الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85592 / تحميل: 6679
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

التمكّن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثمّ تعلّقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهنّ و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثمّ بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرّيّة معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبّب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوّأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع.

و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ ) المؤمن: ٧٤ و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) الرعد: ١٧ أي إنّ إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو اُنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

و قوله:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) بيان لغاية التمكين المذكور و اللّام للغاية، و هو معطوف على مقدّر و التقدير: مكّنّا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلّمه من تأويل الأحاديث و إنّما حذف المعطوف عليه للدلالة على أنّ هناك غايات اُخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥ و نظائره.

و قوله:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) يونس: ٣، و إنّما اُضيف إليه تعالى لأنّه مالك كلّ أمر كما قال تعالى:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤.

و المعنى أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣.

١٢١

و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعّالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلّا السمع و الطاعة و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أنّ الأسباب الظاهرة مستقلّة في تأثيرها فعّاله برؤسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحوّلها عن وجهتها شي‏ء و قد أخطاؤا.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين (عليه السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلمّا فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمّى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلّا أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كلّ من يسأل مستحقّا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه و نردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم.

إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به و يأكل هو و عياله منه، و إنّ سائلا مؤمنا صوّاما محقّا له عند الله منزلة - و كان مجتازا غريبا - اعترّ على باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقّه و لم يصدّقوا قوله.

فلمّا أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم.

قال: فأوحى الله عزّوجلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلّة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إنّ أحبّ أنبيائي إليّ و أكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي و قرّبهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ.

١٢٢

يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته- القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا اعترّ ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً فاسترجع و استعبر و شكى ما به إليّ، و بات جائعاً و طاوياً حامداً و أصبح لي صائماً و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم.

أو ما علمت يا يعقوب أنّ العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر منّي لأوليائي و استدراج منّي لأعدائي. أما و عزّتي لاُنزلنّ بك بلواي، و لأجعلنّك و ولدك غرضا لمصابي، و لاُؤدّبنّك بعقوبتي فاستعدّوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب.

فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة الّتي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلمّا رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصّها على أبيه يعقوب فاغتمّ يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتمّا فأوحى الله إليه أن استعدّ للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّي أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصّها على إخوته.

قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): إنّ أوّل بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لمّا سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدّت رقّة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء إنّما هو في يوسف خاصّة فاشتدّت رقّته عليه من بين ولده.

فلمّا رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إيّاه، و إيثاره إيّاه عليهم اشتدّ ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتؤامروا فيما بينهم و( قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) أي تتوبون.

فعند ذلك( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) فقال

١٢٣

يعقوب( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) فانتزعه مقدّرا حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عزّوجلّ على يعقوب من يوسف خاصّة لموقعه في قلبه و حبّه له.

قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقّع البلوى من الله في يوسف.

فلمّا خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمّه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلمّا أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) و لكن( أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

فانطلقوا به إلى الجبّ فألقوه فيه و هم يظنّون أنّه يغرق فيه فلمّا صار في قعر الجبّ ناداهم: يا ولد رومين أقرؤا يعقوب السلام منّي فلمّا رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتّى تعلموا أنّه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتّى أيسوا (و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب).

فلمّا سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب- من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة.

قال أبو حمزة: ثمّ انقطع حديث عليّ بن الحسين (عليه السلام) عند هذا.

قال أبو حمزة: فلمّا كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنّك حدّثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده ثمّ قطعته فيما كان من قصّة إخوة يوسف و قصّة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنّهم لمّا أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتّى ننظر ما حال يوسف؟ أمات أم هو حيّ؟.

١٢٤

فلمّا انتهوا إلى الجبّ وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلّق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلمّا أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منّا أمس في هذا الجبّ و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحّوا به ناحية فقالوا له: إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبد لن فنبيعك بعض السيّارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا به إلى السيّارة فقالوا: منكم من يشتري منّا هذا العبد؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهم و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الّذي اشتراه من البدو حتّى أدخله مصر فباعه الّذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عزّوجلّ:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) .

قال أبو حمزة: فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما. الحديث.

أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربّما لم تلائم ظاهر ما تقدّم من بيان الآيات لكنّها ترتفع بأدنى تأمّل.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ عن ابن عمر أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبّؤ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليه السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت (ينكت ظ) في قلبه و يوقر في أذنه.

و فيه، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّما ابتلي يعقوب

١٢٥

بيوسف أنّه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم( بقوم ) محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كلّ صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.

و في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: لا يشعرون أنّك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك.

و فيه، و في رواية أبي الجارود في قول الله:( وَ جاؤُ عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) قال: إنّهم ذبحوا جديا على قميصه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده في قوله عزّوجلّ:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) قال: بلا شكوى.

أقول: و كان الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن حيّان بن جبلة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و في المضامين السابقة روايات اُخر.

١٢٦

( سورة يوسف الآيات ٢٢ - ٣٤)

وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( ٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَفْسِهِ وَغَلّقَتِ الْأَبَوْابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ( ٢٣) وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَأى‏ بُرْهَانَ رَبّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( ٢٦) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ( ٢٧) فَلَمّا رَأى‏ قَمِيصَهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ( ٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ( ٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ظَلالٍ مُبِينٍ( ٣٠) فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا هذَا بَشَراً

١٢٧

إِنْ هذَا إِلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ( ٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلَ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصّاغِرِينَ( ٣٢) قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلّا تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ( ٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٤)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّته (عليه السلام) أيّام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحبّ امرأة العزيز له و مراودتها إيّاه عن نفسه، و مني بتعلّق نساء المدينة به و مراودتهنّ إيّاه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفّة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من تولّهه في محبّة ربّه ما هو أعجب.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ به قوى بدنه و تتقوّى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سنّ الكهولة الّتي عندها يكمل العقل و يتمّ الرشد.

و الظاهر أنّ المراد به الانتهاء إلى أوّل سنّ الشباب دون التوسّط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام):( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْما ) القصص: ١٤ حيث دلّ على التوسّط فيه بقوله:( اسْتَوى) ، و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ

١٢٨

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) الآية: الأحقاف: ١٥ فلو كان بلوغ الأشدّ هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله:( بَلَغَ ) .

فلا مجال لما ذكره بعضهم: أنّ المراد ببلوغ الأشدّ بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون: إنّ المراد به بلوغ الأربعين و هو سنّ الأربعين. على أنّ من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتّى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلّقت به و راودته عن نفسه.

و قوله:( آتَيْناهُ حُكْما ) الحكم هو القول الفصل و إزالة الشكّ و الريب من الاُمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصّل من اللّغة - و لازمه إصابة النظر في عامّة المعارف الإنسانيّة الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانيّة و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشريّ.

و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) الآية ٤٠ من السورة، و قوله بعد:( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) الآية ٤١ من السورة يعلم أنّ هذا الحكم الّذي اُوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الّذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربّه إذ قال:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الشعراء: ٨٣.

و قوله:( وَ عِلْما ) و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أيّ مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أنّ الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفسانيّ و لا تسويل شيطانيّ كيف؟ و الّذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) الآية ٢١ من السورة، و قال:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشكّ، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا ألبتّة.

ثمّ من المعلوم أنّ هذه المواهب الإلهيّة ليست بأعمال جزافيّة و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس الّتي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة

١٢٩

في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدا ) الأعراف: ٥٨ و إلى ذلك الإشارة بقوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) حيث يدلّ على أنّ هذا الحكم و العلم اللّذين آتاهما الله إيّاه لم يكونا موهبتين ابتدائيّتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أنّ الله تعالى يجزي كلّ محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئاً من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨ و قال تعالى:( أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢.

و هذا العلم المذكور في الآية يتضمّن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنّه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن:( ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) قال في المفردات: الرود هو التردّد في طلب الشي‏ء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شي‏ء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى:( هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ) و قال:( تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ) أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله:( وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) ( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) انتهى.

و في المجمع: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنّه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب

١٣٠

المرعى، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنّما شدّد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.

و هيت لك اسم فعل بمعنى هلمّ، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

و الآية الكريمة( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) على ما فيها من الإيجاز تنبئ عن إجمال قصّة المراودة غير أنّ التدبّر في القيود المأخوذة فيها و السياق الّذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصّته الموردة في السورة يجلّي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبأ من الأمر.

يوسف:

هو ذا طفل صغير حوّلته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعلّه لم يسأل إلّا عن اسمه، و لم يتكلّم إلّا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلّا أنّه كان قد نشأ بين العبريّين، و لم يسأل عن بيته و نسبه فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقّاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلّم بشي‏ء و كم من حديث بين جوانحه فلم يعرّف نسبه إلّا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن( وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و لا كشف عمّا في سرّه من توحيد العبوديّة لله بين اُولئك الوثنيّين إلّا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) إلخ.

هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكنّ قلبه ملي‏ء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبيّ من حقيقة التوحيد و معنى العبوديّة ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنّه تحت الولاية الإلهيّة و التربية الربوبيّة معني بأمره و سينبّؤا إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون.

فكان (عليه السلام) مملوء الحسّ مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربّه الخفيّة يرى

١٣١

نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلّا على خير و لا يواجه إلّا جميلا.

و هذا هو الّذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضلّ الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرّفهم نفسه بقوله:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية ٩٠ من السورة.

فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربّه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كلّ يوم حبّا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أنّ ربّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و هو على كلّ شي‏ء شهيد حتّى تمكّنت المحبّة الإلهيّة منه و استقرّ الوله و الهيمان في سرّه فكان همّه في ربّه لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبّر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) و قوله:( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) و قوله:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) و غير ذلك كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلّا محبّة إلهيّة أنسته نفسه و شغلته عن كلّ شي‏ء، و صورة معناها أنّها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.

و لم يظهر للعزيز منه أوّل يوم إذ حلّ في بيته إلّا أنّه غلام صغير عبريّ مملوك له غير أنّ قوله لامرأته:( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) يكشف أنّه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرّس فيه عظمة و كبرياء نفسانيّة أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبنّي على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن.

امرأة العزيز:

امرأة العزيز و هي عزيزة مصر، وصّاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أنّ له فيه إربة و اُمنيّة فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتمّ بأمره لا كما يهتمّ في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة

١٣٢

كبد و تحبّه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلّما مضت الأيّام حبّا إلى حبّ حتّى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذلّ على ما لها من مناعة الملك و العزّة و عصمة العفّة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرّها الآخذ بمجامع قلبها.

و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا تردّ عزيمتها و كانت فيما تزعم سيّدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلّا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزّة أن تحتال لشتّى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإنّ عامّة الأسباب و إن عزّت و امتنعت ميسّرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإنّ حريم الملوك لا تدخلها كلّ شوهاء دميمة و لا تحلّ بها إلّا غوان ذوات حسن فتّانات.

و العادة تحكم أنّ هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرّها كلّ لهيب، و أجّجت كلّ نار حتّى استغرقت في حبّ يوسف و تولّهت في غرامة و اشتغلت به عن كلّ شي‏ء، و قد أحاط بقلبها من كلّ جانب، هو أوّل منطقها إذا تكلّمت و في ضميرها إذا سكتت فلا همّ لها إلّا يوسف و لا بغية لها إلّا فيه( قَدْ شَغَفَها حُبًّا ) و ليوسف الجمال الّذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محبّ واله و أدام النظر إليه مهيّم ذو غرام.

يوسف و امرأة العزيز:

لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنّيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفّع ذلك بما لربّات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، و لعلّ الّذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرّها فيما ترومه و يغريها عليه.

حتّى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلّقت الأبواب فلم يبق فيه إلّا هي و يوسف. و هي لا تشكّ أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أنّ

١٣٣

الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه.

فتى واله في حبّه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أمّا هي فمشغوفة بحبّ يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسّل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزّة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر( هَيْتَ لَكَ ) لتقهره على ما تريده منه.

و أمّا هو فقد استغرق في حبّ ربّه و أخلص و صفّي ذلك نفسه فلم يترك لشي‏ء في قلبه محلّا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربّه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونيّة على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجّح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنّها تتوسّل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها:( هَيْتَ لَكَ ) و أمّا هو فقد قابلها بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إنّي أخاف العزيز أو لا أخونه أو إنّي من بيت النبوّة و الطهارة أو إنّ عفّتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إنّي أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلّقا بشي‏ء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجاة الشدّة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.

بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربّه و لا تعدّى بصره إيّاه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الّذي هدته إليه المحبّة الإلهيّة و أولهه في ربّه فأنساه الأسباب كلّها حتّى أنساه نفسه فلم يقل: إنّي أعوذ منك بالله أو ما يؤدّي معناه، و إنّما قال:( مَعاذَ اللَّهِ ) و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لمّا تمثّل لها بشرا سويّا:( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) : مريم: ١٨.

و أمّا قوله لها ثانياً:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) فإنّه يوضح كلمة التوحيد الّذي أفاده بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) و يجلّيه، يقول: إنّ الّذي اُشاهده أنّ إكرامك مثواي عن قول العزيز لك:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) فعل من ربّي

١٣٤

و إحسان منه إليّ فربّي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الّذي يجب عليّ أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنّما أعوذ به لأنّ إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.

فقد أفاد (عليه السلام) بقوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) أوّلا: أنّه موحّد لا يرى شرك الوثنيّة فليس ممّن يتّخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنيّة يتّخذون مع الله أربابا اُخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأنّ الله هو ربّه لا ربّ سواه.

و ثانياً: أنّه ليس ممّن يوحّد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثّر ما تؤثّر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلاً جميلاً لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنّها هي الّتي أكرمت مثواه عن وصيّة العزيز و أنّها و بعلها ربّان له يتولّيان أمره يرى هو أنّ الله سبحانه هو الّذي أحسن مثواه و أنّه ربّه الّذي يتولّى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.

و ثالثاً: أنّه إنّما تعوّذ بالله ممّا تدعوه إليه لأنّه ظلم لا يفلح المتلبّس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكّن في حضرة الأمن عند ربّه كما قال تعالى حكاية عن جدّه إبراهيم (عليه السلام):( الّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام ٨٢.

و رابعاً: أنّه مربوب - أي مملوك مدبّر - لله سبحانه ليس له من الأمر شي‏ء، و لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً إلّا ما شاء الله له أو أحبّ أن يأتي به و لذلك لم يردّ ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذراً من دعوى الحول و القوّة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللّهمّ إلّا ما في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) حيث أشار فيه إلى نفسه مرّتين و ليس فيه إلّا تثبيت المربوبيّة و تأكيد الذلّة و الحاجة، و لهذه العلّة بعينها بدّل الإكرام إحساناً فأتى حذاء قول العزيز:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) بقوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) لما في

١٣٥

الإكرام من الإشعار باحترام الشخصيّة و تعظيمها.

و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعاً بين حبّ و هيمان إلهيّ و عشق و غرام حيوانيّ يتشاجران في يوسف كلّ منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهيّة و دافعت عنه المحبّة الإلهيّة و الله غالب على أمره.

فقوله تعالى:( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ) يدلّ على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أنّ الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أنّ الأمر كان عليه شديداً، و كذا قوله:( وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) حيث عبّر بالتغليق و هو يدلّ على المبالغة و علّق الغلق بالأبواب و هو جمع محلّى باللّام و كذا قوله:( وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ ) حيث عبّر بالأمر المولويّ الدالّ على إعمال المولويّة و السيادة مع إشعاره بأنّها هيّأت له من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلّا مجرّد إقبال من يوسف و لا بين يوسف على ما هيّأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شي‏ء حائل غير أنّ الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزّة جميعا.

و قوله:( قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: أعوذ بالله معاذا ممّا تدعينني إليه لأنّه ربّي الّذي تولّى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغرّبت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته.

و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبوديّة كلّه كما تقدّم و قد أتى أوّلا بلفظة( الجلالة ) ثمّ بصفة الربوبيّة ليدلّ به على أنّه لا يعبد ربّا غير الله ملّة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و احتمل عدّة من المفسّرين أن يكون الضمير في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) للشأن، و المراد أنّ ربّي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيّارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك

١٣٦

على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه.

و نظير الوجه قول بعضهم: إنّ الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إنّ و خبرها قوله:( رَبِّي ) ، و قوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) ، خبر بعد خبر.

و فيه أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنّه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) الآية ٥٢ من السورة و لم يقل: إنّي لم أظلمه بالغيب.

على أنّه (عليه السلام) لم يكن ليعدّ العزيز ربّا لنفسه، و هو حرّ غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) الآية ٤٢ من السورة، و قال لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية ٥١ من السورة و لم يعبّر عن الملك بلفظ ربّي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضاً لرسول الملك:( فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) حيث يأخذ الله سبحانه ربّا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربّا للرسول.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضاً قوله في الآية التالية:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) التدبّر البالغ في أطراف القصّة و إمعان النظر فيما تحتفّ به من الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أنّ نجاة يوسف منها لم تكن إلّا أمراً خارقاً للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابّا بالغاً أشدّه و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هني‏ء العيش محبوراً بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوّس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك

١٣٧

و العظماء.

و كانت لا محالة متزيّنة بما يأخذ بمجامع كلّ قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كلّه ممّا يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرّضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرّض أصعب، و قد راودته هذه الفتّانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحّت عليه فجذبته إلى نفسها حتّى قدّت قميصه و الصبر معها أصعب و أشقّ، و كانت عزيزة لا يردّ أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربّته خصّه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة الّتي تبهر العيون و تدعو إلى كلّ عيش هنيي‏ء.

و كانا في خلوة و قد غلّقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشرّ مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرّة بل كان مفتاحا لعيش هنيي‏ء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسّل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيّها كالملك و العزّة و المال.

فهذه أسباب و اُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها و لم يكن هناك ممّا يتوهّم مانعاً إلّا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز:

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أمن منه. و لو كان بدأ من ذلك شي‏ء لكان في وسع العزيزة أن تؤوّله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتّى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشي‏ء و قلبت العقوبة ليوسف حتّى سجن.

و أمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا و أشدّ إثما فإنّهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم. شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله و يلقوه في غيابة الجبّ و يبيعوه من السيّارة بيع

١٣٨

العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبيّ (عليه السلام) فبكى حتّى ابيضّت عيناه.

و أمّا قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعيّة و القوانين الاجتماعيّة إنّما تؤثّر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية و الحكومة العادلة، و أمّا لو أغفلت القوّة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي‏ء من هذه القوانين كما سنتكلّم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القويّة الّتي كانت لها عليه إلّا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله. و إن شئت فقل المحبّة الإلهيّة الّتي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلّا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبّر في القصّة. و لنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) لا ريب أنّ الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أنّ المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه ممّا اُريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أنّ المشار إليه بقوله:( كَذلِكَ ) هو ما يشتمل عليه قوله:( أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

فيؤل معنى قوله:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ ) إلى آخر الآية إلى أنّه (عليه السلام) لمّا كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربّه فرؤية برهان ربّه هي السبب الّذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام).

و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدّر لقوله:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون( لَوْ لا أَنْ رَأى) إلخ قيداً لقوله:( وَ هَمَّ بِها ) و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمّه بها نظير همّها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همّه بها داخلاً تحت الشرط، و المعنى أنّه لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يرتكب فإنّ( لَوْ لا ) و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدّم جزائها عليها قياسا على إن الشرطيّة إلّا أنّ قوله:

١٣٩

( وَ هَمَّ بِها ) ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنّه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه.

و معنى الآية: و الله لقد همّت به و الله لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يقع في المعصية، و إنّما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأنّ الهمّ - كما قيل - لا يستعمل إلّا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى:( وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) التوبة: ٧٤، و قوله:( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) آل عمران: ١٢٢، و قول صخر:

أهمّ بأمر الحزم لا أستطيعه

و قد حيل بين العير و النزوان

فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهمّ و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله:( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ) و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبّر فيه.

و من هنا يظهر أنّ الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهمّ بها و الميل إليها كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لو لا ما أراه الله من البرهان لهمّ و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الّذي يؤيّده ما قدّمناه من الاعتبار و التأمّل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) اللّام فيه للقسم، و المعنى و اُقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهمّ إلّا بأن تشفع الإرادة بشي‏ء من العمل.

و قوله:( وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى و اُقسم لو لا رؤيته برهان ربّه لهمّ بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه.

و البرهان هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلّطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى:( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ ) القصص:

١٤٠

٣٢، و قال: [يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ] النساء: ١٧٤، و قال: [أَ إِلهٌ مَعَ الله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ] النمل: ٦٤ و هو الحجّة اليقينيّة الّتي تجلّي الحقّ و لا تدع ريباً لمرتاب.

و الّذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربّه و إن لم يوضحه كلامه تعالى كلّ الإيضاح لكنّه - على أيّ حال - كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل و الضلال بتاتاً، و يدلّ على أنّه كان من قبيل العلم قول يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربّه كما سيأتي: [وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ] الآية ٣٣ من السورة، و يدلّ على أنّه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال و قبحها و مصلحتها و مفسدتها أنّ هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال و المعصية و هو ظاهر. قال تعالى: [أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ ] الجاثية: ٢٣ و قال: [وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ] النمل: ١٤.

فالبرهان الّذي أراه به و هو الّذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف و اليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانيّة طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، و سنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

و قوله: [كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ] اللّام في [لِنَصْرِفَ ] للغاية أو التعليل و المآل واحد و [كَذلِكَ ] متعلّق بقوله [لِنَصْرِفَ ] و الإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربّه، و السوء هو الّذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد و هو مطلق المعصية أو الهمّ بها، و الفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، و قد تقدّم أنّ ظاهر السياق انطباق السوء و الفحشاء على الزنا و الهمّ به.

و المعنى: الغاية - أو السبب - في أن رءا برهان ربّه هي أن نصرف عنه الفحشاء و الهمّ بها.

و من لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: [لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ] حيث اُخذ السوء و الفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، و هو ينافي شهادته

١٤١

تعالى بأنّه من عباده المخلصين و هم الّذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شي‏ء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع يدعو من دون الله سبحانه.

و قوله: [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ] في مقام التعليل لقوله: [كَذلِكَ لِنَصْرِفَ ] إلخ و المعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنّه من عبادنا المخلصين، و هم يعاملون هذه المعاملة.

و يظهر من الآية أنّ من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربّهم، و أنّ الله سبحانه يصرف كلّ سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصية و لا يهمّون بها بما يريهم الله من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهيّة.

و يظهر أيضاً أنّ هذا البرهان سبب علميّ يقينيّ لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.

و للمفسّرين من العامّة و الخاصّة في تفسير الآية أقوال مختلفة:

١- منها: ما ذكره بعضهم و نسب إلى ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و عكرمة و الحسن و غيرهم: أنّ المعنى أنّها همّت بالفاحشة و أنّه همّ بمثله، لو لا أن رآي برهان ربّه لفعل.

و قد وصفوا همّه (عليه السلام) بما يجلّ عنه مقام النبوّة و يتنزّه عنه ساحة الصدّيق فذكروا أنّه قصدها بالفاحشة و دنا منها حتّى حلّ السراويل و جلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربّه أبطل الشهوة و نجّاة من الهلكة، و ذكروا في وصف هذا البرهان اُموراً كثيرة مختلفة.

قال الغزاليّ في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إنّ طائرا وقع على كتفه فقال في اُذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء. و قيل: إنّه رأى يعقوب عاضّا على أصبعه، و هو يقول: يا يوسف أما تراني؟ و قال الحسن البصريّ: رآها و هي تغطيّ شيئاً فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: اُغطّي وجه صنمي لئلّا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الّذي لا يعقل و لا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممّن يراني و يعلم سرّي و علانيتي.

١٤٢

قال أرباب اللسان: إنّه نودي في سرّه يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، و تريد أن تفعل فعل السفهاء. و قيل: رأى كفّا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: و لا تقربوا الزنا إنّه كان فاحشة و ساء سبيلا. و قيل: انفرج سقف البيت فرآى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنّك معصوم. و قيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: و من يعمل سوءاً يجز به. و قيل: أتاه ملك و مسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه. و قيل: رأى الملك في البيت و هو يقول: أ لست هاهنا؟ و قيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه. و قيل: رأى جارية من جواري الجنّة فتحيّر من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني.

و قيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنّها لك حلال و لك خلقت. و قيل: رأى ذلك الجب الّذي كان بحذائه و عليه ملك قائم يقول: يا يوسف أنسيت هذا الجبّ. و قيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها. و قيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غداً فهرب منه. انتهى.

و ممّا قيل فيه أنّه تمثّل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدرّ المنثور، عن مجاهد و عكرمة و ابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة الّتي أوردها في التفسير بالمأثور.

و الجواب عنه مضافا إلى أنّه (عليه السلام) كان نبيّا ذا عصمة إلهيّة تحفظه من المعصية، و قد تقدّم إثبات ذلك، أنّ الّذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته و إخلاص عبوديّته لا يبقى شكّا في أنّه أطهر ساحة و أرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد ذكر تعالى أنّه من عباده الّذين أخلصهم لنفسه و اجتباهم لعبوديّته و آتاهم حكما و علما، و علّمه من تأويل الأحاديث، و أنّه كان عبداً متقيّاً صبوراً في الله غير خائن و لا ظالم و لا جاهل، و كان من المحسنين و قد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

١٤٣

و كيف يستقيم هذه المقامات العالية و الدرجات الرفيعة إلّا لإنسان طاهر في وجدانه منزّه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.

و أمّا من ذهب لوجهه في معصية الله و همّ بما هو من أفحش الإثم في دين الله و هو زنا ذات البعل و خيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه و أصرّ عليه حتّى حلّ التكّة و جلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، و ازدجر بنداء بعد نداء من كلّ جانب فلم يستحي و لم يكفّ حتّى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رؤس أصابعه، و شاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه و هرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمّى إنساناً فضلاً أن يتّكئ على أريكة النبوّة و الرسالة، و يأتمنه الله على وحيه، و يسلّم إليه مفاتيح دينه، و يؤتيه حكمه و علمه و يلحقه بمثل إبراهيم الخليل.

لكنّ هؤلاء المتعلّقين بهذه الأقاويل المختلفة و الإسرائيليّات و الآثار الموضوعة إذ يتّهمون جدّه إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتّهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره.

قال في الكشّاف: و قد فسّر همّ يوسف بأنّه حلّ الهميان و جلس منها مجلس المجامع، و بأنّه حلّ تكّة سراويله و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها و فسّر البرهان بأنّه سمع صوتا: إيّاك و إيّاها فلم يكترث له فسمعه ثانياً فلم يعمل به فسمع ثالثاً: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتّى مثّل له يعقوب عاضّا على أنملته، و قيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

و قيل: كلّ ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف فإنّه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، و قيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلمّا زنا قعد لا ريش له، و قيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم مكتوب فيها: [وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ ] فلم ينصرف ثمّ رأى فيها: [وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ] فلم ينته ثم رأى فيها: [وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ] فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل

١٤٤

أن يصيب الخطيئة فانحطّ جبريل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟.

و قيل: رأى تمثال العزيز، و قيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته و قالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممّن لا يسمع و لا يبصر و لا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟.

و هذا و نحوه ممّا يورده أهل الحشو و الجبر الّذين دينهم بهت الله تعالى و أنبيائه، و أهل العدل و التوحيد ليسوا من مقالاتهم و رواياتهم بحمد الله بسبيل.

و لو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلّة لنعيت عليه و ذكرت توبته و استغفاره كما نعيت على آدم زلّته، و على داود و على نوح و على أيّوب و على ذي النون و ذكرت توبتهم و استغفارهم كيف و قد اُثنى عليه و سمّي مخلصا؟.

فعلم بالقطع أنّه ثبت في ذلك المقام الدحض و أنّه جاهد نفسه مجاهدة اُولي القوّة و العزم ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح حتّى استحقّ من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأوّلين ثمّ في القرآن الّذي هو حجّة على سائر كتبه و مصدّق لها، و لم يقتصر إلّا على استيفاء قصّته، و ضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم (عليه السلام). و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفّة و طيب الإزار و التثبت في مواقع العثار.

فأخزى الله اُولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة الّتي هي أحسن القصص في القرآن العربيّ المبين ليقتدى بنبيّ من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية و في حلّ تكّته للوقوع عليها، و في أن ينهاه ربّه ثلاث كرّات، و يصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن و بالتوبيخ العظيم و بالوعيد الشديد و بالتشبيه بالطائر الّذي سقط ريشه حين سفد غير اُنثاه و هو جاثم في مربضه لا يتحلحل و لا ينتهي و لا يتنبّه حتّى يتداركه الله بجبريل و بإجباره، و لو أنّ أوقح الزناة و أشطرهم و أحدّهم حدقة أجلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به ممّا ذكروا لما بقي له عرق ينبض و لا عضو يتحرّك فيا له من مذهب ما أفحشه و من ضلال ما

١٤٥

أبينه. انتهى.

و ما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذمّ أصحاب هذا القول إنّهم يتّهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة و قد شهد ببراءته و طهارته كلّ من لها تعلّق مّا بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول: [إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ] و الشاهد الّذي شهد له من أهلها إذ قال: [إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ] إلى آخر الآيتين، و العزيز إذ قال لامرأته. [إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ] و امرأة العزيز إذ قالت: [الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ] و النسوة إذ قلن: [حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ] و يوسف ينفي ذلك عن نفسه و قد سمّاه الله صدّيقا إذ قال: [أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ].

و عمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران:

أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار و قبول الحديث كيفما كان و إن خالف صريح العقل و محكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، و أنستهم كلّ حقّ و حقيقة و صرفتهم عن المعارف الحقيقيّة.

و لذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحسّ، و لا للمقامات المعنويّة الإنسانيّة كالنبوّة و الولاية و العصمة و الإخلاص أصلا إلّا الوضع و الاعتبار نظائر المقامات الوهميّة الاعتباريّة الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباريّ الّتي ليست لها وراء التسمية و المواضعة حقيقة تتّكئ عليها و تطمئنّ إليها.

فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامّيّة الّتي تتقلّب بين الأهواء و بلغت بها الجهالة و الخساسة فإن ارتقت فإنّما ترتقي إلى منزلة التقوى و رجاء الثواب و خوف العقاب تصيب كثيرا و تخطئ و إن لحقت بها عصمة إلهيّة في مورد أو موارد فإنّما هي قوّة حاجزة بين الإنسان و المعصية لا تعمل عملها إلّا بإبطال سائر الأسباب و القوى الّتي جهز بها الإنسان و إلجاء الإنسان و اضطراره إلى فعل الجميل و اقتراف الحسنة، و لا جمال لفعل و لا حسن لعمل و لا مدح لإنسان مع الإلجاء و الاضطرار و للكلام تتمّة سنوردها في بحث يختصّ به.

١٤٦

الثاني: ظاهر قوله تعالى: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ] بناء على ما ذكره النحاة أنّ جزاء [لَوْ لا ] لا يتقدّم عليها قياسا على إن الشرطيّة، و على هذا يصير قوله: [وَ هَمَّ بِها ] جملة تامّة غير متعلّقه بالشرط، و جواب لو لا قولنا [ لفعل ] أو ما يشبه ذلك و التقدير: و لقد همّت امرأة العزيز بيوسف و همّ يوسف بها لو لا أن رآي برهان ربّه لفعل، و هو المطلوب.

و قد عرفت فساد ذلك و أنّ الجملتين معاً أعني قوله: [و لقد همّت به ] و قوله: [و همّ بها ] قسميّتان، و أنّ جزاء لو لا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، و الكلام على تقدير: و اُقسم لقد همّت به و اُقسم لو لا أن رآي برهان ربّه لهم بها نظير قولهم: و الله لأضربنّه إن ضربني.

على أنّ الّذي قدّروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال: [و لو لا أن رآي برهان ربّه ] بالوصل، و لا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجّه به الفصل.

٢- و من الأقوال في الآية أنّ المراد بهمّه (عليه السلام) ميل الطبع و انتزاع الغريزة قال في الكشّاف: فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه همّ بالمعصية و قصد إليها؟ قلت: المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة و نازعت إليها عن شهوة الشباب و قرمه ميلا يشبه الهمّ به و القصد إليه و كما تقتضيه صورة تلك الحال الّتي تكاد تذهب بالعقول و العزائم، و هو يكسر ما به و يردّه بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلّفين من وجوب اجتناب المحارم.

و لو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمّى همّا لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع لأنّ استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدّته، و لو كان همّه كهمّها عن عزيمة لما مدحه الله بأنّه من عباده المخلصين.

و يجوز أن يريد بقوله: [وَ هَمَّ بِها ] و شارف أن يهمّ بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل و مشافهته كأنّه شرع فيه.

ثمّ قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لو لا محذوفا يدلّ عليه [هَمَّ بِها ]؟ و هلّا جعلته هو الجواب مقدّما. قلت: لأنّ لو لا لا يتقدّم عليها جوابها من قبل أنّه

١٤٧

في حكم الشرط، و للشرط صدر الكلام و هو مع ما في حيّزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، و لا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، و أمّا حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز.

فإن قلت: فلم جعلت لو لا متعلّقة بهمّ بها وحده؟ و لم تجعلها متعلّقة بجملة قوله: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ] لأنّ الهم لا يتعلّق بالجواهر و لكن بالمعاني فلا بدّ من تقدير المخالطة و المخالطة لا تكون إلّا باثنين معاً فكأنّه قيل: و لقد همّا بالمخالطة لو لا أن منع مانع أحدهما.

قلت: نعم ما قلت و لكنّ الله سبحانه قد جاء بالهمّين على سبيل التفصيل حيث قال: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ] فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: و لقد همّت بمخالطته و همّ بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصّلها إلى ما هو حظّها من قضاء شهوتها منه، و توصّله إلى ما هو حظّه من قضاء شهوته منها لو لا أن رآي برهان ربّه فترك التوصّل إلى حظّه من الشهوة فلذلك كانت [لو لا ] حقيقة بأن تعلّق بهمّ بها وحده انتهى.

و لخّصه البيضاويّ في تفسيره، حيث قال: المراد بهمّه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة لا القصد الاختياريّ و ذلك ممّا لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح و الأجر الجزيل من الله من يكفّ نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ أو مشارفة الهمّ كقولك: قتلته لو لم أخف الله. انتهى.

و ردّ هذا القول بأنّه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهمّ و هو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدّماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه و أمّا مجرّد ميل الطبع و منازعة القوّة الشهوانيّة فليس يسمّى همّا ألبتّة و الهمّ بمعناه اللغويّ مذموم لا ينبغي صدوره من نبيّ كريم، و الطبع و إن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنّه لا يسمّى همّا.

أقول: هذا إنّما يصلح جوابا لقولهم: إنّ المراد بهمّه (عليه السلام) ميل الطبع و

١٤٨

منازعة الشهوة، و أمّا تجويزه أن يكون المراد بالهمّ الإشراف على الهمّ فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية و هو أن يفرّق بين الهمّين المذكورين فالمراد بهمّها القصد العمديّ إلى المخالطة و بهمّه إشرافه (عليه السلام) على الهمّ بها من دون تحقّق للهمّ بالفعل و القرينة عليه هو وصفه تعالى إيّاه بما فيه مدح بالغ، و لو كان همّه حقيقيّا بالقصد العمديّ إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلّق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أنّ المراد بهمّه (عليه السلام) إشرافه على الهمّ لا الهمّ بالفعل.

و الجواب: أنّه معنى مجازيّ لا يصار إليه إلّا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقيّ، و قد تقدّم أنّه بمكان من الإمكان.

على أنّ الّذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربّه و أنّ المراد بها الرجوع إلى الحجّة العقليّة القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعيّة و المحارم الإلهيّة معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلّا في الإبصار الحسّيّ أو المشاهدة القلبيّة الّتي هي بمنزلتها أو أظهر منها، و أمّا مجرّد التفكّر العقليّ فلا يسمّى رؤية ألبتّة.

٣- و من الأقوال في الآية: أنّ المراد بالهمّين مختلف فهمّها هو قصدها مخالطته و همّه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، و الدليل على التفرقة بين الهمّين شهادته تعالى على أنّه من عباده المخلصين و قيام الحجّة عقلا على عصمة الأنبياء (عليه السلام).

قال في مجمع البيان: إنّ الهمّ في ظاهر الآية قد تعلّق بما لا يصحّ تعلّق العزم به على الحقيقة لأنّه قال: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ] فعلّق الهمّ بهما و ذاتاهما لا يجوز أن يرادا و يعزم عليهما لأنّ الموجود الباقي لا يصحّ أن يراد و يعزم عليه فإذا حملنا الهمّ في الآية على العزم فلا بدّ من تقدير أمر محذوف يتعلّق العزم به. و قد أمكن أن نعلّق عزمه بغير القبيح، و نجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنّه قال: و لقد همّت بالفاحشة منه و أرادت ذلك و همّ يوسف بضربها و دفعها عن نفسه كما يقال: هممت بفلان أي بضربه و إيقاع مكروه به.

و على هذا فيكون معنى رؤية البرهان أنّ الله سبحانه أراه برهانا على أنّه

١٤٩

إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادّعت عليه المراودة على القبيح و قذفته بأنّه دعاها إليه و ضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنّه صرف عنه السوء و الفحشاء اللّذين هما القتل و ظنّ اقتراف الفاحشة به، و يكون التقدير: لو لا أن رآي برهان ربّه لفعل ذلك، و يكون جواب لو لا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: [وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ] انتهى موضع الحاجة.

و الجواب: أنّه قول لا بأس به لكنّه مبنيّ على التفرقة بين الهمّين و هو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد و قد عرفت إمكان ذلك.

على أنّ لازمه أن يكون المراد بالبرهان الّذي رآه ما يدلّ على أنّه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة اُخرى تصيبه و يكون المراد بالسوء و الفحشاء القتل و التهمة - كما أشار إليه في المجمع - و هذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.

و أمّا ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمّين معا، و محصّله أنّ الهمّ إنّما يتعلّق بمن لا ينقاد للعازم الهامّ فيما يريده، و إذا فرض تحقّق الهمّ من أحد الطرفين لم يصحّ تحقّقه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلّق الإرادة بالمريد و الطلب من الطالب و بعث من هو مبعوث بالفعل.

ففيه أنّه لا مانع من تحقّق الهمّ من الطرفين إذا فرض تحقّقهما دفعة واحدة من دون سبق و لحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب و الاجتماع فربّما يثبت أحدهما و يتحرّك إليه الآخر، و ربّما يتحرّكان و يقتربان و يتدلّيان معا و جسمين يريدان الانجذاب و الاتّصال فربّما يجذب أحدهما و ينجذب إليه الآخر و ربّما يتجاذبان و يتدانيان.

٤- و من الأقوال في الآية: أنّ المراد بالهمّ في الموردين معا الهمّ بالضرب و الدفاع فهي لمّا راودته و ردّها بالامتناع و الاستنكاف ثارت منها داعية الغضب و الانتقام و هاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط و الأسف فهمّت به لتضربه على تمرّده من امتثال ما أمرته به، و هو لمّا شاهد ذلك استعدّ للدفاع عن نفسه و ضربها

١٥٠

إن مسّتها بسوء غير أنّ ضربه إيّاها و مقاومته لدفعها لمّا كان ربّما يتّهمه في أنّه راودها عن نفسه و دعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك و ألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه و يخرج من عندها فعقّبته فاستبقا الباب.

و لا مساغ لحمل الهمّ على الهمّ بالمخالطة أمّا في قوله: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ] فلأنّ الهمّ لا يكون إلّا بفعل للهامّ، و الوقاع ليس من أفعال المرأة فتهمّ به، و إنّما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه. هذا أوّلا.

على أنّ يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمّى قبولها لطلبه و رضاها بتمكينه منه همّا لها فإنّ نصوص الآيات قبل هذه الآية و بعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله و مقدّماته أيضاً. و هذا ثانياً.

على أنّ ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: و لقد همّ بها و همّت به لأنّ الأوّل هو المقدّم في الطبع و الوضع و هو الهمّ الحقيقيّ، و الهمّ الثاني متوقّف عليه لا يتحقّق بدونه. و هذا ثالثاً.

على أنّه قد علم من القصّة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه و لا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصحّ أن يقال: إنّها همّت به مطلقا حتّى لو فرض جدلا أنّه كان قبولا لطلبه و مواتاة له إذ الهمّ مقاربة الفعل المتردّد فيه، و أمّا الهمّ بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصحّ ذلك فيه بأهون تقدير. و هذا رابعاً. انتهى ملخصا ممّا أورده صاحب المنار في تفسيره.

و الجواب: أنّه يشارك القول السابق في معنى همّه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، و أمّا ما يختصّ به أنّ المراد بهمّها به قصدها إيّاه بضرب و نحوه فممّا لا دليل عليه أصلا، و أمّا مجرّد اتّفاق ذلك في بعض نظائر القصّة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدلّ على ذلك.

و أمّا ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله: [وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ] الهمّ على

١٥١

المخالطة أو عدم صحّته فوجوه سخيفة جدّا فإنّ من المعلوم أنّ هذه المخالطة تتألّف عادة من حركات و سكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال و العمل دون القبول فلو همّت به بضمّ أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، و تلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صحّ أن يقال: إنّها همّت به أي بمخالطته و ليس من الواجب أن يفسّر همّها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتّى لا يصحّ به إطلاق الهمّ عليه.

و أمّا ما ذكره أخيراً أنّها كانت جازمة غير متردّدة فلا يصحّ أن يراد بهمّها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنّها إنّما كانت جازمة في إرادتها منه و عزيمتها عليه، و أمّا في تحقّق الفعل و وقوعه على ما قدّرته فلا كيف؟ و قد شاهدت من يوسف الامتناع و الإباء عن مراودتها، و إنّما همّت به لمّا قابلها بالاستنكاف و لا جزم لها مع ذلك بإجابته لها و مطاوعته لما أرادته منه و هو ظاهر.

٥- و من الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم و التأخير و يكون التقدير: و لقد همّت به و لو لا أن رآي برهان ربّه لهمّ بها، و لما رآي برهان ربّه لم يهمّ بها، و يجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لو لا أنّي تداركتك، و قد كنت قتلت لو لا أنّي خلّصتك، و المعنى: لو لا تداركي لهلكت - و لو لا تخليصي لقتلت و إن كان لم يقع هلاك و قتل، و مثله قول الشاعر:

فلا تدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم اُعجّل ضربة أو اُعجّل

و في القرآن الكريم: [إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى‏ قَلْبِها ] نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسّر.

و الجواب: أنّه إن كان المراد به ما ربّما يقوله المفسّرون: إنّ في القرآن تقديماً و تأخيراً فإنّما ذلك فيما يكون هناك جمل متعدّدة بعضها متقدّمة على بعضها بالطبع فاُهمل النظم و اكتفى بمجرّد العدّ من غير ترتيب لعناية تعلّقت به كما قيل في قوله تعالى: [وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ] هود: ٧١ إنّه من التقديم و التأخير، و أنّ التقدير: فبشّرناها فضحكت

١٥٢

و أمّا قوله: [وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ] فالمعنى يختلف فيه بالتقديم و التأخير فهو إذا قدّم كان همّا مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للو لا مقدّما عليها على ما ذكروه، و إذا اُخّر كان همّا مقيّداً بالشرط.

و إن كان المراد أنّه جواب للو لا مقدّم عليها فالنحاة لا يجوّزونه قياسا على إن الشرطيّة و يؤوّلون ما سمع من ذلك اللّهمّ إلّا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل على هذا القياس، و لا موجب لتأويل ما ورد في الكلام ممّا ظاهره ذلك.

٦- و من الأقوال في الآية: ما ذكروا أنّها أوّل ما همّت به في منامها و همّ بها لأنّه رآها في منامه فعند ذلك علم أنّها له فلذلك همّ بها. أورده الغزاليّ في تفسيره، قال: و هذا وجه حسن لأنّ الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي. انتهى.

و الجواب أنّه إن اُريد به أنّ قوله: [وَ هَمَّ بِها ] حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهو تحكّم لا دليل عليه من جهة اللفظ ألبتّة، و إن اُريد به أنّه (عليه السلام) رآها في المنام و همّ بها فيه، و اعتقد من هناك أنّها له و خاصّة بناء على أنّ رؤيا الأنبياء وحي، ثمّ همّ بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضيّ على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربّه يبيّن له أنّه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقّي الوحي، و ليس ذلك بأقلّ محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي.

على أنّ الآية السابقة - و قد عدّ فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه و استعاذ بالله منه - تناقض ذلك فكيف يزعم أنّها له و هو يعدّه ظلما و يستعيذ منه بالله سبحانه؟

فهذه عمدة الأقوال في الآية و هي مع ما قدّمناه أوّلا ترتقي إلى سبعة أو ثمانية، و قد علمت أنّ معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنّه سبب يقينيّ شاهده يوسف (عليه السلام)، و من قائل إنّه الآيات و الاُمور الّتي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، و من قائل إنّه العلم بحرمة الزنا و عذابه، و من قائل إنّه ملكة العفّة، و من قائل إنّه العصمة و الطهارة و قد عرفت ما هو الحقّ منها و سنعود إليه في كلام خاصّ به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.

١٥٣

قوله تعالى: [وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ] الاستباق هو التسابق و قد تقدّم، و القدّ القطّ هو الشقّ إلّا أنّ القدّ هو الشقّ طولا و القطّ هو الشقّ عرضا، و الدبر و القبل كالخلف و الأمام.

و السياق يعطي أنّ استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه و يتخلّص منها بالخروج من البيت، و امرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح و الخروج لعلّها تفوز بما تريده منه، و أنّ يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه من الوراء فقدّته و لم ينقدّ إلّا لأنّه كان في حال الهرب مبتعدا منها و إلّا لم ينشقّ طولا.

و قوله: [وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ] الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت و المراد بسيّدها زوجها. قيل: إنّه جري على عرف مصر و قد كانت النساء بمصر يلقّبن زوجهنّ بالسيّد، و هو مستمرّ إلى هذا الزمان.

قوله تعالى: [قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ] لمّا ألفيا سيّدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، و إنّما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب و حضورهما و الهيئة هذه الهيئة عنده، و يتكفّل ما جرى في هذا الموقف قوله: [وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ] إلى تمام خمس آيات.

فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه و تسأله أن يجازيه فذكرت أنّه أراد بها سوءاً و عليه أن يسجنه أو يعذّبه عذاباً أليما لكنّها لم تصرّح بذلك و لا بشي‏ء من أطراف الواقعة بل كنّت و أتت بحكم عامّ عقلائيّ يتضمّن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت: [ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ] فلم يصرّح باسم يوسف و هو المريد، و لا باسم نفسها و هي الأهل، و لا باسم السوء و هو الزنا بذات البعل كلّ ذلك تأدّبا في حضرة العزيز و تقديسا لساحته.

و لم يتعيّن الجزاء بل ردّدته بين السجن و العذاب الأليم لأنّ قلبها الواله إليه الملي‏ء بحبّه ما كان يساعدها على التعيين فإنّ في الإبهام نوعا من الفرج إلّا

١٥٤

أنّ في تعبيرها بقولها: [بِأَهْلِكَ ] نوعاً من التحريض عليه و تهييجه على مؤاخذته و لم يكن ذلك إلّا كيداً منها للعزيز بالتظاهر بالوجد و الأسى لئلّا يتفطّن بواقع الأمر فيؤاخذها أمّا إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإنّ صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.

قوله تعالى: [قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ] لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدباً مع العزيز و صوناً لها أن يرميها بالجرم لكن لمّا اتّهمته بقصدها بالسوء لم ير بدّا دون أن يصرّح بالحقّ فقال: [هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ] و في الكلام دلالة على القصر و هي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي الّتي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.

و في كلامه هذا - و هو خال عن أقسام التأكيد كالقسم و نحوه - دلالة على سكون نفسه (عليه السلام) و طمأنينته و أنّه لم يحتشم و لم يجزع و لم يتملّق حين دعوى براءته ممّا رمته به إذ كان لم يأت بسوء و لا يخافها و لا ما اتّهمته و قد استعاذ بربّه حين قال: [مَعاذَ الله ].

قوله تعالى: [وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ] إلى آخر الآيتين. لمّا كانت الشهادة في معنى القول كان قوله: [إِنْ كانَ قَمِيصُهُ ] إلخ بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله: [إِنْ كانَ قَمِيصُهُ ] إلخ، و قد قيل: إنّ هذا القول لما أدّى مؤدّى الشهادة عبّر عنه بلفظ الشهادة.

و قد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحلّ به العقدة و يتّضح طريق القضيّ فتكلّم فقال: [ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ] فإنّ من البيّن أنّ أحدهما صادق في دعواه و الآخر كاذب، و كون القدّ من قبل يدلّ على منازعتهما و مصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، [وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] فإنّ كون القدّ من دبر يدلّ على هربه منها و تعقيبها إيّاه و اجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها. و هو ظاهر.

١٥٥

و أمّا من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسّرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن و قتادة و عكرمة، و قيل: كان رجلا و هو ابن عمّ المرأة و كان جالسا مع زوجها لدى الباب، و قيل: لم يكن من الإنس و لا الجنّ بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، و ردّ بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: [من أهلها ].

و من طرق أهل البيت (عليه السلام) و بعض طرق أهل السنّة أنّه كان صبيّا في المهد من أهلها، و سيجي‏ء في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و الّذي ينبغي أن ينظر فيه أنّ الّذي أتى به هذا الشاهد بيان عقليّ و دليل فكريّ يؤدّي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، و مثل هذا لا يسمّى شهادة عرفا فإنّها هي البيان المتعمد على الحسّ أو ما في حكمه و بالجملة القول الّذي لا يعتمد على التفكير و التعقّل كما في قوله: [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ] حم السجدة: ٢٠، و قوله: [قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ] المنافقون: ١ فإنّ الحكم بصدق الرسالة و إن كان في نفسه مستنداً إلى التفكّر و التعقّل لكنّ المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحقّ المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكّر و تعقّل كما في موارد يعبّر عنه فيها بالقول و نحوه.

فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل [وَ شَهِدَ شاهِدٌ ] إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير تروّ و فكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكّر و تعقّل لا قولاً يعبّر به عرفا عن البيان الّذي يبتني على تروّ و تفكّر، و بهذا يتأيّد ما ورد من الرواية أنّه كان صبيّا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيّد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: [فَلَمَّا رَأى‏ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ] أي فلمّا رأى العزيز قميص يوسف و الحال أنّه مقدود مشقوق من خلف، قال إنّ الأمر من كيدكنّ معاشر النساء إنّ كيدكنّ عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

١٥٦

و نسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنّه إنّما صدر منها بما أنّها من النساء، و كيدهنّ معهود معروف، و لذا استعظمه و قال ثانياً: [إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ] و ذلك أنّ الرجال اُوتوا من الميل و الانجذاب إليهنّ ما ليس يخفى و اُوتين من أسباب الاستمالة و الجلب ما في وسعهنّ أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال و يسخّرن أرواحهم بجلوات فتّانة و أطوار سحّارة تسلب أحلامهم، و تصرفهم إلى إرادتهنّ من حيث لا يشعرون و هو الكيد و إرادة الإنسان بالسوء و مفاد الآية أنّ العزيز لمّا شاهد أنّ قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته.

قوله تعالى: [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ ] من مقول قول العزيز أي إنّه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر و أمر امرأته أن تستغفر لذنبها و من خطيئتها.

فقوله: [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ] يشير إلى ما وقع من الأمر و يعزم على يوسف أن يعرض عنه و يفرضه كأن لم يكن فلا يحدّث به و لا يذيعه، و لم يرد في كلامه تعالى ما يدلّ على أنّ يوسف (عليه السلام) حدّث به أحدا و هو الظنّ به (عليه السلام) كما نرى أنّه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتّى اتّهمته بسوء القصد فذكر الحقّ عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمرّ عهداً ليس بالقصير، و قد استولى عليها الوله و سلب منها الغرام كلّ حلم و حزم، و لم تكن المراودة مرّة أو مرّتين و الدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة: [امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا ].

و قوله: [وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ ] يقرّر لها الذنب و يأمرها أن تستغفر ربّها لذلك الذنب لأنّها كانت بذلك من أهل الخطيئة، و لذلك قيل: [مِنَ الْخاطِئِينَ ] و لم يقل من الخاطئات.

و هذا كلّه من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنّه قضاء و حكم و القضاء للعزيز لا للشاهد.

١٥٧

و من الخطأ قول بعضهم: إنّ معنى [وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ] سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى. بناء على أنّ الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز و كذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك و توبي إليه فإنّ الذنب كان منك لا من يوسف فإنّهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام. انتهى.

و ذلك أنّ الوثنيّين يقرّون بالله سبحانه في خالقيّته لكنّهم لا يعبدون إلّا الآلهة و الأرباب من دون الله سبحانه - و قد تقدّم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أنّ الآية لا تشتمل إلّا على قوله: [وَ اسْتَغْفِرِي ] من دون أن يذكر المتعلّق، و هو ربّها المعبود لها في مذهبها.

و ربّما قيل: إنّ الآية تدلّ على أنّ العزيز كان فاقداً للغيرة، و الحقّ أنّ الّذي تدلّ عليه أنّه كان شديد الحبّ لامرأته.

قوله تعالى: [وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ] قصّة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمّنها الآية إلى تمام ستّ آيات.

و الّذي يعطيه التدبّر فيها بما ينضمّ إليها من قرائن الأحوال و ما يستوجبه طبع القصّة أنّه لما كان من أمر يوسف و العزيزة ما كان، شاع الخبر في المدينة تدريجا، و صارت النساء و هنّ سيّدات المدينة يتحدّثن به في مجامعهنّ و محافلهم فيما بينهنّ و يعيّرن بذلك عزيزة مصر و يعبنها أنّها تولّهت إلى فتاها و افتتنت به و قد أحاط بها حبّا فظلّت تراوده عن نفسه، و ضلّت به ضلالا مبينا.

و كان ذلك مكراً منهنّ بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد و العجب فإنّ المرأة تغلبه العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة و ركوز لطف الخلقة و جمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة و الجمال متعلّقة الفؤاد برسوم الدلال، و يورث ذلك فيها و خاصّة في الفتيات إعجابا بالنفس و حسداً للغير.

و بالجملة كان تحديثهنّ بحديث الحبّ و المراودة مكراً منهنّ بالعزيزة - و فيه بعض السلوة لنفوسهنّ و الشفاء لغليل صدورهنّ - و لمّا يرين يوسف، و

١٥٨

لا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولّهها و هتك سترها و إنّما كنّ يتخيّلن شيئاً و يقايسن قياسا، و أين الرواية من الدراية و البيان من العيان.

و شاع التحديث به في المسامرات حتّي بلغ الخبر امرأة العزيز تلك الّتي لا همّ لها إلّا أن تفوز في طلب يوسف و بلوغ ما تريد منه و لا تعبؤ في حبّه بشي‏ء من الملك و العزّة إلّا لأن تتوصّل به إلى حبّه لها و ميله إليها و إنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها و علمت بمكرهنّ بها فأرسلت إليهنّ للحضور لديها و إنّهنّ سيّدات و نساء أشراف المدينة و أركان المملكة ممّن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.

فتهيّأن للحضور و تبرّزن بأحسن الجمال و أوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيّدات، و كلّ تتمنّى أن ترى يوسف و تشاهد ما عنده من الحسن الّذي أوقع على العزيزة ما أوقع و فضحها.

و العزيزة لا همّ لها يومئذ إلّا أن تريهنّ يوسف حتّى يعذرنه و يشتغلن عنها بأنفسهنّ فتتخلّص من لسانهنّ فتأمن مكرهنّ، و هي لا تعبؤ بافتتانهنّ بيوسف و لا تخاف عليه منهنّ لأنّها - على ما تزعم - مولاته و صاحبته و مالكة أمره، و هو فتاها المخصوص بها، و هي تعلم أنّ يوسف ليس بالّذي يرغب فيهنّ أو يصبو إليهنّ و هو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام و الاعتزاز عن هذه الأهواء و الأميال.

ثمّ لمّا حضرن عند العزيزة و أخذن مقاعدهنّ، و وقع الاُنس و جرت المحادثة و المفاوضة و أخذن في التفكّه آتت كلّ واحد منهنّ سكّينا و قد هيّأت لهنّ و قدّمت إليهنّ الفاكهة، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهنّ و قد كان مستورا عنهنّ.

فلمّا طلع يوسف عليهنّ و وقعت عليه أعينهنّ طارت عقولهنّ و طاحت أحلامهنّ و لم يدرين دون أن قطّعن أيديهنّ مكان الفاكهة الّتي فيها لما دخل عليهنّ من البهت و الذهول، و هذه خاصّة الوله و الفزع فإنّ نفس الإنسان إذا انجذبت

١٥٩

إلى شي‏ء ممّا تفرط في حبّه أو تخافه و تهوله اضطربت و بهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللّازم في تدبير القوى و الأعضاء و تنظيم الأمر، فربّما أقدم مسرعا إلى الخطر الّذي أدهشه لقاؤه و ربّما نسي الفرار فبقي كالجماد الّذي لا حراك به، و ربّما يفعل غير ما هو قاصده و فاعله اختباطا، و نظائرها في جانب الحبّ كثيرة و حكايات المغرمين و المتولّهين من العشّاق مشهورة.

و كان هذا هو الفرق بين العزيزة و بينهنّ فإنّ استغراقها في حبّ يوسف إنّما حصل لها تدريجا، و أمّا نساء المدينة فإنّهنّ فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهنّ غاشية الجمال، و غادرهنّ الحبّ ففضحهنّ و أطار عقلهنّ و أضلّ رأيهنّ فنسين الفاكهة و قطّعن أيديهنّ و تركن كلّ تجلّد و اصطبار، و أبدين ما في أنفسهنّ من وله الحبّ، و قلن: [حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ].

هذا و هنّ في بيت العزيز و هو بيت يجب فيه التحفّظ على كلّ أدب و وقار، و كان يجب أن يتّقينها و يحتشمن موقعها و هنّ شريفات ذوات جمال و ذوات بعولة و ذوات خدر و ستر و هذه كلّها جهات مانعة عن الخلاعة و التهتّك، و هنّ لم ينسين ما كنّ بالأمس يتحدّثن به و يلمن و يذممن امرأة العزيز في حبّها ليوسف و هما في بيت واحد منذ سنين.

فكان من الواجب على كلّ منهنّ أن تتّقي صواحبها فلا تتهتّك و هنّ يعلمن ما انجرّ إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر و فضاحة الشهرة هذا كلّه و يوسف واقف أمامهنّ يسمع قولهنّ و يشاهد صنعهنّ.

لكنّ الّذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدّرنه من قبل في أنفسهنّ و بدّل مجلس الأدب و الاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا، و لا يبالي حضّارها ما قيل أو يقال فيهم و لم يلبثن دون أن قلن: [حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ] و قد قلن غير بعيد: [امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ].

و كلامهنّ هذا بعد قولهنّ ذاك إعذار منهنّ فمفاده أنّ الّذي كنّا نقوله

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431