الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81251 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

و روى ما في معناه العيّاشيّ في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال:( قال الله ليوسف: أ لست الّذي حبّبتك إلى أبيك و فضّلتك على الناس بالحسن؟ أو لست الّذي سقت إليك السيّارة فأنقذتك و أخرجتك من الجبّ؟ أو لست الّذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعيّة أو تدعو مخلوقاً هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين‏) ، و قد تقدّم أنّ هذه و أمثالها روايات تخالف نصّ الكتاب.

و مثلها ما في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) و قوله لإخوته:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصّريح إلى الصدّيق (عليه السلام).

و في بعض هذه الروايات أنّ عثراته الثلاث هي همّه بها، و قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) ، و قوله:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . و الله سبحانه يبرّئه من هذه المفتريات بنصّ كتابه.

٢٠١

( سورة يوسف الآيات ٤٣ - ٥٧)

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّي أَرَى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤيَاي إِن كُنتُمْ لِلرّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ( ٤٤) وَقَالَ الّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ أَنَا أُنَبّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥) يُوسُفُ أَيّهَا الصّدّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ( ٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّم فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ( ٤٧) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ( ٤٨) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ( ٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَاءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى‏ رَبّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللّاتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ( ٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنّ إِذْ رَاوَدتّنّ يُوسُفَ عَن نّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزيِزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقّ أَنَا رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ وَإِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ( ٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ( ٥٢) وَمَا أُبَرّئُ نَفْسِي إِنّ النّفْسَ

٢٠٢

لَأَمّارَةُ بِالسّوءِ إِلّا مَا رَحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ( ٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ( ٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى‏ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ٥٥) وَكَذلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٥٦) وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتّقُونَ( ٥٧)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزّة مصر و الأسباب المؤدّية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانياً في اتّهامه و ظهور براءته التامّ.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) إلى آخر الآية. رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ) و قوله:( إِنِّي أَرى) حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنّها كانت رؤيا متكرّرة كما يحتمل مثله في قوله سابقا:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) ( إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ ) إلخ.

و السمان جمع سمينة و العجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضمّ العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إنّ ذلك من قبيل الإتباع و الجمع القياسيّ عجف.

٢٠٣

و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.

و قوله:( تَعْبُرُونَ ) من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمّى تعبيراً، و هو على أيّ حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر الّتي تمثّلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصّة مألوفة له.

قال في الكشّاف، في قوله:( سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميّز و هو بقرات دون المميّز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أنّ تميّز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهنّ لا بجنسهنّ، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثمّ رجعت فوصفت المميّز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلّا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ. انتهى.

و قال أيضاً: فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبنيّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الاُخر السبع، و يكون قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) بمعنى و سبعا اُخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) على( سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ) فيكون مجرور المحلّ؟ قلت: يؤدّي إلى تدافع و هو أنّ عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميّزاً للسبع المذكورة، و لفظ الاُخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنّك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجرّ فيصحّ لأنّك ميّزت السبعة برجال موصوفين

٢٠٤

بقيام و قعود على أنّ بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد. انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظنّ بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أمّا وجوب الدلالة من الكلام فلا ألبتّة.

و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إنّي أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات اُخر يابسات يا أيّها الملأ بيّنوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: ( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) الأحلام جمع حلم بضمّتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كأنّ الأصل في معناه ما يتصوّر للإنسان من داخل نفسه من غير توصّله إليه بالحسّ، و منه تسمية العقل حلما لأنّه استقامة التفكّر، و منه أيضاً الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) النور: ٥٩ أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضدّ الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنّه إنّما يكون عن استقامة التفكّر. و ذكر الراغب: أنّ الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلّف.

و قال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى:( وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) و به شبه الأحلام المختلفة الّتي لا تتبيّن حقائقها( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) حزم أخلاط من الأحلام انتهى.

و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنّه بعناية دعوى كونها صورا متفرّقة مختلطة مجتمعة من رؤي مختلفة لكلّ واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبّر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اُخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدلّ على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.

٢٠٥

على أنّ الآية أعني قوله:( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنّه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا اُخرى.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) إن كان الألف و اللّام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات الّتي هي أضغاث أحلام بعالمين. و إن كان لغير العهد و الجمع المحلّى باللّام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعبّر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كلّ من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) الاُمّة الجماعة الّتي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدّة الّتي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربّه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

و المعنى: و قال الّذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادّكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا اُنبّئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتّى اُخبركم بتأويل ذلك.

و خطاب الجمع في قوله:( أُنَبِّئُكُمْ ) و قوله( فَأَرْسِلُونِ ) تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الّذين يلون اُمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) كما سيأتي.

قوله تعالى: ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلى آخر

٢٠٦

الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازاً، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيّها الصدّيق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أنّ الناس في انتظار تأويله و هذا الاُسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمّى يوسف صدّيقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبّر به منامه و منام صاحبه في السجن و اُموراً اُخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صدّيقا بنقله ذلك من غير ردّ.

و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرّح أنّه رؤيا فقال:( أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) لأنّ قوله:( أَفْتِنا ) و هو سؤال الحكم الّذي يؤدّي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدلّ على ذلك و يكشف عنه.

و قوله:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) لعلّ الأوّل تعليل لقوله:( أَفْتِنا ) و لعلّ الثاني تعليل لقوله( أَرْجِعُ ) و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و اُخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( أَرْجِعُ ) في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنّه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

و في قوله أوّلا:( أَفْتِنا ) و ثانياً:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) دلالة على أنّه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتّى يعلمه ثمّ يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصّه يوسف بالخطاب بل عمّ الخطاب له و لغيره فقال:( تَزْرَعُونَ ) إلخ.

و في قوله:( إِلَى النَّاسِ ) إشعار أو دلالة على أنّ الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلّا أنّ الملأ كانوا هم أولياء اُمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أنّ الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلّقهم بالملك و اهتمامهم

٢٠٧

برؤياه لأنّ الرؤيا ناظرة غالباً إلى ما يهتمّ به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنّما يهتمّون بشؤون المملكة و اُمور الرعيّة.

قوله تعالى:( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) و الدأب العادة المستمرّة دائماً على حاله قال تعالى:( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي كعادتهم الّتي يستمرّون عليها. انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرّة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجدّ و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالاً أي تزرعون دائبين مستمرّين أو مجدّين مجتهدين فيه.

ذكروا أنّ( تَزْرَعُونَ ) خبر في معنى الإنشاء، و كثيراً ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنّه واقع يخبر عنه كقوله تعالى:( تُؤْمِنُونَ بِالله وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله ) الصف: ١١، و الدليل عليه قوله بعد:( فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) ، قيل: و إنّما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدّة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.

و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلّا يهلك و احفظوه كذلك إلّا قليلاً و هو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) الشداد جمع شديد من الشدّة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شدّ عليه إذا كرّ، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله:( يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) .

و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأنّ هذه السنين سباع ضارية تكرّ على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادّخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.

٢٠٨

و الإحصان الإحراز و الادّخار، و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلّا قليلاً ممّا تحرزون و تدّخرون.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) يقال: غاثه الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمّها أي ينصره و هو من الغوث بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث و هو المطر، فقوله:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ ) إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لا يصغي إلى قول من يدّعي: أنّ المعنى الأوّل هو المتبادر من سياق الآية إلّا على قراءة( يَعْصِرُونَ ) بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.

و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنّه لا ينطبق على مورد الآية فإنّ خصب مصر إنّما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثّر فيها أثراً.

ردّ عليه بأنّ الفيضان نفسه لا يكون إلّا بالمطر الّذي يمدّه في مجاريه من بلاد السودان.

على أنّ من الجائز أن يكون( يُغاثُ ) مأخوذاً من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب: و الغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) .

و قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) من العصر و هو إخراج ما في الشي‏ء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسّره بعضهم به.

و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت

٢٠٩

أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتّخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم. و فيه كناية عن توفّر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.

قال البيضاويّ في تفسيره: و هذه بشارة بشّرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعلّه علم ذلك بالوحي أو بأنّ انتهاء الجدب بالخصب أو بأنّ السنّة الإلهيّة أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم. انتهى و ذكر غيره نحواً ممّا ذكره.

و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أنّ هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كلّ ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأوّل بعد سني الشدّة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلّا بوحي من الله عزّوجلّ لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

و الّذي أرى أنّهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنّا إذا تدبّرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثمّ السنين السبع المجدبة، و لو أنّه أراد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقول مثلاً: يأتي عليكم سبع مخصبات ثمّ يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثمّ إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامّة، قال:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بيّن أنّ أمره بذلك توطئة و تقدّمة للتخلّص عمّا يهدّدهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا

٢١٠

دليل على أنّ الّذي رآه الملك من الرؤيا إنّما كان مثال ما يجب عليه من اتّخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليّته في أمر رعيّته و هو أن يسمن بقرات سبعاً لتأكلهنّ بقرات مهازيل ستشدّ عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.

فكأنّ نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدّد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الّذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثمّ حكت ما في السبع الاُول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الاُخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادّخروه في السبع الاُولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئاً إلّا اُموراً ثلاثة:

أحدها ما استثناه بقوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) و ليس جزء من التأويل و إنّما هو إباحة و بيان لمقدار التصرّف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.

و ثانيها: قوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) و هو الّذي يجب أن يدّخروه للعام الّذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتّخذ بذراً و مدداً احتياطيّاً، و كأنّه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا:( يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) حيث لم يقل: أكلتهنّ بل عبّر عن اشتغالهنّ بأكلهنّ و لمّا يفنيهنّ بأكل كلّهنّ و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنّهنّ أكلتهنّ عن آخرهنّ.

و ثالثها: قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و الظاهر أنّه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الّذي تكرّر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ ) و إن كان إخباراً صورةً عن المستقبل لكنّه كناية عن أنّ هذا العام الّذي سيستقبلهم بعد مضيّ السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الادّخار، و لا تكليف فيه يتوجّه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

٢١١

و لعلّه لهذه الثلاثة غير السياق فقال:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أنّ الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصدّيكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.

و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدّم أنّ هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلّا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

فإنّ تبدّل سني الجدب بسنة الخصب ممّا يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أمّا ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزيّة بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ ألبتّة.

و ممّا ذكرنا أيضاً تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل:( وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) حيث عرفت أنّ الرؤيا لا تجلّي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنّما تجلّي ما هو التكليف العمليّ قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

و مما تقدّم يظهر أيضاً أنّ الأنسب أن يكون المراد بقوله:( يُغاثُ ) و قوله:( يَعْصِرُونَ ) الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأنّ ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإنّ هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدلّ عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبّأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

٢١٢

و ظاهر أنّ الّذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمراً عظيماً، و الّذي أشار إليه من الرأي البيّن الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتمّ بأمر اُمّته المعتني بشؤون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلّمه و يتبصّر بما يقوله مزيد تبصّر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إيّاه بقوله:( فَلَمَّا جاءَهُ و كَلَّمَهُ ) إلخ.

و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصاً له بل إطلاقاً من السجن و إشخاصاً للتكليم و، لو كان إشخاصاً و إحضاراً لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل اُجبر عليه إجباراً بل كان إحضاراً عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحقّ، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانياً: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أوّلا: ائتوني به.

و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلّا أن يقضي بينه و بينها، و إنّما أشار إلى النسوة اللّاتي راودنه، و لم يذكرهنّ أيضاً بسوء إلّا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أيّ مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيماً.

و لم يذكرهنّ بشي‏ء من المكروه إلّا ما في قوله:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و ليس إلّا نوعاً من بثّ الشكوى لربّه.

و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ) ثمّ يقول:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و فيه نوع من تبليغ الحقّ، و ليكن فيه تنبّه لمن يزعم أنّ مراده من( رَبِّي ) فيما قال لامرأة العزيز:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) هو زوجها، و أنّه يسمّيه ربّا لنفسه.

و ما ألطف قوله:( ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) و البال هو الأمر الّذي يهتمّ به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الّذي أوقعهنّ فيما وقعن فيه، و ليس إلّا هواهنّ فيه و ولههنّ في حبّه حتّى أنساهنّ أنفسهنّ فقطّعن

٢١٣

الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكّر الملك في نفسه أنّ الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدّاً، و الكفّ عن معاشقتهنّ و الامتناع من إجابتهنّ بما يردنه و هنّ يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرّة و المرّتين و لا الإلحاح و الإصرار يوماً أو يومين و لن تتيسّر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلّا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: ( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الّذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى:( فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ) ( فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) . انتهى.

و قال أيضاً: حصحص الحقّ أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حصّ و حصحص نحو كفّ و كفكف و كبّ و كبكب، و حصّة قطع منه إمّا بالمباشرة و إمّا بالحكم - إلى أن قال - و الحصّة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب. انتهى.

و قوله:( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) ؟ جواب عن سؤال مقدّر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا - كلّ ذلك يدلّ عليه السياق - و التقدير: كأنّ سائلا يسأل فيقول: فما الّذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلّغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهنّ عمّا يهمّ من شأنهنّ في مراودتهنّ ليوسف: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قُلْنَ:( حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) فنزّهنه عن كلّ سوء، و شهدن أنّهنّ لم يظهر لهنّ منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

و ذكرهنّ كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) نظير تنزيههنّ حينما رأينه لأوّل مرّة:( حاشَ لله ما هذا بَشَراً ) يدلّ على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفّة فيما علمنه كما أنّه كان بالغاً في الحسن.

و الكلام في فصل قوله:( قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ) نظير الكلام في قوله( قالَ ما خَطْبُكُنَّ ) و قوله:( قُلْنَ حاشَ لله ) فعند ذلك تكلّمت امرأة العزيز و هي الأصل

٢١٤

في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدّقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدّعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحقّ و هو أنّه: أنا راودته عن نفسه و إنّه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذّبت نفسها في اتّهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برّأته تبرئة كاملة أنّه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.

و اتّضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كلّ وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من:( ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) مع كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) في قولهنّ، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و شهادتها بصدقه مؤكّدة بإنّ و اللّام و الجملة الاسميّة:( وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و غير ذلك في قولها. و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كلّ سوء أعمّ من الفحشاء و المراودة لها و أيّ ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: ( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدلّ عليه السياق، و كأنّه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كلّ سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.

و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) البقرة: ٢٨٥ أي قالوا لا نفرّق إلخ، و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) الصافات: ١٦٦.

و على هذا فالإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) عائد إلى العزيز و المعنى إنّما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقّق الأمر و يقضي بالحقّ ليعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين:

٢١٥

أحدهما: أن يعلم العزيز أنّه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أيّ شبهة و ريبة.

و الثاني: أن يعلم أنّ الخائن مطلقاً لا ينال بخيانته غايته و أنّه سيفتضح لا محالة سنّة الله الّتي قد خلت في عباده و لن تجد لسنّة الله تبديلاً فإنّ الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحقّ عليه ظهوراً، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرّت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

و كان الغرض من الغاية الثانية:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنّه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شي‏ء ألبتّة كان جديراً بأن يؤتمن على كلّ شي‏ء نفساً كان أو عرضاً أو مالاً.

و بهذا الامتياز البيّن يتهيّأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إيّاه و هو قوله بعد أن اُشخص عند الملك:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .

و الآية ظاهرة في أنّ هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الّذي اُشير إليه بقوله:( وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) و قوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية و الّتي بعدها تتمّة قول امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و سيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تتمّة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أنّ قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوّة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغّلين في التوحيد الّذين لا يرون لغيره تعالى حولاً و لا قوّة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوّة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى

٢١٦

رحمة ربّه، و تسوية نفسه بسائر النفوس الّتي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمّارة بالسوء فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام)( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله ) هود: ٨٨.

فقوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إشارة إلى قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) و أنّه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربّه، و علّل ذلك بقوله( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيّئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرّأ من الميل إلى السوء، و إنّما تكفّ عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشرّ برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفّقها لصالح العمل.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) يفيد فائدتين:

إحداهما: تقييد إطلاق قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) فيفيد أنّ اقتراف الحسنات الّذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.

و ثانيتهما: الإشارة إلى أنّ تجنّبه الخيانة كان برحمة من ربّه.

و قد علّل الحكم بقوله:( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأنّ المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلّق بسائر النقائص كما تتعلّق بالذنوب، قال تعالى.( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنعام: ١٤٥ و قد تقدّم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عزّ اسمه بلفظ( رَبِّي ) فقد كرّره ثلاثاً حيث قال:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) ( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ هذه الجمل تتضمّن نوع إنعام من ربّه بالنسبة إليه فأثنى

٢١٧

على الربّ تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتّخاذ الله سبحانه ربّا لنفسه معبوداً خلافاً للوثنيّين، و أمّا قوله:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبّر بلفظ الجلالة.

و قد ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآيتين أعني قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلخ من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أنّ امرأة العزيز لمّا اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت:( ذلِكَ ) أي اعترافي بأنّي راودته عن نفسه و شهادتي بأنّه من الصادقين( لِيَعْلَمَ ) إذا بلغه عنّي هذا الكلام( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) بل اعترفت بأنّ المراودة كانت من قبلي أنا و أنّه كان صادقاً( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) كما أنّه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتّى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهنّ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) من السوء مطلقاً فإنّي كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و هذا وجه ردي‏ء جدّاً أمّا أوّلاً: فلأنّ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حقّ الكلام أن يقال: و ليعلم أنّي أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإنّ قوله( ذلِكَ ) على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشاراً به إلى ذلك خلا الكلام عن الفائدة فإنّ محصّل معناه حينئذ: إنّما اعترفت و شهدت ليعلم أنّي اعترفت و شهدت له بالغيب. مضافاً إلى أنّ ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنّها إنّما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحقّ و بيان حقيقة الأمر.

و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنّما اعترفت و شهدت له ليعلم أنّي لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافاً إلى أنّ اعترافها و شهادتها لا يدلّ على عدم خيانتها

٢١٨

له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكّرها يوسف به أوّل حين إذ راودته عن نفسه فقال:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

و أمّا ثالثاً: فلأنّ قولها:( و ما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن) يناقض قولها:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كما لا يخفى مضافاً إلى أنّ قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيديّة ليس بالحريّ أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.

و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنّها تقول: ذاك الّذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أنّي لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنّا، و أنّ كلّ ما وقع أنّي راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برّأت يوسف من الإثم فما اُبرّئ منه نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي.

و فيه: أنّ الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيّب به نفس زوجها و تزيل أيّ ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإنّ قولها.( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) إنّما يفيد العلم بأنّها راودته عن نفسه، و أمّا شهادتها أنّه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنّها إنّما شهدت له لتطيّب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشكّ و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنّها لم تخنه بالغيب.

مضافاً إلى أنّ قوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إلخ يكون حينئذ تكراراً لمعنى قولها:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و ظاهر السياق خلافه. على أنّ بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ

٢١٩

الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) يقال: استخلصه أي جعله خالصا، و المكين صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله:( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) حذف للإيجاز و التقدير: فلمّا اُتي به إليه و كلمه قال إنّك اليوم إلخ و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى إنّك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنّب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كلّ مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربّك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله:( مَكِينٌ أَمِينٌ ) فأفاد بذلك عموم الحكم.

و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصّة لي فلمّا اُتي به إليه و كلّمه قال له إنّك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكّنك من كلّ ما تريد و يأتمنك على جميع شؤون الملك و في ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) لمّا عهد الملك ليوسف إنّك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوّض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.

و لم يسأله ما سأل إلّا ليتقلّد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدّخرها للسنين السبع الشداد الّتي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كلّ منهم ما يستحقّه من الميرة من غيره حيف.

و قد علّل سؤاله ذلك بقوله:( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) فإنّ هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدّى مقاماً هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد اُجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كلّ ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) التمكين هو الإقدار و التبوّء أخذ المكان.

٢٢٠

و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ساقه من القصّة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزّة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هدّدته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزّة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجبّ و بيعه من السيّارة ليذلّوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثمّ كادت به بالسجن لصغاره فتسبّب الله بذلك لعزّته.

و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرّيّة الاختلاط و العشرة، قال تعالى:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي رفعنا عنه حرج السجن الّذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشيّة له أن يتبوّأ في أيّ بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصّاه امرأته:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) .

و بهذه المقايسة يظهر أنّ قوله ههنا:( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ) في معنى قوله هناك:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) و أنّ المراد أنّ الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيّته و لا يسع لأيّ مانع مفروض أن يمنع من إصابته. و لو وسع لسبب أن يبطل مشيّة الله في أحد لوسع في يوسف الّذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزّه الله، إن الحكم إلّا لله.

و قوله:( وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى أنّ هذا التمكين أجر اُوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أنّ الله لا يضيع أجرهم.

قوله تعالى: ( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل اُخرويّ لأوليائه تعالى خاصّة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.

و الدليل على أنّه لا يعمّ عامّة المؤمنين الجملة الحاليّة:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) الدالّة على أنّ هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى

٢٢١

مستمرّ حقيقيّ و هذا التقوى لا يتحقّق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) يونس: ٦٤.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: ثمّ إنّ الملك رآى رؤيا فقال لوزرائه إنّي رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و اُخر يابسات و قال(١) أبوعبدالله (عليه السلام) سبع سنابل ثمّ قال: يا أيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك.

فذكر الّذي كان على رأس الملك رؤياه الّتي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله:( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي بعد حين( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) فجاء إلى يوسف فقال:( أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) .

قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلّا قليلاً ممّا تأكلون أي لا تدوسوه فإنّه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون.

و قال أبوعبدالله (عليه السلام): قرأ رجل على أميرالمؤمنين (عليه السلام)( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) - على البناء للفاعل - فقال: ويحك أيّ شي‏ء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أميرالمؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنّما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على

____________________

(١) و قرأ خ ل‏

٢٢٢

ذلك قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربّك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ؟ إنّ ربّي بكيدهنّ عليم.

فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب و أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثمّ قالت:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) .

فقال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فلمّا نظر إلى يوسف قال:( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) فاسأل حاجتك قال:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) .

أقول: قوله: وقرأ الصادق (عليه السلام)( سبع سنابل) في رواية العيّاشيّ عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنّه قرأ:( سَبْعَ سُنْبُلاتٍ ) (١) و قوله (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ أي إنّ التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، وقوله (عليه السلام): إنّما نزلت: وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنّه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون‏ الغوث و روى هذا المعنى أيضاً العيّاشيّ في تفسيره عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام).

و قوله:( أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل) ظاهر في أخذ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ

____________________

(١) على ما أخرجه في البرهان و أمّا في نسخة العيّاشيّ المطبوعة( سبع سنابل) أيضاً.

٢٢٣

و ابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث اُرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتّى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له اُتي ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنّه أحبّ أن يكون له العذر.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق اُخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العيّاشيّ عن أبان عن محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدّثته حتّى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك(١) حتّى أظهر الله عذره.

أقول: و هذا النبويّ لا يخلو من شي‏ء فإنّ فيه أحد المحذورين إمّا الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصّله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرّد الخروج منه و لا همّ لامرأة العزيز و نسوة مصر إلّا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهنّ و هو القائل:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، و إنّما كان يريد الخروج في جوّ يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.

و لذا أنبأ و هو في السجن أوّلا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامّة و ادّخارها فتوصّل به إلى قول الملك( ائْتُونِي بِهِ ) ثمّ لمّا أمر بإخراجه أبى إلّا أن‏ يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصّل به إلى قوله:( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) و هذا أحسن تدبير يتصوّر لما كان يبتغيه من العزّة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض. مضافاً إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الاُمور و تحمّله الأذى في جنب الحقّ و علمه الغزير و حكمه القويم.

و إمّا الطعن في النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و حاشاه أن يقول: إنّه لو كان مكان يوسف

____________________

(١) هي امرأة العزيز دون الملك و لعلّ إطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث. منه.

٢٢٤

طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأنّ الحقّ كان معه في صبره، و هو اعتراف بأنّ من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يأمر الناس بشي‏ء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمّل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتّى أثنى الله عليه بمثل قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلميّ عن أنس قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال: لمّا قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همّك. قال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في عدّة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عبّاس: لمّا قالها يوسف( فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟) و في رواية عن حكيم بن جابر:( فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟) و نحو من ذلك في روايات اُخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحّاك و ابن زيد و السدّيّ و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.

و قد تقدّم في البيان السابق أنّ هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنصّ الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصدّيق (عليه السلام) أن يكذب بقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) ثمّ يصلح ما أفسده بغمز من جبريل. قال في الكشّاف: و لقد لفّقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أنّ يوسف حين قال:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكّة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله. انتهى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية يعني العزيز.

أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسيّ في كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلمّا

٢٢٥

مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم و الدنانير حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلّا صار في ملك يوسف.

و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلّا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتّى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتّى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلّا صار عبداً ليوسف.

فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه [ الله ظ ] من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً و علماً و تدبيراً، ثمّ قال يوسف للملك: ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإنّي لم اُصلحهم لاُفسدهم، و لم اُنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكنّ الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك.

قال يوسف: إنّي اُشهد الله و اُشهدك أيّها الملك إنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي و لا تحكم إلّا بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلّا بسيرتك و لا أحكم إلّا بحكمك و لولاك ما تولّيت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزاً ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له و أنّك رسوله فأقم على [ ما ظ ] ولّيتك فإنّك لدينا مكين أمين.

أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات

٢٢٦

و لذلك تركنا نقلها.

و في تفسير العيّاشيّ، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكّي الرجل نفسه؟ قال: نعم إذا اضطرّ إليه أما سمعت قول يوسف:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) و قول العبد الصالح: إنّي لكم ناصح أمين؟.

أقول: الظاهر أنّ المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه:( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) الأعراف: ٦٨.

و في العيون، بإسناده عن العيّاشيّ قال حدّثنا محمّد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنّه أنكر ذلك عليه. فقال له أبوالحسن الرضا (عليه السلام): أيّما أفضل النبيّ أو الوصيّ؟ فقال: لا بل النبيّ. قال: فأيّما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم.

قال: فإنّ عزيز(١) مصر كان مشركا و كان يوسف نبيّا، و إنّ المأمون مسلم و أنا وصيّ و يوسف سأل العزيز أن يولّيه حتّى قال: استعملني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله:( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) قال: حافظ على ما في يدي عالم بكلّ لسان.

أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العيّاشيّ في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضاً عن فضل بن أبي قرّة عن الصادق (عليه السلام).

____________________

(١) المراد به ملك مصر و لعلّ إطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. منه.

٢٢٧

( سورة يوسف الآيات ٥٨ - ٦٢)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ( ٥٨) وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُم مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ( ٥٩) فَإِن لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ( ٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنّا لَفَاعِلُونَ( ٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ( ٦٢)

( بيان‏)

فصل آخر مختار من قصّة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجيي‏ء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدّمة لضمّ يوسف (عليه السلام) أخاه من اُمّه - و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ - إليه ثمّ تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.

و إنّما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنّه أراد أن يلحق أخاه من اُمّه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و منّ الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثمّ يشخصهم جميعاً، و الآيات الخمس تتضمّن قصّة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبّلهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ )

٢٢٨

في الكلام حذف كثير و إنّما ترك الاقتصاص له لعدم تعلّق غرض هامّ به، و إنّما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من اُمّه به و إشراكه معه في النعمة و المنّ الإلهيّ ثمّ معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصّته و ما جرى عليه بعد عزّة مصر.

و الّذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من اُمّه فإنّ يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلّي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كلّه ما سيأتي من الآيات.

و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلّده عزّة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنّهم إنّما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلّموه إلى السيّارة يوم اُخرج من الجبّ و هو صبيّ و قد مرّ عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولّى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زيّ عزيز مصر لا يظنّ به أنّه رجل عبريّ من غير القبط، و هذا كلّه صرفهم عن أن يظنّوا به أنّه أخوهم و يعرفوه لكنّه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوّة كما قال تعالى:( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: الجهاز ما يعدّ من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه. انتهى. فالمعنى و لمّا حملهم ما أعدّ لهم من الجهاز و الطعام الّذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ائْتُونِي إلخ.

و قوله:( أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ - أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتّكاء على قدرتي و عزّتي -وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) اُكرم النازلين بي و اُحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانياً و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أنّ قوله في الآية التالية:( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تقرّبونِ ) تهديد لهم لئلّا

٢٢٩

يعصوا أمره، و كما أنّ قولهم في الآية الآتية:( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).

ثمّ من المعلوم أنّ قوله (عليه السلام) أوان خروجهم:( ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاماً ابتدائيّاً من غير مقدّمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطّنوا أنّه يوسف أو يتوهّموا فيه ما يريبهم في أمره. و هو ظاهر. و قد أورد المفسّرون في القصّة من مفاوضته لهم و تكليمه إيّاهم أموراً كثيرة لا دليل على شي‏ء منها من كلامه تعالى في سياق القصّة و لا أثر يطمأنّ إليه في أمثال المقام.

و كلامه تعالى خال عن التعرّض لذلك، و إنّما الّذي يستفاد منه أنّه سألهم عن خطبهم فأخبروه و هم عشرة أنّهم إخوة و أنّ لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحبّ العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ ) الكيل بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام. و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) المراودة كما تقدّم هي الرجوع في أمر مرّة بعد مرّة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام)( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) دليل على أنّهم قصّوا عليه قصّته أنّ أباهم يضنّ به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أيّ غيبة، و في قولهم:( أَباهُ ) و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.

و قولهم:( وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحملة معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا

٢٣٠

انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الفتيان جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى:( هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) و قال تعالى:( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و الأصل في هذه الكلمة البضع - بفتح الباء - و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع - قال - و فلان بضعة منّي أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منّي - قال - و البضع بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة. انتهى، و الرحال جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب الرجوع.

و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم الّتي قدّموها ثمناً لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم - و فتحوا الأوعية - لعلّهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإنّ ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتّع من الإكرام و الإحسان.

٢٣١

( سورة يوسف الآيات ٦٣ - ٨٢)

فَلَمّا رَجَعُوا إِلَى‏ أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ٦٣) قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى‏ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ( ٦٤) وَلَمّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَميرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ( ٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى‏ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ إِلّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ( ٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيّ لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ‏ِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ( ٦٧) وَلَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْنَاهُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٦٨) وَلَمّا دَخَلُوا عَلَى‏ يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٦٩) فَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ( ٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مّاذَا تَفْقِدُونَ( ٧١)

٢٣٢

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ( ٧٢) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ( ٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُم كَاذِبِينَ( ٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ( ٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ إِلّا أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( ٧٦) قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرّ مّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ( ٧٧) قَالُوا يَا أَيّهَا الْعَزِيرُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنينَ( ٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنّا إِذاً لَظَالِمُونَ( ٧٩) فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُم أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتّى‏ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ٨٠) ارْجِعُوا إِلَى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ( ٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصَادِقُونَ( ٨٢)

٢٣٣

( بيان‏)

الآيات تقتصّ رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من اُمّه للاكتيال ثمّ مجيئهم ثانياً إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‏ أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الاكتيال أخذ الطعام كيلا إن كان ممّا يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا تولّيت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى:( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ- يَسْتَوْفُونَ- وَ إِذا كالُوهُمْ ) .

و قوله:( قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ) فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصّونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.

و قولهم:( أَخانا ) إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) بما فيه من التأكيد البالغ.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) قال في المجمع: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمنا انتهى فقوله:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، أي هل أطمئنّ إليكم في ابني هذا إلّا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.

و محصّله أنّكم تتوقّعون منّي أن أثق فيه بكم و تطمئنّ نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قد أمنتكم

٢٣٤

بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عنّي شيئاً و جئتم بقميصه الملطّخ بالدم أنّ الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئاً و لا بيده حفظ ما سلّم إليه و ائتمن له.

و قوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) تفريع على سابق كلامه:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لُغيً لا أثر له و لا يغني شيئاً فخير الاطمئنان و الإتّكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردّد الأمر بين التوكّل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعيّن.

و قوله:( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) في موضع التعليل لقوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً ) أي إنّ غيره تعالى ربّما اُمن في أمر و ائتمن عليه في أمانة سلّم له فلم يرحم المؤتمن و ضيّع الأمانة لكنّه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محلّ الرحمة و يترحّم العاجز الضعيف الّذي فوّض إليه أمرا و توكّل عليه، و من يتوكّل على الله فهو حسبه.

و من هنا يظهر أنّ مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنّه سبب مستقلّ في سببيّته غير مغلوب ألبتّة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى:( وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ كيف؟ و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الّذي يتنزّه عنه ساحة الأنبياء، و قد نصّ تعالى على أنّ يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنّه من الأئمّة الهداة المهديّين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله:( إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أنّه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه ألبتّة. على أنّه أمنهم على أخي يوسف أيضاً بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدلّ عليه الآيات التالية.

بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنّه تعالى متّصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغشّ عباده المتوكّلين عليه المسلّمين

٢٣٥

له اُمورهم فإنّه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنّه أرحم الراحمين على أنّه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيّته، و أمّا الناس إذا أمنوا على أمر و اطمئنّ إليهم في شي‏ء فإنّهم اُسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانيّة ربّما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربّما خانوا و لم يحفظوا. على أنّهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوّة و إرادة.

و بالجملة مراده (عليه السلام) أنّ الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنّه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمئنّ فيه إليه بخلاف الناس فإنّهم ربّما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسّل بهم فخانوه، و لذلك لمّا كلّف بنيه ثانياً أن يؤتوه موثقا من الله قال:( إن تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا اُحيط بهم فإنّه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسؤلين عنه، و إنّما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ في قوله (عليه السلام)( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنّهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أيّ حال في معنى الردّ لما سألوه.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) إلى آخر الآية. البغي هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشرّ و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع: الميرة الأطعمة الّتي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا. انتهى.

و قوله:( يا أَبانا ما نَبْغِي ) استفهام أي لمّا فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنّه غير قاصد بهم سوءا و قد سلّم إليهم الطعام و ردّ إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و

٢٣٦

درّا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الّذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد اُوفى لنا الكيل و ردّ إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.

فقولهم:( يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنّه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه، و لذلك عقّبوه بقولهم:( وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي سهل.

و ربّما قيل: إنّ( ما ) في قوله:( ما نَبْغِي ) للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردّت إلينا، و كذا قيل: إنّ اليسير بمعنى القليل أي إنّ الّذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.

قوله تعالى: ( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) الموثق بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهيّ و إعطاؤه هو أن يسلّط الإنسان على أمر إلهيّ يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلنّ كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.

و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الّذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكلّ شي‏ء أي مسلّط عليه حافظ له من كلّ جهة لا يخرج و لا شي‏ء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدّت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: اُحيط به أي هلك أو فسد أو انسدّت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى:( وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ ما أَنْفَقَ فِيها ) الكهف: ٤٢، و قال:( وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ

٢٣٧

بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يونس: ٢٢ و منه قوله في الآية:( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كلّ استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إليّ.

و الوكالة نوع تسلّط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكّل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكّل عليه في الاُمور ليس بعناية أنّه خالق كلّ شي‏ء و مالكه و مدبّره بل بعناية أنّه أذن في نسبة الاُمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملّكها إيّاها بنحو من التمليك و هي فاقدة للأصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقلّ القاهر لكلّ سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمراً و توصّل إليه بالأسباب العاديّة الّتي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقلّ بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب الّتي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكّل عليه سبحانه. فليس التوكّل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الاُمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلّة الّتي إلى نفسه و إلى الأسباب.

و لذلك نرى أنّ يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكّله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسّك بالأسباب العاديّة فكلّم أولا بنيه في أخيهم ثمّ أخذ منهم موثقا من الله ثمّ توكّل على الله و كذا فيما وصّاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرّقة ثمّ توكّله على ربّه تعالى.

فالله سبحانه على كلّ شي‏ء وكيل من جهة الاُمور الّتي لها نسبة إليها كما أنّه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوّة، و أنّه ربّ كلّ شي‏ء من جهة أنّه المالك المدبّر لها.

و معنى الآية:( قالَ ) يعقوب لبنيه:( لَنْ أُرْسِلَهُ ) أي أخاكم من اُمّ يوسف( مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ ) و تعطوني( مَوْثِقاً مِنَ الله ) أثق به و أعتمد عليه من عهد أو

٢٣٨

يمين( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) و اللّام للقسم و لمّا كان إيتاؤهم موثقا من الله إنّما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) و تسلبوا الاستطاعة و القدرة( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) من الله( قالَ ) يعقوب( اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) أي إنّا قاولنا جميعاً فقلت و قلتم و توسّلنا بذلك إلى هذه الأسباب العاديّة للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشي‏ء فليأت به كما التزم و إن تخلّف فليجازه الله و ينتصف منه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهّزوا و استعدّوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصّة أنّه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفّا واحداً لأنّه كان من المعلوم أنّه سيشخصهم إليه فيصطفّون عنده صفّا واحداً و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنّما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرّق به جمعهم من قتل أو أيّ نازلة اُخرى.

و قوله بعده:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّه كان يخاف ذلك جدّاً فكأنّه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحسّ حينما تجهّزوا للسفر و اصطفّوا أمامه للوداع إحساس إلهام أنّ جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرّق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذّرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.

ثمّ رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الّذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلاً مستقلّاً - و لا مؤثّر في الوجود بالحقيقة إلّا الله سبحانه - فقيّد كلامه بما يصلحه فقال مخاطباً لهم:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ثمّ علّله بقوله( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) أي لست أرفع حاجتكم إلى الله

٢٣٩

سبحانه بما أمرتكم به من السبب الّذي تتّقون به نزول النازلة و تتوسّلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإنّ هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقاً إلّا لله بل هذه أسباب ظاهريّة إنّما تؤثّر إذا أراد الله لها أن تؤثّر.

و لذلك عقّب كلامه هذا بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) أي إنّ هذا سبب أمرتكم باتّخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكّلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب الّتي أخذتها في اُموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كلّ رشيد غير غويّ يرى أنّه لا يقوى باستقلاله لإدارة اُموره و لا أنّ الأسباب العاديّة باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجئ في اُموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبّر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الّذي لا يقهره شي‏ء الغالب الّذي لا يغلبه شي‏ء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و قد تبيّن بالآية أوّلاً معنى التوكّل و أنّه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكّل و الموكّل.

و ثانياً: أنّ هذه الأسباب العاديّة لمّا لم تكن مستقلّة في تأثيرها و لا غنيّة في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسّل إليها في مقاصده الحيويّة أن يتوكّل مع التوسّل إليها على سبب وراءها ليتمّ لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب الّتي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنّه من الغيّ و الجهل.

و ثالثاً: أنّ ذاك السبب الّذي يجب التوكّل عليه في الاُمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنّه الله لا إله إلّا هو ربّ كلّ شي‏ء و هذا هو المستفاد من الحصر الّذي يدلّ عليه قوله:( و على الله فليتوكّل المتوكّلون) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) إلى آخر الآية. الّذي يعطيه سياق الآيات

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431