الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81248 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

قبل إنّما هو حقّ لو كان هذا بشراً و ليس به و إنّما يذمّ الإنسان و يعاب لو ابتلي بهوى بشر و مراودته و كان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه و يغني عنه، و أمّا الجمال الّذي لا يعادله جمال، و يسلب كلّ حزم و اختيار، فلا لوم على هواه. و لا ذمّ في غرامة.

و لهذا انقلب المجلس دفعة، و انقطعت قيود الاحتشام فانبسطن و تظاهرن بالقول في حسن يوسف و كلّ تتكلّم بما في ضميرها منه، و قالت امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) فأبدت سرّا ما كانت تعترف به قبل ثمّ هدّدت يوسف تجلّدا و حفظا لمقامها عندهنّ و طمعا في مطاوعته و انقياده:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) .

و أمّا يوسف فلم يأخذه شي‏ء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتّانة و لا التفت إلى شي‏ء من لطيف كلامهنّ و نعيم مراودتهنّ أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كلّ جمال، و جلال يذلّ عنده كلّ عزّة و جلال فلم يكلّمهنّ بشي‏ء و لم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، و إنّما رجع إلى ربّه فقال:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

و كلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة:( مَعاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) دلّ بسياقه على أنّ هذا المقام كان أشقّ و أمرّ على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم همّ امرأة العزيز و يعالج كيدها وحدها، و قد توجّهت إليه اليوم همّهنّ و مكايدهنّ جميعاً، و كان ما بالأمس واقعة في خلوة على تسترّ منها، و هي و هنّ اليوم متجاهرات في حبّه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، و جميع الأسباب و المقتضيات اليوم قاضية لهنّ عليه أشدّ ممّا كانت عليه بالأمس.

و لذا تضرّع إلى ربّه سبحانه في دفع كيدهنّ هاهنا، و اكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهنّ إنّه هو السميع العليم.

١٦١

و لنرجع إلى البحث عن الآيات.

فقوله تعالى:( وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها ) إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة و تقييد بقوله: فِي الْمَدِينَةِ تفيد أنّهنّ كنّ من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثّر قولهنّ في شيوع الفضيحة.

و امرأة العزيز هي الّتي كان يوسف في بيتها و قد راودته عن نفسه و العزيز معناه معروف، و قد كان يلقّب به السيّد الّذي اشترى يوسف من السيّارة و كان يلقّب به الرؤساء بمصر كما لقّب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.

و في قوله:( تُراوِدُ ) دلالة على الاستمرار و هو أفحش المراودة، و الفتى الغلام الشابّ و المرأة فتاة، و قد شاع تسمية العبد فتى و كأنّه بهذه العناية اُضيف إلى ضميرها فقيل:( فَتاها ) .

و في المفردات:( شَغَفَها حُبًّا ) أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه. عن الحسن، و قيل: وسطه. عن أبي عليّ، و هما يتقاربان انتهى. و شغاف القلب غلافه المحيط به.

و المعنى: و قال عدّة من نساء المدينة لا يخلو قولهنّ من أثر فيها و في حقّها: امرأة تستمرّ في مراودة عبدها عن نفسه و لا يحري بها ذلك لأنّها مرأة و من القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك - إن كان - من طبع الرجال و إنّها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الّذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها و عزّة زوجها و مكانة نفسها، و إنّ الّذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها و هي عزيزة مصر بعبد عبرانيّ من جملة عبيده، و أنّها أحبّته و تعدّت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتّى ألحّت و استمرّت على مراودته و ذلك أقبح و أشنع و أمعن في الضلال.

و لذلك عقّبن قولهنّ:( امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ ) إلخ بقولهنّ:( إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) قال في المجمع: المكر هو الفتل بالحيلة على ما

١٦٢

يراد من الطلبة. انتهى. و تسمية هذا القول منهنّ مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها و هتك سترها من ناحية رقيباتها حسداً و بغيا، و إنّما أرسلت إليهنّ لتريهنّ يوسف و تبتليهنّ بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها و يعذرنها في حبّه.

و على هذا إنّما سمّي قولهنّ مكراً و نسب السمع إليه لأنّه صدر منهن حسداً و بغيا لغاية فضاحتها بين الناس.

و قيل: إنّما كان قولهنّ مكراً لأنّهنّ جعلناه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنّما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهنّ ليحضرن عندها فتريهنّ إيّاه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتّخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، و الوجه الأوّل أقرب إلى سياق الآيات.

و قوله:( أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ) معناه معلوم و هو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.

و قوله:( وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) الإعتاد الإعداد و التهيئة أي أعدّت و هيّأت، و المتّكأ بضمّ الميم و تشديد التاء اسم المفعول من الإتّكاء، و المراد به ما يتّكؤ عليه من نمرق أو كرسيّ كما كان معمولا في بيوت العظماء. و فسّر المتكأ بالاُترجّ و هو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذّ( مُتَّكَا ) بالضمّ فالسكون و هو الاُترجّ و قرئ( مُتَّكَا ) بضمّ الميم و تشديد التاء من غير همز.

و قوله:( وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالاُترجّ أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع و قوله:( وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) أي أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ و هنّ خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة و قطعها، و في اللفظ دلالة على أنّه (عليه السلام) كان غائبا عنهنّ و كان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الّذي كنّ فيه فإنّها قالت:( اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) و لو كان في خارج من البيت لقالت:( ادخل عليهنّ ) .

و في السياق دلالة على أنّ هذا التدبير كان مكراً منها تجاه مكرهنّ ليفتضحن

١٦٣

به فيعذرنها فيما عذلنها و قد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فأعتدت لهنّ متكا و آتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا، و أخفت يوسف عن أعينهنّ ثمّ فاجأتهنّ بإظهاره دفعة لهنّ ليغبن عن عقولهنّ، و يندهشن بذاك الجمال البديع و يأتين بما لا يأتي به ذو شعور ألبتّة و هو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة و الثنتين منهنّ بل من الجميع.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لله ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) الإكبار الإعظام و هو كناية عن اندهاشهنّ و غيبتهنّ عن شعورهنّ و إرادتهنّ بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكونيّ العامّ و هو خضوع الصغير للكبير و قهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته و كبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد و الأفكار فأنساها و صار يتخبّط في أعماله.

و لذلك لمّا رأينه قهرت رؤيته شعورهنّ فقطّعن أيديهنّ تقطيعا مكان الفاكهة الّتي كنّ يردن قطعها، و في صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتّل القوم تقتيلا و موّتهم الجدب تمويتا.

و قوله:( وَ قُلْنَ حاشَ لله ) تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف و هذا كقوله تعالى:( ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) النور: ١٦ و هو من أدب الكلام عند الملّيّين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه و تبرئة لأحد يبدأ فينزّه الله سبحانه ثمّ يشتغل بتنزيه من اُريد تنزيهه فهنّ لمّا أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهنّ( ما هذا بَشَرا ) إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثمّ أخذن ينزّهنه.

و قوله:( ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا و إثبات أنّه ملك كريم، و هذا بناء على ما يعتقده الملّيّون و منهم الوثنيّون أنّ الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كلّ خير و سعادة في العالم منهم يترشّح كلّ حياة و علم و حسن و بهاء و سرور و سائر ما يتمنّى و يؤمّل من الاُمور ففيهم كلّ جمال صوريّ و معنويّ، و إذا مثّلوا تخيّلوا في حسن لا يقدّر بقدر، و يتصوّره

١٦٤

أصحاب الأصنام في صور إنسانيّة حسنة بهيّة.

و لعلّ هذا هو السبب في قولهنّ:( إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) حيث لم يصفنه بما يدلّ على حسن الوجه و جمال المنظر مع أنّ الّذي فعل بهنّ ما فعل هو حسن وجهه و اعتدال صورته بل سميّنة ملكاً كريماً لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته و سيرته معا، و جمال خلقه و خلقه و ظاهره و باطنه جميعا. و الله أعلم.

و تقدّم قولهنّ هذا على قول امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) يدلّ على أنّهنّ لم يفهن بهذا الكلام إعذارا لامرأة العزيز في حبّها له و تيمها و غرامها به، و إنّما كان ذلك اضطراراً منهنّ على الثناء عليه و إظهاراً قهريا لانجذاب نفوسهنّ و تولّه قلوبهنّ إليه فقد كان فيه فضاحتهنّ، و لم تقل امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) إلّا بعد ما فضحتهنّ فعلا و قولا بتقطيع الأيدي و تنزيه الحسن فلم يبق لهنّ إلّا أن يصدّقنها فيما تقول و يعذرنها فيما تفعل.

قوله تعالى: ( قالَتْ فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل كأنّ قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهنّ؟ فقيل:( قالَتْ فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) .

و قد فرّعت كلامها على ما تقدّمه من قولهنّ و فعلهنّ و أشارت إلى شخص الّذي لمنها فيه و وصفته بأنّه الّذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها و عزّة زوجها و عفّة نفسها في حبّه، و عذراً قبال لومهنّ إيّاها في مراودته، و أقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، و من هذا الباب قوله تعالى:( أَ هذَا الّذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) الأنبياء: ٣٦، و قوله:( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ) الأعراف: ٣٨.

ثمّ اعترفت بالمراودة و ذكرت لهنّ أنّها راودته لكنّه أخذ بالعفّة و طلب العصمة، و إنّما استرسلت و أظهرت لهنّ ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التولّه فيه فبثّت الشكوى لهنّ و نبّهت يوسف أنّها غير تاركته فليوطّن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، و هذا معنى قولها:( وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) .

١٦٥

ثمّ ذكرت لهنّ ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة و سياسته لو خالفت فقالت:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) و قد أكّدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم و النون و اللّام و نحوها ليدلّ على أنّها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، و عندها ما يجبره على ما أرادته و لو استنكف فليوطّن نفسه على السجن بعد الراحة، و الصغار و الهوان بعد الإكرام و الاحترام، و في الكلام تجلّد و نوع تعزّز و تمنّع بالنسبة إليهنّ و نوع تنبيه و تهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام).

و هذا التهديد الّذي يتضمّنه قولها:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) أشدّ و أهول ممّا سألته زوجها يوم المراودة بقولها:( ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

أمّا أوّلاً فلأنّها ردّدت الجزاء هناك بين السجن و العذاب الأليم و جمع هاهنا بين الجزاءين و هو السجن و الكون من الصاغرين.

و أمّا ثانياً فلأنّها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، و كلامها كلام من لا يتردّد فيما عزم عليه و لا يرجع عمّا جزم به. و قد حقّقت أنّها تملك قلب زوجها و تقدر أن تصرفه ممّا يريده إلى ما تريده، و تقوى على التصرّف في أمره كيفما شاءت؟.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: صبا فلان يصبو صبواً و صبوة إذا نزع و اشتاق و فعل فعل الصبيان، قال تعالى:( أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) انتهى و في المجمع: الصبوة لطافة الهوى. انتهى.

تفاوضت امرأة العزيز و النسوة فقالت و قلن و استرسلن في بثّ ما في ضمائرهنّ و يوسف (عليه السلام) واقف أمامهنّ يدعونه و يراودنه عن نفسه لكنّ يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهنّ و لا كلّمهنّ و لا بكلمة بل رجع إلى ربّه الّذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلّا له و لا شغل له إلّا به، و( قالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) إلخ.

١٦٦

و قوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن و أن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، و إنّما هو بيان حال لربّه و أنّه عن تربية إلهيّة يرجّح عذاب السجن في جنب الله على لذّة المعصية و البعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به و راودته عن نفسه:( مَعاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ففي الكلامين معا تمنّع و تعزّز بالله، و إنّما الفرق أنّه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز و بالآخر ربّه القويّ العزيز و ليس شي‏ء من الكلامين دعاء ألبتّة.

و في قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ) إلخ، نوع توطئة لقوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إلخ، الّذي هو دعاء في صورة بيان الحال.

فمعنى الآية: ربّ إنّي لو خيّرت بين السجن و بين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره و أسألك أن تصرف عنّي كيدهنّ فإنّك إن لا تصرف عنّي كيدهنّ أنتزع و أمل إليهنّ و أكن من الجاهلين فإنّي إنّما أتوقّى شرّهنّ بعلمك الّذي علّمتنيه و تصرف به عنّي كيدهنّ فإن أمسكت عن إفاضته عليّ صرت جاهلا و وقعت في مهلكة الصبوة و الهوى.

و قد ظهر من الآية بمعونة السياق:

أوّلاً: أنّ قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ) إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربّه بالإعراض عنهنّ و الرجوع إليه، و معنى( أَحَبُّ إِلَيَّ ) أنّي أختاره على ما يدعونني إليه لو خيّرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلّا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنسانيّ و النفس الأمّارة.

و أنّ قوله تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ) إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ) إلخ، من معنى الدعاء. و يؤيّده تعقيبه بقوله:( فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) ، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهّمه بعضهم.

١٦٧

و من الدليل عليه قوله بعد في قصّة دخوله السجن:( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) و لو كان دعاء بالسجن و استجابة الله سبحانه و قدّر له السجن لم يكن التعبير بثمّ و فصل المعنى عمّا تقدّمه بأنسب فافهم.

و ثانياً: أنّ النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أمّا أنّهنّ دعونه إلى أنفسهنّ أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثمّ أسرّت كلّ واحدة منهنّ داعية إيّاه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إذ لو لا دعوة منهنّ إلى أنفسهنّ لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهنّ.

و الّذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ - إلى أن قال -قُلْنَ حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) الآيات: ٥٠- ٥٢ من السورة.

أنّهنّ دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهنّ في القصّة ثمّ قال:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبّر فيه.

و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيّبهنّ عن شعورهنّ و يدهش عقولهنّ و يقطّعن أيديهنّ ثمّ ينسللن انسلالا و لا يتعرّض له أصلا و يذهبن لوجوههنّ بل العادة قاضية أنّهنّ ما فارقن المجلس إلّا و هنّ متيّمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلّا و هو همّهنّ و فيه هواهنّ يفدينه بالنفس و يطمعنه بأيّ زينة في مقدرتهنّ و يعرضن له أنفسهنّ و يتوصّلن إلى ما يردنه منه بكلّ ما يستطعن.

و هو ظاهر ممّا حكاه الله من يوسف في قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) فإنّه لم يعرض عن تكليمهنّ إلى مناجاة ربّه الخبير بحاله السميع لمقاله إلّا لشدّة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهنّ به.

١٦٨

و ثالثاً: أنّ تلك القوّة القدسيّة الّتي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجيّ يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعيّ المفروغ عنه و إلّا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبّر عنه بقوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ) و لم يقل: و إن لم تصرف عنّي و إن كانت الجملة الشرطيّة منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

و لذلك أيضاً قال تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) إلخ فنسب دفع الشرّ عنه إلى استجابة و صرف جديد.

و رابعاً: أنّ هذه القوّة القدسيّة من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام)( وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أو أكن من الخائنين كما قال للملك:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربّه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنّه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنّه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربّه بحقيقة الأمر و هو أنّ الصبوة إليهنّ من الجهل.

و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين(١) في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهنّ عنه حين قال:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إنّه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

( أبحاث حول التقوى الديني و درجاته)

في فصول‏

١- القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد: لا يسعد القانون إلّا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتمّ إلّا بالتوحيد فالتوحيد هو

____________________

(١) أي الأمر الثالث و الرابع.

١٦٩

الأصل الّذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانيّة و تتفرّع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي الّتي تثمر ثمراتها الطيّبة في المجتمع، قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) إبراهيم: ٢٦. فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و اُكل تؤتيه كلّ حين بإذن ربّها و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفّة و المعرفة و الشجاعة و العدالة والرحمة و نظائرها.

و قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر: ١٠ فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيّب و هو الاعتقاد الحقّ و جعل العمل الّذي يصلح له و يناسبه هو الّذي يرفعه و يمدّه في صعوده.

بيان ذلك: أنّ من المعلوم أنّ الإنسان لا يتمّ له كماله النوعيّ و لا يسعد في حياته الّتي لا بغية له أعظم من إسعادها إلّا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوّع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

و هذا هو الّذي أحوج الإنسان الاجتماعيّ إلى أن يتسنّن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتّى يعمل كلّ منهم ما في وسعه العمل به ثمّ يبادلوا أعمالهم فينال كلّ من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدّره وزنه الاجتماعيّ من غير أن يظلم القويّ المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

و من المسلّم أنّ هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثّرة إلّا بسنن و قوانين اُخرى جزائيّة تهدّد المتخلّفين عن السنن و القوانين المتعدّين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوّفهم بالسيّئة قبال السيّئة و باُخرى تشوّقهم و ترغّبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوّة الحاكمة الّتي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.

١٧٠

و إنّما تتحقّق هذه الاُمنيّة إذا كانت القوّة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قويّة على المجرم، و أمّا إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحقّقه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشدّ قوّة ضاعت القوانين و فشت التخلّفات و التعدّيات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مرّ مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجرّ النفع إلى نفسه و لو أضرّ غيره.

و يشتدّ هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوّة في القوّة المجرية أو من يتولّى أزمّة جميع الاُمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على ردّه إلى العدل و تقويمه بالحقّ فصار ذا قوّة و شوكة لا يقاوم في قوّته و لا يعارض في إرادته.

و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكّماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدّتها لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسدّ باب الخلاف و طريق التخلّف إلّا بأخلاق فاضلة إنسانيّة تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتّباع الحقّ و احترام الإنسانيّة و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها.

و لا يغرّنّك ما تشاهده من القوّة و الشوكة في الاُمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على اُسس أخلاقيّة حيث لا ضامن لإجرائها فإنّهم اُمم يفكّرون فكرة اجتماعيّة لا يرى الفرد منهم إلّا نفع الاُمّة و خيرها و لا يدفع إلّا ما يضرّ اُمّته، و لا همّ لاُمّته إلّا استرقاق سائر الاُمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدّم و الرقيّ إلّا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الاُمّة اليوم مقام الفرد بالأمس، و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرّيّة و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلّا الرقّيّة و

١٧١

الخسّة و الظلم و الرذيلة.

و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلّف و الضيعة إلّا إذا تأسّست على أخلاق كريمة إنسانيّة و استظهرت بها.

ثمّ الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلّا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأنّ للعالم - و منه الإنسان - إلهاً واحداً سرمديّا لا يعزب عن علمه شي‏ء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسي‏ء بإساءته ثمّ يخلّدون منعّمين أو معذّبين.

و من المعلوم أنّ الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان همّ إلّا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليّاً له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيويّة إلّا التمتّع بمتاع الدنيا الفانية و التلذّذ بلذائذ الحياة المادّيّة، و أقصى ما يمكنه أن يعدّل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعيّة الحيويّة أن يفكّر في نفسه أنّ من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و أنّ من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيّا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبيّة.

أمّا ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنّما يجري في اُمور هامّة علموا بها أمّا الجزئيّات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرّيّة فلا وقاء يقيها و أمّا الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الاُمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممّن يبتغيه و يذعن به ثمّ لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلّا اعتقاداً خرافيّاً إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت و الفوت حتّى يعود إليه شي‏ء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أيّ عاقل يشتري تمتّع غيره بحرمان نفسه من غير أيّ فائدة عائدة أو يقدّم الحياة لغيره

١٧٢

باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلّا البطلان و الاعتقاد الخرافيّ يزول بأدنى تنبّه و التفات.

فقد تبيّن أنّ شيئاً عن هذه الاُمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صدّ الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصّة إذا كان العمل ممّا من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصّة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفّف الّذي يزعم أنّه كان شرها و بغيا كما تقدّم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتّهام المرأة إيّاه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحريّ أن يمنعه - شي‏ء إلّا العلم بمقام ربّه.

٢- يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة: و إن شئت فقل: إنّه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحبّ، قال تعالى:( فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) الحديد: ٢٠ فعلى المؤمن أن يتنبّه لحقيقة الدنيا و هي أنّها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أنّ له وراءها داراً و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيّئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدّمه لرضى نفسه.

و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين و الّذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الّذي أعدّ لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلّما فكّر فيما وعده الله الّذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنّة.

١٧٣

و طائفة ثالثة و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنّما يعبدونه لأنّه أهل للعبادة و ذلك لأنّهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنّه ربّهم الّذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كلّ شي‏ء غيرهم، و يدبّر الأمر وحده و ليسوا إلّا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلّا أن يعبد ربّه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شي‏ء من أعمالهم فعلا أو تركا إلّا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوّفهم، و لا إلى ثواب يرجّيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام):( ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) .

و هؤلاء لمّا خصّوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربّهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربّهم تظهر في قلوبهم المحبّة الإلهيّة و ذلك أنّهم يعرفون ربّهم بما عرّفهم به نفسه، و قد سمّى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكلّ صفة جميلة و من خاصّة النفس الإنسانيّة أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ ) الأنعام: ١٠٢ ثمّ قال:( الّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: ٧ فأفاد أنّ الخلقة تدور مدار الحسن و أنّهما متلازمان متصادقان ثمّ ذكر سبحانه في آيات كثيرة أنّ ما خلقه من شي‏ء آية تدلّ عليه و أنّ في السماوات و الأرض لآيات لاُولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدلّ عليه تعالى و لا يحكي شيئاً من جماله و جلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدلّ على جماله الّذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الّذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدلّ على غناه المطلق و تسبّح و تنزّه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: ٤٤.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربّهم و عرفها لهم و هو أنّها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسيّة و الأصالة

١٧٤

و الاستقلال إلّا أنّها كمرائي تجلّى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلّتها و استكانتها ما فوقها من العزّة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزّة و العظمة و يغشى قلبه من المحبّة الإلهيّة ما ينسيه نفسه و كلّ شي‏ء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانيّة عن باطنه، و يبدّل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلّا الله عزّ اسمه قال تعالى:( وَ الّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله ) البقرة: ١٦٥.

و لذلك يرى أهل هذا الطريق أنّ الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفاً و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإنّ الّذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسّل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أنّ من يعبده طمعا في ثوابه يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدّمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام):( هل الدين إلّا الحبّ) و قوله (عليه السلام) في حديث:( و إنّي أعبده حبّا له و هذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون) الحديث، و إنّما كان أهل الحبّ مطهّرين لتنزّههم عن الأهواء النفسانيّة و الألواث المادّيّة فلا يتمّ الإخلاص في العبادة إلّا من طريق الحبّ.

٣- كيف يورث الحبّ الإخلاص؟ عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنّب المحرّمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنّة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معاً إنّما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لربّ الدين.

و أمّا محبّة الله سبحانه فإنّها تطهّر القلب من التعلّق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتّى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلّق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبيّ أو وليّ و سائر

١٧٥

ما يرجع إليه تعالى بوجه فإنّ حبّ الشي‏ء حبّ لآثاره.

فهذا الإنسان يحبّ من الأعمال ما يحبّه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الّذي يضي‏ء له طريق العمل، قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢. و الروح الّذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و هذا هو السرّ في أنّه لا يقع منه إلّا الجميل و الخير و يتجنّب كلّ مكروه و شرّ.

و أمّا الموجودات الكونيّة و الحوادث الواقعة فإنّه لا يقع بصره على شي‏ء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلّا أحبّه و استحسنه لأنّه لا يرى منها إلّا أنّها آيات محضة تجلّى له ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الّذي لا يتناهى العاري من كلّ شين و مكروه.

و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربّه بسرور لا غمّ معه و لذّة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإنّ هذه العوارض السوء إنّما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقّب للشرّ و المكروه، و من كان لا يرى إلّا الخير و الجميل و لا يجد إلّا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغمّ و الحزن و الخوف و كلّ ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدّره و لا يحيط به إلّا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العاديّة أن تتعقّله و تكتنهه إلّا بنوع من التصوّر الناقص.

و إليه يشير أمثال قوله تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) يونس: ٦٣، و قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢.

و هؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربّهم شي‏ء ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبّسه الشيطان فإنّ كلّ ما يترائى لهم ليس إلّا آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجابا ساترا فيفيض

١٧٦

عليهم ربّهم علم اليقين، و يكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادّيّة العميّة بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين: ٢١، و قوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و قد تقدّم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب.

و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكّلون على الله المفوّضون إليه الراضون بقضائه المسلّمون لأمره إذ لا يرون إلّا خيرا و لا يشاهدون إلّا جميلا فيستقرّ في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥.

٤- و أمّا إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإنّ العبد لا يملك من نفسه شيئاً إلّا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملّكه إيّاه فإخلاصه دينه - و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه - لله هو إخلاصه تعالى إيّاه لنفسه.

نعم هاهنا شي‏ء و هو أنّ الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوّث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.

و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمّة، و قد نصّ القرآن بأنّ الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأنعام: ٨٧، و قال:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج: ٧٨.

و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب

١٧٧

المعاصي، و تمتنع معه صدور شي‏ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنّهما معا تمنعان من صدور المعصية لكنّ العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.

و قد تقدّم آنفاً أنّ من خاصّة هؤلاء القوم أنّهم يعلمون من ربّهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصّق ذلك بقوله:( سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ الله الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و أنّ المحبّة الإلهيّة تبعثهم على أن لا يريدوا إلّا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرّر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله:( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

و من الدليل على أنّ العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء: ١١٣ و قد فصّلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.

و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام):( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣ و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.

و يظهر من ذلك أوّلا: أنّ هذا العلم يخالف سائر العلوم في أنّ أثره العمليّ و هو صرف الإنسان عمّا لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعيّ غير متخلّف دائماً بخلاف سائر العلوم فإنّ الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) : النمل ١٤ و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، و قال:( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) الجاثية: ١٧.

و يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:( سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ الله

١٧٨

الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و ذلك أنّ هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمّة (عليه السلام) قد بيّنوا لنا جمل المعارف المتعلّقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصّلنا العلم به من طريق البرهان أيضاً، و الآية مع ذلك تنزّهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به اُولئك المخلصون فليس إلّا أنّ العلم غير العلم و إن كان متعلّق العلمين واحدا من وجه.

و ثانياً: أنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغيّر الطبيعة الإنسانيّة المختارة في أفعالها الإراديّة و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرّد قوّة العلم لا يوجب إلّا قوّة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مانع مّا سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنّما يضطرّ الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.

و يشهد على ذلك قوله:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: ٨٨ تفيد الآية أنّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهيّ مانعاً من ذلك، و قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) المائدة: ٦٧ إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

و لا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرّح به الأخبار أنّ ذلك من الأنبياء و الأئمّة بتسديد من روح القدس فإنّ النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستنداً إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.

١٧٩

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغيّر مجراها و يحرّفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القويّ الضعيف عمّا يريده من الفعل بحسب طبعه.

و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الّذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنّهم يرون أنّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحقّ سبحانه إنّما هي في حدوثها، و أمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلّا أنّه لمّا كان أقدر و أقوى من كلّ شي‏ء كان له أن يتصرّف في الأشياء حال البقاء أيّ تصرّف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شرّ مثلاً أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغيّر مجرى إرادته مثلاً عن الشرّ إلى الخير أو أراد أن يضلّ عبداً لاستحقاقه ذلك سلّط عليه إبليس فحوّله من الخير إلى الشرّ و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.

و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشرّ مشاهدة عيان أنّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا الّتي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتّبة عليه قائمين بها فالّذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طوليّ لا عرضيّ و هو ظاهر.

مضافا إلى أنّ المعارف القرآنيّة من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدّم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدّم صدره في البحث الروائيّ السابق:

١٨٠

قال (عليه السلام): و كان يوسف من أجمل أهل زمانه فلمّا راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنّا أهل بيت لا يزنون فغلّقت الأبواب عليها و عليه و قالت: لا تخف و ألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيّدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلّا أن يسجن أو عذاب أليم.

قال: فهمّ الملك بيوسف ليعذّبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءاً بل هي راودتني عن نفسي فسل هذا الصبيّ أيّنا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبيّ زائر لها فأنطق الله الصبيّ لفصل القضاء فقال: أيّها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدوداً من قدّامه فهو الّذي راودها، و إن كان مقدوداً من خلفه فهي الّتي راودته.

فلمّا سمع الملك كلام الصبيّ و ما اقتصّه أفزعه ذلك فزعاً شديداً فجي‏ء بالقميص فنظر إليه فلمّا رآه مقدوداً من خلفه قال لها: إنّه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه.

قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتّى قلن نسوة منهنّ: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهنّ، و هيّأت لهن طعاماً و مجلساً ثمّ أتتهنّ باُترنج و آتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا ثمّ قالت ليوسف: اُخرج عليهنّ فلمّا رأينه أكبرنه و قطّعن أيديهنّ و قلن ما قلن يعني النساء فقالت لهنّ: هذا الّذي لمتنّني فيه تعني في حبّه. و خرجن النسوة من تحتها فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهنّ و قال: إلّا تصرف عنّي كيدهنّ أصب إليهنّ و أكن من الجاهلين و صرف الله عنه كيدهنّ.

فلمّا شاع أمر يوسف و امرأة العزيز و النسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبيّ ليسجننّ يوسف فسجنه في السجن و دخل السجن مع يوسف فتيان، و كان من قصّتهما و قصّة يوسف ما قصّه الله في الكتاب. قال أبوحمزة: ثمّ انقطع حديث عليّ بن الحسين (عليه السلام).

١٨١

أقول: و روى ما في معناه العيّاشيّ في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف يسير، و قوله (عليه السلام):( قال معاذ الله إنّا أهل بيت لا يزنون) تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) إلخ و هو يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية أنّ الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسّرين فافهم ذلك.

و قوله: فأبى عليهنّ و قال:( إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ) إلخ ظاهر في أنّه (عليه السلام) لم يأخذ قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) جزءاً من الدعاء فيوافق ما قدّمناه في بيان الآية أنّه ليس بدعاء.

و في العيون، بإسناده عن حمدان عن عليّ بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليّ بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى- و ذكر الحديث إلى أن قال فيه:( قال ظ) : فأخبرني عن قول الله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) فقال الرضا (عليه السلام): لقد همّت به و لو لا أن رآي برهان ربّه لهمّ بها لكنّه كان معصوما، و المعصوم لا يهمّ بذنب و لا يأتيه.

و لقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنّه قال: همّت بأن تفعل و همّ بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درّك يا أباالحسن.

أقول: تقدّم أنّ ابن الجهم هذا لا يخلو عن شي‏ء لكنّ صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدّمناه في بيان الآية و أمّا ما نقله عن جدّه الصادق (عليه السلام)( أنّها همّت بأن تفعل و همّ بأن لا يفعل) فلعلّ المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه و لعلّ المراد به همّه بقتلها كما يؤيّده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدّمة في بيان الآية.

و فيه، بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ قال: لمّا جمع المأمون لعليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و من الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلّا و قد ألزمه حجّته كأنّه

١٨٢

اُلقم حجرا.

قام إليه عليّ بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له: فما تقول في قوله عزّوجلّ في يوسف:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ) ؟ فقال له: أمّا قوله تعالى في يوسف:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ) فإنّها همّت بالمعصية و همّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها و الفاحشة. و هو قوله عزّوجلّ:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ) و السوء القتل و الفحشاء الزنا.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الحلية عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها ) قال: طمعت فيه و طمع فيها، و كان من الطمع أن همّ بحلّ التكّة فقامت إلى صنم مكلّل بالدرّ و الياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها و بينه فقال: أي شي‏ء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة- فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا من إلهي الّذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت؟ ثمّ قال: لا تنالينها منّي أبدا. و هو البرهان الّذي رأى.

أقول: و الرواية من الموضوعات كيف؟ و كلامه و كلام سائر أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء و مذهبهم في ذلك مشهور.

على أنّ سترها الصنم و انتقاله من ذلك إلى ما ذكّره لها من الحجّة لا يعدّ من رؤية البرهان، و قد ورد هذا المعنى في عدّة روايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) لكنّها آحاد لا تعويل عليها. نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه و بين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كلّ سوء و فحشاء كما كان له ذلك من قبل، و قد قال تعالى في حقّه:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) . فإن صحّ شي‏ء من هذه الروايات فليكن هذا معناه.

و فيه،: أخرج أبوالشيخ عن ابن عبّاس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات:

١٨٣

حين همّ بها فسجن، و حين قال:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربّه. و حين قال:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.

أقول: و الرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أنّ الله اجتباه و أخلصه لنفسه و أنّ الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه و كيف يستقيم لمن همّ على أفحش معصية و أنساه الشيطان ذكر ربّه ثمّ كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثمّ بلبثه فيه بضع سنين و جبّه بالسرقة أن يعدّه الله صدّيقاً من عباده المخلصين و المحسنين، و يذكر أنّه آتاه الحكم و العلم و اجتباه و أتمّ عليه نعمته، و على هذا السبيل روايات جمّة رواها في الدرّ المنثور، و قد تقدّم نقل شطر منها عند بيان الآيات، و لا تعويل على شي‏ء منها.

و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: تكلّم أربعة و هم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم.

و في تفسير القمّيّ قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( قَدْ شَغَفَها حُبًّا ) يقول: قد حجبها حبّه عن الناس فلا تعقل غيره، و الحجاب هو الشغاف، و الشغاف هو حجاب القلب.

و فيه، في حديث جمعها النسوة و تقطيعهنّ أيديهنّ قال: فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتّى بعثت إليه كلّ امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) .الحديث.

١٨٤

( سورة يوسف الآيات ٣٥ - ٤٢)

ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّى‏ حِينٍ( ٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْأَخَرُ إِنّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ( ٣٦) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلّا نَبّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلِكُمَا مِمّا عَلّمَنِي رَبّي إِنّي تَرَكْتُ مِلّةَ قَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ٣٧) وَاتّبَعْتُ مِلّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النّاسِ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ( ٣٨) يَا صَاحِبَيِ السّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مّتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ( ٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلّا أَسْماءً سَمّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ‏ِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٤٠) يَاصَاحِبَيِ السّجْنِ أَمّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْراً وَأَمّا الْأَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطّيْرُ مِن رّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ( ٤١) وَقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ فَأَنسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ( ٤٢)

١٨٥

( بيان)

تتضمّن الآيات شطراً من قصّته (عليه السلام) و هو دخوله السجن و مكثه فيه بضع سنين و هو مقدّمة تقرّبه التامّ عند الملك و نيله عزّة مصر، و فيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد، و قد جاء ببيان عجيب، و إظهاره لأوّل مرّة أنّه من اُسرة إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حتّى حِينٍ ) البداء هو ظهور رأي بعد ما لم يكن يقال: بدا لي في أمر كذا أي ظهر لي فيه رأي جديد، و الضمير في قوله:( لَهُمْ ) إلى العزيز و امرأته و من يتلوهما من أهل الاختصاص و أعوان الملك و العزّة.

و المراد بالآيات الشواهد و الأدلّة الدالّة على براءة يوسف (عليه السلام) و طهارة ذيله ممّا اتّهموه به كشهادة الصبيّ و قدّ القميص من خلفه و استباقهما الباب معا، و لعلّ منها تقطيع النسوة أيديهنّ برؤيته و استعصامه عن مراودتهنّ إيّاه عن نفسه و اعتراف امرأة العزيز لهنّ أنّها راودته عن نفسه فاستعصم.

و قوله:( لَيَسْجُنُنَّهُ ) اللّام فيه للقسم أي أقسموا و عزموا ليسجننّه البتّة، و هو تفسير للرأي الّذي بدا لهم، و يتعلّق به قوله:( حتّى حِينٍ ) و لا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع حين عن الإضافة و المعنى على هذا ليسجننّه حتّى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة و ينساه الناس.

و معنى الآية: ثمّ ظهر للعزيز و من يتلوه من امرأته و سائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما رأوا هذه الآيات الدالّة على براءته و عصمته و هو أن يسجنوه حينا من الزمان حتّى ينسى حديث المراودة الّذي يجلب لهم العار و الشين و أقسموا على ذلك.

و يظهر بذلك أنّهم إنّما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز و صوناً لاُسرته

١٨٦

عن هوان التهمة و العار، و لعلّ من غرضهم أن يتحفّظوا على أمن المدينة العامّ و لا يخلوا الناس و خاصّة النساء أن يفتتنوا به فإنّ هذا الحسن الّذي أوله امرأة العزيز و السيّدات من شرفاء المدينة و فعل بهم ما فعل من طبعه أن لا يلبث دون أن يقيم في المدينة بلوى.

لكن الّذي يظهر من قوله في السجن لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) إلى آخر ما قال ثمّ قول الملك لهنّ:( ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) ، و قولهن:( حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) ثم قول امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ المرأة ألبست الأمر بعد على زوجها و أرابته في براءة يوسف (عليه السلام) فاعتقد خلاف ما دلّت عليه الآيات أو شكّ في ذلك، و لم يكن ذلك إلّا عن سلطة تامّة منها عليه و تمكّن كامل من قلبه و رأيه.

و على هذا فقد كان سجنه بتوسّل أو بأمر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها و تؤدّب يوسف لعلّه ينقاد لها و يرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هدّدته به بمحضر من النسوة بقولها:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ) إلى آخر الآية الفتى العبد و سياق الآيات يدلّ على أنّهما كانا عبدين من عبيد الملك، و قد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) فصل قوله:( قالَ أَحَدُهُما ) للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا و بين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله:( أَرانِي ) و خطابه له بصاحب السجن.

و قوله:( أَرانِي ) لحكاية الحال الماضية كما قيل، و قوله:( أَعْصِرُ خَمْراً ) أي أعصر عنبا كما يعصر ليتّخذ خمراً فقد سمّي العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه.

و المعنى أصبح أحدهما و قال ليوسف (عليه السلام) إنّي رأيت فيما يرى النائم أنّي

١٨٧

أعصر عنبا للخمر.

و قوله:( وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ) أي تنهشه و هي رؤيا اُخرى ذكرها صاحبه. و قوله:( نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي قالا نبّئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله:( قال ) ( و قال ) و هذا من لطائف تفنّن القرآن، و الضمير في قوله:( بِتَأْوِيلِهِ ) راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق، و في قوله:( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) تعليل لسؤالهما التأويل و( نَراكَ ) أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم، و إنّما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لإحسانه، لما يعتقد عامّة الناس أنّ المحسنين الأبرار ذوو قلوب طاهرة و نفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الاُمور و جريان الحوادث انتقالاً أحسن و أقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم.

و المعنى: قال أحدهما ليوسف: إنّي رأيت فيما يرى النائم كذا و قال الآخر: إنّي رأيت كذا، و قالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كلّ منّا لأنّا نعتقد أنّك من المحسنين، و لا يخفى لهم أمثال هذه الاُمور الخفيّة لزكاء نفوسهم و صفاء قلوبهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ) لمّا أقبل صاحبا السجن على يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظنّ به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بثّ ما عنده من أسرار التوحيد و الدعوة إلى ربّه سبحانه الّذي علّمه ذلك فأخبرهما أنّه عليم بذلك بتعليم من ربّه خبير بتأويل الأحاديث و توسّل بذلك إلى الكشف عن سرّ التوحيد و نفي الشركاء ثمّ أوّل رؤياهما.

فقال أوّلا: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ - و أنتما في السجن - إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ - أي بتأويل ذاكما الطعام و حقيقته و ما يؤول إليه أمره - فأنا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد.

هذا على تقدير عود الضمير في قوله:( بِتَأْوِيلِهِ ) إلى الطعام، و يكون عليه إظهاراً منه (عليه السلام) لآية نبوّته نظير قول المسيح (عليه السلام) لبني إسرائيل:( وَ أُنَبِّؤُكُمْ

١٨٨

بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٤٩، و يؤيّد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليه السلام) كما سيأتي في بحث روائيّ إن شاء الله تعالى.

و أمّا على تقدير عود ضمير( بِتَأْوِيلِهِ ) إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ ) إلخ، وعد منه لهما تأويل رؤياهما و وعد بتسريعه غير أنّ هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر إلى السياق.

قوله تعالى: ( ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) بيّن (عليه السلام) أنّ العلم و التنبّؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم العاديّ الاكتسابيّ في شي‏ء بل هو ممّا علّمه إيّاه ربّه ثمّ علّل ذلك بتركه ملّة المشركين و اتّباعه ملّة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب أي رفضه دين الشرك و أخذه بدين التوحيد.

و المشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه و يثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدّم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم أنّ الّذي يقدّر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله و كذا عود النفوس بعد الموت بأبدان اُخرى تتنعّم فيها أو تعذّب ليس من المعاد في شي‏ء، و لذلك نفى (عليه السلام) عنهم الإيمان بالله و بالآخرة، و أكّد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال:( وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) و ذلك لأنّ من لا يؤمن بالله فأحرى به أن لا يؤمن برجوع العباد إليه.

و هذا الّذي يقصّه الله سبحانه من قول يوسف (عليه السلام):( وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ) هو أوّل ما أنبأ في مصر نسبه و أنّه من أهل بيت إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام).

قوله تعالى: ( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن نشرك به شيئا و منعنا من ذلك، ذلك المنع من فضل الله و نعمته علينا

١٨٩

أهل البيت و على الناس و لكنّ أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به.

و أمّا أنّه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل إجبار و إلجاء بل جعل تأييد و تسديد حيث أنعم عليهم بالنبوّة و الرسالة و الله أعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك و دانوا بالتوحيد.

و أمّا أنّ ذلك من فضل الله عليهم و على الناس فلأنّهم أيدوا بالحقّ و هو أفضل الفضل و الناس في وسعهم أن يرجعوا إليهم فيفوزوا باتّباعهم و يهتدوا بهداهم.

و أمّا أنّ أكثر الناس لا يشكرون فلأنّهم يكفرون بهذه النعمة و هي النبوّة و الرسالة فلا يعبؤون بها و لا يتّبعون أهلها أو لأنّهم يكفرون بنعمة التوحيد و يتّخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة و الجنّ و الإنس يعبدونهم من دون الله.

هذا ما ذكره أكثر المفسّرين في معنى الآية.

و يبقى عليه شي‏ء و هو أنّ التوحيد و نفي الشركاء ليس ممّا يرجع فيه إلى بيان النبوّة فإنّه ممّا يستقلّ به العقل و تقضي به الفطرة فلا معنى لعدّه فضلا على الناس من جهة الاتّباع بل هم و الأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد و شرع سواء و لو كفروا بالتوحيد فإنّما كفروا لعدم إجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتّباع الأنبياء.

لكن يجب أن يعلم أنّه كما أنّ من الواجب في عناية الله سبحانه أن يجهّز نوع الإنسان مضافاً إلى الهامّة من طريق العقل الخير و الشرّ و التقوى و الفجور بما يدرك به أحكام دينه و قوانين شرعه و هو سبيل النبوّة و الوحي، و قد تكرّر توضيحه في أبحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته أن يجهّز أفراداً منه بنفوس طاهرة و قلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الأصليّة لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصراً بعد عصر و يحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل، و البرهان عليه هو البرهان على النبوّة و الوحي فإنّ الواحد من الإنسان العاديّ لا يمتنع عليه الشرك و نسيان التوحيد، و الجائز على الواحد جائز على الجميع و في تلبّس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته و بطلان الغرض الإلهيّ في خلقته.

١٩٠

فمن الواجب أن يكون في النوع رجال متلبّسون بإخلاص التوحيد يقومون بأمره و يدافعون عنه و ينبّهون الناس عن رقدة الغفلة و الجهالة بإلقاء حججه و بثّ شواهده و آياته و بينهم و بين الناس رابطة التعليم و التعلّم دون السوق و الاتّباع.

و هذه النفوس إن كانت فهي نفوس الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام)، و في خلقهم و بعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم، و على الناس بنصب من يذكّرهم الحقّ الّذي تقضي به فطرتهم و يدافع عن الحقّ تجاه غفلتهم و ضلالتهم فإنّ اشتغال الناس بالأعمال المادّيّة و مزاولتهم للاُمور الحسّيّة تجذبهم إلى اللّذّات الدنيويّة و تحرّضهم على الإخلاد إلى الأرض فتبعّدهم عن المعنويّات و تنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهيّة، و لو لا رجال متألّهون متولّهون في الله الّذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كلّ برهة من الزمان لاُحيطت الأرض بالعماء، و انقطع السبب الموصول بين الأرض و السماء، و بطلت غاية الخلقة، و ساخت الأرض بأهلها.

و من هنا يظهر أنّ الحقّ أن تنزّل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية: لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا، ذلك أي كوننا في أمن من الشرك من فضل الله علينا لأنّه الهدى الّذي هو سعادة الإنسان و فوزه العظيم. و على الناس لأنّ في ذلك تذكيرهم إذا نسوا و تنبيههم إذا غفلوا، و تعليمهم إذا جهلوا، و تقويمهم إذا عوجّوا و لكنّ أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبؤون به و لا يقبلون عليه بل يعرضون عنه. هذا.

و ذكر بعضهم في معنى الآية: أنّ المشار إليه بقوله:( ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا ) إلخ، هو العلم بتأويل الأحاديث. و هو كما ترى بعيد من سياق الآية.

قوله تعالى: ( يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم: خار يخار خيرة إذا انتخب و اختار أحد شيئين يتردّد بينهما من حيث الفعل أو من حيث الأخذ بوجه فالخير منهما هو الّذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبيّة فيتعيّن الأخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الّذي يتعيّن القيام به و خير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به

١٩١

كخير المالين من جهة التمتّع به و خير الدارين من جهة سكناها و خير الإنسانين من جهة مصاحبته، و خير الرأيين من جهة الأخذ به، و خير الإلهين من جهة عبادته، و من هنا ذكر أهل الأدب أنّ الخير في الأصل( أخير ) أفعل تفضيل، و الحقيقة أنّه صفة مشبهة تفيد بحسب المادّة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس.

و بما مرّ يتبيّن أنّ قوله (عليه السلام):( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) إلخ مسوق لبيان الحجّة على تعيّنه تعالى للعبادة إذا فرض تردّد الأمر بينه و بين سائر الأرباب الّتي تدعى من دون الله لا لبيان أنّه تعالى هو الحقّ الموجود دون غيره من الأرباب أو أنّه تعالى هو الإله الّذي تنتهي إليه الأشياء بدءاً و عوداً دونها أو غير ذلك فإنّ الشي‏ء إنّما يسمّى خيراً من جهة طلبه و تعيينه بالأخذ به بنحو فقوله (عليه السلام): أهو خير أم سائر الأرباب؟ يريد به السؤال عن تعيّن أحد الطرفين من جهة الأخذ به و الأخذ بالربّ هو عبادته.

ثمّ إنّه (عليه السلام) سمّى آلهتهم أرباباً متفرّقين لأنّهم كانوا يعبدون الملائكة و هم عندهم صفات الله سبحانه أو تعيّنات ذاته المقدّسة الّتي تستند إليها جهات الخير و السعادة في العالم فيفرّقون بين الصفات بتنظيمها طولاً و عرضاً و يعبدون كلّا بما يخصّه من الشأن فهناك إله العلم و إله القدرة و إله السماء و إله الأرض و إله الحسن و إله الحبّ و إله الأمن و الخصب و غير ذلك، و يعبدون الجنّ و هم مبادئ الشرّ في العالم كالموت و الفناء و الفقر و القبح و الألم و الغمّ و غير ذلك، و يعبدون أفراداً كالكملين من الأولياء و الجبابرة من السلاطين و الملوك و غيرهم، و هم جميعاً متفرّقون من حيث أعيانهم و من حيث أصنامهم و التماثيل المتّخذة لهم المنصوبة للتوجّه بها إليهم.

و قابل الأرباب المتفرّقين بذكر الله عزّ اسمه و وصفه بالواحد القهّار حيث قال:( أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ ) لضرورة التقابل بين طرفي الترديد.

فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدّسة الإلهيّة الّتي هي حقيقة لا سبيل للبطلان

١٩٢

إليه و وجود لا يتطرّق العدم و الفناء إليه، و الوجود الّذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حدّ محدود و لا أمد ممدود لأنّ كلّ محدود فهو معدوم وراء حدّه، و الممدود باطل بعد أمده فهو تعالى ذات غير محدود و وجود غير متناه بحت، و إذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدوداً غير موجود في ظرف الصفة و فاقرا لا يجد الصفة في ذاته و لم يمكن أيضاً فرض المغايرة و البينونة بين صفاته الذاتيّة كالحياة و العلم و القدرة لأنّ ذلك يؤدّي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حدّ في خارجه فيتغاير الذات و الصفات و يتكثّر جميعا و يحدّ، و هذا كلّه ممّا اعترفت به الوثنيّة على ما بأيدينا من معارفهم.

فممّا لا يتطرّق إليه الشكّ عند المثبتين لوجود الإله سبحانه لو تفطّنوا أنّ الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره، و أنّ ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه و لا بعض صفات كماله صفات زائد على بعض فهو علم و قدرة و حياة بعينه.

فهو تعالى أحديّ الذات و الصفات أي إنّه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شي‏ء إلّا موجوداً به لا مستقلّاً بالوجود و واحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقيّة إلّا أن تكون عين الذات فهو الّذي يقهر كلّ شي‏ء لا يقهره شي‏ء.

و الإشارة إلى هذا كلّه هي الّتي دعته (عليه السلام) أن يصف الله سبحانه بالواحد القهّار حيث قال:( أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) أي إنّه تعالى واحد لكن لا واحد عدديّ إذا اُضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلّا و هي موجودة به لا بنفسها و لا أن يفرض قباله صفة له إلّا و هي عينه و إلّا صارت باطلة كلّ ذلك لأنّه بحث غير محدود بحدّ و لا منته إلى نهاية.

و قد تمّت الحجّة على الخصم منه (عليه السلام) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرّقين، و إيّاه تعالى بالواحد القهّار لأنّ كون ذاته المتعالية واحداً قهّاراً يبطل التفرقة - أيّ تفرقة مفروضة - بين الذات و الصفات، فالذات عين

١٩٣

الصفات و الصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات و الصفات و من عبد علمه فقد عبد ذاته، و إن عبد علمه و لم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه و لا ذاته و على هذا القياس.

فإذا فرض تردّد العبادة بين أرباب متفرّقين و بين الله الواحد القهّار تعالى و تقدّس تعيّنت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرّقين و لا تفرقة في العبادة.

نعم يبقى هناك شي‏ء و هو الّذي يعتمد عليه عامّة الوثنيّة من أنّ الله سبحانه أجلّ و أرفع ذاتاً من أن تحيط به عقولنا أو يناله أفهامنا فلا يمكننا التوجّه إليه بعبادته و لا يسعنا التقرّب منه بعبوديّته و الخضوع له، و الّذي يسعنا هو أن نتقرّب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة الّتي هي مؤثّرات في تدبير النظام العالميّ حتّى يقرّبونا منه و يشفعوا لنا عنده فأشار (عليه السلام) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله:( ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً ) إلخ إلى دفعه.

قوله تعالى: ( ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) إلخ، بدأ (عليه السلام) بخطاب صاحبيه في السجن أوّلا ثمّ عمّم الخطاب للجميع لأنّ الحكم مشترك بينهما و بين غيرهما من عبدة الأوثان.

و نفي العبادة إلّا عن الأسماء كناية عن أنّه لا مسمّيات وراء هذه الأسماء فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء و إله الأرض و إله البحر و إله البرّ و الأب و الاُمّ و ابن الإله و نظائر ذلك.

و قد أكّد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسمّيات بقوله:( أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) فإنّه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم و آباؤكم وضعتموها، ثمّ أكّده ثانياً بقوله:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) و السلطان هو البرهان لتسلّطه على العقول أي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدلّ على أنّ لها مسمّيات وراءها، و حينئذ كان يثبت لها الاُلوهيّة أي المعبوديّة فصحّت عبادتكم لها.

١٩٤

و من الجائز أن يكون ضمير( بِها ) عائداً إلى العبادة أي ما أنزل الله حجّة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة و استقلالاً في التأثير حتّى تصحّ عبادتها و التوجّه إليها فإنّ الأمر إلى الله على كلّ حال. و إليه أشار بقوله بعده:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) .

و هو أعني قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) ممّا لا ريب فيه البتّة إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلّا ممّن يملك تمام التصرّف، و لا مالك للتصرّف و التدبير في اُمور العالم و تربية العباد حقيقة إلّا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى إلّا له.

و هو أعني قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) مفيد فيما قبله و ما بعده صالح لتعليلهما معا، أمّا فائدته في قوله قبل:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) فقد ظهرت آنفاً، و أمّا فائدته في قوله بعد:( أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) فلأنّه متضمّن لجانب إثبات الحكم كما أنّ قوله قبل:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) متضمّن لجانب السلب، و حكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنّه لمّا قيل:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) قيل:( فما ذا حكم به في أمر العبادة) فقيل:( أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) و لذلك جي‏ء بالفعل.

و معنى الآية - و الله أعلم - ما تعبدون من دون الله إلّا أسماء خالية عن المسمّيات لم يضعها إلّا أنتم و آباؤكم من غير أن ينزّل الله سبحانه من عنده برهانا يدلّ على أنّ لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتّى يصحّ لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرّها.

و أمّا قوله:( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله و نفي الشريك عنه، و القيّم هو القائم بالأمر القوي على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل و المتضعضع، و المعنى أنّ دين التوحيد وحده هو القويّ على إدارة المجتمع و سوقه إلى منزل السعادة، و الدين المحكم غير المتزلزل الّذي فيه الرشد من غير غيّ و الحقّيّة من غير بطلان، و لكنّ أكثر الناس لاُنسهم بالحسّ و المحسوس و انهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة

١٩٥

القلب و استقامة العقل لا يعلمون ذلك، و إنّما يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة معرضون.

أمّا أنّ التوحيد دين فيه الرشد و مطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه (عليه السلام) من البرهان، و أمّا أنّه هو القويّ على إدارة المجتمع الإنسانيّ فلأن هذا النوع إنّما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته و أحكام معاشه على مبني حقّ مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبني باطل خرافيّ لا يعتمد على أصل ثابت.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ الآيتين جميعا أعني قوله:( يا صاحِبَيِ السِّجْنِ - إلى قوله -أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) برهان واحد على توحيد العبادة، محصّله أنّ عبادة المعبود إن كانت لاُلوهيّته في نفسه و وجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهّار لا يتصوّر له ثان و لا مع تأثيره مؤثّر آخر فلا معنى لتعدّد الآلهة، و إن كانت لكون آلهة غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فإنّ الله حكم من طريق العقل و بلسان أنبيائه أن لا يعبد إلّا هو.

و بذلك يظهر فساد ما أورده البيضاويّ في تفسيره تبعا للكشّاف أنّ الآيتين تتضمّنان دليلين على التوحيد فما في الاُولى و هو قوله:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل خطابيّ، و ما في الثانية و هو قوله:( ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً ) إلخ برهان تامّ.

قال البيضاويّ: و هذا من التدرّج في الدعوة و إلزام الحجة بيّن لهم أوّلا رجحان التوحيد على اتّخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثمّ برهن على أنّ ما يسمّونها آلهة و يعبدونها لا تستحقّ الإلهيّة فإنّ استحقاق العبادة إمّا بالذات و إمّا بالغير و كلا القسمين منتف عنهما ثمّ نصّ على ما هو الحقّ القويم و الدين المستقيم الّذي لا يقتضي العقل غيره و لا يرتضي العلم دونه. انتهى.

و لعلّ الّذي حداه إلى ذلك ما في الآية الاُولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابيّ، و قد فاته ما فيها من قيد( الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و قد عرفت تقرير

١٩٦

ما تتضمّنه الآيتان من البرهان، و أنّ الّذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب.

و ربّما يقرّر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخّصه أنّ الله الواحد الّذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرّقة الّتي تفعل في الكون و يسوقها على تلائم آثارها المتفرّقة المتنوّعة بعضها مع بعض حتّى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود من وحدة النظام و توافق الأسباب خير من أرباب متفرّقين تترشّح منها لتفرّقها و مضادّتها أنظمة مختلفة و تدابير متضادّة تؤدّي إلى انفصام وحدة النظام الكونيّ و فساد التدبير الواحد العموميّ.

ثمّ الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمّياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل و لا من جانب النقل لأنّ العقل لا يدلّ إلّا على التوحيد و الأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلّا بأن لا يعبد إلّا الله وحده. انتهى.

و هذا التقرير - كما ترى - ينزّل الآية الاُولى على معنى قوله تعالى:( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ) الأنبياء: ٢٢، و يعمّم الآية الثانية على نفي اُلوهيّة آلهة إلّا الله بذاتها و نفي اُلوهيّتها من جهة إذن الله في شفاعتها.

و يرد عليه أوّلا: أنّ فيه تقييداً لإطلاق قوله:( الْقَهَّارُ ) من غير مقيّد فإنّ الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كلّ شي‏ء في ذاته و صفته و آثاره فلا ثاني له في وجوده و لا ثاني له في استقلاله في نفسه و في تأثيره فلا يتأتّى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يفرض شي‏ء يستقلّ عنه في وجوده، و لا أمر يستقلّ عنه في أمره، و الإله الّذي يفرض دونه إمّا مستقلّ عنه في ذاته و آثار ذاته جميعا و إمّا مستقلّ عنه في آثار ذاته فحسب، و كلا الأمرين محال كما ظهر.

و ثانياً: أنّ فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمّم فإنّ الآية - كما عرفت - تنيط كونها آلهة بإذن الله و حكمه كما هو ظاهر قوله:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) إلخ و من الواضح أنّ هذه الاُلوهيّة المنوطة بإذنه تعالى و حكمه اُلوهيّة شفاعة لا اُلوهيّة ذاتيّة أي اُلوهيّة بالغير لا ما هو أعمّ

١٩٧

من الاُلوهيّة بالذات و بالغير جميعا.

قوله تعالى: ( يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) معنى الآية ظاهر، و قرينة المناسبة قاضية بأنّ قوله:( أَمَّا أَحَدُكُما ) إلخ، تأويل رؤيا من قال منهما:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) و قوله:( وَ أَمَّا الْآخَرُ ) إلخ، تأويل لرؤيا الآخر.

و قوله:( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) لا يخلو من إشعار بأنّ الصاحبين أو أحدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا و لعلّه الثاني لمّا سمع تأويل رؤياه بالصلب و أكل الطير من رأسه، و يتأيّد بهذا ما ورد من الرواية من طرق أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الثاني من الصاحبين قال له: إنّي كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (عليه السلام):( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) أي إنّ التأويل الّذي استفتيتما فيه مقضيّ مقطوع لا مناص عنه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) الضمائر في قوله:( قالَ ) و( ظَنَّ ) و( فَلَبِثَ ) راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للّذي ظنّ هو أنّه سينجو منهما: اذكرني عند ربّك بما يثير رحمته لعلّه يخرجني من السجن.

و إطلاق الظنّ على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنّه من المقضيّ المقطوع به و تصريحه بأنّ ربّه علمه تأويل الأحاديث لعلّه من إطلاق الظنّ على مطلق الاعتقاد و له نظائر في القرآن كقوله تعالى:( الّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) : البقرة: ٤٦.

و أمّا قول بعضهم: إنّ إطلاق الظنّ على اعتقاده يدلّ على أنّه إنّما أوّل ما أوّل عن اجتهاد منه. يفسده ما قدّمنا الإشارة إليه أنّه صرّح لهما بعلمه في قوله:( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) و الله سبحانه أيّد ذلك بقوله:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) و هذا ينافي الاجتهاد الظنّيّ.

و قد احتمل أن يكون ضمير( ظَنَّ ) راجعاً إلى الموصول أي قال يوسف

١٩٨

لصاحبه الّذي ظنّ ذلك الصاحب أنّه ناج منهما. و هذا المعنى لا بأس به إن ساعده السياق.

و قوله:( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) إلخ، الضميران راجعان إلى( الّذي ) أي فأنسا الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربّه أو عند ربّه فلبث يوسف في السجن بضع سنين و البضع ما دون العشرة فإضافة الذكر إلى ربّه من قبيل إضافة المصدر إلى معموله المعدّى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة.

و أمّا إرجاع الضميرين إلى يوسف حتّى يفيد أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلّق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم و ربّما نسب إلى الرواية.

فممّا يخالف نصّ الكتاب فإنّ الله سبحانه نصّ على كونه (عليه السلام) من المخلصين و نصّ على أنّ المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما أثنى الله عليه في هذه السورة.

و الإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسّل بالأسباب فإنّ ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل إنّما يوجب ترك الثقة بها و الاعتماد عليها و ليس في قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) ما يشعر بذلك البتّة.

على أنّ قوله تعالى بعد آيتين:( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) إلخ، قرينة صالحة على أنّ الناسي هو الساقي دون يوسف.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حتّى حِينٍ ) فالآيات شهادة الصبيّ و القميص المخرق من دبر و استباقهما الباب حتّى سمع مجاذبتها إيّاه على الباب، فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتّى حبسه.

و دخل معه السجن فتيان يقول: عبدان للملك أحدهما خبّاز و الآخر صاحب الشراب، و الّذي كذب و لم ير المنام هو الخبّاز.

١٩٩

و ذكر الحديث عليّ بن إبراهيم القمّيّ قال: و وكّل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلمّا دخل السجن قالوا له: ما صناعتك؟ قال: اُعبّر الرؤيا. فرأى أحد الموكّلين في منامه كما قال يعصر خمرا. قال يوسف: تخرج و تصير على شراب الملك و ترتفع منزلتك عنده، و قال الآخر: إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، و لم يكن رأى ذلك فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من رأسك، فضحك الرجل و قال: إنّي لم أر ذلك فقال يوسف كما حكى الله:( يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) .

فقال أبوعبدالله (عليه السلام) في قوله:( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) قال: كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسّع على المحبوس فلمّا أراد من يرى في نومه يعصر خمراً الخروج من الحبس قال له يوسف:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) فكان كما قال الله:( فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) .

أقول: و في الرواية اضطراب لفظيّ، و ظاهرها أنّ صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين و إنّما كانا موكّلين عليه من قبل الملك، و لا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى:( وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا ) و قوله:( قالَ الّذي نَجا مِنْهُما ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة عن قول الله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) قال: هو العزيز.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لو لم يقل يوسف الكلمة الّتي قال ما لبث في السجن طول ما لبث- حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى.

أقول: و رواه عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، و لفظه:( رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربّك ما لبث في السجن طول ما لبث) و روي مثله عن عكرمة و الحسن و غيرهما.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431