعالى:( وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) يريد المكر.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بعث رجلاً إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عزّوجلّ فقال للرسول: أخبرني عن هذا الّذي تدعوني إليه أ من فضّة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فأخبره بقوله فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبيّ الله إنّه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلّمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جلّ ثناؤه( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ‏ ) .

أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مرّ من قصّة عامر و أربد و

٣٦٤

يزيد هذا الخبر أنّ قوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ ) إلخ بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول.

و في التفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية: أمّا من يسجد من أهل السماوات طوعاً فالملائكة يسجدون لله طوعاً، و أمّا من يسجد من أهل الأرض ممّن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعاً، و أمّا من يسجد له كرهاً فمن جبر على الإسلام و أمّا من لم يسجد فظلّه يسجد له بالغدوّ و الآصال.

أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإنّ الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوّه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبئ عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أنّ السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامّة موجودة إمّا فيهم و إمّا في ظلالهم فإنّ سجدوا حقيقة طوعاً أو كرهاً فهي و إلّا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.

على أنّه لا يوافق العموم المتراآى من قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و أوضح منه العموم الّذي في قوله:( اَوَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) النحل: ٤٩.

٣٦٥

( سورة الرعد الآيات ١٧ - ٢٦)

أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثَالَ( ١٧) لِلّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهمُ الْحُسْنَى‏ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنّ لَهُم مّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( ١٨) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ( ١٩) الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ( ٢٠) وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ( ٢١) وَالّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ( ٢٢) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِن كُلّ بَابٍ( ٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ( ٢٤) وَالّذِينَ يَنقُضُونَ

٣٦٦

عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ( ٢٥) اللّهُ يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلّا مَتَاعٌ( ٢٦)

( بيان)

لمّا أتمّ الحجّة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثمّ أبان لهم الفرق الجليّ بين الحقّ و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) أخذ في البيان التفصيليّ للفرق بين الطريقين طريق الحقّ الّذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الّذي هو الشرك و العمل السيّئ و أهلهما الّذين هم المؤمنون و المشركون، و أنّ للأوّلين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كلّه بمثل يبيّن به حال الحقّ و الباطل و أثر كلّ منهما الخاصّ به ثمّ بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.

قوله تعالى: ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلى آخر الآية قال في مجمع البيان: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الّذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنّه جمع المال العظيم الّذي يؤدّى عن القتيل، و القدر اقتران الشي‏ء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.

قال: و الاحتمال رفع الشي‏ء على الظهر بقوّة الحامل له، و يقال: علا صوته

٣٦٧

على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.

و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفرّاء: كلّ شي‏ء ينضمّ بعضه إلى بعض فإنّه يجي‏ء على فُعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.

و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتّقدت و توقّدت، و المتاع ما تمتّعت به، و المكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث - بفتح الكاف و ضمّها - و تمكّث أي تلبّث. انتهى.

و قال الراغب: الباطل نقيض الحقّ و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عزّوجلّ:( وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) و قال:( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) . انتهى موضع الحاجة.

فبطلان الشي‏ء هو أن يقدّر للشي‏ء نوع من الوجود ثمّ إذا طبّق على الخارج لم يثبت على ما قدّر و لم يطابقه الخارج و الحقّ بخلافه فالحقّ و الباطل يتّصف بهما أوّلا الاعتقاد ثمّ غيره بعناية مّا.

فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقّاً لمطابقة الواقع إيّاه إذا فحص عنه و طبّق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدّر له من الثبات، و الفعل يكون حقّاً إذا وقع على ما قدّر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحّة مثلاً إذا أثّر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلاً إذا لم يقع على ما قدّر عليه من الغاية أو الأمر و الشي‏ء الموجود في الخارج حقّ من جهة أنّه موجود كما اعتقد كوجود الحقّ تعالى، و الشي‏ء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان

٣٦٨

موجوداً لكن قدّر له من خواصّ الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدّر له و إن كان حقّاً من جهة أصل الوجود قال:

ألا كلّ شي‏ء ما خلا الله باطل

و كلّ نعيم لا محالة زائل

و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنيّة تبحث عن طبيعة الحقّ و الباطل فتصف بدء تكوّنهما و كيفيّة ظهورهما و الآثار الخاصّة بكلّ منهما و سنّة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنّة الله تحويلاً و لن تجد لسنّة الله تبديلاً.

بيّن تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنّما هو مثل واحد ينحلّ إلى أمثال فقال تعالى:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) و قوله:( أَنْزَلَ ) فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير( ماءِ ) للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشي‏ء أو يشوبه تغيّر، و تنكير( أَوْدِيَةٌ ) للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازيّة نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كلّه بدلالة السياق، و إنّما مثل بالسيل لأنّ احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محلّ الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كلّ بقدره الخاصّ به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كلّ واحد من الأودية المختلفة زبداً طافياً عالياً هو الظاهر على الحسّ يستر الماء سترا.

ثمّ قال تعالى:( وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) من نشويّة و ما يوقدون عليه أنواع الفلزّات و المواد الأرضيّة القابلة للإذابة المصوغة

٣٦٩

منها آلات الزينة و أمتعة الحياة الّتي يتمتّع بها و المعنى و يخرج من الفلزّات و الموادّ الأرضيّة الّتي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضّة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتّخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الّذي يربو السيل يطفو على المادّة المذابة و يعلوه.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ ) أي يثبت الله الحقّ و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.

فالمراد بالضرب - والله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلّة و المسكنة أي اُوقعت و اُثبتت و ضرب بينهم بسور أي اُوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبّت و إلى هذا المعنى أيضاً يعود ضرب المثل لأنّه تثبيت و نصب لما يماثل الممثّل حتّى يتبيّن به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإنّ الضرب و هو إيقاع شي‏ء على شي‏ء بقوّة و عنف لا ينفكّ عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد اُطلق الضرب و هو الملزوم و اُريد التثبيت و هو الأمر اللازم.

و من هنا يظهر أنّ قول المفسّرين إنّ في الجملة حذفاً أو مجازاً و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحقّ و الباطل أو مثل الحقّ و مثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محلّه فإنّه تكلّف من غير موجب و لا دليل يدلّ عليه.

على أنّه لو اُريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و هو يغني عنه.

على أنّ ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإنّ كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحقّ و الباطل يوجب كون ثبوت الحقّ نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثمّ قال تعالى:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

٣٧٠

الْأَرْضِ ) جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرّقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصّة و هو أنّه يذهب جفاء، و لذا قدّمنا آنفاً أنّ الآية تتضمّن مثلاً واحداً و إن انحلّ إلى غير واحد من الأمثال.

و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله:( وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ ) للدلالة على خاصّة يختصّ بها الحقّ و هو أنّ الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.

و المعنى: فأمّا الزبد الّذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج ممّا يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلاً متلاشياً، و أمّا الماء الخالص أو العين الأرضيّة المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمّتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و ختم به القول أي إنّ الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنّها تميّز الحقّ من الباطل و تبيّن للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.

و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد الموادّ الأرضيّة و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجيّة و التكوّنات العينيّة لا القول فيدلّ على أنّ هذه الوقائع الكونيّة و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي اُولي النهي و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أنّ ما في عالم الشهادة آيات دالّة على ما في عالم الغيب على ما تكرّر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالاً مضروبة أو آيات دالّة و هو ظاهر.

و قد تبيّن بهذا المثل المضروب في الآية اُمور هي من كلّيّات المعارف الإلهيّة:

أحدها: أنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الّذي هو بمنزلة الرحمة السماويّة و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الّذي يحتمل

٣٧١

من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنّما تنال الأشياء من العطيّة الإلهيّة بقدر قابليّتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.

و هذا أصل عظيم يدلّ عليه أو يلوّح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦ و من الدليل عليه جميع آيات القدر.

ثمّ إنّ هذه الاُمور المسمّاة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماويّة مقدّرة لها لكنّها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى،( إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) هود: ١٢٣، و قال:( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) الآية: ٣١ من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدقّ معنى و أوسع مصداقا.

و ثانيها: أنّ تفرّق هذه الرحمة السماويّة في أودية العالم و تقدّرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفكّ عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنّها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدّرة بالأقدار فإنّها باقية ثابتة أي حقّة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حقّ و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.

و الحقّ من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ فهذه الموجودات يشتمل كلّ منها على جزء حقّ ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) يونس: ٨٢ و قال:( إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) أسرى: ٨١ و قال:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) الأنبياء: ١٨.

٣٧٢

و ثالثها: أنّ من حكم الحقّ أنّه لا يعارض حقّاً غيره و لا يزاحمه بل يمدّه و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدلّ على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحقّ الّذي ينفع الناس.

و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنّما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلّا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثمّ الحيوان يأكل بعضه بعضاً ثمّ الأرض يأكل الجميع بل المراد أنّ هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهيّة و يتسبّب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعيّة فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنّهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجّار في صنعة الباب مثلاً، و مثل كفّتي الميزان فإنّهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنّه يعارض الغرض الحقّ و يخيّب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضرّ من غير نفع.

و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله:( وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) : الجاثية: ١٣ فكلّ شي‏ء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنّه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

و هذه الاُصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبّرت في الآيات القرآنيّة الّتي تذكر الحقّ و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.

و اعلم أنّ هذه الاُصول كما تجري في الاُمور العينيّة و الحقائق الخارجيّة كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحقّ في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الّذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى:( يُثَبِّتُ

٣٧٣

اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) : إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‏ وَ الّذينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ) إلى آخر الآية المهاد الفراش الّذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهّد الموطّأ و سمّيت جهنّم مهاداً لأنّها مهّدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيّئة.

و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرّعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - يبيّن الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحقّ و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإنّ الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أنّ العاقبة المحمودة الّتي للإيمان لا يقوم مقامها شي‏ء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أنّ المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنّة و إن كان حقّاً بحسب المآل فإنّ عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهيّة الحسنى و هي الجنّة لكن المثوبة أو الجنّة غير مقصودة في المقام بما أنّها مثوبة أو جنّة بل بما أنّها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصّة بهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) الآية.

و على هذا أيضاً فقوله:( لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ) موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشرّ و الشقوة بما لا يذكر.

و المعنى: و الّذين لم يستجيبوا لربهم يحلّ بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى - من صفته أنّه لو أنّ لهم ما في الأرض من نعمة تلتذّ بها النفس الإنسانيّة و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمنّاه ثمّ اُضيف إليه

٣٧٤

مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخّصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الّذي يملكونه فرضا عمّا يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه:( غير موصوف ما نزل بهم) .

ثمّ أخبر تعالى عن هذا الّذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ‏ ) و سوء الحساب الحساب الّذي يسوؤهم و لا يسرّهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثمّ ذمّ تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله:( وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) أي بئس المهاد مهادهم الّذي مهّد لهم و يستقرّون فيه، و مجموع قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ) إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الّذي من صفته كذا و كذا.

و معنى الآية - والله أعلم- للّذين استجابوا لدعوة ربّهم الحقّة العاقبة الحسنى و الّذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلّص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنّوه لأنّ الّذي يحلّ بهم من العاقبة السيّئة يتضمّن أو يقارن سوء الحساب و القرار في جهنّم و بئس المهاد مهادهم.

و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كلّ بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) استفهام إنكاريّ و هو في موضع التعليل لما تتضمّنه الآية السابقة، و بيان تفصيليّ لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحقّ و عدمها.

و ملخّص البيان: أنّ الحقّ يستقرّ في قلوب هؤلاء الّذين استجابوا لربّهم فتصير قلوبهم ألباباً و قلوباً حقيقيّة لها آثارها و بركاتها و هو التذكّر و التبصّر، و من خواصّ هذه القلوب الّتي يعرف بها صاحبوها أنّ اُولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربّهم، و يثبتون على احترام

٣٧٥

ما وصلهم الله به و هي الرحم الّتي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجّه إلى ربّهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيّئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنّة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرّيّاتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحقّ.

و قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ ) الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدّم - و فيه نفي التساوي بين من استقرّ في قلبه العلم بالحقّ و من جهل الحقّ و في توصيف الجاهل بالحقّ بالأعمى إيماء إلى أنّ العالم به يصير و قد سمّاهما بالأعمى و البصير في قوله آنفاً:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) الآية، فالعلم بالحقّ بصيرة و الجهل به عمى و التبصّر يفيد التذكّر و لذا عدّه من خواصّ اُولي العلم بقوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ ) .

و قوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ ) إلخ، أي إنّهما لا يستويان لأنّ لاُولي العلم تذكّراً ليس لاُولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع اُولي العلم اُولوا الألباب فدلّ على دعوى اُخرى تفيد فائدة التعليل كأنّه قيل: لا يستويان لأنّ لأحد الفريقين تذكّراً ليس للآخر، و إنّما اختصّ التذكّر بهم لأنّ لهم ألباباً و قلوباً و ليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: ( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) ظاهر السياق أنّ الجملة الثانية عطف تفسيريّ على الجملة الاُولى فالمراد بالميثاق الّذي لا ينقضونه هو عهد الله الّذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكّرهم هو ما عاهدوا به ربّهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحّدوه و

٣٧٦

يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإنّ الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.

و أمّا العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكلّ ذلك من فروع الميثاق الفطريّ فإنّ الدين فطريّ.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر هو الأمر التشريعيّ النازل بشهادة ذيل الآية( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فإنّ الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهراً و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإنّ المستضعف الّذي لم يبلغه الحكم الإلهيّ و لم يقصّر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ الحجّة لا تتمّ على الإنسان بمجرّد الإدراك الفطريّ لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) : النساء: ١٦٥.

و الآية مطلقة فالمراد به كلّ صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم الّتي أمر الله بها و أكّد القول في وجوبها، قال تعالى:( وَ اتَّقُوا اللَّهَ الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) : النساء: ١.

و قد أكّد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله:( وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فأشار إلى أنّ في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملاً سيّئاً مكتوباً في صحيفة العمل محفوظاً على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيّئ.

و الظاهر أنّ الفرق بين الخشية و الخوف أنّ الخشية تأثّر القلب من إقبال الشرّ أو ما في حكمه، و الخوف هو التأثّر عملاً بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتّقى به المحذور و إن لم يتأثّر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه:( وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ) : الأحزاب: ٣٩. فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله:( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏ ) : طه: ٦٧ و قوله:( وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) : الأنفال: ٥٨.

٣٧٧

و لعلّه إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أنّ الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم. و لذا خصّ العلماء بها في قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) و كذا قول بعضهم: إنّ الخشية أشدّ الخوف لأنّها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة أي يابسة. و كذا قول بعضهم: إنّ الخوف يتعلّق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنّها تتعلّق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.

و لو لا رجوعها إلى ما قدّمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أنّ الفرق أغلبيّ لا كلّيّ، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلاً و هو مردود بما قدّمناه من الآيات.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا ) إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدلّ على اتّصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنّه مع ذلك مقيّد بقوله:( ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) أي طلباً لوجه ربّهم فصفتهم الّتي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأنّ الكلام في صفاتهم الّتي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربّهم و علمهم بحقّيّة ما أنزل إليهم من ربّهم لا كلّ صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديّتهم و إيمانهم بربّهم كالصبر عند الكريهة تمنّعاً و عجباً بالنفس أو طلباً لجميل الثناء و نحوه كما قيل:

و قولي كلّما جشأت و جاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

و المراد بوجه الربّ تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة الّتي عليها يظهر و يستقرّ العمل عنده تعالى أعني المثوبة الّتي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) : آل عمران: ١٩٥، و قال:( وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) : النحل: ٩٦ و قال:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) : القصص: ٨٨.

و قوله:( وَ أَقامُوا الصَّلاةَ ) أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها

٣٧٨

و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاصّ على العامّ اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره- كما قيل-.

و قوله:( وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) المراد به مطلق الإنفاق أعمّ من الواجب و غيره، و الآية مكّيّة لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله:( سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) للدلالة على استيفائهم حقّه فإنّ من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحقّ أن يستوفي من كلّ حقّه فيسرّ بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنّة الرّياء أو السمعة أو إهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البرّ و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.

و قوله:( وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيّئة جاؤا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيّئة، و هذا أعمّ من أن يكون ذلك في سيّئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاؤا بها فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات أو دفعوها بتوبة إلى ربّهم فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيّئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا: سلاما أو اُتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا بها.

فذلك كلّه من درء السيّئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدلّ على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتّة.

و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لاُولي الألباب:( الّذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرؤن) فأتي في بعضها - و هي ستّة - بلفظ المضارع، و في بعضها - و هي ثلاثة - بلفظ الماضي.

و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أنّ التعبير في قوله:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدّم بلفظ

٣٧٩

المضارع على سبيل التفنّن في الفصاحة لأنّ هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني( الّذينَ ) و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطيّة، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطيّة نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

و لذا قال النحويّون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامّة احتمل أن يراد به المضيّ و أن يراد به الاستقبال فمن الأوّل( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) و من الثاني( إِلَّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) .

و فيه أنّ إلغاء خصوصيّة زمان الفعل من المضيّ و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقّق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإنّ في الماضي مثلا عناية بالتحقّق و إن كان ملغى الزمان فصحّة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محلّه بعد.

و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أنّ المراد بالأوصاف المتقدّمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكنّ الصبر لمّا كان ممّا يتوقّف على تحقّقه التلبّس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبّر بلفظ الماضي الدالّ على التحقّق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.

و فيه أنّ بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمّيّة عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الّذي اُريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبّر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.

و الّذي أحسب - والله أعلم - أنّ مجموع قوله تعالى:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرّمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيّئة بالحسنة الّذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431