الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85845 / تحميل: 6683
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ساقه من القصّة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزّة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هدّدته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزّة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجبّ و بيعه من السيّارة ليذلّوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثمّ كادت به بالسجن لصغاره فتسبّب الله بذلك لعزّته.

و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرّيّة الاختلاط و العشرة، قال تعالى:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي رفعنا عنه حرج السجن الّذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشيّة له أن يتبوّأ في أيّ بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصّاه امرأته:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) .

و بهذه المقايسة يظهر أنّ قوله ههنا:( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ) في معنى قوله هناك:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) و أنّ المراد أنّ الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيّته و لا يسع لأيّ مانع مفروض أن يمنع من إصابته. و لو وسع لسبب أن يبطل مشيّة الله في أحد لوسع في يوسف الّذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزّه الله، إن الحكم إلّا لله.

و قوله:( وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى أنّ هذا التمكين أجر اُوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أنّ الله لا يضيع أجرهم.

قوله تعالى: ( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل اُخرويّ لأوليائه تعالى خاصّة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.

و الدليل على أنّه لا يعمّ عامّة المؤمنين الجملة الحاليّة:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) الدالّة على أنّ هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى

٢٢١

مستمرّ حقيقيّ و هذا التقوى لا يتحقّق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) يونس: ٦٤.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: ثمّ إنّ الملك رآى رؤيا فقال لوزرائه إنّي رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و اُخر يابسات و قال(١) أبوعبدالله (عليه السلام) سبع سنابل ثمّ قال: يا أيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك.

فذكر الّذي كان على رأس الملك رؤياه الّتي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله:( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي بعد حين( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) فجاء إلى يوسف فقال:( أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) .

قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلّا قليلاً ممّا تأكلون أي لا تدوسوه فإنّه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون.

و قال أبوعبدالله (عليه السلام): قرأ رجل على أميرالمؤمنين (عليه السلام)( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) - على البناء للفاعل - فقال: ويحك أيّ شي‏ء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أميرالمؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنّما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على

____________________

(١) و قرأ خ ل‏

٢٢٢

ذلك قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربّك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ؟ إنّ ربّي بكيدهنّ عليم.

فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب و أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثمّ قالت:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) .

فقال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فلمّا نظر إلى يوسف قال:( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) فاسأل حاجتك قال:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) .

أقول: قوله: وقرأ الصادق (عليه السلام)( سبع سنابل) في رواية العيّاشيّ عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنّه قرأ:( سَبْعَ سُنْبُلاتٍ ) (١) و قوله (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ أي إنّ التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، وقوله (عليه السلام): إنّما نزلت: وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنّه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون‏ الغوث و روى هذا المعنى أيضاً العيّاشيّ في تفسيره عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام).

و قوله:( أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل) ظاهر في أخذ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ

____________________

(١) على ما أخرجه في البرهان و أمّا في نسخة العيّاشيّ المطبوعة( سبع سنابل) أيضاً.

٢٢٣

و ابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث اُرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتّى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له اُتي ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنّه أحبّ أن يكون له العذر.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق اُخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العيّاشيّ عن أبان عن محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدّثته حتّى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك(١) حتّى أظهر الله عذره.

أقول: و هذا النبويّ لا يخلو من شي‏ء فإنّ فيه أحد المحذورين إمّا الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصّله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرّد الخروج منه و لا همّ لامرأة العزيز و نسوة مصر إلّا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهنّ و هو القائل:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، و إنّما كان يريد الخروج في جوّ يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.

و لذا أنبأ و هو في السجن أوّلا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامّة و ادّخارها فتوصّل به إلى قول الملك( ائْتُونِي بِهِ ) ثمّ لمّا أمر بإخراجه أبى إلّا أن‏ يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصّل به إلى قوله:( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) و هذا أحسن تدبير يتصوّر لما كان يبتغيه من العزّة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض. مضافاً إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الاُمور و تحمّله الأذى في جنب الحقّ و علمه الغزير و حكمه القويم.

و إمّا الطعن في النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و حاشاه أن يقول: إنّه لو كان مكان يوسف

____________________

(١) هي امرأة العزيز دون الملك و لعلّ إطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث. منه.

٢٢٤

طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأنّ الحقّ كان معه في صبره، و هو اعتراف بأنّ من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يأمر الناس بشي‏ء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمّل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتّى أثنى الله عليه بمثل قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلميّ عن أنس قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال: لمّا قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همّك. قال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في عدّة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عبّاس: لمّا قالها يوسف( فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟) و في رواية عن حكيم بن جابر:( فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟) و نحو من ذلك في روايات اُخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحّاك و ابن زيد و السدّيّ و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.

و قد تقدّم في البيان السابق أنّ هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنصّ الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصدّيق (عليه السلام) أن يكذب بقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) ثمّ يصلح ما أفسده بغمز من جبريل. قال في الكشّاف: و لقد لفّقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أنّ يوسف حين قال:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكّة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله. انتهى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية يعني العزيز.

أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسيّ في كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلمّا

٢٢٥

مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم و الدنانير حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلّا صار في ملك يوسف.

و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلّا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتّى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتّى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلّا صار عبداً ليوسف.

فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه [ الله ظ ] من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً و علماً و تدبيراً، ثمّ قال يوسف للملك: ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإنّي لم اُصلحهم لاُفسدهم، و لم اُنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكنّ الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك.

قال يوسف: إنّي اُشهد الله و اُشهدك أيّها الملك إنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي و لا تحكم إلّا بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلّا بسيرتك و لا أحكم إلّا بحكمك و لولاك ما تولّيت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزاً ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له و أنّك رسوله فأقم على [ ما ظ ] ولّيتك فإنّك لدينا مكين أمين.

أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات

٢٢٦

و لذلك تركنا نقلها.

و في تفسير العيّاشيّ، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكّي الرجل نفسه؟ قال: نعم إذا اضطرّ إليه أما سمعت قول يوسف:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) و قول العبد الصالح: إنّي لكم ناصح أمين؟.

أقول: الظاهر أنّ المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه:( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) الأعراف: ٦٨.

و في العيون، بإسناده عن العيّاشيّ قال حدّثنا محمّد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنّه أنكر ذلك عليه. فقال له أبوالحسن الرضا (عليه السلام): أيّما أفضل النبيّ أو الوصيّ؟ فقال: لا بل النبيّ. قال: فأيّما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم.

قال: فإنّ عزيز(١) مصر كان مشركا و كان يوسف نبيّا، و إنّ المأمون مسلم و أنا وصيّ و يوسف سأل العزيز أن يولّيه حتّى قال: استعملني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله:( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) قال: حافظ على ما في يدي عالم بكلّ لسان.

أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العيّاشيّ في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضاً عن فضل بن أبي قرّة عن الصادق (عليه السلام).

____________________

(١) المراد به ملك مصر و لعلّ إطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. منه.

٢٢٧

( سورة يوسف الآيات ٥٨ - ٦٢)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ( ٥٨) وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُم مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ( ٥٩) فَإِن لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ( ٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنّا لَفَاعِلُونَ( ٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ( ٦٢)

( بيان‏)

فصل آخر مختار من قصّة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجيي‏ء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدّمة لضمّ يوسف (عليه السلام) أخاه من اُمّه - و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ - إليه ثمّ تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.

و إنّما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنّه أراد أن يلحق أخاه من اُمّه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و منّ الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثمّ يشخصهم جميعاً، و الآيات الخمس تتضمّن قصّة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبّلهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ )

٢٢٨

في الكلام حذف كثير و إنّما ترك الاقتصاص له لعدم تعلّق غرض هامّ به، و إنّما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من اُمّه به و إشراكه معه في النعمة و المنّ الإلهيّ ثمّ معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصّته و ما جرى عليه بعد عزّة مصر.

و الّذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من اُمّه فإنّ يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلّي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كلّه ما سيأتي من الآيات.

و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلّده عزّة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنّهم إنّما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلّموه إلى السيّارة يوم اُخرج من الجبّ و هو صبيّ و قد مرّ عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولّى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زيّ عزيز مصر لا يظنّ به أنّه رجل عبريّ من غير القبط، و هذا كلّه صرفهم عن أن يظنّوا به أنّه أخوهم و يعرفوه لكنّه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوّة كما قال تعالى:( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: الجهاز ما يعدّ من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه. انتهى. فالمعنى و لمّا حملهم ما أعدّ لهم من الجهاز و الطعام الّذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ائْتُونِي إلخ.

و قوله:( أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ - أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتّكاء على قدرتي و عزّتي -وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) اُكرم النازلين بي و اُحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانياً و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أنّ قوله في الآية التالية:( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تقرّبونِ ) تهديد لهم لئلّا

٢٢٩

يعصوا أمره، و كما أنّ قولهم في الآية الآتية:( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).

ثمّ من المعلوم أنّ قوله (عليه السلام) أوان خروجهم:( ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاماً ابتدائيّاً من غير مقدّمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطّنوا أنّه يوسف أو يتوهّموا فيه ما يريبهم في أمره. و هو ظاهر. و قد أورد المفسّرون في القصّة من مفاوضته لهم و تكليمه إيّاهم أموراً كثيرة لا دليل على شي‏ء منها من كلامه تعالى في سياق القصّة و لا أثر يطمأنّ إليه في أمثال المقام.

و كلامه تعالى خال عن التعرّض لذلك، و إنّما الّذي يستفاد منه أنّه سألهم عن خطبهم فأخبروه و هم عشرة أنّهم إخوة و أنّ لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحبّ العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ ) الكيل بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام. و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) المراودة كما تقدّم هي الرجوع في أمر مرّة بعد مرّة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام)( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) دليل على أنّهم قصّوا عليه قصّته أنّ أباهم يضنّ به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أيّ غيبة، و في قولهم:( أَباهُ ) و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.

و قولهم:( وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحملة معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا

٢٣٠

انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الفتيان جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى:( هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) و قال تعالى:( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و الأصل في هذه الكلمة البضع - بفتح الباء - و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع - قال - و فلان بضعة منّي أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منّي - قال - و البضع بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة. انتهى، و الرحال جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب الرجوع.

و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم الّتي قدّموها ثمناً لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم - و فتحوا الأوعية - لعلّهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإنّ ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتّع من الإكرام و الإحسان.

٢٣١

( سورة يوسف الآيات ٦٣ - ٨٢)

فَلَمّا رَجَعُوا إِلَى‏ أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ٦٣) قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى‏ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ( ٦٤) وَلَمّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَميرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ( ٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى‏ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ إِلّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ( ٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيّ لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ‏ِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ( ٦٧) وَلَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْنَاهُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٦٨) وَلَمّا دَخَلُوا عَلَى‏ يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٦٩) فَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ( ٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مّاذَا تَفْقِدُونَ( ٧١)

٢٣٢

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ( ٧٢) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ( ٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُم كَاذِبِينَ( ٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ( ٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ إِلّا أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( ٧٦) قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرّ مّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ( ٧٧) قَالُوا يَا أَيّهَا الْعَزِيرُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنينَ( ٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنّا إِذاً لَظَالِمُونَ( ٧٩) فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُم أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتّى‏ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ٨٠) ارْجِعُوا إِلَى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ( ٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصَادِقُونَ( ٨٢)

٢٣٣

( بيان‏)

الآيات تقتصّ رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من اُمّه للاكتيال ثمّ مجيئهم ثانياً إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‏ أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الاكتيال أخذ الطعام كيلا إن كان ممّا يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا تولّيت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى:( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ- يَسْتَوْفُونَ- وَ إِذا كالُوهُمْ ) .

و قوله:( قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ) فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصّونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.

و قولهم:( أَخانا ) إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) بما فيه من التأكيد البالغ.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) قال في المجمع: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمنا انتهى فقوله:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، أي هل أطمئنّ إليكم في ابني هذا إلّا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.

و محصّله أنّكم تتوقّعون منّي أن أثق فيه بكم و تطمئنّ نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قد أمنتكم

٢٣٤

بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عنّي شيئاً و جئتم بقميصه الملطّخ بالدم أنّ الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئاً و لا بيده حفظ ما سلّم إليه و ائتمن له.

و قوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) تفريع على سابق كلامه:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لُغيً لا أثر له و لا يغني شيئاً فخير الاطمئنان و الإتّكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردّد الأمر بين التوكّل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعيّن.

و قوله:( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) في موضع التعليل لقوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً ) أي إنّ غيره تعالى ربّما اُمن في أمر و ائتمن عليه في أمانة سلّم له فلم يرحم المؤتمن و ضيّع الأمانة لكنّه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محلّ الرحمة و يترحّم العاجز الضعيف الّذي فوّض إليه أمرا و توكّل عليه، و من يتوكّل على الله فهو حسبه.

و من هنا يظهر أنّ مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنّه سبب مستقلّ في سببيّته غير مغلوب ألبتّة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى:( وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ كيف؟ و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الّذي يتنزّه عنه ساحة الأنبياء، و قد نصّ تعالى على أنّ يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنّه من الأئمّة الهداة المهديّين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله:( إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أنّه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه ألبتّة. على أنّه أمنهم على أخي يوسف أيضاً بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدلّ عليه الآيات التالية.

بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنّه تعالى متّصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغشّ عباده المتوكّلين عليه المسلّمين

٢٣٥

له اُمورهم فإنّه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنّه أرحم الراحمين على أنّه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيّته، و أمّا الناس إذا أمنوا على أمر و اطمئنّ إليهم في شي‏ء فإنّهم اُسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانيّة ربّما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربّما خانوا و لم يحفظوا. على أنّهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوّة و إرادة.

و بالجملة مراده (عليه السلام) أنّ الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنّه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمئنّ فيه إليه بخلاف الناس فإنّهم ربّما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسّل بهم فخانوه، و لذلك لمّا كلّف بنيه ثانياً أن يؤتوه موثقا من الله قال:( إن تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا اُحيط بهم فإنّه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسؤلين عنه، و إنّما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ في قوله (عليه السلام)( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنّهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أيّ حال في معنى الردّ لما سألوه.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) إلى آخر الآية. البغي هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشرّ و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع: الميرة الأطعمة الّتي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا. انتهى.

و قوله:( يا أَبانا ما نَبْغِي ) استفهام أي لمّا فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنّه غير قاصد بهم سوءا و قد سلّم إليهم الطعام و ردّ إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و

٢٣٦

درّا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الّذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد اُوفى لنا الكيل و ردّ إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.

فقولهم:( يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنّه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه، و لذلك عقّبوه بقولهم:( وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي سهل.

و ربّما قيل: إنّ( ما ) في قوله:( ما نَبْغِي ) للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردّت إلينا، و كذا قيل: إنّ اليسير بمعنى القليل أي إنّ الّذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.

قوله تعالى: ( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) الموثق بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهيّ و إعطاؤه هو أن يسلّط الإنسان على أمر إلهيّ يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلنّ كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.

و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الّذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكلّ شي‏ء أي مسلّط عليه حافظ له من كلّ جهة لا يخرج و لا شي‏ء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدّت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: اُحيط به أي هلك أو فسد أو انسدّت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى:( وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ ما أَنْفَقَ فِيها ) الكهف: ٤٢، و قال:( وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ

٢٣٧

بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يونس: ٢٢ و منه قوله في الآية:( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كلّ استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إليّ.

و الوكالة نوع تسلّط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكّل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكّل عليه في الاُمور ليس بعناية أنّه خالق كلّ شي‏ء و مالكه و مدبّره بل بعناية أنّه أذن في نسبة الاُمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملّكها إيّاها بنحو من التمليك و هي فاقدة للأصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقلّ القاهر لكلّ سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمراً و توصّل إليه بالأسباب العاديّة الّتي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقلّ بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب الّتي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكّل عليه سبحانه. فليس التوكّل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الاُمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلّة الّتي إلى نفسه و إلى الأسباب.

و لذلك نرى أنّ يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكّله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسّك بالأسباب العاديّة فكلّم أولا بنيه في أخيهم ثمّ أخذ منهم موثقا من الله ثمّ توكّل على الله و كذا فيما وصّاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرّقة ثمّ توكّله على ربّه تعالى.

فالله سبحانه على كلّ شي‏ء وكيل من جهة الاُمور الّتي لها نسبة إليها كما أنّه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوّة، و أنّه ربّ كلّ شي‏ء من جهة أنّه المالك المدبّر لها.

و معنى الآية:( قالَ ) يعقوب لبنيه:( لَنْ أُرْسِلَهُ ) أي أخاكم من اُمّ يوسف( مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ ) و تعطوني( مَوْثِقاً مِنَ الله ) أثق به و أعتمد عليه من عهد أو

٢٣٨

يمين( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) و اللّام للقسم و لمّا كان إيتاؤهم موثقا من الله إنّما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) و تسلبوا الاستطاعة و القدرة( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) من الله( قالَ ) يعقوب( اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) أي إنّا قاولنا جميعاً فقلت و قلتم و توسّلنا بذلك إلى هذه الأسباب العاديّة للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشي‏ء فليأت به كما التزم و إن تخلّف فليجازه الله و ينتصف منه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهّزوا و استعدّوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصّة أنّه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفّا واحداً لأنّه كان من المعلوم أنّه سيشخصهم إليه فيصطفّون عنده صفّا واحداً و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنّما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرّق به جمعهم من قتل أو أيّ نازلة اُخرى.

و قوله بعده:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّه كان يخاف ذلك جدّاً فكأنّه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحسّ حينما تجهّزوا للسفر و اصطفّوا أمامه للوداع إحساس إلهام أنّ جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرّق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذّرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.

ثمّ رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الّذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلاً مستقلّاً - و لا مؤثّر في الوجود بالحقيقة إلّا الله سبحانه - فقيّد كلامه بما يصلحه فقال مخاطباً لهم:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ثمّ علّله بقوله( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) أي لست أرفع حاجتكم إلى الله

٢٣٩

سبحانه بما أمرتكم به من السبب الّذي تتّقون به نزول النازلة و تتوسّلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإنّ هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقاً إلّا لله بل هذه أسباب ظاهريّة إنّما تؤثّر إذا أراد الله لها أن تؤثّر.

و لذلك عقّب كلامه هذا بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) أي إنّ هذا سبب أمرتكم باتّخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكّلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب الّتي أخذتها في اُموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كلّ رشيد غير غويّ يرى أنّه لا يقوى باستقلاله لإدارة اُموره و لا أنّ الأسباب العاديّة باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجئ في اُموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبّر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الّذي لا يقهره شي‏ء الغالب الّذي لا يغلبه شي‏ء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و قد تبيّن بالآية أوّلاً معنى التوكّل و أنّه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكّل و الموكّل.

و ثانياً: أنّ هذه الأسباب العاديّة لمّا لم تكن مستقلّة في تأثيرها و لا غنيّة في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسّل إليها في مقاصده الحيويّة أن يتوكّل مع التوسّل إليها على سبب وراءها ليتمّ لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب الّتي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنّه من الغيّ و الجهل.

و ثالثاً: أنّ ذاك السبب الّذي يجب التوكّل عليه في الاُمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنّه الله لا إله إلّا هو ربّ كلّ شي‏ء و هذا هو المستفاد من الحصر الّذي يدلّ عليه قوله:( و على الله فليتوكّل المتوكّلون) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) إلى آخر الآية. الّذي يعطيه سياق الآيات

٢٤٠

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431