الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84597 / تحميل: 6624
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة هود الآية ١٠٠ - ١٠٨)

ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى‏ نَقُصّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ( ١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ لَمّا جَاءَ أَمْرُ رَبّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ( ١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى‏ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ( ١٠٢) إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ( ١٠٣) وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلّا لاَِجَلٍ مَعْدُودٍ( ١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلّمُ نَفْسٌ إِلّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ( ١٠٥) فَأَمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ( ١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّماوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا مَا شَاءَ رَبّكَ إِنّ رَبّكَ فَعّالٌ لِمَا يُرِيدُ( ١٠٧) وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلّا ما شَاءَ رَبّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ( ١٠٨)

٢

( بيان‏)

فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلّيّ يلخّص سنّة الله في عباده و ما يستتبعه الشرك في الاُمم الظالمة من الهلاك في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.

قوله تعالى: ( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى‏ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ ) الإشارة إلى ما تقدّم من القصص، و من تبعيضيّة أي الّذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن و البلاد أو أهلهم نقصّه عليك.

و قوله:( مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ ) الحصد قطع الزرع، شبّهها بالزرع يكون قائماً و يكون حصيداً، و المعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أنّ من القرى الّتي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها الّتي تدلّ عليها بالمرّة كقرى قوم لوط حين نزول قصّتهم في القرآن كما قال:( وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) العنكبوت: ٣٥ و قال:( وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الصافات: ١٣٨، و منها ما انمحت آثاره و انطمست أعلامه كقرى قوم نوح و عاد.

و إن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أنّ من تلك الاُمم و الأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم ألبتّة كاُمّة نوح و صالح، و منهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلّا أهل بيت لوط و لم يكن لوط منهم.

قوله تعالى: ( وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم و إهلاكهم إثر شركهم و فسوقهم و لكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا و خرجوا عن زيّ العبودية، و كلّما كان عمل و عقوبة عليه كان أحدهما ظلما إمّا العمل و إمّا العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلما كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.

فمحصّل القول أنّا عاقبناهم بظلمهم و لذا عقّبه بقوله:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ

٣

آلِهَتُهُمُ ) إلخ لأنّ محصّل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم، فالمفرّع عليه هو الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ ما ظَلَمْناهُمْ ) إلخ، و المعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم، الّتي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير و تدفع عنهم الشرّ، و لم تغنهم شيئاً لمّا جاء أمر ربّك و حكمه بأخذهم أو لمّا جاء عذاب ربّك.

و قوله:( وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) التتبيب التدمير و الإهلاك من التبّ و أصله القطع لأنّ عبادتهم الأصنام كان ذنباً مقتضياً لعذابهم و لمّا أحسّوا بالعذاب و البؤس فالتجئوا إلى الأصنام و دعوها لكشفه و دعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم و تغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.

و نسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز و هو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إيّاها، و هو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعوّ.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى‏ وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) الإشارة إلى ما تقدّم من أنباء القرى، و ذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنّه أليم شديد، و هذا من قبيل التشبيه الكلّيّ ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أنّ الحكم عامّ شامل لجميع الأفراد و هو نوع من فنّ التشبيه شائع و قوله:( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) بيان لوجه الشبه و هو الألم و الشدّة.

و المعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الاُمم الظالمة: قوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و قوم فرعون أخذاً أليماً شديداً، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ) إلى آخر الآية الإشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة الّتي أخذها بظلمها أخذاً أليماً شديداً. و أنبأ أنّ أخذه كذلك يكون، و في ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة و علامة تدلّ على أنّ الله سبحانه و تعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بأجرامهم، و أنّ أخذه سيكون أليماً شديداً فيوجب اعتباره بذلك و تحرّزه ممّا يستتبع

٤

سخط الله تعالى.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) أي ذلك اليوم الّذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإشارة إلى اليوم الّذي يدلّ عليه ذكر عذاب الآخرة، و لذلك أتي بلفظ المذكّر كما قيل، و يمكن أن يكون تذكير الإشارة ليطابق المبتدأ الخبر.

و وصف اليوم الآخر بأنّه مجموع له الناس دون أن يقال: سيجمع أو يجمع له الناس إنّما هو للدلالة على أنّ جمع الناس له من أوصافه المقضيّة له الّتي تلزمه و لا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإخبار عنه بخبر.

فمشخّص هذا اليوم أنّ الناس مجموعون لأجله - و اللّام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتمّ إلّا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد و لا يتخلّف عنه متخلّف: و للناس شأن من الشأن يرتبط به كلّ واحد منهم بالجميع، و يمتزج فيه الأوّل مع الآخر و الآخر مع الأوّل و يختلط فيه الكلّ بالبعض و البعض بالكلّ، و هو حساب أعمالهم من جهة الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية، و بالجملة من حيث السعادة و الشقاوة.

فإنّ من الواضح أنّ العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، و يرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضاً بما له من الأحوال القلبيّة، و كذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير و التأثّر، و كذلك أعمال الأوّلين بالنسبة إلى أعمال الآخرين و أعمال اللّاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، و في المتقدّمين أئمّة الهدى و الضلال المسئولون عن أعمال المتأخّرين، و في المتأخّرين الأتباع و الأذناب المسئولون عن غرور متبوعيهم المتقدّمين، قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الّذينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف ٦، و قال:( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) يس: ١٢.

ثمّ الجزاء لا يتخلّف الحكم الفصل.

٥

و هذا الشأن على هذا النعت لا يتمّ إلّا باجتماع من الناس بحيث لا يشذّ منهم شاذّ.

و من هنا يظهر أنّ مسألة الآحاد من الناس في قبورهم و جزاءهم فيها بشي‏ء من الثواب و العقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ و تذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل البيت (عليه السلام) غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة و الجزاء المقضيّ به هناك من الجنّة و النار الخالدتين فإنّ الّذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدّخر لفصل القضاء يوم القيامة، و ما يسكن فيه في البرزخ من جنّة أو نار إنّما هو كالنزل المعجّل للنازل المتهيّئ للقاء و الحكم، و ليس ما هناك حسابا تامّا و لا حكماً فصلاً و لا جزاء قاطعا كما يشير إليه نظائر قوله:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) المؤمن: ٤٦، و قوله:( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) المؤمن: ٧٢ فترى الآية تعبّر عن عذابهم بالعرض على النار ثمّ يوم القيامة بدخولها و هو أشدّ العذاب، و تعبّر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثمّ بالسجر في النار و هو الاشتعال. و قوله تعالى:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) آل عمران: ١٧٠ فالآية صريحة في عالم القبر و لم تذكر حساباً و لا جنّة الخلد و إنّما ذكرت شيئاً من التنعّم إجمالاً.

و قوله تعالى:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: ١٠٠ تذكر الآية أنّهم بعد الموت في حياة برزخيّة متوسّطة بين الحياة الدنيويّة الّتي هي لعب و لهو و الحياة الاُخرويّة الّتي هي حقيقة الحياة كما قال:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) : العنكبوت: ٦٤.

و بالجملة الدنيا دار عمل و البرزخ دار تهيّؤ للحساب و الجزاء، و الآخرة

٦

دار حساب و جزاء، قال تعالى:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا ) التحريم: ٨ فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور و هيّؤه في البرزخ ثمّ يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم و إذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو و اللعب.

و قوله:( وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) كالمتفرّع بظاهره على الجملة السابقة.( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أنّ اللفظ غير مقيّد بالناس و إطلاقه يشعر بأنّه مشهود لكلّ من له أن يشهد كالناس و الملائكة و الجنّ، و الآيات الكثيرة الدالّة على حشر الجنّ و الشياطين و حضور الملائكة هناك يؤيّد إطلاق الشهادة كما ذكر.

قوله تعالى: ( وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ) أي إنّ لذلك اليوم أجلا قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله و الله يحكم لا معقّب لحكمه و لا رادّ لقضائه، و لا يؤخّر اليوم إلّا لأجل يعدّه فإذا تمّ العدد و حلّ الأجل حقّ القول و وقع اليوم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فاعل( يَأْتِ) ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الّذي تؤخّر القيامة إليه لا تتكلّم نفس إلّا بإذنه، قال تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) العنكبوت: ٥.

و ذكر بعضهم كما في المجمع أنّ المعنى يوم يأتي القيامة و الجزاء، و لازمه إرجاع الضمير إلى القيامة و الجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، و هو تكلّف لا حاجة إليه.

و ذكر آخرون- كما في تفسير صاحب المنار- أنّ المعنى في الوقت الّذي يجي‏ء فيه ذلك اليوم المعيّن لا تتكلّم نفس من الأنفس الناطقة إلّا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنّه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الّذي هو فاعل يأتي.

و هو خطأ لاستلزامه ظرفيّة اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في

٧

لوقت الّذي يجي‏ء فيه ذلك الوقت المعيّن أو اليوم الّذي يجي‏ء فيه ذلك اليوم المعيّن، و التفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصّاً و معيّناً و الآخر عامّاً و مرسلاً لا ينفع في دفع محذور ظرفيّة الشي‏ء لنفسه و مظروفيّة الزمان - و هو ظرف بذاته - لزمان آخر، و هو محال لا ينقلب ممكناً بتغيير اللفظ.

و ما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإطلاق و التحديد مجرّد تصوير لا تغني شيئاً فإنّ اليوم الّذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف و ذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقاً و تحديداً و سعة و ضيقاً، نعم ربّما يؤخذ الزمان متّحداً بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثاً من الحوادث و تلغى ظرفيّته فيجعل مظروفاً لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجّة و يوم عاشوراء في المحرّم، قال تعالى:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) الجاثية: ٢٧ فإن صحّت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.

و قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أي لا تتكلّم نفس ممّن حضر إلّا بإذن الله سبحانه، و حذف أحد التائين المجتمعين في المستقبل من باب التفعّل شائع قياسيّ.

و الباء في قوله:( بِإِذْنِهِ ) للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلّم كما في قوله:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) النبأ: ٣٨ و المعنى لا تتكلّم نفس بشي‏ء من الكلام إلّا بالكلام الّذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلّم فيها الواحد منهم بما اختاره و أراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.

و قد ذكرت الصفة أعني عدم تكلّم نفس إلّا بإذنه من خواصّ يوم القيامة المعرّفة له، و ليست بمختصّة به فإنّه لا تتكلّم أيّ نفس من النفوس و لا يحدث أيّ حادث من الحوادث دائماً إلّا بإذنه من غير أن يختصّ ذلك بيوم القيامة.

و قد تقدّم في بعض أبحاثنا السابقة أنّ غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرّفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصّة به يعمّه و غيره كقوله تعالى:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن- ١٦ و قوله:( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ) المؤمن: ٣٣ و قوله:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات، و من المعلوم أنّه

٨

تعالى لا يخفى عليه شي‏ء دائماً، و ليس لشي‏ء منه عاصم دائماً، و لا يملك نفس لنفس شيئاً إلّا بإذنه دائماً، و له الخلق و الأمر دائماً.

لكنّ الّذي يهدي إليه التدبّر في أمثال قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) : ق: ٢٢ و قوله حكاية عن المجرمين:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: ١٢، و قوله:( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ - إلى أن قال -هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس: ٣٠ إنّ يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد و يزيل الستر و الحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهوراً تامّاً و ينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة و عند ذلك لا يختلج في صدورهم شكّ أو ريب، و لا يهجس قلوبهم هاجس، و يعاينون أنّ الله هو الحقّ المبين، و يشاهدون أنّ القوّة لله جميعاً، و أنّ الملك و العصمة و الأمر و القهر له وحده لا شريك له.

و تسقط الأسباب عمّا كان يتوهّم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا و ينقطع البين و تزول روابط التأثير الّتي بين الأشياء و عند ذلك تنتثر كواكب الأسباب و تنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، و لا تبقى لذي ملك ملك يستقلّ به، و لا لذي سلطان و قوّة ما يتعزّز معه، و لا لشي‏ء ملجأ و ملاذ يلجأ إليه و يلوذ به و يعتصم بعصمته، و لا ستر يستر شيئاً عن شي‏ء و يحجبه دونه، و الأمر كلّه لله الواحد القهّار لا يملك إلّا هو(١) .

و هذا معنى قوله:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) و قوله:( ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ) و قوله:( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شيئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) إلى غير ذلك من الآيات و هي جميعاً تنفي ما تزيّنه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيويّة الّتي ليست إلّا لهواً و لعباً أنّ هذه الأسباب تملك معنى التأثير، و تتلبّس بأوصاف الملك و السلطنة و القوّة و العصمة و العزّة و الكرامة تلبّساً حقيقيّاً

____________________

(١) و في هذه الأوصاف آيات كثيرة جداً لا تخفى على الباحث المتدبر في كلامه تعالى.

٩

استقلاليّاً، و أنّها هي المعطية و المانعة و النافعة و الضارّة لا بغية في سواها و لا خير فيما عداها.

و من هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله.( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) و قد تكرّر هذا المعنى في آيات اُخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَوابا ) النبأ: ٣٨، و قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) المرسلات: ٣٥.

و ذلك أنّ الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق- ٩ و يقول:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) البقرة: ٢٨٤ فيبيّن أنّ الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال و الأعراض الحسنة أو السيّئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيويّة.

فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس و مطويّات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، و ما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غدا، و التكلّم الّذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنّما هو باستخدام أصوات مؤلّفة تدلّ بنحو من الوضع و الاعتبار على معان تستكنّ في ضمائرنا، و إنّما الباعث لنا على وضعها و تداولها الحاجة الاجتماعيّة إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلّق الحسّ به.

و التكلّم من الأسباب الاجتماعيّة نتوسّل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة و هو متقوّم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإنسان، و لو كنّا ممدّين بحسّ ينال المعاني الذهنيّة و يعاينها كما يهتدي - مثلاً البصر إلى الأضواء و الألوان و اللمس إلى الحرارة و البرودة و الخشونة - و الملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات و التكلّم بها و لا كان بيننا ما يسمّى كلمة أو كلاماً، و كذا لو كان النوع الإنسانيّ يعيش في حياته الدنيا عيشة انفراديّة غير اجتماعيّة لم يكن من النطق خبر و لا انعقدت له نطفة.

كلّ ذلك لأنّ النشأة الدنيا كالمؤلّف من شهادة و غيب و هو المحسوس المعاين

١٠

و ما هو وراء الحسّ، و الناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عمّا في ضميرهم من المقاصد و الاطّلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحّضة في الشهادة مؤلّفة من اُمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلّم و النطق و لو تبرّعنا إطلاق الكلام على شي‏ء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم و اطّلاع ذلك البعض على ذلك.

و هذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) ، و هذا هو الّذي يظهر من قوله تعالى:( لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ - إلى أن قال -يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ ) الرحمن: ٤١.

فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقّق الكذب و الزور هناك و قد نصّ القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الأنعام: ٢٤ و قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) المجادلة- ١٨.

قلت: هذا من ظهور الملكات كما أنّ الإنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكّر فيه و يكشف عمّا في ضميره لنفسه بالتكلّم لأنّه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، و هو مع ذلك يتصوّر صورة كلام يدلّ ما يطالعه من المعاني الذهنيّة، و ربّما يتكلّم بلسانه أيضاً بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة و الباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلّم و النطق عند ما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.

و هؤلاء المشركون و المنافقون لمّا اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا و عاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات و العادات النفسانيّة و إلّا فمن المحال أن يوقف الإنسان عند ربّه و هو تعالى يعاين باطنه و ظاهره و أعماله

١١

محضرة، و صحيفته منشورة، و الأشهاد قائمة و جوارحه بما عملت ناطقة، و الأسباب و منها الكذب ساقطة هالكة، و قد انقلب سرّه علانية ثمّ يكذب رجاء أن يغرّ الله سبحانه و تعالى فيظهر عليه بحجّة مدلّسة كاذبة، و ينجو بذلك.

و هذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثمّ عدم استطاعتهم، قال تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) القلم: ٤٣ فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلّا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، و لو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجّة لهم عليه.

فإن قلت: لو كان كما ذكرت و لم يكن هناك إلى التكلّم حاجة و لا له مصداق فما معنى الاستثناء الّذي في قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) و ما في معناها من الآيات؟ و ما معنى ما تكرّر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.

قلت: لا ريب أنّ الإنسان و هو في هذه النشأة مختار في أعماله الّتي منها التكلّم فله نسبة متساوية إلى كلّ فعل من أفعاله و تركه و هما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلاً تعيّن أحد الجانبين تعيّناً اضطراريّاً لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، و الآثار الضروريّة الّتي تترتّب على الفعل و منها الجزاء الّذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقّق.

و النشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإنسانيّ و ليس هناك إلّا الإنسان و عمله الّذي أتى به و قد لزمه لزوماً ضروريّاً، و ما يرتبط به العمل من الصحائف و الأشهاد و ربّه الّذي إليه يرجع الأمر و بيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطراراً، كما قال تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ) طه: ١٠٨ و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحقّ فلا يستجيبون، و إذا تكلّم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلّم الدنيويّ الّذي كان ناشئاً عن اختياره و كاشفاً عن أمر خبيي‏ء في نفسه فقد ختم على فمه و لا سبيل له إلى التكلّم بما يريد، و كيفما يريد، قال تعالى:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما

١٢

كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥، و قال:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) المرسلات: ٣٦ فإنّ العذر إنّما يكون في الجزاء الّذي فيه شوب اختيار و لتحقّقه إمكان وجود و عدم و أمّا العمل السيّئ المفروغ منه و الجزاء الّذي تعقّبه ضرورة فلا مجرى للعذر فيه، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧ أي إنّ جزاءكم نفس عملكم الّذي عملتموه، و لا يتغيّر ذلك بعذر و لا تعلّل و إنّما كان يتغيّر لو كان جزاء دنيويّاً أمره بيد الحاكم المجازيّ يختار فيه ما يراه و يشاؤه.

و بالجملة هو إذا تكلّم هو عن سؤال كان تكلّمه عن اضطرار إليه و مطابقاً لما عنده من العمل الظاهر الّذي لا ستر عليه هناك ألبتّة، و لو تكلّم كذباً كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدّم و عملاً من أعماله يظهر ظهوراً لا كلاماً يعدّ جواباً لسؤال فيختم على فيه و يستنطق سمعه و بصره و جلده و يده و رجله و يحضر العمل الّذي عمله و يستشهد الأشهاد و الله على كلّ شي‏ء شهيد.

فقد تلخّص من جميع ما قدّمناه أنّ معنى قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أنّ التكلّم يومئذ ليس على وتيرة التكلّم الدنيويّ كشفاً اختياريّاً عمّا في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلّم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإنّ هذا التملّك الاختياريّ الّذي هو من لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإنسان في تكلّمه و إنّما هو منوط بإذن الله و مشيّته، و إن أحسنت التدبّر وجدت أنّ مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلّم الإنسان و سائر أفعاله و إحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أنّ خاصّة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه و رجوع الغيب شهادة و عليك بإحكام التدبّر في المعارف الّتي يلقّنها الكلام الإلهيّ في المعاد فإنّها معضلة عويصة عميقة.

و ذكر بعضهم أنّ معنى قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) أنّها لا تتكلّم فيه إلّا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعاً لأنّ الناس ملجؤن هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح و أمّا غير القبيح فهو مأذون فيه.

١٣

و فيه أنّه تخصيص من غير مخصّص فاليوم ليس بيوم عمل حتّى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن و لا يؤذن في القبيح، و الإلجاء الّذي منشؤه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرّق فيه بين العمل الحسن و القبيح مع كون كليهما اختياريّين لأنّ الحسن و القبح إنّما يعنون بهما الأفعال الاختياريّة.

على أنّ الله تعالى يقول:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) و من المعلوم أنّ الإتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شي‏ء.

و قال آخرون: إنّ معنى الآية أنّه لا يتكلّم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة و وسيلة إلّا بإذنه.

و هذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى:( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) طه: ١٠٩ و فيه أنّ ذلك تقييد من غير شاهد عليه و لو كان المراد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: لا تكلّم نفس عن نفس أو في نفس إلّا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله:( لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) .

و قد تحصّل ممّا قدّمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلّم يوم القيامة و الآيات النافية له.

توضيحه: أنّ الآيات المتعرّضة لمسألة التكلّم فيه صنفان: صنف ينفي التكلّم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله:( لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ ) الرحمن: ٣٩، و قوله:( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ) النحل: ١١١.

و صنف ينفي الكلام على أيّ نعت كان من صدق أو كذب كقوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) المرسلات: ٣٥، و قوله:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الشعراء: ١٠١.

و الصنف الأوّل يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) النبأ: ٣٨ و الصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) لكن بالبناء على ما تقدّم توضيحه في معنى إناطة التكلّم بإذنه حتى يفيد أنّهم ملجؤن في ما تكلّموا به مضطرّون إلى ما يأذن

١٤

الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلّموا بما يختارون و يريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك ممّا يختصّ بيوم القيامة من الوصف.

و بذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: و نفي الكلام في ذلك اليوم إلّا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا و المثبتة له مطلقا انتهى. و قد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) و قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ ) الآية.

و ذلك أنّه - أوّلاً - لم يفرّق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أنّ نفي الكلام إلّا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقاً، و ليس كذلك.

و - ثانياً - لم يبيّن معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجّه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختصّ به.

و قد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر و هو أنّ يوم القيامة يشتمل على مواقف قد اُذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، و لم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، و قد ورد ذلك في بعض الروايات.

و هذا الجواب و إن كان بظاهره متميّزاً من الوجه السابق إلّا أنّه لا يستغني عن مسألة الإذن فهو في الحقيقة راجع إليه.

و قد يجاب بأنّ المراد بعدم التكلّم و النطق أنّهم لا ينطقون بحجّة، و إنّما يتكلّمون بالإقرار بذنوبهم، و لو بعضهم بعضاً، و طرح بعضهم الذنوب على بعض، و هذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام و لا يشتمل على حجّة: ما تكلّمت بشي‏ء و لا نطقت بشي‏ء فسمّي من يتكلّم بما لا حجّة فيه غير متكلّم لأنّه لم يأت بحقّ الكلام الّذي كان من الواجب أن يشتمل على حجّة فكأنّه ليس بكلام فنفي التكلّم ناظر إلى عدّ الكلام الّذي لا جدوى فيه غير كلام ادّعاءً.

و فيه: أنّه لو صحّ فإنّما يصحّ في مثل قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) و أمّا مثل قوله:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فلا يرجع إلى معنى محصّل.

١٥

و قد يجاب كما نقله الآلوسيّ عن الغرر و الدرر للمرتضى أنّ يوم القيامة يوم طويل ممتدّ فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه، و يؤذن لهم في بعض آخر منه.

و فيه أنّ الإشارة إلى يوم القيامة بطوله، و على قولهم يكون مثلاً معنى قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) هذا يوم لا ينطقون في بعضه و هو خلاف الظاهر، و يرد نظير الإشكال على الوجه الثاني الّذي اُجيب فيه عن الإشكال باختلاف المواقف فإنّ مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني و هذا الوجه الرابع واحد و إنّما الفرق أنّ الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة و هذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أنّ الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى و عدم اشتماله عليه.

و قد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: إنّ الاستثناء في قوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) منقطع لا متّصل أي لا تتكلّم نفس باقتدار من عندها إلّا بإذنه تعالى و محصّل الوجه أنّ الممنوع من التكلّم يوم القيامة هو الّذي يكون بقدرة من الإنسان، و الجائز الواقع ما يكون بإذنه تعالى.

و فيه: أنّ تكلّم الإنسان كسائر أفعاله الاختياريّة ليس مستنداً إلى قدرته محضاً في وقت قطّ بل هو منسوب إلى قدرته مستمدّاً من قدرة الله تعالى و إذنه فكلّما تكلّم الإنسان أو فعل فعلاً بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى و يعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلّم يوم القيامة إلّا واحداً منها هو إذنه تعالى، و يصير الاستثناء متّصلاً و يرجع إلى ما قدّمناه من الوجه أوّلاً أنّ التكلّم الممنوع هو الاختياريّ منه على حدّ التكلّم الدنيويّ، و الجائز ما كان مستنداً إلى السبب الإلهيّ فقط و هو إذنه و إرادته، و الظرف ظرف الاضطرار و الإلجاء لكنّهم يرون أنّ سبب الإلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإنّ الناس ملجؤن عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف و الإقرار و قول الصدق و اتّباع الحقّ، و قد قدّمنا أنّ السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل و بروز الحقائق عند ذلك.

١٦

قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) السعادة و الشقاوة متقابلان فسعادة كلّ شي‏ء أن ينال ما لوجوده من الخير الّذي يكمل بسببه و يلتذّ به فهي في الإنسان - و هو مركّب من روح و بدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنيّة و الروحيّة فيتنعّم به و يلتذّ، و شقاوته أن يفقد ذلك و يحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم و الملكة، و الفرق بين السعادة و الخير أنّ السعادة هي الخير الخاصّ بالنوع أو الشخص و الخير أعمّ.

و ظاهر قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين. و هو الملائم ظاهراً لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن و كافر و مستضعف كالأطفال و المجانين و كلّ من لم تتمّ عليه الحجّة في الدنيا إلّا أنّ الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل و الاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم و هو أنّه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، و أنّه ينتهي إلى جنّة أو نار.

و المستضعفون و إن كانوا صنفا ثالثا بالنسبة إلى من استحقّ بعمله الجنّة و من استحقّ بعمله النار لكن من الضروريّ أنّهم لا يذهبون سدى و لا يدوم عليهم الحال بالإبهام و الانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنّة أو نار، قال تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة: ١٠٦ و لازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء و الأشقياء فما منهم إلّا سعيد أو شقيّ.

فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر:( وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ) الشورى: ٨ حيث إنّ الجملة:( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) بمعونة السياق تفيد الحصر و إن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.

١٧

و الّذي تدلّ عليه الآية أنّ من كان هناك من أهل الجمع إمّا شقيّ متّصف بالشقاء و إمّا سعيد متلبّس بالسعادة و أمّا أنّ هذين الوصفين بما ذا ثبتا لموضوعيهما؟ و أنّهما هل هما ذاتيّان لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزليّة لا يتخلّف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شي‏ء من ذلك غير أنّ وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإيمان و العمل الصالح، و الندب إلى اختيار الطاعة و ترك المعصية يدلّ على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠.

و بذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الآية من لزوم السعادة و الشقاوة للإنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك قال الرّازيّ في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد و على بعضهم بأنّه شقيّ، و من حكم الله عليه بحكم و علم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه. و إلّا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا و علمه جهلا، و ذلك محال فثبت أنّ السعيد لا ينقلب شقيّا، و أنّ الشقيّ لا ينقلب سعيدا.

قال: و روي عن عمر أنّه قال: لمّا نزل قوله تعالى:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلى ما ذا نعمل؟ على شي‏ء قد فرغ منه أم على شي‏ء لم يفرغ منه؟ فقال: على شي‏ء قد فرغ منه يا عمر و جفّت به الأقلام و جرت به الأقدار و لكن كلّ ميسّر لما خلق له. قال و قالت المعتزلة: روي عن الحسن أنّه قال: فمنهم شقيّ بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.

و أيضاً فلا نزاع أنّه إنّما شقي بعمله و إنّما سعد بعمله و لكن لمّا كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله و قدره كان الدليل الّذي ذكرناه باقيا. انتهى.

و هو من عجيب المغالطة أمّا الّذي سمّاه دليلا قاطعاً فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زماناً لنتيجته و أثره فمن البديهيّ أنّ الحكم الحقّ الآن باتّصاف موضوع مّا بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتّصاف بها إلّا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم و هو الآن كما أنّ حكمنا في الليل بأنّ الهواء مضي‏ء بعد كم ساعة

١٨

- و هو حكم حقّ- لا يوجب إضاءة الهواء ليلا. و حكمنا بأنّ الصبيّ سيصبح شيخا فانيا بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخا فانيا في زمان الحكم.

فقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و هو خبر منه تعالى بأنّ جماعة منهم أشقياء يوم القيامة و آخرون سعداء يوم القيامة أن كان حكما بشقاوتهم و سعادتهم كذلك فإنّما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنّهم كذا و كذا يوم القيامة و من المسلّم أنّه لا يتغيّر عمّا هو عليه في ظرفه و إلّا لزم أن يكون خبره تعالى كذباً و علمه جهلاً لا أنّه حكم صادر منه هذا الآن بأنّهم كذا و كذا هذا الآن، و لا أنّه حكم صادر منه هذا الآن بأنّهم كذا و كذا دائماً. و هو ظاهر.

و ليت شعري ما الّذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنّهم مؤمنون دائماً أو كافرون دائماً و في الجنّة قبل يوم القيامة و في النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها و في غيرها كالشقاوة و السعادة على حدّ سواء.

و أمّا ما أورده من الرواية و فيها قول النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ( و لكن كلّ ميسّر لما خلق له ) فلا دلالة لها على ما ذكره أصلاً و سيجي‏ء توضيح ذلك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و أمّا قوله أخيراً: ( لا نزاع أنّه إنّما شقي بعمله و إنّما سعد بعمله و لكن لمّا كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله و قدره كان الدليل الّذي ذكرناه باقيا ) يريد أنّ تعلّق القضاء بالعمل - و من المحال أن يتخلّف متعلّقه عمّا قضى عليه - توجب صيرورته ضروريّ الثبوت، و يكون الفعل بذلك مجبرا عليه لا اختياريّا متساوي الفعل و الترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه و لا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، و إنّما بين الفاعل و فعله، و بين الفعل و الأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتّفاقيّة جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك و ذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين و لا تأثير حقيقيّ لأحدهما في الآخر.

١٩

و هذه مغالطة اُخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب و نسبة الإمكان فإنّ للعمل علّة تامّة يجب بها وجوده، و هي إرادة الإنسان، و سلامة أدوات العمل منه، و وجود مادّة قابلة للعمل، و الزمان، و المكان، و عدم الموانع و العوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت و تمّت و كملت كان ثبوت العمل ضروريّا، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، و له إلى كلّ واحد من أجزاء علّته التامّة و من جملتها إرادة الإنسان نسبة هي نسبة الإمكان فإنّ العمل لا يجب وجوده بمجرّد تحقّق الإرادة فقط بل يمكن و إنّما يجب لو انضمّت إليه بقيّة أجزاء العلّة.

فالعمل المتحقّق بضرورة العلّة التامّة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلّة التامّة، و نسبة الإمكان إلى إرادة الإنسان، و لا تبطل نسبته الوجوبيّة إلى العلّة التامّة نسبته الإمكانيّة إلى إرادة الإنسان، و لا تقلبها عن الإمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإنسان بالإمكان دائماً كما أنّ نسبته إلى المجموع الحاصل من الإنسان و بقيّة أجزاء العلّة التامّة بالوجوب دائماً و طرفا الفعل و الترك متساويان بالنسبة إلى الإنسان أبداً كما أنّ أحد الطرفين من الفعل و الترك متعيّن بالنظر إلى العلّة التامّة أبداً.

ينتج أنّ الفعل اختياريّ للإنسان في عين أنّه لا يخلو في وجوده عن علّة تامّة موجبة له، و القضاء الحتم من صفاته تعالى الفعليّة منتزع عن مقام الفعل و هو سلسلة العلل المترتّبة بحسب نظام الوجود، و كون المعلولات ضروريّة بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كلّ مقضيّ بالنسبة إلى ما تعلّق به من القضاء الإلهيّ لا ينافي كونه اختياريّا للإنسان نسبته إليه نسبة الإمكان. فقد بان أنّه أخذ نسبة العمل إلى الإنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهّم أنّ كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإلهيّ يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإنسان لا ممكنه.

و بتقرير آخر واضح: تعلّق علمه تعالى مثلاً بأنّ خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقّق الاحتراق المقيّد بالنار لأنّه الّذي تعلّق به العلم الحقّ لا وجوب تحقّق الاحتراق مطلقا سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقّق علم

٢٠

بهذه الصفة، و كذا علمه تعالى بأنّ الإنسان سيعمل باختياره و إرادته عملاً أو أنّه سيشقى لعمل اختياريّ كذا يوجب وجوب تحقّق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن و سواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتّى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه بأنّ إنساناً كذا سيشقى بكفره اختياريّاً يستوجب تحقّق الشقوة الّتي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.

فاتّضح أنّ علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار و ثبوت الإجبار و إن كان معلومه تعالى لا يتخلّف عن علمه له الحكم لا معقّب لحكمه.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) قال في المجمع: الزفير أوّل نهاق الحمار و الشهيق آخر نهاقه انتهى. و قال في الكشاف: الزفير إخراج النفس و الشهيق ردّه انتهى. و قال الراغب في المفردات، الزفير تردّد النفس حتّى ينتفخ الضلوع منه. و قال: الشهيق طول الزفير و هو ردّه و الزفير مدّه، قال تعالى:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) (سمعوا لها تغيّظا و زفيرا) و قال تعالى:( سَمِعُوا لَها شَهِيقا ) و أصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.

و المعاني - كما ترى - متقاربة و كأنّ في الكلام استعارة، و المراد أنّهم يردّون أنفاسهم إلى صدورهم ثمّ يخرجونها فيمدّونها برفع الصوت بالبكاء و الأنين من شدّة حرّ النار و عظم الكربة و المصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.

و كان الظاهر من سياق قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أن يقال بعده: فأمّا الّذي شقي ففي النار له فيها زفير و شهيق إلخ لكن السياق السابق عليه الّذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) مبنيّ على الكثرة و الجماعة، و مقتضاها المضيّ على هيئة الجمع: الّذين شقوا و الّذين سعدوا، و إنّما عبّر بقوله، شقيّ و سعيد لما قيل قبله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) فاختير المفرد المنكّر ليفيد النفي بذلك الاستغراق و العموم فلمّا حصل الغرض بقوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) عاد السياق السابق

٢١

المبنيّ على الكثرة و الجماعة فقيل:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) . بيان لمكث أهل النار فيها كما أنّ الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) بيان لمكث أهل الجنّة فيها و تأييد لاستقرارهم في مأواهم.

قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبرّي الشي‏ء من اعتراض الفساد و بقاؤه على الحالة الّتي هو عليها، و كلّ ما يتباطأ عنه التغيير و الفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي(١) : خوالد و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلودا قال تعالى:( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) و الخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الّذي يبقى من الإنسان على‏ حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيّا استحالة سائر أجزائه، و أصل المخلّد الّذي يبقى مدّة طويلة، و منه قيل: رجل مخلّد لمن أبطأ عنه الشيب، و دابّة مخلّدة هي الّتي تبقى ثناياها حتّى تخرج رباعيّتها ثمّ أستعير للمبقي دائما.

و الخلود في الجنّة بقاء الأشياء على الحالة الّتي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى:( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) .

و قوله تعالى:( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، و قيل: مقرّطون بخلدة، و الخلدة ضرب من القرطة، و إخلاد الشي‏ء جعله مبقى و الحكم عليه بكونه مبقى، و على هذا قوله سبحانه:( وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ) أي ركن إليها ظانّا أنّه يخلد فيها. انتهى.

و قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود

____________________

(١) الأثافي، جمع الأثفية بضم الهمزة و هي الحجر الّذي توضع عليه القدر و هما أثفيتان.

٢٢

و المعنى دائمين فيها دوام السماوات و الأرض لكنّ الآيات القرآنيّة ناصّة على أنّ السماوات و الأرض لا تدوم دوام الأبد و هي مع ذلك ناصّة على بقاء الجنّة و النار بقاءً لا إلى فناء و زوال.

و من الآيات الناصّة على الأوّل قوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣، و قوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) الأنبياء: ١٠٤، و قوله:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) الزمر: ٦٧، و قوله:( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦.

و منها في النصّ على الثاني قوله تعالى:( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدا ) التغابن: ٩، و قوله:( وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيرا ) الأحزاب: ٦٥.

و على هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين:

إحداهما تحديد الخلود المؤبّد بمدّة دوام السماوات و الأرض و هما غير مؤبّدتين لما مرّ من الآيات.

و ثانيتهما تحديد الأمر الخالد الّذي تبتدئ من يوم القيامة و هو كون الفريقين في الجنّة و النار و استقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة و هو السماوات و الأرض، و هذا الإشكال الثاني أصعب من الأوّل لأنّه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنّة و النار معا بخلاف الأوّل.

و الّذي يحسم الإشكال أنّه تعالى يذكر في كلامه أنّ في الآخرة أرضا و سماوات و إن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: ٤٨، و قال حاكياً عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤، و قال يعد المؤمنين و يصفهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: ٢٢.

٢٣

فللآخرة سماوات و أرض كما أنّ فيها جنّة و ناراً و لهما أهلا و قد وصف الله سبحانه الجميع بأنّها عنده، و قال:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) النحل: ٩٦ فحكم بأنّها باقية غير فانية.

و تحديد بقاء الجنّة و النار و أهلهما بمدّة دوام السماوات و الأرض إنّما هو من جهة أنّ السماوات و الأرض مطلقاً و من حيث إنّهما سماوات و أرض مؤبّدة غير فانية، و إنّما تفنى هذه السماوات و الأرض الّتي في هذه الدنيا على النظام المشهود و أمّا السماوات الّتي تظلّ الجنّة مثلاً و الأرض الّتي تقلّها و قد أشرقت بنور ربّها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، و بذلك يندفع الإشكالان جميعاً.

و قد أشار في الكشّاف إلى هذا الوجه إجمالاً حيث قال: و الدليل على أنّ لها سماوات و أرضا قوله سبحانه:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ ) و قوله سبحانه:( وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) و لأنّه لا بدّ لأرض الآخرة ممّا تقلّهم و تظلّهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى أو يظلّهم العرش، و كلّ ما أظلك فهو سماء. انتهى.

و إن كان الوجه الّذي أشار إليه ثانياً سخيفاً لأنّه إثبات للسماء و الأرض من جهة الإضافة و أنّ الجنّة و النار لا بدّ أن يتصوّر لهما فوق و تحت فيكون الجنّة و النار أصلاً و سماؤهما و أرضهما تبعين لهما في الوجود، و لازمه تحديد بقاء سمائهما و أرضهما بمدّة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.

على أنّ لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقّق للجنّة و النار أرض و سماء و أمّا السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله.

و بما تقدّم يندفع أيضاً ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: و فيه نظر لأنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه و من عرفه فإنّما عرفه بما يدلّ على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.

و مراده أنّ الآية تشبّه دوام الجنّة و النار بأهلهما بدوام السماوات و الأرض

٢٤

فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة و أرضها و لا يعرف أكثر الخلق وجودها و دوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى و هو غير جائز في الكلام البليغ.

و جوابه: أنّا إنّما عرفنا دوام الجنّة و النار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات و أرض لهما و كذا أبديّة الجميع من كلامه فأيّ مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالاُخرى في كلامه، و إن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الاُخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.

و يندفع به أيضاً ما ذكره الآلوسيّ في ذيل هذا البحث أنّ المتبادر من السماوات و الأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخّصا.

وجه الاندفاع أنّ الآيات القرآنيّة إنّما تتّبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلّيّة الّتي تعطيها اللّغة و العرف، و أمّا في مقاصدها و تشخيص المصاديق الّتي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتّبع فيها هو التدبّر الّذي أمر به الله سبحانه و إرجاع المتشابه إلى المحكم و عرض الآية على الآية فإنّ القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض و يصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنّه واحد أحد أو عالم قادر حيّ مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسّرها نفس كلامه تعالى و يكشفه التدبّر البالغ من معانيها، و قد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و قد وردت في الروايات و في كلمات المفسّرين توجيهات اُخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه و ليكن الّذي أوردناه أوّلها.

الوجه الثاني: أنّ المراد سماوات الجنّة و النار و أرضهما أي ما يظلّهما و ما يقلّهما فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و ما استقرّت عليه قدمك فهو أرض، و بعبارة اُخرى المراد بهما ما هو فوقهما و ما تحتهما.

٢٥

و هذا هو الوجه الّذي ذكره الزمخشريّ في آخر ما نقلناه من كلامه آنفاً، و قد عرفت الإشكال فيه. على أنّ هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدّم.

الوجه الثالث: أنّ المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبداً كما أنّ دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدّة بقائها، و لعلّ المراد أنّ قوله: (ما دامت السماوات و الأرض) موضوع وضع التشبيه كقولك: كلّمته تكليم المستهزئ الهازى‏ء به أي مثل تكليم من يستهزئ و يهزأ به.

و فيه: أنّه لو اُريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، و لو اُريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.

الوجه الرابع: أنّ المراد به التبعيد و إفادة الأبديّة لا أنّ المراد به التحديد بمدّة بقاء السماوات و الأرض بعينها فإنّ للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني الّتي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا و كذا ما اختلف الليل و النهار، و ما ذرّ شارق، و ما طلع نجم، و ما هبّت نسيم، و ما دامت السماوات و قد استراحوا إليها و إلى أشباهها ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثمّ استعملوها كأنّها موضوعة للتبعيد.

و فيه: أنّهم إنّما استعملوها في التأبيد و أكثروا منه ظنّا منهم أنّ هذه الأمور دائمة مؤبّدة، و أمّا من يصرح في كلامه بأنّها مؤجّلة الوجود منقطعة فانية و يعدّ الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأيّ صورة تصوّرت. كيف لا؟ و قد قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و كيف يصحّ مع ذلك أن يقال: إنّ الجنّة و النار خالدتان أبداً ما دامت السماوات و الأرض.

الوجه الخامس: أن يكون المراد أنّهم خالدون بمدّة بقاء السماوات و الأرض الّتي يعلم انقطاعها ثمّ يزيدهم الله سبحانه على ذلك، و يخلّدهم و يؤبّد مقامهم، و هذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا و كذا سنة، ثمّ يضيف تعالى إلى ذلك ما

٢٦

لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى:( لابِثِينَ فِيها أَحْقابا ) النبأ: ٢٣ أي أحقابا ثمّ يزادون على ذلك.

و فيه: أنّه على الظاهر مبنيّ على استفادة بعض المدّة من قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و البعض الآخر الّذي لا يتناهى من قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و دلالته على ذلك تتوقّف على تقدير اُمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.

الوجه السادس: أنّ المراد بالنار و الجنّة نار البرزخ و جنّتها و هما خالدتان ما دامت السماوات و الأرض، و إذا انتهت مدّة بقاء السماوات و الأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.

و فيه: أنّه خلاف سياق الآيات فإنّ الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة و توصيفها بما له من الأوصاف، و من المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنّه يوم مجموع له الناس، و أنّه يوم مشهود، و أنّه يوم إذا أتى لا تكلّم نفس إلّا بإذنه حتى إذا اتّصل بأخصّ أوصافه و أوضحها و هو الجزاء بالجنّة و النار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنّة و النار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.

على أنّ الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى:( وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) المؤمن: ٤٦.

الوجه السابع: أنّ المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان و بالكون في الجنّة الكون في ولاية الله فإنّ ولاية الله هي الّتي تظهر جنّة في الآخرة يتنعّم فيها السعداء. و ولاية الشيطان هي الّتي تتصوّر بصورة النار فتعذّب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال.

فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار و ربّما خرجوا منها إن أدركتهم العناية و التوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره و المجرم يتوب عن إجرامه، و السعداء يدخلون الجنّة بسعادتهم و ربّما خرجوا منها إن أضلّهم الشيطان و أخلدوا إلى الأرض و اتّبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتدّ كافرا و الصالح يعود طالحا.

٢٧

و فيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإنّ الآيات تعدّ ما ليوم القيامة من الأوصاف الخاصّة الهائلة المدهشة الّتي تذوب القلوب و تطير العقول باستماعها و التفكّر فيها لتنذر به اُولوا الاستكبار و الجحود من الكفّار و يرتدع به أهل المعاصي و الذنوب.

فيستبعد أن يذكر فيها أنّه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود و يوم لا تتكلّم فيه نفس إلّا بإذنه ثمّ يذكر أنّ الكفّار و أهل المعاصي في نار منذ كفروا و أجرموا إلى يوم القيامة، و أهل الإيمان و العمل الصالح في جنّة منذ آمنوا و عملوا صالحا فإنّ هذا البيان لا يلائم السياق- أوّلا- من جهة أنّ الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصّة به لا ما قبله المنتهي إليه، و- ثانياً- من جهة أنّ الآيات مسوقة للإنذار و التبشير، و هؤلاء الكفّار و المجرمون أهل الاستكبار و الطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسّهم، و لا يرون لها قيمة، و لا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة و الرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية و هو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.

و هاهنا وجوه اُخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) طوينا ذكرها هاهنا إيثاراً للاختصار لأنّها تشترك مع الوجوه الآتية الّتي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فلنكتف بذلك.

و قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء ممّا سبقه من حديث الخلود في النار، و نظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنّة، و( ما ) في قوله:( ما شاءَ رَبُّكَ ) مصدريّة و التقدير- على هذا- إلّا أن يشاء ربّك عدم خلودهم و لكن يضعّفه قوله بعد:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) فإنّ( ما ) هاهنا موصولة، و المراد بقوله( ما شاءَ ) و قوله:( ما يُرِيدُ ) واحد.

و إمّا موصولة و الاستثناء من مدّة البقاء المحكوم بالدوام الّذي يستفاد من السياق، و المعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلّا ما شاء ربّك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين و المعنى هم جميعا خالدون

٢٨

فيها إلّا من شاء الله أن يخرج منها و يدخل في الجنّة فيكون تصديقاً لما في الأخبار أنّ المذنبين و العصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها و يدخلون الجنّة بالآخرة للشفاعة، فإنّ خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم و صحّة الاستثناء.

و يبقى الكلام في إيقاع( ما ) في قوله:( ما شاءَ ) على من يعقل، و لا ضير فيه و إن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) النساء- ٣.

و الكلام في الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) إلخ نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أنّ الاستثناء في آية الجنّة يعقّبه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) و لازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقّق الوقوع فإنّه لا يلائم كون الجنّة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع و المعنى أنّ أهل الجنّة فيها أبداً إلّا أن يخرجهم الله منها لكنّ العطيّة دائميّة و هم غير خارجين و الله غير شاء ذلك أبداً.

فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة، و أنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة الخالدة و سلطنته لا تنفد و ملكه لا يزول و لا يبطل و أنّ الزمام بيده و قدرته و إحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة و إن وعد لهم البقاء فيها دائماً لكنّه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، و الله لا يخلف الميعاد.

و الكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنّة لوحدة السياق بالمقابلة و المحاذاة و إن اختتمت الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) و فيه من الإشارة إلى التحقّق ما لا يخفى.

فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنّة لا يخرجون منها أبداً إلّا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنّه على كلّ شي‏ء قدير و لا يوجب فعل من الأفعال: إعطاء أو منع، سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأنّ قدرته مطلقة غير

٢٩

مقيّدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى:( وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم- ٢٧ و قال:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الرعد- ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات.

و لا منافاة بين هذا الوجه و بين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشيّة الله كما لا يخفى.

هذا وجه في الاستثناء و هنا وجوه اُخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أوّلها.

و ثانيهما: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنّة و التقدير إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللّذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ لأنّ الكثير لا يستثني من القليل، و على هذا فيكون إلّا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربّك كما يقال: ما كان معنا رجل إلّا زيد أي سوى زيد.

و فيه: أنّه مبنيّ على عدم إفادة قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) الدوام و الأبديّة و قد عرفت خلافه.

و ثالثها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنّهم ليسوا في جنّة و لا نار و مدّة كونهم في البرزخ الّذي هو ما بين الموت و الحياة لأنّه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظنّ الظانّ أنّهم يكونون في النار و الجنّة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.

فإن قيل: كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها.

و فيه: أنّه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّ هذا الوجه بظاهره مبنيّ على إفادة قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) الشقاوة و السعادة الجبريّتين من غير اكتساب و اختيار و قد عرفت ما فيه.

و رابعها: أنّ الاستثناء الأوّل متّصل بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و تقديره

٣٠

إلّا ما شاء ربّك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلّق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنّة متّصل بما دلّ عليه الكلام فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلّا ما شاء ربّك من أنواع النعيم، و إنّما دلّ عليه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

و فيه: أنّه قطع لاتّصال السياق و وحدته من غير دليل، و فيه أخذ( إِلَّا ) الاُولى بمعنى سوى و( إِلَّا ) الثانية بمعنى الاستثناء على أنّه لا قرينة هناك على تعلّق( إِلَّا ) الاُولى بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و لا أنّ قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يدلّ على ما ذكره فإنّه إنّما يدلّ على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.

ثمّ أيّة فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم و إظهار ذلك للسامعين و المقام مقام التطميع و التبشير و الظرف ظرف الدعوة و الترغيب فهذا من أسخف الوجوه.

و خامسها: أنّ( إِلَّا ) بمعنى الواو و إلّا كان الكلام متناقضا و المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و ما شاء ربّك من الزيادة على ذلك.

و فيه: أن كون( إِلَّا ) بمعنى الواو لم يثبت و إنّما ذكره الفرّاء لكنّهم ضعّفوه. على أنّ الوجه مبنيّ على عدم إفادة التقدير و التحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام. و قد عرفت ما فيه.

و سادسها: أنّ المراد بالّذين شقوا من اُدخل النار من أهل التوحيد و هم الّذين ضمّوا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنّهم معاقبون في النّار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم منها إلى الجنّة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

و أمّا الاستثناء الّذي في أهل الجنّة فهو استثناء من خلودهم أيضاً لأنّ من ينقل من النّار إلى الجنّة و يخلد فيها لا بدّ في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم من حاله فكأنّه قال: إنّهم في الجنّة خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار.

٣١

قالوا: و الّذين شقوا في هذا القول هم الّذين سعدوا بأعيانهم، و إنّما اُجري عليهم كلّ من الوصفين في الحال الّذي يليق به ذلك فإذا اُدخلوا في النار و عوقبوا فيها فهم أهل شقاء، و إذا اُدخلوا في الجنّة و اُثبتوا فيها فهم أهل سعادة، و نسبوا هذا القول إلى ابن عبّاس و جابر بن عبدالله و أبي سعيد الخدريّ من الصحابة و جماعة من التابعين.

و فيه: أنّه لا يلائم السياق فإنّه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنّه يوم مجموع له الناس قسّم أهل الجمع إلى قسمين بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و من المعلوم أنّ قوله:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) إلخ و قوله:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) مبدوّين بأمّا التفصيليّة مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و لازم ذلك كون المراد بالّذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصّة، و المراد بالّذين سعدوا جميع أصحاب الجنّة لا خصوص من اُخرج من النار و اُدخل الجنّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: المراد بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أيضاً وصف طائفة خاصّة بأعيانهم كما أنّ المراد بالّذين شقوا و الّذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم. و المعنى أنّ بعض أهل الجمع شقيّ و سعيد معا و هم الّذين اُدخلوا النار و استقرّوا فيها خالدين ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّك أن يخرجهم منها و يدخلهم الجنّة و يسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات و الأرض إلّا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنّة.

لكن ينتقل ما قدّمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادّعي من معنى قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامّة لا يساعد على إرادة طائفة خاصّة منهم بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أوّلا ثمّ تفصيل حالهم بتفريقهم - و هم جماعة واحدة بعينهم - و إيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات و الأرض ثمّ استثناءين ليس المراد بهما إلّا واحد و أيّ فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى و تعقيدا في النظم؟

و يمكن أن يقرّر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله:

٣٢

( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) تقسيم عامّة أهل الجمع إلى الشقيّ و السعيد، و المراد بقوله:( الّذينَ شَقُوا ) جميع أهل النار و بقوله:( الّذينَ سُعِدُوا ) جميع أصحاب الجنّة و يكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفسّاق من أهل التوحيد الّذين يخرجهم الله تعالى من النار و يدخلهم الجنّة و حينئذ يسلم من جلّ ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال.

و سابعها: أنّ التعليق بالمشيّة إنّما هو على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأنّ الله سبحانه لا يشاء إلّا خلودهم على ما حكم به فكأنّه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنّه لا يشاء أن يخرجهم منها.

و هذا الوجه يشارك الوجه الأوّل في دعوى أنّ الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقض الخلود غير أنّ الوجه الأوّل يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهيّة و هذا الوجه يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان أنّ الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلّا أن يشاء الله انتقاضه و لن يشاء أصلا.

و هذا هو وجه الضعف فيه فإنّ قوله: و لن يشاء أصلا لا دليل عليه هب أنّ قوله في أهل الجنّة:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يشعر أو يدلّ على ذلك لكن قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) لا يشعر به و لا يدلّ عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.

و ثامنها: أنّ المراد به استثناء الزمان الّذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة و كذا في الطوائف الّذين يدخلون الجنّة فإنّه تعالى يقول:( وَ سِيقَ الّذينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) ( وَ سِيقَ الّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة و لا بدّ أن يقع بينهما تفاوت في الزمان و هو الّذي يستثنيه تعالى بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و نقل الوجه عن سلام بن المستنير البصريّ.

و فيه: أنّ الظاهر من قوله:( فَفِي النَّارِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و كذا في قوله:( فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ ) إلخ أنّ الوصف ناظر إلى مدّة الكون في النار أو الجنّة من جهة النهاية لا من جهة البداية.

٣٣

على أنّ المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنّة على أيّ حال هو يوم القيامة، و لا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة و التفاوت الزمانيّ الحاصل من ذلك.

و تاسعها: أنّ المعنى كونهم خالدين في النار معذّبين فيها مدّة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، و قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسيّ في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.

و فيه: أنّ مرجعه إلى الوجه الثاني المبنيّ على أخذ( إِلَّا ) بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، و قد عرفت ما يرد عليه.

و عاشرها: أنّ المراد إلّا من شاء ربّك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الّذين شقوا، و التقدير فأمّا الّذين شقوا فكائنون في النار إلّا من شاء ربّك، و الظاهر أنّ هذا القائل يوجّه الاستثناء في ناحية أهل الجنّة( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) بأنّ المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنّة كما تقدّم في بعض الوجوه السابقة، و المعنى أنّ السعداء في الجنّة خالدين فيها إلّا الفساق من أهل التوحيد فإنّهم في النار ثمّ يخرجون فيدخلون الجنّة، و نسب الوجه إلى أبي مجلز.

و فيه: أنّ ما ذكره إنّما يجري في أوّل الاستثنائين فالثاني من الاستثنائين لا بدّ أن يوجّه بوجه آخر، و هو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.

على أنّ العصاة من المؤمنين الّذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا و إنّما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ ) إلخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثمّ يستثنوا لعدم دخولهم النار، و بالجملة هم ليسوا بأشقياء

٣٤

حتّى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنّة من أوّل.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) تعليل للاستثناء، و تأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) قرئ سعدوا بالبناء للمجهول و بالبناء للمعلوم و الثاني أوفق باللغة لأنّ مادّة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكنّ الأوّل و هو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون( شَقُوا ) في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أنّ السعادة و الخير من الله سبحانه و الشرّ الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدا ) النور: ٢١.

و الجذّ: هو القطع و عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعدّه تعالى الجنّة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من أحسن الشواهد على أنّ مراده باستثناء المشيّة إثبات بقاء إطلاق قدرته و أنّه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قطّ.

و يجري في هذه الآية جميع ما تقدّم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلّا ما كان من الوجوه مبنيّا على كون المستثنى في قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من دخل النار أوّلا ثمّ خرج منها إلى الجنّة ثانياً، و ذلك أنّ من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنّة الآخرة و هي جنّة الخلد أحد ممّن دخلها جزاء أبدا، و هو كالضروريّ من الكتاب و السنّة، و قد تكاثرت الآيات و الروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، و إن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.

قال في مجمع البيان، في وجوب دخول أهل الطاعة الجنّة و عدم جواز خروجهم منها: لإجماع الاُمّة على أنّ من استحقّ الثواب فلا بدّ أن يدخل الجنّة، و أنّه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى.

٣٥

مسألة (وجوب دخول أهل الثواب الجنّة) مبنيّة على قاعدة عقليّة مسلّمة و هي أنّ الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأنّ الّذي تعلّق به الوعد حقّ للموعود له، و عدم الوفاء به إضاعة لحقّ الغير و هو من الظلم و أمّا الوعيد فهو جعل حقّ للموعد على التخلّف الّذي يوعد به له، و ليس من الواجب لصاحب الحقّ أن يستوفي حقّه بل له أن يستوفي و له أن يترك و الله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنّة بإطاعتهم، و أوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنّة توفية للحقّ الّذي جعله لهم على نفسه، و أمّا عقاب العاصين فهو حقّ جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقّه و له أن يتركهم بترك حقّ نفسه.

و أمّا مسألة عدم الخروج من الجنّة بعد دخولها فهو ممّا تكاثرت عليه الآيات و الروايات، و الإجماع الّذي ذكره مبنيّ على الّذي تسلّموه من دلالة الكتاب و السنّة أو العقل على ذلك، و ليس بحجّة مستقلّة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله سبحانه ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته. ثمّ قرأ:( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )

و فيه: أخرج الترمذيّ و حسّنه و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عمر بن الخطّاب قال: لمّا نزلت:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شي‏ء قد فرغ منه، و جرت به الأقلام يا عمر، و لكن كلّ ميسّر لما خلق له‏.

٣٦

أقول: و هذا اللفظ مرويّ عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بطرق متعدّدة من طرق أهل السنّة كما في صحيح البخاريّ عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: (كلّ ميسّر لما خلق له)

و فيه أيضاً عن عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، أنّه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم أحد إلّا كتب مقعده من الجنّة أو من النار. قالوا: أ لا نتّكل؟ قال: اعملوا (فكلّ ميسّر لما خلق له) و قرأ:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ ) إلخ.

و لتوضيح ذلك نقول: إنّه لا يخفى على ذي مسكة أنّ كلّا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان و آثارها ما لم يلبس لباس التحقّق و الوجود فهو على حدّ الإمكان و للإمكان نسبة إلى الوجود و العدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا و أن لا تصير، و المني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الإنسانيّة أي إنّها تحمل استعداد أن يصير إنساناً إن اجتمع معها بقيّة أجزاء العلّة الموجبة للإنسانيّة و استعداد أن يبطل فيصير شيئاً غير الإنسان.

و إذا تلبّس بلباس الوجود و صار مثلا رمادا بالفعل و إنساناً بالفعل بطل عند ذلك عنه الإمكان الّذي كان ينسبه إلى الرماد و غيره معا و إلى الإنسان و عدمه معا، و صار إنساناً فحسب يمتنع غيره و رمادا يمتنع مع هذه الفعليّة غيره.

و بهذا يتّضح أنّا إذا أخذنا الفعليّات و نسبناها إلى عللها الموجبة لها و هكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليّات لا يتغيّر شي‏ء منها عمّا هو عليه، و بطل الإمكانات و الاستعدادات و الاختيارات جميعاً، و إذا نظرنا إلى الاُمور من جهة الإمكانات و الاستعدادات الّتي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شي‏ء من الأشياء المادّيّة من حيّز الإمكان و مستقرّ الاختيار.

فللكون وجهان: وجه ضرورة و فعليّة يتعيّن فيه كلّ جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، و لا يقبل أيّ إبهام و تردّد، و أيّ تغيير و تبديل و هو الوجه الّذي تقوم فيه المسبّبات بأسبابها الموجبة و المعلولات بعللها التامّة الّتي لا تنفكّ عن مقتضياتها

٣٧

و لا تتخلّف معلولاتها عنها و لا تنفع في تغييرها عمّا هي عليه حيلة، و لا في تبديلها سعي و لا حركة.

و وجه آخر هو وجه الإمكان و صورة الاستعداد و القابليّة لا يتعيّن بحسبه شي‏ء إلّا بعد الوقوع، و لا يخرج عن الإبهام و الإجمال إلّا بعد التحقّق، و عليه يقوم ناموس الاختيار، و به يتقوّم السعي و الحركات، و يبتني العمل و الاكتساب، و إليه تركن التعاليم و التربية و الخوف و الرجاء و الأمانيّ و الأهواء، و به تنجح الدعوة و الأمر و النهي و يصحّ الثواب و العقاب.

و من الضروريّ أنّ الوجهين لا يتدافعان في الوجود و لا يبطل أحدهما الآخر فللفعليّة ظرفها و للإمكان و الاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانيّة تعيّنها بعد التحقّق، و لا تعيّنها بعده إبهامها قبله.

و الوجه الأوّل هو وجه القضاء الإلهيّ، و لا يبطل تعيّن الحوادث بحسبه عدم تعيّنها بحسب ظرف الدعوة و العمل و الاكتساب، و سنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء و القدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.

و لنرجع إلى الأحاديث:

التأمّل في سياقها يعطي أنّهم فهموا من كتابه السعادة و الشقاوة و الجنّة و النار و جريان القلم بذلك، الضرورة و الوجوب، و توهّموا من ذلك أوّلا لزوم بطلان المقدّمات الموصلة إلى الغايات، و ارتفاع الروابط بين المسبّبات و أسبابها، و أنّه إذا قضي للإنسان بالجنّة تحتّم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحاً أو اقترف سيّئا.

و توهّموا ثانياً أنّ تلك المقدّمات و الأسباب نظائر للغايات و المسبّبات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى و لا للسعي و الاكتساب مجال.

و الّذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: (يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟) و قولهم: (يا رسول الله فيم يعمل

٣٨

العاملون؟) و قولهم: (أ لا نتّكل؟) أي ألا نترك العمل اتّكالا على ما كتبه الله كتابه لا تتغيّر و لا تتبدّل؟ كلّ ذلك يشير إلى التوهّم الأوّل، و كأنّ الّذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار و الاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهّمين و إن كان ناشباً على قلوبهم فإنّهما متلازمان.

و قد أجاب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن سؤالهم بقوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) و هو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإنسان:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠ أي إنّ كلّا من أهل الجنّة الّذي خلقه الله لها، و من أهل النار الّذي خلقه الله لها كما قال:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩. له غاية في خلقه و قد يسّره الله السبيل إلى تلك الغاية و سهّل له السلوك منه إليها.

فبين الإنسان الّذي كتبت له الجنّة و بين الجنّة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، و بينه و بين النار الّتي كتبت له كذلك، و سبيل الجنّة هو الإيمان و التقوى، و سبيل النار هو الشرك و المعصية، فالإنسان الّذي كتب الله له الجنّة إنّما كتب له الجنّة الّتي سبيلها الإيمان و التقوى فلا بدّ من سلوكه، و لم يكتب له الجنّة سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو سيّئا، و كذلك الّذي كتب له النار إنّما كتب له النار من طريق الشرك و المعصية لا مطلقا.

و لذلك أعقب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) - على ما في رواية عليّ (عليه السلام) - بتلاوة قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الليل: ١٠.

فالمتوقّع لإحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الريّ من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنّما الدار دار سعي و حركة لا تنال فيها غاية إلّا بسلوك و نقله، قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم، ٤١.

و لم يهمل (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الجواب عن ثاني التوهّمين حيث عبّر بالتيسير فإنّ

٣٩

التيسير هو التسهيل، و من المعلوم أنّ التسهيل إنّما يتحقّق في أمر لا ضرورة تحتمه و لا وجوب يعيّنه و يسدّ باب عدمه، و لو كان سبيل الجنّة ضروريّ السلوك حتميّ القطع على الإطلاق للإنسان الّذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغيّر، و لم يكن معنى لتيسيره و تسهيل سلوكه له و هو ظاهر.

فقوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): (كلّ ميسّر لما خلق له) يدلّ على أنّ لما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة و الشقاء وجهين وجه ضرورة و قضاء حتم لا يتغيّر عن سبيل مثله، و وجه إمكان و اختيار ميسّر للإنسان يسلك إليه بالعمل و الاكتساب، و الدعوة الإلهيّة إنّما تتوجّه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأوّل.

و قد تقدّم كلام في الجبر و الاختيار في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة، ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن قتادة: أنّه تلا هذه الآية:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) فقال: حدّثنا أنس أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: (يخرج قوم من النار) و لا نقول كما قال أهل حروراء.

أقول: و قوله: (و لا نقول كما قال أهل حروراء) هو من كلام قتادة، و أهل حروراء قوم من الخوارج، و هم يقولون بخلود من دخل النار فيها.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): إن شاء الله أن يخرج اُناسا من الّذين شقوا من النار فيدخلهم الجنّة فعل‏.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد الأهوازيّ في كتاب الزهد بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الجهنّميّين فقال: كان أبوجعفر يقول: يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنّة تسمّى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم و جلودهم و شعورهم.

أقول: و رواه أيضاً بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام):

و المراد بالجهنّميّين طائفة خاصّة من أهل النار و هم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، و يسمّون

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431