الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81267 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بدرجة يطيعون اوامره وينفذون وصاياه الىٰ هذا الحدّ !

فأنظر ـ والكلام لابن سينا ـ الفارق الىٰ ايّ مستوىٰ ! اجل يا بهمنيار ، فلا يمكن الادعاء بما للعظماء كذباً.

الاصدقاء جميعهم : الحقيقة عين ما اشرت إليه.

السبب الحقيقي لنفوذ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله

العقيد : اصدقائي ارجو ان لا تستعجلوا الحكم ، مع ان كلام الشيخ لا يمكن انكاره الى حدّ ما ، فنفوذ الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس عادياً ، لكني اتصور ان جزءاً من نفوذ قدرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الذين عاصروا ذلك العظيم هي الاعمال التي كانوا يرونها منه والتي كانوا يتصورونها معاجز ، في حين ان المعجزة والامر الذي ليس له اسباب وعلل طبيعية وعادية ، مشكوك فيه في عالمنا المعاصر ، والجزء الآخر من نفوذه والذي يرتبط بعصرنا فهو محصور بين المسلمين غير العلماء ، وطبيعي فالنفوذ الىٰ قلوب مثل هذه النماذج من الناس ليس امراً عجيباً أو صعباً.

طالب الطب ، حسن : انا اوافق سيادة العقيد في هذا الرأي.

الشيخ : اشكركم أيُّها السادة ، علىٰ طرحكم ما ترونه موضع اشكال بحرية تامة ودون مجاملات ، وهدفنا من طرح هذه المواضيع هو دراسة الاشكالات التي يراها الاصدقاء في مواجهة الدين الاسلامي المقدس ، والاجابة عليها.

٨١

الاصدقاء جميعهم : نحن مسرورون لهذا اللقاء ، وهذا اليوم الذي تعرّفنا فيه عليك لهو من اجمل ايام حياتنا ، فكلامك جميل ، واجوبتك وافية ، كما ان سفرنا يمضي بسرور ونحن مستفيدون من وقتنا.

الشيخ : تتلخص اشكالات سيادة العقيد في ثلاثة محاور :

الأول : ايمان اهل ذلك العصر بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بالمعجزة الىٰ حدّ ما.

الثاني : من الصعب اليوم القبول بالمعجزة.

الثالث : نفوذ رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله اليوم ، غالباً ما نجده بين غير المتعلمين وغير العلماء.

وسنتكلم في المواضيع الثلاثة ـ ان شاء الله ـ حسب طريقتنا ، اي بشكل مختصر ومفيد.

أمّا الموضوع الأوّل :

خلافاً لما قاله سيادة العقيد ، فأن اغلب اهالي الجزيرة العربية والمسلمون الذين عاصروا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تأثروا بقوانين الاسلام التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( طبعاً بالحد الذي كان المستوىٰ الفكري لذلك العصر يسمح به ) وبالاعجاز القرآني من حيث الفصاحة والبلاغة وكذلك بحياة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت غريبة عنهم ، وليست بسائر المعجزات.

لأنه : إذا كان ايمان العرب بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حدث بالمعاجز فقط ، كان لابدّ ان يكون تقدم الاسلام وانتشاره سريعاً في السنوات الثلاثة عشرة التي قضاها

٨٢

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة بعد البعثة ، لان اكبر واعظم معجزاته كانت في مكة ، في حين ان نمو الاسلام في مكة وقياساً للسنوات العشرة التي قضاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة يعد لاشيء ، بل اصبحت الحياة له لا تطاق في مكة وهو مهدد بالقتل فيها مما اضطره للخروج منها ليلاً والهجرة الىٰ المدينة بأمر من الله تبارك وتعالىٰ ، اما المدينة فقد استقبلته واحتضنته وعاهدته في الدفاع عنه بكل ما تستطيع ، وقد وفو بعهدهم اليه حقاً ، لكن ما الذي دعىٰ أهل المدينة لاستقبال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضانه والدفاع عنه بالغالي والرخيص ؟

لم تكن المعجزات هي التي جعلتهم يقومون بذلك ، لأنهم لم يروا أية معجزة منه يوم تعهدوا له بالدفاع عنه ، بل كان موسم الحج وقد جاؤا الىٰ مكة فسمعوا كلمات القرآن المحيرة ، وسألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاسلام وقوانينه واحكامه وما يدعوا اليه ، وبعد ان تعرفوا عليه آمنوا به طوعاً ، وسبب افتتانهم به هو ان قبيلتين منهم ( الأوس والخزرج ) كانتا تتقاتلان لقرن من الزمن ، وكانت بينهما دماء ومآسي ، فكم من الشباب قتلوا وكم من النساء ترمّلن وكم من الاطفال تيتموا وكم من الآباء ثكلوا.

كان اهل المدينة قد عانوا الكثير ، كانوا يعيشون حالة من التوحش الكامل ، وقد ملّوا من الجرائم والدماء ، وكان انحطاطهم الاخلاقي بمستوىٰ جعلهم يستشرون ضرورة وجود مصلح وقوانين عادلة تنقذهم من شقائهم ، كانوا بحاجة الىٰ قوة تستبدل البغض والحقد الذي في قلوبهم بالعاطفة والمحبة ، لقد فهموا ان عليهم ايقاف حمامات الدم تلك ونبذ حياة التوحش والظلم والجريمة.

٨٣

ولكن ، من هو الشخص الذي يقوم بذلك العمل الجبار ويبلغهم تلك الآمال ؟ من هو الرجل الذي يرفع لواء العدل ويجمع هؤلاء المظلومين تحت رايته ؟ وهل يمكن ان يجدوا مثل ذلك الشخص وبتلك المواصفات في بلاد مثل الجزيرة العربية ؟

اجل ، لقد رأىٰ اهل المدينة ذلك الرجل الذي ينشدونه في سفر حجهم وادركوا انه الوحيد الذي يستطيع انهاء وضعهم المأساوي ، ولهذا اجتمعوا حول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصروه في الشدائد والمشكلات ، ولماذا لا يفتتنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولماذا لايفتدوه بأموالهم وانفسهم ، فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما رآه ذو قلب سليم وشاهد صفاته التي لا تجتمع لأحد ، إلّا وخضع امامه واستسلم له ! فأي صخرة صماء ذلك الذي يرىٰ جميع تلك الفضائل : الوفاء والتواضع ، حسن الخلق ، نصرة المظلوم ، الرأفة ، الشجاعة ، الشهامة ، العفو ، الأدب ، الصدق ، الامانة ، عدم الاعتناء بالدنيا ومئات الفضائل الأخرىٰ ، ولا يمتلىء قلبه بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! فهل يمكن لبشر عادي ان يكون هكذا ؟

اجل صفاته واخلاقه مع الناس ومع ابنائه وازواجه ومع اتباعه ومع العبيد والصغار و الخ هي التي جعلت الناس تفتتن به ويكون له نفوذ في قلوبها ، وليست المعجزات التي جاء بها.

٨٤

سيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله المليئة بالفخر

سيادة العقيد ! من أجل أن يتّضح الموضوع بشكل جيد ، ولكي تعرفوا هل معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اسلوبه اخلاقي هو الذي سخر قلوب اهل زمانه له ، سأضطر الىٰ بحث مختصر حول اخلاق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضائله وملكاته الفاضلة.

بلع العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل بيته

كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مبتسم علىٰ الدوام مع اهل بيته ، ولم يكن فظَّاً غليظاً معهم ، فقد كان يحنو عليهم ويعاملهم برأفة ، كان يحاول جهد الامكان ان لا يغتمّوا ولا يحزنوا ، وكان عادلاً بينهم حتىٰ انه لم يشتكي منه احد مدىٰ حياته ، يساعدهم في اعمال البيت ، وكان يقول : مساعدة الزوجة في عملها بالبيت صدقة ، ومع ان بعض نساءه كنّ يتجرأن عليه ويعاملنه وكأنه رجل عادي كسائر الرجال وكنّ يؤذينه ويغضبنه ويتعرضنّ عليه ويتدخلن في اعماله ، مع ذلك كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله محافظاً علىٰ عدالته بينهنّ ، ويجب ان لا نتصور ان جميع وسائل الراحل كانت متوفرة لتلك النساء ، لانهنّ نساء امبراطور الاسلام ، أبداً فلا

٨٥

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان امبراطوراً ، ولا نساءه كنّ مثل حريم الاباطرة.

فلم يكن لهنّ قصور ولا غلمان وجواري ، وفي بعض الاحيان لم تتوفر لهنّ ابسط ضروريات الحياة ، لكن ثغر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك ووجهه البَشر وقلبه الرحيم العطوف ، كان بلسماً لكل وضنك ذلك العيش.

تقول اُمّ سلمة : احدىٰ نساء النبي :

في ليلة زفافي،حيث دخلت بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كنت اسكن في غرفة لم يكن فيها الّا قليل من الشعير ومطحنة يدوية ووعاء للعجين وقدر لعمل الخبز وكوز ماء ، فطحنت الشعير وعجنته وصنعت اقراصاً من الخبز ، اكلتها. وهكذا كانت حياة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ في ليلة زفافهنَّ.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبنائه

لا يمكن وصف المحبة والعطف الذي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغدقه علىٰ ابناءه ، لقد كان يحب ابناءه واحفاده كثيراً جداً ، كان يجلسهم علىٰ ركبتيه ويداعبهم ويقبل وجوههم ، حتىٰ انه كان يلاعبهم احياناً ، ومحبته لابنته الزهراءعليها‌السلام وابنائهاعليهم‌السلام معروفة ومشهورة.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصدقائه ومحبيه ، تشبه معاملته لابنائه ، ولهذا السبب كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله محبوباً عند اصدقائه ، الى حدّ يفوق التصوّر.

٨٦

وفي حادثة وقعت بعد معركة احد ، كانت مكة قد اعدّتها ودبّرتها ، حيث جاءت مجموعة من الاعراب الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة وطلبت ان يذهب معهم جماعة من المسلمين لتبليغ الدين وبيان الاحكام ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم جماعة من المسلمين برئاسة عاصم بن ثابت ، لكن الأعراب قاموا بقتل المسلمين غيلة إلّا اثنين منهم اسروهم وارسلوهم الىٰ مكة وباعوهم علىٰ المشركين ، وكان زيد بن دثية احد الاسيرين ، فأشتراه صفوان بن اُمية ، لكي يقتله ثأراً لأبيه ، وبعد ان سجنه لفترة ، تقرر ان يُقتل في يوم معين.

وفي ذلك اليوم اجتمع اهل مكة جميعهم ، ليشاهدوا قتل ذلك الشاب المسلم ، انتقاماً لقتلاهم في بدر.

وفي النهاية ، حانت ساعة الاعدام ، فجاءوا ب‍ « زيد » وقد اجتمعت جميع طبقات مكة من كبارها ورؤساء قريش من التجار والمزارعين والنساء والفتيات والاطفال ، اجتمعوا اطرف المشنقة ، في تلك اللحظات التفت أبو سفيان وهو زعيم قريش الىٰ زيد وقال : أتحبُّ ان يكون محمداً مكانك هنا حتىٰ يعدم وترجع انت سالماً الىٰ اهلك ، اقسم عليك بمن تعبد ان تقول الصدق ؟

فأجابه زيد : يا أبا سفيان ، أقسم باللهِ ، أحبُّ ان اُقتل هنا ولا تصيب قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شوكة فتؤذيه ! إفصاح أبو سفيان بعد تلك الاجابة : لم أرَ احداً اعزّ من محمد عند اصحابه.

أجل ، كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ودوداً مع اصحابه للحد الذي جعلهم يهيمون بحبه ، فلم يحملهم في حياته شيئاً ، ومع انه كان القائد وزعيم المسلمين الذي

٨٧

فتح الجزيرة العربية واخضع الجميع للاسلام ، لكنه وفي احدىٰ اسفاره ارادوا ان يذبحوا شاة للأكل ، فتعهد كل واحد بعمل ، فقال احدهم : انا أذبحها ، وقال الآخر : انا اسلخها وقال الثالث : أنا اطبخها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وانا اجمع الحطب للطبخ.

واضح ان العمل الذي تكفّل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله به اشقّ من أعمال الآخرين ، لأنه كان يحتاج الىٰ كمية كبيرة من حطب الصحراء ! لكي تطبخ شاة ، لذلك قال المسلمون : يا رسول الله ، نحن نجمع الحطب ولا تؤذي نفسك انت.

لم يقل المسلمون ذلك مجاملة منهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم بذلوا كل ما يملكون من اجله ، هؤلاء الناس لا يتحدثوان زيفاً وتملّقاً وانما لم يحبوا ان يتعب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

لكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : اعلم انكم لا تحبون ان اتعب ، لكني لا اُريد ان افضل علىٰ اصحابي ، والله لا يحب الذين يميزون انفسهم عن الآخرين.

وهكذا عندما بنىٰ المسلمون مسجد المدينة ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل معهم الحجارة والتراب ، وعندما حفروا الخندق(1) اختص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لنفسه حصة من العمل كسائر المسلمين ، بل انه كان يعمل اكثر من الآخرين.

________________

(1) هو الخندق الذي حفره المسلمون حول المدينة لصد الاعداء في معركة الاحزاب.

٨٨

اصدقائي !

ألم يكن اهل الجزيرة العربية محقّون في الخضوع لهذا الرجل والافتتنان به ؟! وهل رأيتم رجلاً في العالم يتعامل بهذه الروح السمحة والمحبة للخير مع اتباعه والذين يأتمرون بأوامره وهو في قمة هرم السلطة ؟! هذه التصرفات والمعاملة الاخلاقية لا توجد الّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه

لقد عامل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله اعداءه كما كان يعامل اصدقاءه واصحابه ، فأي شخص لم ينتقم بشدة في اليوم الذي يتسلط فيه علىٰ اعدائه وينتصر عليهم ؟! لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان رؤوفاً بأعدائه ، ينظر اليهم بعين العطف ، وكان متسامحاً للحد الذي وصفوه ـ الاعداء ـ بالعظيم والكريم.

ففي غزوة ذات الرقاع ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفاً الىٰ جانب نهر ، وفجأة جاء سيل وحال بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ، فرأىٰ احد جنود العدو ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده وبعيداً عن معسكره ، فجاءه شاهراً سيفه ظاناً ان اللحظة مؤاتية لقتل الرسول ، وقال : يا محمد ، من سينجيك مني ؟

قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ربي.

ضحك الرجل مستهزءاً ، وهوىٰ بسيفه بقوة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الله وقىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شره ، فوقعت به فرسه قبل ان يضرب ضربته ، ووقع علىٰ الارض ، فوقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فوق رأسه وأعاد عليه كلامه ، قال : من سينجيك

٨٩

مني ؟!

فقال الرجل وعيناه تبرق املاً : جودك وكرمك يامحمد !!

فما هو اساس ذلك الكلام في تلك اللحظات الحرجة ؟ هل قال الرجل كلامه تملّقاً ؟! بالتأكيد ، لم يقله تملّقاً.

لقد رأىٰ الرجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهراً سيفه فوق رأسه ، وتذكر اللحظات السابقة ، كان والوضح حرجاً بالنسبة له في الظاهر ، لانه لو قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله كان قد فعل ماكان هو يريد فعله قبل لحظات ، الاّ انه لم يوفق لذلك ، والأمل الوحيد لذلك المشرك هو أن الذي يريد قتله ليس انساناً عادياً كسائر الناس بل هو رجل الحق ، كريم بمعنىٰ الكرم ، عفوّ ورؤوف ، لقد تكلّم الرجل المشرك بكلامه استناداً الىٰ تاريخ ذلك الرجل الذي يريد قتله ، فحياته مليئة بالكرم والبذل والعمل الصالح والمحبة ، ولا بدّ أنَّ المشرك تذكر تلك السنة التي اصاب القحط فيها مكة ، فكان ذلك الرجل الذي شهر سيفه الآن عليه ، مثل الأب الرحيم علىٰ ابناءه ، يشتري الطعام بأمواله واموال خديجة ( بعد الاستأذان منها ) ، كان يشتري القمح والشعير والابل ويقدمها الىٰ الضعفاء في مكة واطرافها ، وبذلك نجّاهم من الموت جوعاً.

كان المشرك يعلم ان هذا الرجل يحمل بين جنبيه قلباً عطوفاً رحيماً ، فكان محقاً بأن يأمل ويرجو في تلك اللحظات الحرجة تماماً ، لذلك قرر الاجابة علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعرفه عن ماضيه وعطفه واحسانه ، لكن الوقت كان ضيقاً واللحظة خطرة ، فليس هناك مجال للأسهاب في الكلام ، ولهذا اجاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله موجزاً ، وقال : « جودك وكرمك يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله » ، أي عظمتك

٩٠

ومقامك وعفوك ورأفتك يمكن ان تنجيني.

أجل ، لقد فكّر ذلك الرجل بشكل صحيح ، وكان رجاءه في محله ، لقد انجاه كرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه عندما سمع تلك العبارة ، انزل السيف جانباً ، وقال للرجل : انهض واسرع الىٰ جيشك(1) .

أيُّها السادة !

ألا يستطيع هذا الرجل ان يسخر قلوب الناس بهذه الاخلاق والمكارم الالهية التي هي بذاتها من اكبر المعجزات ؟! هل ان تأثير هذه التصرفات في جذب قلوب الناس اقل من بيان سائر المعجزات ؟

اعجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخلاقي عند فتح مكة

اشرنا من قبل أن اهل مكة شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ ثلاثة عشرة سنة من بداية البعثة ، تلك المعجزات التي لو رآها أي انسان لأعترف بالنبوة والرسالة ، إلّا انهم كانوا اصم من الصخر فلم تؤثر فيهم ولم يؤمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن اولئك الناس عندما شاهدوا عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعطفه عليهم عند فتح مكة لانت قلوبهم وآمنوا بالدين.

لقد كان لمعاملة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في ذلك اليوم اكبر الاثر في اسلامهم ، وهو بنفس الوقت خير دليل علىٰ ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه :

________________

(1) روضة الكافي ، تأليف ثقة الاسلام الكلينيقدس‌سره

٩١

« ادبني ربي فأحسن تأديبي ».

كما انه نموذج كامل لأسلوبه الاخلاقي في التعامل مع اعدائه.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة دون قتال ( سوىٰ مقاومة صغيرة من بعض المشركين ابيدت علىٰ يد جيش الاسلام ).

ومكّة هي مسقط رأسه التي يهفو إليها قلبه علىٰ الدوام ، حتىٰ في الليلة التي اراد ان يهاجر فيها الىٰ المدينة ، نظر الىٰ اطرافها بحسرة ، واغرورقت عيناه بالدموع ، فنزل عليه الامين جبرائيل ووعده من جانب الله بأن يرجعه اليها. وكانت سنوات تمرّ علىٰ ذلك الوعد الالهي ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر ، فمضت اشهر وسنين ببطء وحان الوقت الذي ينجز فيه الوعد.

* * *

عقد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً مع كفار قريش وأهل مكة في الحديبية ، إلّا ان الكفار لم يعملوا بمفاد الصلح ، فكانت النتيجة ان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عزم علىٰ فتح مكة بأمر من الله ، وسار نحوا بعشرة آلاف مسلم ، وقد علم اهل مكة من خلال ابي سفيان « الذي ذكرناه تفاصيل لقاءه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرب مكة » بالتعبئة العامة للمسلمين.

طوىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطريق بين المدينة ومكة ، حتىٰ وصل الىٰ« ذي طوىٰ »(1) . نظر الىٰ ما حوله ، فوجد جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل مستعدون

________________

(1) مكان مشرف علىٰ مكة.

٩٢

لنصرته وقلوبهم تطفح بالمحبة. فتذكّر يوم هجرته ، ذلك اليوم الذي خرج فيه خائفاً يريد الحفاظ علىٰ نفسه من مكة هذه. لكنه يعود اليها اليوم ومعه عشرة آلاف مقاتل من المسلمين الشجعان ، فمن الذي منحه تلك القوة ؟!

أهو غير ربّه الذي يدعوه ؟! بالتأكيد لا.

فلا احد يستطيع ان يحببه الىٰ قلوب الناس بهذا الشكل سوىٰ الله القادر والمهيمن ، اذن ، فاليوم هو اليوم الذي وعده به الله ، وقريب ما يتحقق الوعد الالهي.

نعم ، جميع ما حدث كان بنصر الله ، فلماذا لا يسجد له ، لماذا لا يعبده ؟ وكان ان صاح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لا إله الّا الله ، وحده وحده ، انجز وعده ، ونصر عبده ، واعزّ جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نِعَم الله ، تلك النِعَم التي يعجز عن شكرها ، واتقدت شعلة الحب الالهي في قلبه اكثر من ذي قبل ، يريد ان يسجد لربه ، لكنه لا يزال على ظهر الناقة ، تجسم العشق الالهي ورأفة الله به بحيث لم يستطع الصبر لينزل من علىٰ ظهر الناقة كي يسجد ، فسجد شكراً لله وهو علىٰ الناقة ، ثم رفع رأسه من السجود ، فوقعت عيناه علىٰ مكة ، تلك المدينة التي تتوسطها الكعبة ، حيث بناها جده ابراهيم الخليلعليه‌السلام ، موطن آباءه والمكان الذي يهفو اليه قلبه.

جميع تلك الاسباب جعلته يناجي مكة ويظهر لها حبه ، فقال : الله يعلم احبك ، ولو لا ان اهلك اخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ، ولا ابتغيت بك بدلاً ، اني لمغتم على مفارقتك.

٩٣

فلماذا خاطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة بهذا الكلام ؟!

وكأنما كان يسمع مسقط رأسه ، أي مكة هذه ، تعاتبه وتقول له : لماذا هجرتني ، وفارقتني ثمان سنوات ، ياحبيب الله ، انا ايضاً أحبك ، فلماذا تركتني الىٰ المدينة التي اخترتها بدلاً مني ، فهل كنت سيئة معك ؟!

وبعد أن أتمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه ، تحرك من ذي طوىٰ ودخل الحجون(1) ، فأغتسل هناك وركب ناقته حتىٰ يدخل مكة.

مكّة في انتظار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

اجتمع اهل مكة ووقفوا مع زعماء قريش ورؤساء القبائل الىٰ جانب الكعبة ، لكي ينظروا دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يريدون بذلك أمرين :

الأول : رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني : معرفة مصيرهم.

دخل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مكة واستسلم الحجر الاسود من علىٰ الناقة ، ثم ارتفع صوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكبير :

الله اكبر الله اكبر

فتعالت معه حناجر عشرة آلاف مسلم الله اكبر ، كان صوت التكبير يملأ سماء مكة وينعكس في جبالها ، لكن تأثيره في قلوب المشركين كان اشدّ.

________________

(1) محل اقرب الىٰ مكة من ذي طوىٰ.

٩٤

لقد خاف زعماء قريش من ذلك الصوت ، وكأنما سمعوا صيحة من السماء ، فأضطربت قلوبهم واخذت تخفق بشدّة.

بعد التكبير ، ترجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الناقة ، ودخل الكعبة كي يطهرها من رجز الاوثان ، فلا يجدر ببيت بُنيَ فيه الله ان يكون مأوىٰ الاثم ومركز الاصنام ، وكان علىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطهر البيت من تلك الاصنام والآلهه المصنوعة من الخشب أو الحجر.

وقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاطاحة بالاصنام الواحدة بعد الاُخرىٰ ، بعصاه ، وهو يقول :

( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1) .

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ) (2) .

أجل ، لقد انتهىٰ زمان الاصنام وعبادتها ، انتهى عصر الانحناء والخضوع امام آلهة صنعت من معدن أو خشب علىٰ هيئة البشر ، لقد حان الوقت الذي يعبد فيه الناس الله سبحانه وتعالىٰ ، ويخرجوا من ذلّ عبادة هذه الاوثان ، الىٰ عزّ عبادة رب العالمين.

وبعد ان فرغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الاطاحة بالاوثان ، توجه الىٰ اهل مكة ، فوجدهم قد اصطفوا مثل التماثيل التي صنعت من حجر ، وكأن علىٰ رؤوسهم الطير ، لا يتحركون ولا يحركون ساكناً ، ووجوهم المصفرة تعبر عن اضطرابهم الداخلي ( بعد ان شاهدوا قوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجيش المسلمين ) ، كانت عيونهم

________________

(1) سورة الاسراء : 81.

(2) سورة سبأ : 49.

٩٥

تريد الخروج من حدقاتها من شدة الخوف ، كانوا غارقين في افكارهم ، ويتصورون المصير الذي ينتظرهم ، بعد تلك الحروب التي خاضوها ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والاذية التي آذوه ، لكنهم في نفس الوقت يرجون شيئاً من شخص الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن اهل مكة يعرفون جيداً ، ان الرجل الذي دخل مكة اليوم ظافراً منتصراً ، هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو القلب العطوف والرحيم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من شيمه العفو عند المقدرة والصفح عمن اساء له ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يظلم حتىٰ اعتىٰ اعدائه واقساهم ، محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالآخرين الذي لا يفكرون عند انتصارهم سوىٰ بالانتقام ، فهو الذي وصفه الله سبحانه وتعالىٰ في القرآن ، فقال :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (1)

فلماذا لا يرجوا أهل مكة فيه الخير ؟! ولماذا لا يمتزج خوفهم واضطرابهم بالامل ؟! لقد رأىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك الخوف والرجاء في وجوههم ، لكنه اراد ان يسمعه منهم ، فقال لهم : ماذا تقولون وتظنون ؟

فأجابه اهل مكة : نقول خيراً ونظن خيراً ، اخ كريم وابن اخ كريم وقد قدرت.

كان جواب اهل مكة مزيج من الخوف والامل ، فعبارة « قد قدرت » استخدمت للتعبير عن الخوف ، لكن العبارات التي سبقت ذلك كانت مفعمة بالرجاء لكن كفة الامل والرجاء كانت تفوق احتمال الانتقام.

ومن حقِّ أهل مكة ان يأملوا العفو والمسح من مثل ذلك الرجل العظيم ،

________________

(1) سورة الانبياء : 107.

٩٦

لأنه لو كان يريد الانتقام منهم ، لما اعطىٰ أبا سفيان الامان ، وجعل بيته مأمناً لأهل مكة ، فلماذا لا يأملوا بعد ذلك ، في حين ان ابا سفيان في خارج مكة عندما التقىٰ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ان شاهد جيش المسلمين وهو واقف مع العباس عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان قد سمع سعد بن عباد رئيس قبيلة الخزرج ، يقول بصوت عال :

اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبىٰ الحرمة ، اليوم تذل قريش.

فخاف أبو سفيان بعد سماعة ذلك الكلام ، واخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف يا ابا سفيان ، سعد مخطيء ، اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ، اليوم تعزّ قريش.

ألم يكن اهل مكة محقّون في رجائهم ؟ لذلك اجابوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : نقول خيراً ونظن خيراً.

أما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعندما سمع جوابهم ذلك ، اغرورقت عيناه المباركة بالدمع ، وعندما رأىٰ ذلك أهل مكة تجلت امام اعينهم جميع اعمالهم السيئة السابقة ، فتذكروا التهم التي كالوها له ، والسباب والرمي بالحجارة والحصار في شعب ابي طالب ومهاجمة بيته ليلاً لقتله واجباره علىٰ ترك وطنه الىٰ يثرب ، ومئات الاعمال الاخرىٰ التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف النادم اليوم ، وشاهدوا ايضاً ذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قاسىٰ ماقاساه منهم ، لكنه يقف اليوم ويعاملهم بلطف ورأفة وهو المنتصر والفاتح الذي يستطيع الانتقام.

فالخجل الذي اعتراهم من مواقفهم تلك من جهة ، والرأفة والحب الذي شاهدوه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرىٰ ، اهاجتهم وجعلت اصواتهم ترتفع

٩٧

بالبكاء ، لقد كان الجميع يذرفون الدموع ، النادمون من سوء اعمالهم ، والمنتصرون الذين عادوا الىٰ وطنهم وحرروا قبلتهم ، حتىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذرف الدمع ، وبعد لحظات من تلك الحالة ، قال لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأقول لكم ما قاله أخي يوسفعليه‌السلام لأخوته الذين غدروا به :

( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (1) .

صحيح انكم لم تنظروا فيّ انكم قومي وعشيرتي ، فأستبحتم ايذائي والوقوف بوجهي ، ولكن لا تخافوا « اذهبوا فأنتم الطلقاء » ، ولا يحق لاحد ان يتعرض لكم ولأموالكم.

وبهذه الكلمات المتقطبة ، خطّ علىٰ اعمالهم السيئة وغفر لهم اخطاء عشرين سنة بحقه.

اصدقائي الاعزاء !

أي واحدة من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تستطيع ان تسخر قلوب اعتىٰ الاعداء مثل هذا الحدّ الذي يفوق تصور البشر ؟ ألم يكن هؤلاء الناس ، هم انفسهم الذين شاهدوا اكبر المعجزات علىٰ مدىٰ عشرين سنة ولم يأمنوا ولم تتغير نفوسهم ، بل كلما جاءهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعجزة وآية جديدة ، كانوا يزدادون غضباً وغيضاً وتتحد صفوفهم اكثر في عدائه ، في حين ان العفو العام الذي أعلنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الحقيقة من معجزاته الاخلاقية التي ليس لها ________________

(1) سورة يوسف : 92.

٩٨

مثيل ، استطاع ان يحرك عواطفهم ، للحد الذي تعالىٰ فيه صوت البكاء من تلك القلوب القاسية حتىٰ ملأ ارجاء مكة.

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدعو بالسوء

وفي معركة اُحد ، بعد ان دحر جيش الاسلام قوىٰ المشركين ، وعلىٰ اثر غفلة المسلمين وعدم اطاعتهم أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، استفاد جيش المشركين من تلك الفرصة ، وهجم من جديد علىٰ المسلمين ، فكانت نتيجة حملاته المتكررة والشديدة ان فرّ المسلمون الّا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ونفر من المجاهدين الذين صمدوا رغم شدة البلاء ، وقد جرح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر سنّة وكان الخطر محيط به من كل جانب ، في تلك اللحظات ، قال له بعض اصحابه الذين صمدوا معه : ادعو يا رسول الله علىٰ اعدائك بالهلاك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بعثت لذلك ، وانما بعثت لأكون رحمة للعالمين.

اجل هذه النماذج قليلة من معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأعدائه.

معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لغلمانه

المعاملة التي كانت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غلمانه ، لا يوجد مثيل لها الّا في عترته الطاهرة ، فلم يكن يُحسن إليهم فقط ، ويعاملهم كأفراد الاسرة ، بل وصىٰ المسلمين بهم كثيراً ، فقال : اطعموهم مما تطعمون والبسوهم مما تلبسون. ولم يطلب منهم يوماً القيام بعمل يذلّهم أو يكون لهم عاراً ، ولم يكن يشكل علىٰ

٩٩

اعمالهم.

يقول أنس الذي لازم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنوات عديدة : خدمت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة سنوات ، فلم يزجرني بكلمة ابداً خلال تلك الفترة ، ولم يشكل علىٰ ايّ عمل قمت به لرأفته ، ولم يؤاخذني علىٰ شيء لم افعله أو عمل قصرّت فيه.

ورأفته كانت بحيث يقول أنس : طلب مني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً ان انجز له عمل ، لكني شغلت في الطريق بمشاهدة لعب الاطفال ، فمضىٰ علىٰ ذلك وقت كثير ، وانا لازلت انظر الاطفال في لعبهم ، وفجأة رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسك بقميصي من الخلف ، ويقول لي وهو يبتسم : اذهب الىٰ ما أرسلتك اليه.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

التمكّن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثمّ تعلّقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهنّ و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثمّ بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرّيّة معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبّب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوّأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع.

و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ ) المؤمن: ٧٤ و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) الرعد: ١٧ أي إنّ إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو اُنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

و قوله:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) بيان لغاية التمكين المذكور و اللّام للغاية، و هو معطوف على مقدّر و التقدير: مكّنّا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلّمه من تأويل الأحاديث و إنّما حذف المعطوف عليه للدلالة على أنّ هناك غايات اُخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥ و نظائره.

و قوله:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) يونس: ٣، و إنّما اُضيف إليه تعالى لأنّه مالك كلّ أمر كما قال تعالى:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤.

و المعنى أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣.

١٢١

و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعّالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلّا السمع و الطاعة و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أنّ الأسباب الظاهرة مستقلّة في تأثيرها فعّاله برؤسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحوّلها عن وجهتها شي‏ء و قد أخطاؤا.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين (عليه السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلمّا فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمّى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلّا أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كلّ من يسأل مستحقّا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه و نردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم.

إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به و يأكل هو و عياله منه، و إنّ سائلا مؤمنا صوّاما محقّا له عند الله منزلة - و كان مجتازا غريبا - اعترّ على باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقّه و لم يصدّقوا قوله.

فلمّا أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم.

قال: فأوحى الله عزّوجلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلّة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إنّ أحبّ أنبيائي إليّ و أكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي و قرّبهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ.

١٢٢

يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته- القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا اعترّ ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً فاسترجع و استعبر و شكى ما به إليّ، و بات جائعاً و طاوياً حامداً و أصبح لي صائماً و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم.

أو ما علمت يا يعقوب أنّ العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر منّي لأوليائي و استدراج منّي لأعدائي. أما و عزّتي لاُنزلنّ بك بلواي، و لأجعلنّك و ولدك غرضا لمصابي، و لاُؤدّبنّك بعقوبتي فاستعدّوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب.

فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة الّتي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلمّا رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصّها على أبيه يعقوب فاغتمّ يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتمّا فأوحى الله إليه أن استعدّ للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّي أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصّها على إخوته.

قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): إنّ أوّل بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لمّا سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدّت رقّة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء إنّما هو في يوسف خاصّة فاشتدّت رقّته عليه من بين ولده.

فلمّا رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إيّاه، و إيثاره إيّاه عليهم اشتدّ ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتؤامروا فيما بينهم و( قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) أي تتوبون.

فعند ذلك( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) فقال

١٢٣

يعقوب( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) فانتزعه مقدّرا حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عزّوجلّ على يعقوب من يوسف خاصّة لموقعه في قلبه و حبّه له.

قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقّع البلوى من الله في يوسف.

فلمّا خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمّه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلمّا أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) و لكن( أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

فانطلقوا به إلى الجبّ فألقوه فيه و هم يظنّون أنّه يغرق فيه فلمّا صار في قعر الجبّ ناداهم: يا ولد رومين أقرؤا يعقوب السلام منّي فلمّا رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتّى تعلموا أنّه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتّى أيسوا (و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب).

فلمّا سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب- من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة.

قال أبو حمزة: ثمّ انقطع حديث عليّ بن الحسين (عليه السلام) عند هذا.

قال أبو حمزة: فلمّا كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنّك حدّثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده ثمّ قطعته فيما كان من قصّة إخوة يوسف و قصّة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنّهم لمّا أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتّى ننظر ما حال يوسف؟ أمات أم هو حيّ؟.

١٢٤

فلمّا انتهوا إلى الجبّ وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلّق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلمّا أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منّا أمس في هذا الجبّ و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحّوا به ناحية فقالوا له: إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبد لن فنبيعك بعض السيّارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا به إلى السيّارة فقالوا: منكم من يشتري منّا هذا العبد؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهم و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الّذي اشتراه من البدو حتّى أدخله مصر فباعه الّذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عزّوجلّ:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) .

قال أبو حمزة: فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما. الحديث.

أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربّما لم تلائم ظاهر ما تقدّم من بيان الآيات لكنّها ترتفع بأدنى تأمّل.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ عن ابن عمر أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبّؤ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليه السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت (ينكت ظ) في قلبه و يوقر في أذنه.

و فيه، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّما ابتلي يعقوب

١٢٥

بيوسف أنّه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم( بقوم ) محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كلّ صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.

و في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: لا يشعرون أنّك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك.

و فيه، و في رواية أبي الجارود في قول الله:( وَ جاؤُ عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) قال: إنّهم ذبحوا جديا على قميصه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده في قوله عزّوجلّ:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) قال: بلا شكوى.

أقول: و كان الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن حيّان بن جبلة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و في المضامين السابقة روايات اُخر.

١٢٦

( سورة يوسف الآيات ٢٢ - ٣٤)

وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( ٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَفْسِهِ وَغَلّقَتِ الْأَبَوْابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ( ٢٣) وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَأى‏ بُرْهَانَ رَبّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( ٢٦) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ( ٢٧) فَلَمّا رَأى‏ قَمِيصَهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ( ٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ( ٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ظَلالٍ مُبِينٍ( ٣٠) فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا هذَا بَشَراً

١٢٧

إِنْ هذَا إِلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ( ٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلَ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصّاغِرِينَ( ٣٢) قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلّا تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ( ٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٤)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّته (عليه السلام) أيّام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحبّ امرأة العزيز له و مراودتها إيّاه عن نفسه، و مني بتعلّق نساء المدينة به و مراودتهنّ إيّاه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفّة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من تولّهه في محبّة ربّه ما هو أعجب.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ به قوى بدنه و تتقوّى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سنّ الكهولة الّتي عندها يكمل العقل و يتمّ الرشد.

و الظاهر أنّ المراد به الانتهاء إلى أوّل سنّ الشباب دون التوسّط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام):( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْما ) القصص: ١٤ حيث دلّ على التوسّط فيه بقوله:( اسْتَوى) ، و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ

١٢٨

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) الآية: الأحقاف: ١٥ فلو كان بلوغ الأشدّ هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله:( بَلَغَ ) .

فلا مجال لما ذكره بعضهم: أنّ المراد ببلوغ الأشدّ بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون: إنّ المراد به بلوغ الأربعين و هو سنّ الأربعين. على أنّ من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتّى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلّقت به و راودته عن نفسه.

و قوله:( آتَيْناهُ حُكْما ) الحكم هو القول الفصل و إزالة الشكّ و الريب من الاُمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصّل من اللّغة - و لازمه إصابة النظر في عامّة المعارف الإنسانيّة الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانيّة و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشريّ.

و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) الآية ٤٠ من السورة، و قوله بعد:( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) الآية ٤١ من السورة يعلم أنّ هذا الحكم الّذي اُوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الّذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربّه إذ قال:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الشعراء: ٨٣.

و قوله:( وَ عِلْما ) و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أيّ مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أنّ الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفسانيّ و لا تسويل شيطانيّ كيف؟ و الّذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) الآية ٢١ من السورة، و قال:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشكّ، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا ألبتّة.

ثمّ من المعلوم أنّ هذه المواهب الإلهيّة ليست بأعمال جزافيّة و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس الّتي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة

١٢٩

في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدا ) الأعراف: ٥٨ و إلى ذلك الإشارة بقوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) حيث يدلّ على أنّ هذا الحكم و العلم اللّذين آتاهما الله إيّاه لم يكونا موهبتين ابتدائيّتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أنّ الله تعالى يجزي كلّ محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئاً من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨ و قال تعالى:( أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢.

و هذا العلم المذكور في الآية يتضمّن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنّه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن:( ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) قال في المفردات: الرود هو التردّد في طلب الشي‏ء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شي‏ء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى:( هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ) و قال:( تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ) أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله:( وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) ( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) انتهى.

و في المجمع: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنّه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب

١٣٠

المرعى، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنّما شدّد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.

و هيت لك اسم فعل بمعنى هلمّ، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

و الآية الكريمة( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) على ما فيها من الإيجاز تنبئ عن إجمال قصّة المراودة غير أنّ التدبّر في القيود المأخوذة فيها و السياق الّذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصّته الموردة في السورة يجلّي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبأ من الأمر.

يوسف:

هو ذا طفل صغير حوّلته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعلّه لم يسأل إلّا عن اسمه، و لم يتكلّم إلّا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلّا أنّه كان قد نشأ بين العبريّين، و لم يسأل عن بيته و نسبه فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقّاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلّم بشي‏ء و كم من حديث بين جوانحه فلم يعرّف نسبه إلّا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن( وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و لا كشف عمّا في سرّه من توحيد العبوديّة لله بين اُولئك الوثنيّين إلّا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) إلخ.

هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكنّ قلبه ملي‏ء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبيّ من حقيقة التوحيد و معنى العبوديّة ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنّه تحت الولاية الإلهيّة و التربية الربوبيّة معني بأمره و سينبّؤا إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون.

فكان (عليه السلام) مملوء الحسّ مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربّه الخفيّة يرى

١٣١

نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلّا على خير و لا يواجه إلّا جميلا.

و هذا هو الّذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضلّ الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرّفهم نفسه بقوله:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية ٩٠ من السورة.

فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربّه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كلّ يوم حبّا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أنّ ربّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و هو على كلّ شي‏ء شهيد حتّى تمكّنت المحبّة الإلهيّة منه و استقرّ الوله و الهيمان في سرّه فكان همّه في ربّه لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبّر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) و قوله:( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) و قوله:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) و غير ذلك كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلّا محبّة إلهيّة أنسته نفسه و شغلته عن كلّ شي‏ء، و صورة معناها أنّها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.

و لم يظهر للعزيز منه أوّل يوم إذ حلّ في بيته إلّا أنّه غلام صغير عبريّ مملوك له غير أنّ قوله لامرأته:( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) يكشف أنّه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرّس فيه عظمة و كبرياء نفسانيّة أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبنّي على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن.

امرأة العزيز:

امرأة العزيز و هي عزيزة مصر، وصّاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أنّ له فيه إربة و اُمنيّة فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتمّ بأمره لا كما يهتمّ في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة

١٣٢

كبد و تحبّه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلّما مضت الأيّام حبّا إلى حبّ حتّى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذلّ على ما لها من مناعة الملك و العزّة و عصمة العفّة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرّها الآخذ بمجامع قلبها.

و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا تردّ عزيمتها و كانت فيما تزعم سيّدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلّا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزّة أن تحتال لشتّى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإنّ عامّة الأسباب و إن عزّت و امتنعت ميسّرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإنّ حريم الملوك لا تدخلها كلّ شوهاء دميمة و لا تحلّ بها إلّا غوان ذوات حسن فتّانات.

و العادة تحكم أنّ هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرّها كلّ لهيب، و أجّجت كلّ نار حتّى استغرقت في حبّ يوسف و تولّهت في غرامة و اشتغلت به عن كلّ شي‏ء، و قد أحاط بقلبها من كلّ جانب، هو أوّل منطقها إذا تكلّمت و في ضميرها إذا سكتت فلا همّ لها إلّا يوسف و لا بغية لها إلّا فيه( قَدْ شَغَفَها حُبًّا ) و ليوسف الجمال الّذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محبّ واله و أدام النظر إليه مهيّم ذو غرام.

يوسف و امرأة العزيز:

لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنّيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفّع ذلك بما لربّات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، و لعلّ الّذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرّها فيما ترومه و يغريها عليه.

حتّى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلّقت الأبواب فلم يبق فيه إلّا هي و يوسف. و هي لا تشكّ أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أنّ

١٣٣

الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه.

فتى واله في حبّه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أمّا هي فمشغوفة بحبّ يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسّل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزّة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر( هَيْتَ لَكَ ) لتقهره على ما تريده منه.

و أمّا هو فقد استغرق في حبّ ربّه و أخلص و صفّي ذلك نفسه فلم يترك لشي‏ء في قلبه محلّا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربّه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونيّة على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجّح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنّها تتوسّل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها:( هَيْتَ لَكَ ) و أمّا هو فقد قابلها بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إنّي أخاف العزيز أو لا أخونه أو إنّي من بيت النبوّة و الطهارة أو إنّ عفّتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إنّي أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلّقا بشي‏ء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجاة الشدّة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.

بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربّه و لا تعدّى بصره إيّاه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الّذي هدته إليه المحبّة الإلهيّة و أولهه في ربّه فأنساه الأسباب كلّها حتّى أنساه نفسه فلم يقل: إنّي أعوذ منك بالله أو ما يؤدّي معناه، و إنّما قال:( مَعاذَ اللَّهِ ) و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لمّا تمثّل لها بشرا سويّا:( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) : مريم: ١٨.

و أمّا قوله لها ثانياً:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) فإنّه يوضح كلمة التوحيد الّذي أفاده بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) و يجلّيه، يقول: إنّ الّذي اُشاهده أنّ إكرامك مثواي عن قول العزيز لك:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) فعل من ربّي

١٣٤

و إحسان منه إليّ فربّي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الّذي يجب عليّ أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنّما أعوذ به لأنّ إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.

فقد أفاد (عليه السلام) بقوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) أوّلا: أنّه موحّد لا يرى شرك الوثنيّة فليس ممّن يتّخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنيّة يتّخذون مع الله أربابا اُخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأنّ الله هو ربّه لا ربّ سواه.

و ثانياً: أنّه ليس ممّن يوحّد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثّر ما تؤثّر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلاً جميلاً لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنّها هي الّتي أكرمت مثواه عن وصيّة العزيز و أنّها و بعلها ربّان له يتولّيان أمره يرى هو أنّ الله سبحانه هو الّذي أحسن مثواه و أنّه ربّه الّذي يتولّى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.

و ثالثاً: أنّه إنّما تعوّذ بالله ممّا تدعوه إليه لأنّه ظلم لا يفلح المتلبّس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكّن في حضرة الأمن عند ربّه كما قال تعالى حكاية عن جدّه إبراهيم (عليه السلام):( الّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام ٨٢.

و رابعاً: أنّه مربوب - أي مملوك مدبّر - لله سبحانه ليس له من الأمر شي‏ء، و لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً إلّا ما شاء الله له أو أحبّ أن يأتي به و لذلك لم يردّ ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذراً من دعوى الحول و القوّة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللّهمّ إلّا ما في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) حيث أشار فيه إلى نفسه مرّتين و ليس فيه إلّا تثبيت المربوبيّة و تأكيد الذلّة و الحاجة، و لهذه العلّة بعينها بدّل الإكرام إحساناً فأتى حذاء قول العزيز:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) بقوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) لما في

١٣٥

الإكرام من الإشعار باحترام الشخصيّة و تعظيمها.

و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعاً بين حبّ و هيمان إلهيّ و عشق و غرام حيوانيّ يتشاجران في يوسف كلّ منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهيّة و دافعت عنه المحبّة الإلهيّة و الله غالب على أمره.

فقوله تعالى:( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ) يدلّ على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أنّ الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أنّ الأمر كان عليه شديداً، و كذا قوله:( وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) حيث عبّر بالتغليق و هو يدلّ على المبالغة و علّق الغلق بالأبواب و هو جمع محلّى باللّام و كذا قوله:( وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ ) حيث عبّر بالأمر المولويّ الدالّ على إعمال المولويّة و السيادة مع إشعاره بأنّها هيّأت له من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلّا مجرّد إقبال من يوسف و لا بين يوسف على ما هيّأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شي‏ء حائل غير أنّ الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزّة جميعا.

و قوله:( قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: أعوذ بالله معاذا ممّا تدعينني إليه لأنّه ربّي الّذي تولّى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغرّبت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته.

و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبوديّة كلّه كما تقدّم و قد أتى أوّلا بلفظة( الجلالة ) ثمّ بصفة الربوبيّة ليدلّ به على أنّه لا يعبد ربّا غير الله ملّة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و احتمل عدّة من المفسّرين أن يكون الضمير في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) للشأن، و المراد أنّ ربّي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيّارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك

١٣٦

على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه.

و نظير الوجه قول بعضهم: إنّ الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إنّ و خبرها قوله:( رَبِّي ) ، و قوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) ، خبر بعد خبر.

و فيه أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنّه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) الآية ٥٢ من السورة و لم يقل: إنّي لم أظلمه بالغيب.

على أنّه (عليه السلام) لم يكن ليعدّ العزيز ربّا لنفسه، و هو حرّ غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) الآية ٤٢ من السورة، و قال لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية ٥١ من السورة و لم يعبّر عن الملك بلفظ ربّي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضاً لرسول الملك:( فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) حيث يأخذ الله سبحانه ربّا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربّا للرسول.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضاً قوله في الآية التالية:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) التدبّر البالغ في أطراف القصّة و إمعان النظر فيما تحتفّ به من الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أنّ نجاة يوسف منها لم تكن إلّا أمراً خارقاً للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابّا بالغاً أشدّه و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هني‏ء العيش محبوراً بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوّس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك

١٣٧

و العظماء.

و كانت لا محالة متزيّنة بما يأخذ بمجامع كلّ قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كلّه ممّا يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرّضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرّض أصعب، و قد راودته هذه الفتّانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحّت عليه فجذبته إلى نفسها حتّى قدّت قميصه و الصبر معها أصعب و أشقّ، و كانت عزيزة لا يردّ أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربّته خصّه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة الّتي تبهر العيون و تدعو إلى كلّ عيش هنيي‏ء.

و كانا في خلوة و قد غلّقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشرّ مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرّة بل كان مفتاحا لعيش هنيي‏ء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسّل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيّها كالملك و العزّة و المال.

فهذه أسباب و اُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها و لم يكن هناك ممّا يتوهّم مانعاً إلّا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز:

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أمن منه. و لو كان بدأ من ذلك شي‏ء لكان في وسع العزيزة أن تؤوّله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتّى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشي‏ء و قلبت العقوبة ليوسف حتّى سجن.

و أمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا و أشدّ إثما فإنّهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم. شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله و يلقوه في غيابة الجبّ و يبيعوه من السيّارة بيع

١٣٨

العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبيّ (عليه السلام) فبكى حتّى ابيضّت عيناه.

و أمّا قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعيّة و القوانين الاجتماعيّة إنّما تؤثّر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية و الحكومة العادلة، و أمّا لو أغفلت القوّة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي‏ء من هذه القوانين كما سنتكلّم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القويّة الّتي كانت لها عليه إلّا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله. و إن شئت فقل المحبّة الإلهيّة الّتي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلّا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبّر في القصّة. و لنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) لا ريب أنّ الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أنّ المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه ممّا اُريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أنّ المشار إليه بقوله:( كَذلِكَ ) هو ما يشتمل عليه قوله:( أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

فيؤل معنى قوله:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ ) إلى آخر الآية إلى أنّه (عليه السلام) لمّا كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربّه فرؤية برهان ربّه هي السبب الّذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام).

و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدّر لقوله:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون( لَوْ لا أَنْ رَأى) إلخ قيداً لقوله:( وَ هَمَّ بِها ) و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمّه بها نظير همّها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همّه بها داخلاً تحت الشرط، و المعنى أنّه لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يرتكب فإنّ( لَوْ لا ) و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدّم جزائها عليها قياسا على إن الشرطيّة إلّا أنّ قوله:

١٣٩

( وَ هَمَّ بِها ) ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنّه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه.

و معنى الآية: و الله لقد همّت به و الله لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يقع في المعصية، و إنّما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأنّ الهمّ - كما قيل - لا يستعمل إلّا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى:( وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) التوبة: ٧٤، و قوله:( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) آل عمران: ١٢٢، و قول صخر:

أهمّ بأمر الحزم لا أستطيعه

و قد حيل بين العير و النزوان

فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهمّ و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله:( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ) و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبّر فيه.

و من هنا يظهر أنّ الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهمّ بها و الميل إليها كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لو لا ما أراه الله من البرهان لهمّ و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الّذي يؤيّده ما قدّمناه من الاعتبار و التأمّل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) اللّام فيه للقسم، و المعنى و اُقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهمّ إلّا بأن تشفع الإرادة بشي‏ء من العمل.

و قوله:( وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى و اُقسم لو لا رؤيته برهان ربّه لهمّ بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه.

و البرهان هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلّطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى:( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ ) القصص:

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431