الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85590 / تحميل: 6679
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

السابقة و اللاحقة و التدبّر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنّهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرّقة كما أمرهم أبوهم حينما ودّعوه للرحيل، و إنّما اتّخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرّسه من نزول مصيبة بهم تفرّق جمعهم و تنقص من عددهم كما اُشير إليه في الآية السابقة لكن اتّخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدّى ذلك إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكنّ الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنّه جعل هذا السبب الّذي تخلّف عن أمره و أدّى إلى تفرّق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإنّ يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلّا كبيرهم إلى أبيهم ثمّ عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذلّلون لعزّته فعرّفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتّصلوا به.

فقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الّذي اتّخذه وسيلة لتخلّصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئاً ألبتّة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل اُخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله:( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) قيل: إنّ( إِلَّا ) بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فردّ إليه ولده الّذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون( إِلَّا ) استثنائيّة فإنّ قوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئاً أو لم ينفعهم جميعاً شيئاً و لم يقض الله لهم جميعاً به حاجة إلّا حاجة في نفس يعقوب، و قوله:( قَضاها ) استئناف و جواب سؤال كأنّ سائلاً يسأل فيقول: ماذا فعل بها؟ فاُجيب بقوله:( قَضاها ) .

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) الضمير ليعقوب أي إنّ يعقوب لذو

٢٤١

علم بسبب ما علّمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إيّاه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنّه علم موهبيّ غير اكتسابيّ و قد تقدّم أنّ إخلاص التوحيد يؤدّي إلى مثل هذه العناية الإلهيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً قوله تعالى بعده:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) إذ لو كان من العلم الاكتسابيّ الّذي يحكم بالأسباب الظاهريّة و يتوصّل إليه من الطرق العاديّة المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبيّ لا يضلّ في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرّس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسّل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أنّ في قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ، تصديقاً ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتّخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكّله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات و للمفسّرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ - إلى قوله -قَضاها ) إنّه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئاً أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأنّ الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى أنّ الله لو قدر أن تصيبهم العين لأصابتهم و هم متفرّقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) إلخ أنّه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إيّاه و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إنّ اللّام في( لِما عَلَّمْناهُ ) للتقوية و المعنى أنّه يعلم ما علّمناه فيعمل به لأنّ من علم شيئاً و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

٢٤٢

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإيواء إليه ضمّه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية:( وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ ) بعد دخولهم مصر( آوى) و قرّب( إِلَيْهِ أَخاهُ ) الّذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و اُمّه( قالَ ) له( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) أي يوسف الّذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدّر( فَلا تَبْتَئِسْ ) و لا تغتمّ( بِما كانُوا ) أي الإخوة( يَعْمَلُونَ ) من أنواع الأذى و المظالم الّتي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من اُمّ أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنّه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنّه عرّفه نفسه بإسرار القول إليه و سلّاه على ما عمله الإخوة و طيّب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم أنّ معنى قوله: إنّي أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنّه كان له أخ من اُمّه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من اُمّه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنّه أراد أن يطيّب نفسه.

و ذلك أنّه ينافيه ما في قوله:( إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ) من وجوه التأكيد و ذلك إنّما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنّه هو يوسف. على أنّه ينافي أيضاً ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) فإنّه إنّما يناسب ما إذا علم أخوه أنّه أخوه فاعتزّ بعزّته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) السقاية الظرف الّذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الّذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصّة و فصّله الله تعالى و جعل ذلك مقدّمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه

٢٤٣

و هما منعّمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله:( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لاُمّه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الّذي سمّي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائماً بواحد منهم و هو أخو يوسف لاُمّه لكن عدم تعيّنه بعد من بينهم كان مجوّزاً لخطابهم جميعا بأنّكم سارقون فإنّ معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أنّ السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممّن لا يتعيّن إلّا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أنّ أخا يوسف لاُمّه كان عالماً بهذا الكيد مستحضراً منه و لذلك لم يتكلّم من أوّل الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرّفه يوسف أنّه أخاه و سلّاه و طيّب نفسه فليس إلّا أنّ يوسف (عليه السلام) كان عرّفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنّه إنّما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنّما كان اتّهاماً في نظر الإخوة و أمّا بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدّيّة و تهمة حقيقيّة بل توصيفاً صوريّاً فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرّم شرعاً، على أنّ القائل هو المؤذّن الّذي أذّن بذلك.

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ القائل:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) . بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أنّ يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

و قال بعضهم: إنّ يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجبّ، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسّر.

و قال بعضهم: إنّ الجملة استفهاميّة، و التقدير: أ إنّكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

٢٤٤

قوله تعالى: ( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ ) الفقد - كما قيل - غيبة الشي‏ء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله:( قالُوا ) للإخوة و هم العير، و قوله:( ما ذا تَفْقِدُونَ ) مقول القول و الضمير في قوله:( عَلَيْهِمْ ) ليوسف و فتيانه كما يدلّ عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أنّ المنادي إنّما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ( قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) الصواع بالضمّ السقاية و قيل: إنّ الصواع هو الصاع الّذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمّي تارة سقاية و اُخرى صواع، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ ) و قال:( ثُمَّ اسْتَخْرَجَها ) .

و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أنّ الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختصّ باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختصّ باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضاً القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعلّ القائل:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) هو فتيان يوسف و القائل:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) يوسف (عليه السلام) نفسه لأنّه هو الرئيس الّذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أمّا فتيانه فقالوا:( نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ) ، و أمّا يوسف فقال:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ‏ ) ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسّرين: أنّ قوله:( وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) تتمّة قول المؤذّن:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و على هذا فقوله:( قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -صُواعَ الْمَلِكِ ) معترض.

٢٤٥

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) المراد بالأرض أرض مصر و هي الّتي جاؤها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم:( لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ) دلالة على أنّهم فتّشوا و حقّق في أمرهم أوّل ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة اُخرى فسألوا عن شأنهم و محلّهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيّد ما ورد في بعض الروايات أنّ يوسف أظهر لهم أنّه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أنّ لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) نفي أن يكونوا متّصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الّذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم:( إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ ) في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم:( إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) و قد تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) مرادهم أنّ جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أنّ من سرق مالاً يصير عبداً لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنّة يعقوب (عليه السلام) كما يدلّ عليه قولهم:( كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي هؤلاء الظالمين و هم السرّاق لكنّهم عدلوا عنه إلى قولهم:( جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ) للدلالة على أنّ السرقة إنّما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحقّقت السرقة إلّا السارق بعينه من غير أن يتعدّى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثمّ للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

٢٤٦

قوله تعالى: ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ) فيه تفريع على ما تقدّم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذراً من أن يتنبّهوا و يتفطّنوا أنّه هو الّذي وضعها في رحل أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقرّ الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لاُمّه من عصبة إخوته، و قد كان كيداً لأنّه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطّنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكّنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنّه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علّمه به طريق التوصّل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) .

و ليس كلّ كيد بمنفيّ عنه تعالى و إنّما تتنزّه ساحة قدسه عن الكيد الّذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنّه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنّته الجارية في أرض مصر طريق يؤدّي إلى أخذه، و لا أنّ السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثمّ إعلام أنّهم سارقون حتّى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أنّ جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الّذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

و من هنا يظهر أنّ الاستثناء يفيد أنّه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشقّ، و كان ذلك متداولاً في كثير من السنن

٢٤٧

القوميّة و سياسات الملوك.

و قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله:( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) و كان امتناناً عليه.

و في قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) بيان أنّ العلم من الاُمور الّتي لا يقف على حدّ ينتهي إليه بل كلّ ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر قوله:( ذِي عِلْمٍ ) هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة( ذِي ) من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الّذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أنّ وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أنّ الجملة( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إنّما تصدق فيما أمكن هناك فرض( فَوْقَ ) و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حدّ لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله:( وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى كونه تعالى فوق كلّ ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه اُورد في هيئة النكرة صوناً للّسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتّهم بالسرقة لأنّهما كانا من اُمّ واحدة، و المعنى أنّهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنّه كان له أخ و قد تحقّقت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية اُمّهما و نحن مفارقوهما في الاُمّ.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنّه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفاً:( وَ ما كُنَّا سارِقِينَ ) لأنّهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلّا لم يكن ينفعهم ألبتّة فقولهم:( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يناقضه و هو ظاهر. على

٢٤٨

أنّهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلّهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن اُمور مؤسّفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتّضح بعض الاتّضاح معنى قول يوسف:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) كما أنّ الظاهر أنّ قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلى آخر الآية كالبيان لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كما أنّ قوله:( وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) عطف تفسير لقوله:( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) .

و المعنى - و الله أعلم -( فَأَسَرَّها ) أي أخفى هذه الكلمة الّتي قالوها أي لم يتعرّض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبيّن حقيقة الحال بل( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) و كأنّ هناك قائلاً يقول: كيف أسرّها في نفسه فاُجيب أنّه( قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كلّه( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) إنّه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذّبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ معنى قوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) إلخ: أنّكم أسوأ حالا منه لأنّكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أسرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أنّ من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) لكنّ الكلام فيما تلقّاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرّفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلّا بما تقدّم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ الّتي أسرّها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته:( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكان ) فلم يخاطبهم بها ثمّ جهر بقوله:( وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سياق الآيات يدلّ على أنّهم إنّما قالوا هذا القول لمّا

٢٤٩

شاهدوا أنّه استحقّ الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنّهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلّموا العزيز في ذلك أن يأخذ أيّ من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتّهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوّة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ( قالَ مَعاذَ الله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ ) ردّ منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) إلى آخر الآية قال في المجمع: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجيّ القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه:( وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا ) و إنّما جاز ذلك لأنّه مصدر وصف به، و المناجاة المسارّة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنّه رفع السرّ من كلّ واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسماً و مصدراً قال سبحانه:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ ) أي يتناجون، و قال في المصدر:( إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ ) و جمع النجيّ أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحّى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله:( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ) ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) أي إخوة يوسف( مِنْهُ ) أي من يوسف أن يخلّي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه( خَلَصُوا ) و خرجوا من بين الناس إلى فراغ( نَجِيًّا ) يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

( قالَ كَبِيرُهُمْ ) مخاطباً لسائرهم( أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً

٢٥٠

مِنَ الله ) ألّا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلّا بأخيكم،( وَ مِنْ قَبْلُ ) هذه الواقعة( ما فَرَّطْتُمْ ) أي تفريطكم و تقصيركم( فِي ) أمر( يُوسُفَ ) عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردّوه إليه سالماً فألقيتموه في الجبّ ثمّ بعتموه من السيّارة ثمّ أخبرتم أباكم أنّه أكله الذئب.

( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ ) أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحّى و لن اُفارق أرض مصر( حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ) برفعه اليد عن الموثق الّذي واثقته به( أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة الّتي سدّت لي كلّ باب و ذلك إمّا بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أمّا أنا فاختار البقاء هاهنا و أمّا أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل المراد بقوله:( وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا ) إنّا لم نشهد في شهادتنا هذه:( إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) إلّا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ إلّا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنّما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته و يسترقّ؟ و إنّما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أوّلهما.

و قوله:( وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ ) قيل أي لم نكن نعلم أنّ ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترقّ و إنّما كنّا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنّا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحقّ أنّ المراد بالغيب كونه سارقاً مع جهلهم بها و معنى الآية إنّ ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلّا بما علمنا و ما كنّا نعلم أنّه سرق السقاية و أنّه سيؤخذ بها حتّى نكفّ عن تلك الشهادة فما كنّا نظنّ به ذلك.

٢٥١

قوله تعالى: ( وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتّى لا يبقى لك أدنى ريب في أنّا لم نفرط في أمره بل إنّه سرق فاسترقّ.

فالمراد بالقرية الّتي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير الّتي أقبلوا فيها القافلة الّتي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثمّ أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقّبوا عرض السؤال بقولهم:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلّفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.

٢٥٢

( سورة يوسف الآيات ٨٣ - ٩٢)

قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَميلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِم جَميعاً إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ٨٣) وَتَوَلّى‏ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيم( ٨٤) قَالُوا تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ( ٨٥) قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٨٦) يَا بَنِيّ اذْهَبُوا فَتَحَسّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّهِ إِلّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ٨٧) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يا أَيّهَا الْعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدّقِينَ( ٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ( ٨٩) قَالُوا أَءِنّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَن يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ٩٠) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ( ٩١) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ( ٩٢)

٢٥٣

( بيان‏)

الآيات تتضمّن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانياً من مصر و إخبارهم إيّاه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثاً إلى مصر و تحسّسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرّفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) في المقام حذف كثير يدلّ عليه قوله:( ارْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا ) إلى آخر الآيتين و التقدير و لمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصّاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إلخ.

و قوله:( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيباً لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبراً يحتفّ بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) رميا بالمظنّة بل ليس إلّا أنّه وجد بفراسة إلهيّة أنّ هذه الواقعة ترتبط و تتفرّع على تسويل نفسانيّ منهم إجمالاً و كذلك كان الأمر فإنّ الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفسانيّ منهم.

و من هنا يظهر أنّه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الّذي توقّف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أنّ ترجّيه رجوع بنيه الثلاثة مبنيّ على صبره الجميل قبال ما سوّلت لهم أنفسهم أمراً.

فالمعنى - و الله أعلم - أنّ هذه الواقعة ممّا سوّلت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعاً.

٢٥٤

و من هنا يظهر أنّ قولهم: إنّ المعنى: ما عندي أنّ الأمر على ما تصفونه بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فيما أظنّ، ليس في محلّه.

و قوله:( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ترجّ مجرّد لرجوعهم جميعاً مع ما فيه من الإشارة إلى أنّ يوسف حيّ لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) بل بمثل قولنا: إنّه هو السميع العليم أو الرؤف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إنّ واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة الّتي أخذت منّي ابنين آخرين إنّما هما لأمر مّا سوّلته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعاً و يتمّ نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه إنّه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدّر الاُمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللّذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأوّل مرّة أوّل رؤياه فقال:( إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثمّ ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانياً حيث رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجداً فقال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ - إلى أن قال -هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) قال الراغب في المفردات: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى:( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) أي أغضبونا قال أبوعبدالله(١) الرضا: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون

____________________

(١) كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبوالحسن.

٢٥٥

فجعل رضاهم رضاه و غضبهم‏ غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبّر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفّس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى:( إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدّة بعد ملئه مانعاً لنفسه. انتهى.

و قوله:( وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربّما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنّه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية:( ثمّ تولّى ) و أعرض يعقوب (عليه السلام)( عَنْهُمْ ) أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) ( وَ قالَ: يا أَسَفى) و يا حزني( عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ ) و ذهب بصره( مِنَ الْحُزْنِ ) على يوسف( فَهُوَ كَظِيمٌ ) حابس غيظه متجرّع حزنه لا يتعرّض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الّذي لا ميت فينسى و لا حيّ فيرجي، و المعنى الأوّل أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنّى و لا يجمع لأنّه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكفّ عنه حتّى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنّهم إنّما قالوه رقّة بحاله و رأفة به، و لعلّهم إنّما تفوّهوا به تبرّما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصّة من جهة أنّه كان يكذّبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسّفه أنّه يشكوهم كما ربّما يؤيّده قوله:( ما أَشْكُو ) إلخ.

٢٥٦

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ) قال في المجمع: البثّ الهمّ الّذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثّه أي يفرّقه، و كلّ شي‏ء فرّقته فقد بثثته و منه قوله:( وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ) انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

و الحصر الّذي في قوله:( إنّما أَشْكُو ) إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أنّي لست أشكو بثّي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقلّ زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثّهم و حزنهم عند المصائب، و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحّون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله:( ‏وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) إشارة إجماليّة إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلّا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) قال في المجمع: التحسّس - بالحاء - طلب الشي‏ء بالحاسّة و التجسّس - بالجيم - نظيره‏ و في الحديث: لا تحسّسوا و لا تجسّسوا، و قيل إنّ معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر( متى أدن منه ينأى عنه و يبعد) .

و قيل: التجسّس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عبّاس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسّس في الخير و التجسّس في الشرّ. انتهى.

و قوله:( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيّب و يكنّى به عن الحالة الّتي هي ضدّ التعب و هي الراحة و ذلك أنّ الشدّة الّتي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً و كظماً للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفّساً و روحاً لقولهم يفرّج

٢٥٧

الهمّ و ينفّس الكرب فالرّوح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدّة بإذن الله و مشيّته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أنّ الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيّته و لا معقّب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنّه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّاالضَّالُّونَ ) الحجر: ٥٦، و قد عدّ اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

و معنى الآية - ثمّ قال يعقوب لبنيه آمراً لهم -( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) الّذي اُخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلّكم تظفرون بهما( وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله ) و الفرج الّذي يرزقه الله بعد الشدّة( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) الّذين لا يؤمنون بأنّ الله يقدر أن يكشف كلّ غمّة و ينفّس عن كلّ كربة.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لمّا دخلوا على يوسف قالوا إلخ.

كانت لهم - على ما يدلّ عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنّهم عرفوا بالكذب و سجّل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلّي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحّوا عليه فأبى العزيز حتّى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لمّا حضروا عند يوسف العزيز و كلّموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلّل و الخضوع و بالغوا في رقّة الكلام

٢٥٨

استرحاما و استعطافا فذكروا أوّلاً ما مسّهم و أهلهم من الضرّ و سوء الحال ثمّ ذكروا قلّة ما أتوا به من البضاعة ثمّ سألوه إيفاء الكيل، و أمّا حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرّحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدّق عليهم و إنّما يتصدّق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترقّ مال العزيز ظاهراً ثمّ حرّضوه بقولهم:( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ ) و أحاط بنا جميعاً المضيقة و سوء الحال( وَ جِئْنا ) إليك( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنّه نهاية ما في وسعنا( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا ) و كأنّهم يريدون به أخاهم أو إيّاه و الطعام( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) خيرا.

و قد بدؤا القول بخطاب( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلّة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدّق عليهم و هو من أمرّ السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممّن لا يستحقّ ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفّوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمّت الكلمة الإلهيّة أنّه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) و عرّفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنّه بمصر طول هذه المدّة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلّة و المسكنة و هو متّك على أريكة العزّة.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) إنّما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنّه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) و فيه تلقين عذر.

فقوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) مجرّد تذكير لعملهم بهما من

٢٥٩

غير توبيخ و مؤاخذة ليعرّفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوّة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوّة.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أنّ الشواهد القطعيّة قامت على تحقّق مضمونها و إنّما يستفهم لمجرّد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) مؤكّداً بإنّ و اللّام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) و إنّما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن منّ الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال:( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) .

ثمّ أخبر عن سبب المنّ الإلهيّ بحسب ظاهر الأسباب فقال:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنّه يتحقّق بالتقوى و الصبر.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضدّ الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأً و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطأ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنّما قيّد نفي التثريب باليوم ليدلّ على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر اُوتي النبوّة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذّلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و أنّ الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أوّل يوم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ثمّ دعا لهم و استغفر بقوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الّذين ظلموه جميعاً و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم

٢٦٠

لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتي:( قالُوا تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) و سيجي‏ء إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: سمعت أباجعفر (عليه السلام) يحدّث: قال: لما فقد يعقوب يوسف (عليهما السلام) اشتدّ حزنه عليه و بكاؤه حتّى ابيضّت عيناه من الحزن و احتاج حاجة شديدة و تغيّرت حالته، و كان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرّتين: للشتاء و الصيف، و إنّه بعث عدّة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر- فرفع لهم رفقة خرجت.

فلمّا دخلوا على يوسف و ذلك بعد ما ولّاه العزيز مصر فعرفهم يوسف و لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزّته فقال لهم: هلمّوا بضاعتكم قبل الرفاق، و قال لفتيانه عجّلوا لهؤلاء الكيل و أوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم و لا تعلموهم بذلك ففعلوا ثمّ قال لهم يوسف: قد بلغني أنّه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا: أمّا الكبير منهما فإنّ الذئب أكله، و أمّا الصغير فخلّفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق. قال: فإنّي اُحبّ أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه و إنّا لفاعلون.

فلمّا رجعوا إلى أبيهم و فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا و كيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل و إنّا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلّا كما أمنتكم على أخيه من قبل.

فلمّا احتاجوا بعد ستّة أشهر بعثهم يعقوب و بعث معهم بضاعة يسيرة و بعث معهم ابن يامين و أخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنّني به إلّا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتّى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا:

٢٦١

نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به و هو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمّه إليه و بكى و قال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل و اكتم ما أخبرتك به و لا تحزن و لا تخف.

ثمّ أخرجه إليهم و أمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم و يعجّلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك و ارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف و فتيته فنادوا فيهم قال: أيّتها العير إنكم لسارقون، قالوا و أقبلوا عليهم: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنّا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه.

قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيّها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً و قد أخذ علينا موثقاً من الله لنردّ به إليه فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين إن فعلت، قال: معاذ الله أن نأخذ إلّا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إنّي لست أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي.

و مضى إخوة يوسف حتّى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية و العير حتّى يخبروك بذلك فاسترجع و استعبر و اشتدّ حزنه حتّى تقوس ظهره.

و فيه، عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الّذي يشرب فيه.

أقول: و في بعض الروايات أنّه كان قدحا من ذهب و كان يكتال به يوسف (عليه السلام).

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في نسخة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قيل له و أنا عنده إنّ سالم بن حفصة روى عنك أنّك تكلّم على سبعين وجها

٢٦٢

لك منها المخرج. قال: ما يريد سالم منّي؟ أ يريد أن أجي‏ء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيّون، و لقد قال إبراهيم: إِنِّي سَقِيمٌ و و الله ما كان سقيما و ما كذب، و لقد قال إبراهيم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ و ما فعله كبيرهم و ما كذب، و لقد قال يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و الله ما كانوا سرقوا و ما كذب.

و فيه، عن رجل من أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله في يوسف:( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) قال: إنّهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنّه قال لهم حين قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنّما عنى أنّكم سرقتم يوسف من أبيه.

و في الكافي، بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، و قال إبراهيم:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) فقال: و الله ما فعل و ما كذب.

قال: فقال أبوعبدالله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلّا التسليم. قال: فقال: إنّ الله أحبّ اثنين و أبغض اثنين أحبّ الخطو فيما بين الصفّين و أحبّ الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطو في الطرقات و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إنّ إبراهيم إنّما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإصلاح و دلالة على أنّهم لا يفعلون، و قال يوسف إرادة الإصلاح.

أقول: قوله (عليه السلام) إنّه أراد الإصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنّه أراد به سرقتهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام ممّا لا يطابق الواقع غير كون المتكلّم مريداً به معنى صحيحاً في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، و الدليل على ذلك قوله (عليه السلام) إنّه أراد الإصلاح و دلّ على أنّهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين و للّفظ بحسب أحدهما - و هو الثاني - مطابق دون الآخر فافهمه و ارجع إلى ما قدّمناه في البيان.

و في معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار اُخر مرويّة في الكافي و المعاني

٢٦٣

و تفسيري العيّاشيّ و القمّيّ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن إسماعيل بن همّام قال: قال الرضا (عليه السلام) في قول الله تعالى:( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) قال: كان لإسحاق النبيّ منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمّة يوسف، و كان يوسف عندها و كانت تحبّه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إليّ و أردّه إليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمّه ثمّ أرسله إليك غدوة فلمّا أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه و ألبسته قميصا فبعثت به إليه و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): في قوله:( إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) قال: سرق يوسف (عليه السلام) صنما لجدّه أبي اُمّه من ذهب و فضّة فكسره و ألقاه في الطريق فعيّره بذلك إخوته.

أقول: و الرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، و قد رويت بطرق اُخرى عن الأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، و يؤيّدها ما روي بغير واحد من طرق أهل البيت و طرق غيرهم: إنّ السجّان قال ليوسف: إنّي لاُحبّك فقال: لا تحبّني فإنّ عمّتي أحبّتني فنسبت إلي السرقة و أبي أحبّني فحسدني إخوتي و ألقوني في الجبّ، و امرأة العزيز أحبّتني فألقوني في السجن.

و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) قال: كان يوسف يوسّع المجلس و يستقرض المحتاج و يعين الضعيف.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من الناس إنّ إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العبّاد في حاجة فلمّا رآه الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثمّ قال: مرحبا بخليل

٢٦٤

الرحمن فقال له يعقوب: لست بخليل الرحمن و لكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الّذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهمّ و الحزن و السقم.

قال: فما جاز عتبة الباب حتّى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخرّ ساجداً عند عتبة الباب يقول: ربّ لا أعودُ فأوحى الله إليه إنّي قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئاً ممّا أصابه من نوائب الدنيا إلّا أنّه قال يوما:( ما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و ابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: من بثّ لم يصبر ثمّ قرأ( ما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله ) .

أقول: و رواه أيضاً عن ابن عديّ و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في الكافي، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول يعقوب لبنيّه:( اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) إنّه كان يعلم أنّه حيّ و قد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنّه دعا في السحر و قد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال و هو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرّقة؟ فقال: بل أقبضها متفرّقة روحا روحا. قال: فمرّ بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنّه حيّ فعند ذلك قال لولده:( اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ ) .

أقول: و رواه في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام) و فيه: قال يعني يعقوب لملك الموت: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرّقة و تعرض عليّ مجتمعة قال: فأسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنّه حيّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره و ابن أبي الدنيا في

٢٦٥

كتاب الفرج بعد الشدّة و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و أبوالشيخ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أنس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و فيه أتى جبريل فقال: يا يعقوب إنّ الله يقرؤك السلام و يقول لك: أبشر و ليفرح قلبك فوعزّتي لو كانا ميّتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإنّ أحبّ عبادي إليّ الأنبياء و المساكين. و تدري لم أذهبت بصرك و قوّست ظهرك و صنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين و هو صائم فلم تطعموه منه شيئاً.

فكان يعقوب (عليه السلام) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب و إذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب.

و في المجمع: في قوله تعالى:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً ) الآية: ورد في الخبر: أنّ الله سبحانه قال: فبعزّتي لأردّنّهما إليك من بعد ما توكّلت عليّ.

٢٦٦

( سورة يوسف الآيات ٩٣ - ١٠٢)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ( ٩٣) وَلَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ( ٩٤) قَالُوا تَاللّهِ إِنّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيِم( ٩٥) فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى‏ وَجهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( ٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ( ٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ( ٩٨) فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى‏ يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ( ٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرّوا لَهُ سُجّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نّزَعَ الشّيْطَانُ بَينِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنّ رَبّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( ١٠٠) رَبّ قَدْ آتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ وَعَلّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَاديثِ فَاطِرَ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيّ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ( ١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ( ١٠٢)

٢٦٧

( بيان‏)

ختام قصّة يوسف (عليه السلام) و تتضمّن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه و إتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثمّ دخولهم مصر و لقاؤه أبويه.

قوله تعالى: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) تتمّة كلام يوسف (عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه و يأتي بصيراً بعد ما صار من كثرة الحزن و البكاء ضريراً لا يبصر.

و هذا آخر العنايات البديعة الّتي أظهرها الله سبحانه في حقّ يوسف (عليه السلام) على ما يقصّه في هذه السورة ممّا غلب الله الأسباب فحوّلها إلى خلاف الجهة الّتي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلّوه و غرّبوه عن مستقرّه بإلقائه في الجبّ و بيعه من السيّارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثمّ أقرّه في أريكة عزّة تضرّع إليه أمامها إخوته بقولهم:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

ثمّ أحبّته امرأة العزيز و نسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله و جعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته و كمال عفّته، ثمّ استذلّوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزّته و ملكه.

و جاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجبّ بقميصه الملطّخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه و بكائه في فراق ابنه حتّى ابيضّت عيناه و ذهب بصره فردّ الله سبحانه به بصره إليه و بالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه و أراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الّذي توجّهت إليه الأسباب و الله غالب على أمره.

٢٦٨

و قوله:( وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب و أهله و بنيه و ذراريه جميعا من البدو إلى مصر و نزولهم بها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) الفصل القطع و الانقطاع و التفنيد تفعيل من الفند بفتحتين و هو ضعف الرأي، و المعنى لمّا خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر و انقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إنّي لأجد ريح يوسف لو لا أن ترموني بضعف الرأي أي إنّي لأحسّ بريحه و أرى أنّ اللقاء قريب و من حقّه أن تذعنوا بما أجده لو لا أن تخطّئوني لكن من المحتمل أن تفنّدوني فلا تذعنوا بقولي.

قوله تعالى: ( قالُوا تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) القديم مقابل الجديد و المراد به المتقدّم وجودا، و هذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، و هو من سيّي‏ء حظّهم في هذه القصّة تفوّهوا بمثله في بدء القصّة إذ قالوا:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) و في ختمها و هو قولهم هذا:( تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) .

و الظاهر أنّ مرادهم بالضلال ههنا هو مرادهم بالضلال هناك و هو المبالغة في حبّ يوسف و ذلك أنّهم كانوا يرون أنّهم أحقّ بالحبّ من يوسف و هم عصبة إليهم تدبير بيته و الدفاع عنه لكنّ أباهم قد ضلّ عن مستوى طريق الحكمة و قدّم عليهم في الحبّ طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئاً فأقبل بكلّه إليهما و نسيهم، ثمّ لمّا فقد يوسف جزع له و لم يزل يجزع و يبكي حتّى ذهبت عيناه و تقوّس ظهره.

فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتّى يصيروا بذلك كافرين:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصّة يشهد على أنّهم كانوا موحّدين على دين آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام).

و أمّا ثانياً: فلأنّ المقام هاهنا و كذا في بدء القصّة حين قالوا:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لا مساس له بالضلال في الدين حتّى يحتمل رميهم أباهم فيه، و إنّما يمسّ أمراً عمليّاً حيويّاً و هو حبّ أب لبعض أولاده و تقديمه في الكرامة على آخرين

٢٦٩

فهو المعنىّ بالضلال.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى‏ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ ) البشير حامل البشارة و كان حامل القميص و قوله:( أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ ) يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف:( ما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) ، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم:( يا أَبانَا) و يريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف و أخيه، و أمّا يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

قوله تعالى: ( قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أخّر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) و لعلّه إنّما أخّره ليتمّ له النعمة بلقاء يوسف و تطيب نفسه به كلّ الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثمّ يستغفر لهم و في بعض الأخبار: أنّه أخّره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء و سيجي‏ء إن شاء الله.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) في الكلام حذف و التقدير فخرج يعقوب و آله من أرضهم و ساروا إلى مصر و لمّا دخلوا إلخ.

و قوله:( آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) فسّروه بضمّهما إليه، و قوله:( وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ ) إلخ. ظاهر في أنّ يوسف خرج من مصر لاستقبالهما و ضمّهما إليه هناك ثمّ عرض لهما دخول مصر إكراماً و تأدّباً و قد أبدع (عليه السلام) في قوله:( إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنّة الملوك و قيد ذلك بمشيّة الله سبحانه للدلالة على أنّ المشيّة الإنسانيّة لا تؤثّر أثرها كسائر الأسباب إلّا إذا وافقت المشيّة الإلهيّة على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، و ظاهر هذا السياق أنّه لم يكن لهم الدخول و الاستقرار في مصر إلّا بجواز من ناحية الملك، و لذا

٢٧٠

أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.

و قد ذكر سبحانه( أَبَوَيْهِ ) و المفسّرون مختلفون في أنّهما كانا والديه أباه و اُمّه حقيقة أو أنّهما يعقوب و زوجه خالة يوسف بالبناء على أنّ اُمّه ماتت و هو صغير، و لا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيّد أحد المحتملين غير أنّ الظاهر من الأبوين هما الحقيقيّان.

و معنى الآية( فَلَمَّا دَخَلُوا ) أي أبواه و إخوته و أهلهم( عَلى‏ يُوسُفَ ) و ذلك في خارج مصر( آوى) و ضمّ( إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ) لهم مؤمّنا لهم( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ) إلى آخر الآية، العرش هو السرير العالي و يكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك و يختصّ به، و الخرور السقوط على الأرض و البدو البادية فإنّ يعقوب كان يسكن البادية.

و قوله:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الّذي كان يجلس عليه و مقتضى الاعتبار و ظاهر السياق أنّهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصدّاه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) فإنّ الظاهر أنّ السجدة إنّما وقعت لأوّل ما طلع عليهم يوسف فكأنّهم دخلوا البيت و اطمأنّ بهم المجلس ثمّ دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهيّ المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خرّوا له سجّداً.

و قوله:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، و قول بعضهم: إنّ الضمير لله سبحانه نظراً إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، و قد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصّة آدم و الملائكة قال تعالى:( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) طه: ١١٦.

و الدليل على أنّها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أنّ بين هؤلاء الساجدين يعقوب

٢٧١

(عليه السلام) و هو ممّن نصّ القرآن الكريم على كونه مخلصا - بالفتح - لله لا يشرك به شيئاً، و يوسف (عليه السلام) - و هو المسجود له - منهم بنصّ القرآن و هو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شي‏ء و لم يردعهم.

فليس إلّا أنّهم إنّما أخذوا يوسف آية لله فاتّخذوه قبلة في سجدتهم و عبدوا الله بها لا غير كالكعبة الّتي تؤخذ قبلة فيصّلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، و من المعلوم أنّ الآية من حيث إنّها آية لا نفسيّة لها أصلا فليس المعبود عندها إلّا الله سبحانه و تعالى، و قد تكرّر الكلام في هذا المعنى فيما تقدّم من أجزاء الكتاب.

و من هنا يظهر أنّ ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم: إنّ تحيّة الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنّها في الإسلام السلام، و قول بعضهم: إنّ سنّة التعظيم كانت إذ ذاك السجدة و لم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام، و قول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كلّ ذلك غير وجيه.

قوله تعالى: ( قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) إلى آخر الآية لمّا شاهد (عليه السلام) سجدة أبويه و إخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا الّتي رأى فيها أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و أخبر بها أباه و هو صغير فأوّلها له، فأشار إلى سجودهم له و قال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها - أي الرؤيا -رَبِّي حَقًّا ) .

ثمّ أثنى على ربّه شاكراً له فقال:( وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) فذكر إحسان ربّه به في إخراجه من السجن و هو ضرّاء و بلاء دفعه الله عنه بتبديله سرّاء و نعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزّة و الملك.

و لم يذكر إخراجه من الجبّ قبل ذلك لحضور إخوته عنده و كان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما و فتوّة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمّن طعنا فيهم و شنآنا فقال:( وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) و النزغ هو الدخول في أمر لإفساده.

و المراد: و قد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني و بين إخوتي فكان

٢٧٢

من الأمر ما كان فأدّى ذلك إلى فراق بيني و بينكم فساقني ربّي إلى مصر فأقرّني في أرغد عيش و أرفع عزّة و ملك ثمّ قرّب بيننا بنقلكم من البادية إليّ في دار المدنيّة و الحضارة.

يعني أنّه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني و بين إخوتي و ممّا أخصّه بالذكر من بينها فراق بيني و بينكم ثمّ رزيّة السجن فأحسن بي ربّي و دفعها عنّي واحدة بعد اُخرى و لم يكن من المحن و الحوادث العاديّة بل رزايا صمّاء و عقوداً لا تنحلّ لكنّ ربّي نفذ فيها بلطفه و نفوذ قدرته فبدّلها أسباب حياة و نعمة بعد ما كانت أسباب هلاك و شقاء و لهذه الثلاثة الأخيرة عقّب قوله:( وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي ) إلخ بقوله:( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ) .

فقوله:( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ) تعليل لإخراجه من السجن و مجيئهم من البدو، و يشير به إلى ما خصّه الله به من العناية و المنّة و أنّ البلايا الّتي أحاطت به لم تكن لتنحلّ عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكنّ الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدّة عوامل رخاء و راحة و أسباب الذلّة و الرقّيّة وسائل عزّة و ملك.

و اللطيف من أسمائه تعالى يدلّ على حضوره و إحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه و الإحاطة به من باطن الأشياء و هو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة و العلم قال تعالى:( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك: ١٤ و الأصل في معناه الصغر و الدقّة و النفوذ يقال: لطف الشي‏ء بالضمّ يلطف لطافة إذا صغر و دقّ حتّى نفذ في المجاري و الثقب الصغار، و يكنّى به عن الإرفاق و الملاءمة و الاسم اللطف.

و قوله:( هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) تعليل لجميع ما تقدّم من قوله:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) إلخ، و قد علّل (عليه السلام) الكلام و ختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلّم في رؤياه و قال:( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ - إلى أن قال -إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) و ليس يبعد أن يفيد اللّام في قوله:( الْعَلِيمُ

٢٧٣

الْحَكِيمُ ) معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه (عليه السلام) و المعنى: و هو ذاك العليم الحكيم الّذي وصفته لي يوم أوّلت رؤياي.

قوله تعالى: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) إلى آخر الآية لمّا أثنى (عليه السلام) على ربّه و عدّ ما دفع عنه من الشدائد و النوائب أراد أن يذكر ما خصّه به من النعم المثبتة و قد هاجت به المحبّة الإلهيّة و انقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه و انصرف عنه و عن غيره ملتفتا إلى ربّه و خاطب ربّه عزّ اسمه فقال:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

و قوله:( فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) إضراب و ترقّ في الثناء، و رجوع منه (عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهيّة بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجليّة كإخراجه من السجن و المجي‏ء بأهله من البدو و إيتائه من الملك و تعليمه من تأويل الأحاديث فإنّ الله سبحانه ربّ فيما دقّ و جلّ معا، ولي في الدنيا و الآخرة جميعا.

و ولايته تعالى أعني كونه قائماً كلّ شي‏ء في ذاته و صفاته و أفعاله منشأها إيجاده تعالى إيّاها جميعاً و إظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات و الأرض و لذا يتوجّه إليه تعالى قلوب أوليائه و المخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الّذي يفيد وجوده تعالى لذاته و إيجاده لغيره قال تعالى:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي الله شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إبراهيم: ١٠.

و لذا بدأ به يوسف (عليه السلام) - و هو من المخلصين - في ذكر ولايته فقال:( فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) أي إنّي تحت ولايتك التامّة من غير أن يكون لي صنع في نفسي و استقلال في ذاتي و صفاتي و أفعالي أو أملك لنفسي شيئاً من نفع أو ضرّ أو موت أو حياة أو نشور.

و قوله:( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) لمّا استغرق (عليه السلام) في مقام الذلّة قبال ربّ العزّة و شهد بولايته له في الدنيا و الآخرة سأله سؤال المملوك المولّى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا و الآخرة و هو الإسلام

٢٧٤

مادام حيا في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإنّ كمال العبد المملوك أن يسلم لربّه ما يريده منه مادام حيّا و لا يظهر منه ما يكرهه و لا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختياريّة و أن يكون صالحاً لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد و اختياره، و هو سؤاله (عليه السلام) الإسلام في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة و هو الّذي منحه الله سبحانه لجدّه إبراهيم (عليه السلام)( وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) البقرة: ١٣١.

و هذا الإسلام الّذي سأله (عليه السلام) أقصى درجات الإسلام و أعلى مراتبه، و هو التسليم المحض لله سبحانه، و هو أن لا يرى العبد لنفسه و لا لآثار نفسه شيئاً من الاستقلال حتّى لا يشغله شي‏ء من نفسه و لا صفاتها و لا أعمالها من ربّه، و إذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.

و مما تقدّم يظهر أنّ قوله:( تَوَفَّنِي مُسْلِماً ) سؤال منه لبقاء الإخلاص و استمرار الإسلام مادام حيّا و بعبارة اُخرى أن يعيش مسلما حتّى يتوفّاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتّى يموت، و ليس يراد به أن يموت في حال الإسلام و لو لم يكن قبل ذلك مسلما، و لا سؤالا للموت و هو مسلم حتّى يكون المعنى أنّي مسلم فتوفّني.

و يتبيّن بذلك فساد ما روي عن عدّة من قدماء المفسّرين أنّ قوله:( تَوَفَّنِي مُسْلِماً ) دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتّى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله و لا تمنّاه إلّا يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: ( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ) الإشارة إلى نبإ يوسف (عليه السلام)، و الخطاب للنبي (صلّي الله عليه وآله وسّلم)، و ضمير الجمع لإخوة يوسف و الإجماع العزم و الإرادة.

و قوله:( وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ) إلخ، حال من ضمير الخطاب من( إِلَيْكَ ) و قوله:( نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ ) إلى آخر الآية بيان لقوله:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ

٢٧٥

الْغَيْبِ ) و المعنى أنّ نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنّا نوحيه إليك و الحال أنّك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم و هم يمكرون في أمر يوسف.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال يوسف لإخوته:( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا ) الّذي بلّته دموع عيني( فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) لو قد نشر ريحي( وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) و ردّهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهّزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلمّا فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إنّي لأجد ريح يوسف لو لا أن تفنّدون.

قال: و أقبل ولده يحثّون السير بالقميص فرحاً و سروراً بما رأوا من حال يوسف و الملك الّذي آتاه الله و العزّ الّذي صاروا إليه في سلطان يوسف، و كان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيّام فلمّا أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتدّ بصيراً، و قال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحاً.

قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، و سجد لربّه سجدة الشكر و رجع إليه بصره و تقوّم له ظهره، و قال لولده: تحمّلوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف و معهم يعقوب و خالة يوسف( ياميل) فأحثوا السير فرحاً و سروراً فساروا تسعة أيّام إلى مصر.

أقول: كون امرأة يعقوب الّتي سارت معه إلى مصر و هي اُمّ بنيامين خالة يوسف لا اُمّه الحقيقية وقعت في عدّة الروايات و ظاهر الكتاب و بعض الروايات أنّها كانت اُمّ يوسف و أنّه و بنيامين كانا أخوين لاُمّ و إن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.

و في المجمع، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ:( وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر و هو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.

٢٧٦

أقول: و قد ورد في عدّة روايات من طرق العامّة و الخاصّة أنّ القميص الّذي أرسله يوسف إلى يعقوب (عليهما السلام) كان نازلاً من الجنّة، و أنّه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين اُلقي في النار فألبسه إيّاه فكانت عليه برداً و سلاماً ثمّ أورثه إسحاق ثمّ ورثه يعقوب ثمّ جعله يعقوب تميمة و علّقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتّى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنّة فوجدها يعقوب، و هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد.

و مثلها روايات اُخرى من الفريقين تتضمّن كتاباً كتبه يعقوب إلى يوسف و هو يحسبه عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنّه ابن إسحاق ذبيح الله الّذي أمر الله جدّه إبراهيم بذبحه ثمّ فداه بذبح عظيم. و قد تقدّم في الجزء السابق من الكتاب أنّ الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن نشيط بن ناصح البجليّ قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) أ كان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا و لا بررة أتقياء و كيف؟ و هم يقولون لأبيهم:( تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) .

أقول: و في الروايات من طرق أهل السنّة و في بعض الضعاف من روايات الشيعة أنّهم كانوا أنبياء، و هذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب و السنّة و العقل من عصمة الأنبياء (عليه السلام)، و ما ورد في الكتاب ممّا ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) النساء: ١٦٣ غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، و الأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الّذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب (عليه السلام) قال تعالى:( وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً ) الأعراف: ١٦٠.

و في الفقيه، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول يعقوب لبنيه:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) قال: أخّرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات اُخر، و في الدرّ المنثور، عن ابن جرير و أبي الشيخ عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: قول أخي يعقوب لبنيه:( سَوْفَ

٢٧٧

أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) يقول: حتّى يأتي ليلة الجمعة.

و في الكافي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرّة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، و تلا هذه الآية في قول يعقوب( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) أخّرهم إلى السحر.

أقول: و روي نظيره في الدرّ المنثور، عن أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) سئل لم أخّر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخّرهم إلى السحر لأنّ دعاء السحر مستجاب.

و قد تقدّم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير و لقد أقبل يوسف (عليه السلام) على إخوته حين عرفوه بالفتوّة و الكرامة من غير أن يجبّههم بأدنى ما يسوؤهم و لازم ذلك أن يعفو عنهم و يستغفر لهم بلا مهل و لم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتدّ إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني محمّد بن عيسى: أنّ يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، و كان أحدها: أخبرني عن قول الله:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) أ سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟.

فأجاب أبوالحسن (عليه السلام) أمّا سجود يعقوب و ولده ليوسف فإنّه لم يكن ليوسف و إنّما كان ذلك من يعقوب و ولده طاعة لله و تحيّة ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم و لم يكن لآدم و إنّما كان ذلك منهم طاعة لله و تحيّة لآدم فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكراً لله تعالى لاجتماع شملهم أ لم تر أنّه يقول في شكره ذلك الوقت:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) . الحديث.

أقول: و قد تقدّم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، و ظاهر الحديث أنّ يوسف أيضاً سجد معهم كما سجدوا و قد استدلّ عليه بقول يوسف في

٢٧٨

شكره:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) إلخ و في دلالته على ذلك إبهام.

و قد روى الحديث العيّاشيّ في تفسيره، عن محمّد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمّد بن الرضا (عليه السلام) قال لأخيه: إنّ يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) أ سجد يعقوب و ولده ليوسف؟.

قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أمّا سجود يعقوب و ولده ليوسف فشكراً لله تعالى لاجتماع شملهم ألا ترى أنّه يقول في شكر ذلك الوقت:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) الآية.

و ما رواه العيّاشيّ أوفق بلفظ الآية و أسلم من الإشكال ممّا رواه القمّيّ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله:( وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) قال: العرش السرير، و في قوله:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فسار تسعة أيّام إلى مصر فلمّا دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبّله و بكى، و رفع خالته على سرير الملك ثمّ دخل منزله فادّهن و اكتحل و لبس ثياب العزّ و الملك ثمّ رجع إليهم - و في نسخة ثمّ خرج إليهم - فلمّا رأوه سجدوا جميعا إعظاماً و شكراً لله فعند ذلك قال:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ - إلى قوله -بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) .

قال: و لم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدّهن و لا يكتحل و لا يتطيّب و لا يضحك و لا يمسّ النساء حتّى جمع الله ليعقوب شمله، و جمع بينه و بين يعقوب و إخوته.

و في الكافي، بإسناده عن العبّاس بن هلال الشاميّ مولى أبي الحسن (عليه السلام) عنه قال: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يخشع. فقال: أ ما علمت أنّ يوسف نبيّ ابن نبيّ كان يلبس أقبية الديباج مزوّرة

٢٧٩

بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه و إنّما احتاجوا إلى قسطه.

و إنّما يحتاج من الإمام إلي [ أن ظ ] إذا قال صدق، و إذا وعد أنجز، و إذا حكم عدل لأنّ الله لا يحرّم طعاماً و لا شراباً من حلال و حرّم الحرام قلّ أو كثر و قد قال الله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، و أراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجّة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجّة و كان الملك ليوسف فلمّا مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثمّ كان يوسف ابن يعقوب الحجّة.

أقول: و الروايات في قصّته (عليه السلام) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أنّ أكثرها لا يخلو من تشوّش في المتن و ضعف في السند.

و ممّا ورد في بعضها أنّ الله سبحانه جعل النبوّة من آل يعقوب في صلب لاوي و هو الّذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) الآية و هو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتّهام السرقة:( فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فشكر الله له ذلك.

و ممّا ورد في عدّة منها أنّ يوسف (عليه السلام) تزوّج بامرأة العزيز و هي الّتي راودته عن نفسه، و ذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، و لا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) لو صحّ الحديث.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431