الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 77757
تحميل: 5661


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77757 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و روى ما في معناه العيّاشيّ في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال:( قال الله ليوسف: أ لست الّذي حبّبتك إلى أبيك و فضّلتك على الناس بالحسن؟ أو لست الّذي سقت إليك السيّارة فأنقذتك و أخرجتك من الجبّ؟ أو لست الّذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعيّة أو تدعو مخلوقاً هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين‏) ، و قد تقدّم أنّ هذه و أمثالها روايات تخالف نصّ الكتاب.

و مثلها ما في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) و قوله لإخوته:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصّريح إلى الصدّيق (عليه السلام).

و في بعض هذه الروايات أنّ عثراته الثلاث هي همّه بها، و قوله:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) ، و قوله:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . و الله سبحانه يبرّئه من هذه المفتريات بنصّ كتابه.

٢٠١

( سورة يوسف الآيات ٤٣ - ٥٧)

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّي أَرَى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤيَاي إِن كُنتُمْ لِلرّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ( ٤٤) وَقَالَ الّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادّكَرَ بَعْدَ أُمّةٍ أَنَا أُنَبّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥) يُوسُفُ أَيّهَا الصّدّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ( ٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّم فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ( ٤٧) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلّا قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ( ٤٨) ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ( ٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَاءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى‏ رَبّكَ فَسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللّاتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ( ٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنّ إِذْ رَاوَدتّنّ يُوسُفَ عَن نّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزيِزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقّ أَنَا رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ وَإِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ( ٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ( ٥٢) وَمَا أُبَرّئُ نَفْسِي إِنّ النّفْسَ

٢٠٢

لَأَمّارَةُ بِالسّوءِ إِلّا مَا رَحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ( ٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلّمَهُ قَالَ إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ( ٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى‏ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ( ٥٥) وَكَذلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٥٦) وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتّقُونَ( ٥٧)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزّة مصر و الأسباب المؤدّية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانياً في اتّهامه و ظهور براءته التامّ.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) إلى آخر الآية. رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ) و قوله:( إِنِّي أَرى) حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنّها كانت رؤيا متكرّرة كما يحتمل مثله في قوله سابقا:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) ( إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ ) إلخ.

و السمان جمع سمينة و العجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضمّ العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إنّ ذلك من قبيل الإتباع و الجمع القياسيّ عجف.

٢٠٣

و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.

و قوله:( تَعْبُرُونَ ) من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمّى تعبيراً، و هو على أيّ حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر الّتي تمثّلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصّة مألوفة له.

قال في الكشّاف، في قوله:( سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميّز و هو بقرات دون المميّز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أنّ تميّز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهنّ لا بجنسهنّ، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثمّ رجعت فوصفت المميّز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلّا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ. انتهى.

و قال أيضاً: فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبنيّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الاُخر السبع، و يكون قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) بمعنى و سبعا اُخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله:( وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) على( سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ) فيكون مجرور المحلّ؟ قلت: يؤدّي إلى تدافع و هو أنّ عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميّزاً للسبع المذكورة، و لفظ الاُخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنّك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجرّ فيصحّ لأنّك ميّزت السبعة برجال موصوفين

٢٠٤

بقيام و قعود على أنّ بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد. انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظنّ بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أمّا وجوب الدلالة من الكلام فلا ألبتّة.

و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إنّي أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات اُخر يابسات يا أيّها الملأ بيّنوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: ( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) الأحلام جمع حلم بضمّتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كأنّ الأصل في معناه ما يتصوّر للإنسان من داخل نفسه من غير توصّله إليه بالحسّ، و منه تسمية العقل حلما لأنّه استقامة التفكّر، و منه أيضاً الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) النور: ٥٩ أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضدّ الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنّه إنّما يكون عن استقامة التفكّر. و ذكر الراغب: أنّ الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلّف.

و قال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى:( وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا ) و به شبه الأحلام المختلفة الّتي لا تتبيّن حقائقها( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) حزم أخلاط من الأحلام انتهى.

و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنّه بعناية دعوى كونها صورا متفرّقة مختلطة مجتمعة من رؤي مختلفة لكلّ واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبّر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اُخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدلّ على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.

٢٠٥

على أنّ الآية أعني قوله:( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنّه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا اُخرى.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) إن كان الألف و اللّام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات الّتي هي أضغاث أحلام بعالمين. و إن كان لغير العهد و الجمع المحلّى باللّام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعبّر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كلّ من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنّما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) الاُمّة الجماعة الّتي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدّة الّتي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربّه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربّه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

و المعنى: و قال الّذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادّكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أوّل رؤياه: أنا اُنبّئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتّى اُخبركم بتأويل ذلك.

و خطاب الجمع في قوله:( أُنَبِّئُكُمْ ) و قوله( فَأَرْسِلُونِ ) تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الّذين يلون اُمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) كما سيأتي.

قوله تعالى: ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ) إلى آخر

٢٠٦

الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازاً، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيّها الصدّيق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أنّ الناس في انتظار تأويله و هذا الاُسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمّى يوسف صدّيقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبّر به منامه و منام صاحبه في السجن و اُموراً اُخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صدّيقا بنقله ذلك من غير ردّ.

و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرّح أنّه رؤيا فقال:( أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) لأنّ قوله:( أَفْتِنا ) و هو سؤال الحكم الّذي يؤدّي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدلّ على ذلك و يكشف عنه.

و قوله:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) لعلّ الأوّل تعليل لقوله:( أَفْتِنا ) و لعلّ الثاني تعليل لقوله( أَرْجِعُ ) و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و اُخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( أَرْجِعُ ) في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنّه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

و في قوله أوّلا:( أَفْتِنا ) و ثانياً:( لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ ) دلالة على أنّه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتّى يعلمه ثمّ يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصّه يوسف بالخطاب بل عمّ الخطاب له و لغيره فقال:( تَزْرَعُونَ ) إلخ.

و في قوله:( إِلَى النَّاسِ ) إشعار أو دلالة على أنّ الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلّا أنّ الملأ كانوا هم أولياء اُمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أنّ الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلّقهم بالملك و اهتمامهم

٢٠٧

برؤياه لأنّ الرؤيا ناظرة غالباً إلى ما يهتمّ به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنّما يهتمّون بشؤون المملكة و اُمور الرعيّة.

قوله تعالى:( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) و الدأب العادة المستمرّة دائماً على حاله قال تعالى:( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) أي كعادتهم الّتي يستمرّون عليها. انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرّة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجدّ و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالاً أي تزرعون دائبين مستمرّين أو مجدّين مجتهدين فيه.

ذكروا أنّ( تَزْرَعُونَ ) خبر في معنى الإنشاء، و كثيراً ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنّه واقع يخبر عنه كقوله تعالى:( تُؤْمِنُونَ بِالله وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله ) الصف: ١١، و الدليل عليه قوله بعد:( فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) ، قيل: و إنّما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدّة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.

و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلّا يهلك و احفظوه كذلك إلّا قليلاً و هو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) الشداد جمع شديد من الشدّة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شدّ عليه إذا كرّ، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله:( يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) .

و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأنّ هذه السنين سباع ضارية تكرّ على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادّخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.

٢٠٨

و الإحصان الإحراز و الادّخار، و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلّا قليلاً ممّا تحرزون و تدّخرون.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) يقال: غاثه الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمّها أي ينصره و هو من الغوث بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث و هو المطر، فقوله:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ ) إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لا يصغي إلى قول من يدّعي: أنّ المعنى الأوّل هو المتبادر من سياق الآية إلّا على قراءة( يَعْصِرُونَ ) بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.

و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنّه لا ينطبق على مورد الآية فإنّ خصب مصر إنّما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثّر فيها أثراً.

ردّ عليه بأنّ الفيضان نفسه لا يكون إلّا بالمطر الّذي يمدّه في مجاريه من بلاد السودان.

على أنّ من الجائز أن يكون( يُغاثُ ) مأخوذاً من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب: و الغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) .

و قوله:( وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) من العصر و هو إخراج ما في الشي‏ء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسّره بعضهم به.

و المعنى ثمّ يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت

٢٠٩

أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتّخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم. و فيه كناية عن توفّر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.

قال البيضاويّ في تفسيره: و هذه بشارة بشّرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعلّه علم ذلك بالوحي أو بأنّ انتهاء الجدب بالخصب أو بأنّ السنّة الإلهيّة أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم. انتهى و ذكر غيره نحواً ممّا ذكره.

و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أنّ هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كلّ ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأوّل بعد سني الشدّة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلّا بوحي من الله عزّوجلّ لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

و الّذي أرى أنّهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنّا إذا تدبّرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثمّ السنين السبع المجدبة، و لو أنّه أراد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقول مثلاً: يأتي عليكم سبع مخصبات ثمّ يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثمّ إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامّة، قال:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ) إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بيّن أنّ أمره بذلك توطئة و تقدّمة للتخلّص عمّا يهدّدهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا

٢١٠

دليل على أنّ الّذي رآه الملك من الرؤيا إنّما كان مثال ما يجب عليه من اتّخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليّته في أمر رعيّته و هو أن يسمن بقرات سبعاً لتأكلهنّ بقرات مهازيل ستشدّ عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.

فكأنّ نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدّد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الّذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثمّ حكت ما في السبع الاُول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الاُخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادّخروه في السبع الاُولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئاً إلّا اُموراً ثلاثة:

أحدها ما استثناه بقوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) و ليس جزء من التأويل و إنّما هو إباحة و بيان لمقدار التصرّف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.

و ثانيها: قوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) و هو الّذي يجب أن يدّخروه للعام الّذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتّخذ بذراً و مدداً احتياطيّاً، و كأنّه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا:( يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) حيث لم يقل: أكلتهنّ بل عبّر عن اشتغالهنّ بأكلهنّ و لمّا يفنيهنّ بأكل كلّهنّ و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنّهنّ أكلتهنّ عن آخرهنّ.

و ثالثها: قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و الظاهر أنّه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الّذي تكرّر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله:( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ ) و إن كان إخباراً صورةً عن المستقبل لكنّه كناية عن أنّ هذا العام الّذي سيستقبلهم بعد مضيّ السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الادّخار، و لا تكليف فيه يتوجّه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

٢١١

و لعلّه لهذه الثلاثة غير السياق فقال:( فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أنّ الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصدّيكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.

و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدّم أنّ هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلّا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

فإنّ تبدّل سني الجدب بسنة الخصب ممّا يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أمّا ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزيّة بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ ألبتّة.

و ممّا ذكرنا أيضاً تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل:( وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) حيث عرفت أنّ الرؤيا لا تجلّي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنّما تجلّي ما هو التكليف العمليّ قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

و مما تقدّم يظهر أيضاً أنّ الأنسب أن يكون المراد بقوله:( يُغاثُ ) و قوله:( يَعْصِرُونَ ) الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأنّ ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإنّ هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدلّ عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبّأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

٢١٢

و ظاهر أنّ الّذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمراً عظيماً، و الّذي أشار إليه من الرأي البيّن الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتمّ بأمر اُمّته المعتني بشؤون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلّمه و يتبصّر بما يقوله مزيد تبصّر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إيّاه بقوله:( فَلَمَّا جاءَهُ و كَلَّمَهُ ) إلخ.

و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصاً له بل إطلاقاً من السجن و إشخاصاً للتكليم و، لو كان إشخاصاً و إحضاراً لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل اُجبر عليه إجباراً بل كان إحضاراً عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحقّ، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانياً: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أوّلا: ائتوني به.

و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلّا أن يقضي بينه و بينها، و إنّما أشار إلى النسوة اللّاتي راودنه، و لم يذكرهنّ أيضاً بسوء إلّا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أيّ مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيماً.

و لم يذكرهنّ بشي‏ء من المكروه إلّا ما في قوله:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و ليس إلّا نوعاً من بثّ الشكوى لربّه.

و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ) ثمّ يقول:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) و فيه نوع من تبليغ الحقّ، و ليكن فيه تنبّه لمن يزعم أنّ مراده من( رَبِّي ) فيما قال لامرأة العزيز:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) هو زوجها، و أنّه يسمّيه ربّا لنفسه.

و ما ألطف قوله:( ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) و البال هو الأمر الّذي يهتمّ به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الّذي أوقعهنّ فيما وقعن فيه، و ليس إلّا هواهنّ فيه و ولههنّ في حبّه حتّى أنساهنّ أنفسهنّ فقطّعن

٢١٣

الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكّر الملك في نفسه أنّ الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدّاً، و الكفّ عن معاشقتهنّ و الامتناع من إجابتهنّ بما يردنه و هنّ يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرّة و المرّتين و لا الإلحاح و الإصرار يوماً أو يومين و لن تتيسّر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلّا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: ( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الّذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى:( فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ) ( فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) . انتهى.

و قال أيضاً: حصحص الحقّ أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حصّ و حصحص نحو كفّ و كفكف و كبّ و كبكب، و حصّة قطع منه إمّا بالمباشرة و إمّا بالحكم - إلى أن قال - و الحصّة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب. انتهى.

و قوله:( قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) ؟ جواب عن سؤال مقدّر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا - كلّ ذلك يدلّ عليه السياق - و التقدير: كأنّ سائلا يسأل فيقول: فما الّذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلّغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهنّ عمّا يهمّ من شأنهنّ في مراودتهنّ ليوسف: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قُلْنَ:( حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) فنزّهنه عن كلّ سوء، و شهدن أنّهنّ لم يظهر لهنّ منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

و ذكرهنّ كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) نظير تنزيههنّ حينما رأينه لأوّل مرّة:( حاشَ لله ما هذا بَشَراً ) يدلّ على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفّة فيما علمنه كما أنّه كان بالغاً في الحسن.

و الكلام في فصل قوله:( قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ ) نظير الكلام في قوله( قالَ ما خَطْبُكُنَّ ) و قوله:( قُلْنَ حاشَ لله ) فعند ذلك تكلّمت امرأة العزيز و هي الأصل

٢١٤

في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدّقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدّعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحقّ و هو أنّه: أنا راودته عن نفسه و إنّه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذّبت نفسها في اتّهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برّأته تبرئة كاملة أنّه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.

و اتّضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كلّ وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من:( ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) مع كلمة التنزيه:( حاشَ لله ) في قولهنّ، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و شهادتها بصدقه مؤكّدة بإنّ و اللّام و الجملة الاسميّة:( وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و غير ذلك في قولها. و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كلّ سوء أعمّ من الفحشاء و المراودة لها و أيّ ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: ( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدلّ عليه السياق، و كأنّه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كلّ سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.

و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) البقرة: ٢٨٥ أي قالوا لا نفرّق إلخ، و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) الصافات: ١٦٦.

و على هذا فالإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) عائد إلى العزيز و المعنى إنّما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقّق الأمر و يقضي بالحقّ ليعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين:

٢١٥

أحدهما: أن يعلم العزيز أنّه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أيّ شبهة و ريبة.

و الثاني: أن يعلم أنّ الخائن مطلقاً لا ينال بخيانته غايته و أنّه سيفتضح لا محالة سنّة الله الّتي قد خلت في عباده و لن تجد لسنّة الله تبديلاً فإنّ الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحقّ عليه ظهوراً، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرّت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

و كان الغرض من الغاية الثانية:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنّه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شي‏ء ألبتّة كان جديراً بأن يؤتمن على كلّ شي‏ء نفساً كان أو عرضاً أو مالاً.

و بهذا الامتياز البيّن يتهيّأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إيّاه و هو قوله بعد أن اُشخص عند الملك:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) .

و الآية ظاهرة في أنّ هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الّذي اُشير إليه بقوله:( وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) و قوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ هذه الآية و الّتي بعدها تتمّة قول امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) و سيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تتمّة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أنّ قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوّة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغّلين في التوحيد الّذين لا يرون لغيره تعالى حولاً و لا قوّة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوّة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى

٢١٦

رحمة ربّه، و تسوية نفسه بسائر النفوس الّتي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمّارة بالسوء فقال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام)( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله ) هود: ٨٨.

فقوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إشارة إلى قوله:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) و أنّه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربّه، و علّل ذلك بقوله( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيّئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرّأ من الميل إلى السوء، و إنّما تكفّ عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشرّ برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفّقها لصالح العمل.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) يفيد فائدتين:

إحداهما: تقييد إطلاق قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) فيفيد أنّ اقتراف الحسنات الّذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.

و ثانيتهما: الإشارة إلى أنّ تجنّبه الخيانة كان برحمة من ربّه.

و قد علّل الحكم بقوله:( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأنّ المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلّق بسائر النقائص كما تتعلّق بالذنوب، قال تعالى.( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الأنعام: ١٤٥ و قد تقدّم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عزّ اسمه بلفظ( رَبِّي ) فقد كرّره ثلاثاً حيث قال:( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) ( إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) ( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لأنّ هذه الجمل تتضمّن نوع إنعام من ربّه بالنسبة إليه فأثنى

٢١٧

على الربّ تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتّخاذ الله سبحانه ربّا لنفسه معبوداً خلافاً للوثنيّين، و أمّا قوله:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبّر بلفظ الجلالة.

و قد ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآيتين أعني قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلخ من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أنّ امرأة العزيز لمّا اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت:( ذلِكَ ) أي اعترافي بأنّي راودته عن نفسه و شهادتي بأنّه من الصادقين( لِيَعْلَمَ ) إذا بلغه عنّي هذا الكلام( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) بل اعترفت بأنّ المراودة كانت من قبلي أنا و أنّه كان صادقاً( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) كما أنّه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتّى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهنّ( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) من السوء مطلقاً فإنّي كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و هذا وجه ردي‏ء جدّاً أمّا أوّلاً: فلأنّ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حقّ الكلام أن يقال: و ليعلم أنّي أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإنّ قوله( ذلِكَ ) على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشاراً به إلى ذلك خلا الكلام عن الفائدة فإنّ محصّل معناه حينئذ: إنّما اعترفت و شهدت ليعلم أنّي اعترفت و شهدت له بالغيب. مضافاً إلى أنّ ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنّها إنّما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحقّ و بيان حقيقة الأمر.

و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنّما اعترفت و شهدت له ليعلم أنّي لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافاً إلى أنّ اعترافها و شهادتها لا يدلّ على عدم خيانتها

٢١٨

له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكّرها يوسف به أوّل حين إذ راودته عن نفسه فقال:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

و أمّا ثالثاً: فلأنّ قولها:( و ما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن) يناقض قولها:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) كما لا يخفى مضافاً إلى أنّ قوله:( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيديّة ليس بالحريّ أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.

و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير( لِيَعْلَمَ ) و( لَمْ أَخُنْهُ ) إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنّها تقول: ذاك الّذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أنّي لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنّا، و أنّ كلّ ما وقع أنّي راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برّأت يوسف من الإثم فما اُبرّئ منه نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي.

و فيه: أنّ الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيّب به نفس زوجها و تزيل أيّ ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإنّ قولها.( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) إنّما يفيد العلم بأنّها راودته عن نفسه، و أمّا شهادتها أنّه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنّها إنّما شهدت له لتطيّب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشكّ و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنّها لم تخنه بالغيب.

مضافاً إلى أنّ قوله:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) إلخ يكون حينئذ تكراراً لمعنى قولها:( أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) و ظاهر السياق خلافه. على أنّ بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ

٢١٩

الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) يقال: استخلصه أي جعله خالصا، و المكين صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله:( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) حذف للإيجاز و التقدير: فلمّا اُتي به إليه و كلمه قال إنّك اليوم إلخ و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى إنّك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنّب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كلّ مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربّك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله:( مَكِينٌ أَمِينٌ ) فأفاد بذلك عموم الحكم.

و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصّة لي فلمّا اُتي به إليه و كلّمه قال له إنّك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكّنك من كلّ ما تريد و يأتمنك على جميع شؤون الملك و في ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) لمّا عهد الملك ليوسف إنّك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوّض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.

و لم يسأله ما سأل إلّا ليتقلّد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدّخرها للسنين السبع الشداد الّتي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كلّ منهم ما يستحقّه من الميرة من غيره حيف.

و قد علّل سؤاله ذلك بقوله:( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) فإنّ هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدّى مقاماً هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد اُجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كلّ ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) التمكين هو الإقدار و التبوّء أخذ المكان.

٢٢٠