الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81261 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

( كلام في قصّة يوسف في فصول)

١- قصّته في القرآن: هو يوسف النبيّ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر و أصغر إخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتمّ عليه نعمته بالعلم و الحكم و العزّة و الملك و يرفع به قدر آل يعقوب فبشّره و هو صغير برؤيا رآها كأنّ أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصّاه أبوه أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فيحسدوه ثمّ أوّل رؤياه أنّ الله سيجتبيه و يعلّمه من تأويل الأحاديث و يتمّ نعمته عليه و على آل يعقوب كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم و إسحاق.

كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، و لا يزال تنزع نفسه إلى حبّ ربّه و التولّه إليه على ما به من علوّ النفس و صفاء الروح و الخصائص الحميدة، و كان ذا جمال بديع يبهر القول و يدهش الألباب.

و كان يعقوب يحبّه حبّاً شديداً لما يشاهد فيه من الجمال البديع و يتفرّس فيه من صفاء السريرة و لا يفارقه و لا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار و اشتدّ حسدهم له حتّى اجتمعوا و تؤامروا في أمره فمن مشير على قتله، و من قائل: اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين، ثمّ اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم و هو أن يلقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيّارة و عقدوا على ذلك.

فلقوا أباهم و كلّموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع و يلعب و هم له حافظون فلم يرض به يعقوب و اعتذر أنّه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتّى أرضوه و أخذوه منه و ذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبرّ فألقوه في جبّ هناك و قد نزعوا قميصه.

ثمّ جاؤا بقميصه ملطّخا بدم كذب إلى أبيهم و هو يبكون فأخبروه أنّهم

٢٨١

ذهبوا اليوم للاستباق و تركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب و هذا قميصه الملطّخ بدمه.

فبكى يعقوب و قال:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) ، و لم يقل ذلك إلّا بتفرّس إلهيّ اُلقي في روعه، و لم يزل يعقوب يذكر يوسف و يبكي عليه و لا يتسلّى عنه بشي‏ء حتّى ابيضّت عيناه من الحزن و هو كظيم.

و مضى بنوه يراقبون الجبّ حتّى جاءت سيّارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلّق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب و ادّعوا أنّه عبد لهم ثمّ ساوموهم حتّى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.

و سارت به السيّارة إلى مصر و عرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر و أدخله بيته و قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولدا و ذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال و صفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقرّ يوسف في بيت العزيز في كرامة و أهنإ عيش، و هذا أوّل ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف و عزيز ولايته له حيث توسّل إخوته بإلقائه في الجبّ و بيعه من السيّارة إلى إماتة ذكره و تحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أمّا إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قطّ، و أمّا مزيّة الحياة فإنّ الله سبحان بدّل له بيت الشعر و عيشة البدويّة قصرا ملكيّا و حياة حضريّة راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطّوه و يضعوه، و على ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.

و عاش يوسف في بيت العزيز في أهنإ عيش حتّى كبر و بلغ أشدّه و لم يزل تزكو نفسه و يصفو قلبه و يشتغل بربّه حتّى تولّه في حبّه و أخلص له فصار لا همّ له إلّا فيه فاجتباه الله و أخلصه لنفسه و آتاه حكما و علما و كذلك يفعل بالمحسنين.

و عشقته امرأة العزيز و شغفها حبّه حتّى راودته عن نفسه و غلّقت الأبواب و دعته إلى نفسها و قالت: هيت لك. فامتنع يوسف و اعتصم بعصمة إلهيّة و قال:( مَعاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ، و استبقا الباب و اجتذبته و

٢٨٢

قدّت قميصه من خلف و ألفيا سيّدها لدى الباب فاتّهمت يوسف بأنّه كان يريد بها سوءاً و أنكر يوسف ذلك غير أنّ العناية الإلهيّة أدركته فشهد صبيّ هناك في المهد ببراءته فبرّأه الله.

ثمّ ابتلي بحبّ نساء مصر و مراودتهنّ و شاع أمر امرأة العزيز حتّى آل الأمر إلى دخوله السجن، و قد توسّلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، و العزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة الّتي كانت تذهب بكرامة بيته و تشوّه جميل ذكره.

فدخل يوسف السجن و دخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنّه رأى في منامه أنّه يعصر خمرا و الآخر رأى أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، و سألاه أن يؤوّل منامهما فأوّل رؤيا الأوّل أنّه سيخرج فيصير ساقيا للملك، و رؤيا الثاني أنّه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: و قال يوسف للّذي رأى أنّه ناج منهما:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ) .

و بعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملإه و قال:( إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) ، و عند ذلك ادّكر الساقي يوسف و تعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك و استأذنه أن يراجع السجن و يستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك و أرسله إليه.

و لمّا جاءه و استفتاه في أمر الرؤيا و ذكر أنّ الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال:( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) .

فلمّا سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك و أمر بإطلاقه و إحضاره و لمّا

٢٨٣

جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج و الحضور إلّا أن يحقّق الملك ما جرى بينه و بين النسوة و يحكم بينه و بينهنّ و لمّا أحضرهنّ و كلّمهنّ في أمره اتّفقن على تبرئته من جميع ما اتّهم به و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، و قالت امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) فاستعظم الملك أمره في علمه و حكمه و استقامته و أمانته فأمر بإطلاقه و إحضاره معزّزاً و قال:( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فلمّا - حضر و -كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) و قد محّصت أحسن التمحيص و اختبرت أدّق الاختبار.

قال يوسف:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ - أرض مصر -إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) حتّى اُهيّئ الدولة في هذه السنين السبع المخصبة الّتي تجري على الناس لإنجائهم ممّا يهدّدهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر و أمر بإجادة الزرع و إكثاره و جمع الطعام و الميرة و حفظه في المخازن بالحزم و التدبير حتّى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق و قسّم بينهم الطعام حتّى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، و في هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزّة مصر، و استولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزّة و الملك بإذن الله، و قد كانوا تسبّبوا به إلى إخماد ذكره، و إنسائه من قلوب الناس، و إخفائه من أعينهم.

و في بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم و هم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم و عن أنفسهم فذكروا له أنّهم أبناء يعقوب و أنّهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به و لا يدعه يفارقه قطّ فأظهر يوسف أنّه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصّه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانياً للامتيار، و زاد في إكرامهم و إيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، و أمر فتيانه أن يدسّوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون.

و لمّا رجعوا إلى أبيهم حدّثوه بما جرى بينهم و بين عزيز مصر و أنّه منع منهم الكيل إلّا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك و لمّا فتحوا

٢٨٤

متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم فراجعوا أباهم و ذكروا له ذلك و أصرّوا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر و هو يأبى حتّى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنّه به إلّا أن يحاط بهم.

ثمّ تجهّزوا ثانياً و سافروا إلى مصر و معهم بنيامين و لمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه و عرّفه نفسه و قال: إنّي أنا أخوك و أخبره أنّه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد.

ولَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ فأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا - وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ - ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا: نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا: تَالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا: فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كذلك نجزي السارق فيما بيننا فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ثم أمر بالقبض عليه و استرقّه بذلك.

فراجعه إخوته في إطلاقه حتّى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أنّ كبيرهم قال لهم: أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ الله وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فبقي بمصر و ساروا.

فلمّا رجعوا إلى أبيهم و قصّوا عليه القصص قال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ثمّ تولّى عنهم وَ قالَ، يا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ فلمّا لاموه على حزنه الطويل و وجده ليوسف قال:نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله وَ أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ‏ ثمّ قال لهم: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله فإنّي أرجو أن تظفروا بهما.

فسار نفر منهم إلى مصر و استأذنوا على يوسف فلمّا شخصوا عنده تضرّعوا إليه و استرحموه في أنفسهم و أهلهم و أخيهم الّذي استرقّه قائلين: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ قد

٢٨٥

مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ بالجدب و السنة و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدّق علينا بأخينا الّذي تملّكته بالاسترقاق إنّ الله يجزي المتصدّقين.

و عند ذلك حقّت كلمته تعالى ليعزّنّ يوسف بالرغم من استذلالهم له و ليرفعنّ قدره و قدر أخيه و ليضعنّ الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرّفهم نفسه و قال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟ قالُوا: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ: أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا: تَالله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ‏ فاعترفوا بذنبهم و شهدوا أنّ الأمر إلى الله يعزّ من يشاء و يذلّ من يشاء و أنّ العاقبة للمتّقين و أنّ الله مع الصابرين. فقابلهم يوسف بالعفو و الاستغفار و قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ و قرّبهم إليه و زاد في إكرامهم.

ثمّ أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم و يذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا فتجهّزوا للسير و لمّا فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ قال من عنده من بنيه: تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ، و لمّا جاءه البشير ألقى القمّيّص على وجهه فارتدّ بصيراً فردّ الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به و هو القميص قال يعقوب لبنيه: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ قالُوا: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

ثمّ تجهّزوا للمسير إلى يوسف و استقبلهم يوسف و ضمّ إليه أبويه و أعطاهم الأمن و أدخلهم دار الملك و رفع أبويه على العرش و خرّوا له سجّداً يعقوب و امرأته و أحد عشر من ولده، قالَ يوسف يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ثمّ شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه و إيتائه الملك و العلم.

و بقي آل يعقوب بمصر، و كان أهل مصر يحبّون يوسف حبّاً شديداً لفضل نعمته عليهم و حسن بلائه فيهم، و كان يدعوهم إلى دين التوحيد و ملّة آبائه إبراهيم

٢٨٦

و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) (كما ورد في قصّة السجن و في سورة المؤمن).

٢- ما أثنى الله عليه و منزلته المعنوية: - كان (عليه السلام) من المخلصين و كان صدّيقا و كان من المحسنين، و قد آتاه الله حكما و علما و علّمه من تأويل الأحاديث و قد اجتباه الله و أتمّ نعمته عليه و ألحقه بالصالحين (سورة يوسف) و أثنى عليه بما أثنى على آل نوح و إبراهيم (عليهما السلام) من الأنبياء و قد ذكره فيهم (سورة الأنعام).

٣- قصته في التوراة الحاضرة: - قالت التوراة: و كان(١) بنو يعقوب اثني‏ عشرة: بنو ليئة راُوبين بكر يعقوب و شمعون و لاوي و يهودا و يسّاكر و زنولون، و ابنا راحيل يوسف، و بنيامين، و ابنا بلهة جارية راحيل دان، و نفتالي، و ابنا زلفة جارية ليئة جاد، و أشير. هؤلاء بنو يعقوب الّذين ولدوا في فدان أرام.

قالت(٢) : يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم و هو غلام عند بني بلهة و بني زلفة امرأتي أبيه، و أتى يوسف بنميمتهم الرديّة إلى أبيهم، و أمّا إسرائيل فأحبّ يوسف أكثر من سائر بنيه لأنّه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملوّنا فلمّا رأى إخوته أنّ أباهم أحبّه أكثر من جميع إخوته أبغضوه و لم يستطيعوا أن يكلّموه بسلام.

و حلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضاً بغضا له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الّذي حلمت: فها نحن حازمون حزما في الحفل و إذا حزمتي قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي. فقال له إخوته أ لعلّك تملك علينا ملكا أم تتسلّط علينا تسلّطا، و ازدادوا أيضاً بغضا له من أجل أحلامه و من أجل كلامه.

ثمّ حلم أيضاً حلما آخر و قصّه على إخوته فقال: إنّي قد حلمت حلما أيضاً و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصّه على أبيه و على إخوته فانتهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الّذي حلمت؟ هل يأتي أنا و اُمّك و إخوتك

____________________

(١) الإصحاح ٣٥ من سفر التكوين تذكر التوراة أنّ ليئة و راحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي و أنّ راحيل أمّ يوسف ماتت حين وضعت بنيامين.

(٢) الإصحاح ٣٧ من سفر التكوين.

٢٨٧

لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته و أمّا أبوه فحفظ الأمر.

و مضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أ ليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فاُرسلك إليهم، فقال له: ها أنا ذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك و سلامة الغنم و ردّ لي خبراً فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل و إذا هو ضالّ في الحفل فسأله الرجل قائلا: ما ذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأنّي سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.

فلمّا أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلمّ نقتله و نطرحه في إحدى هذه الآبار و نقول: وحش رديّ أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين و أنقذه من أيديهم و قال: لا نقتله و قال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر الّتي في البريّة و لا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليردّه إلى أبيه فكان لمّا جاء يوسف إلى إخوته أنّهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملوّن الّذي عليه و أخذوه و طرحوه في البئر و أمّا البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.

ثمّ جلسوا ليأكلوا طعاماً فرفعوا عيونهم و نظروا و إذا قافلة إسماعيليّين مقبلة من جلعاد، و جمالهم حاملة كتيراء و بلسانا و لادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا و نخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليّين و لا تكن أيدينا عليه لأنّه أخونا و لحمنا فسمع له إخوته.

و اجتاز رجال مديانيّون تجّار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر و باعوا يوسف للإسماعيليّين بعشرين من الفضّة فأتوا بيوسف إلى مصر، و رجع رأوبين إلى البئر و إذا يوسف ليس في البئر فمزّق ثيابه ثمّ رجع إلى إخوته و قال: الولد ليس موجوداً، و أنا إلى أين أذهب؟.

فأخذوا قميص يوسف و ذبحوا تيسا من المعزى و غمسوا القميص في الدم، و أرسلوا القميص الملوّن و أحضروه إلى أبيهم و قالوا: وجدنا هذا، حقّق أ قميص

٢٨٨

ابنك هو أم لا؟ فتحقّقه و قال: قميص ابني وحش رديّ أكله افترس يوسف افتراسا فمزّق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه و ناح على ابنه أيّاما كثيرة فقام جميع بنيه و جميع بناته ليعزّوه فأبى أن يتعزّى و قال: إنّي أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية و بكى عليه أبوه.

قالت(١) التوراة: و أمّا يوسف فأنزل إلى مصر و اشتراه فوطيفار خصيّ فرعون رئيس الشرط رجل مصريّ من يد الإسماعيليّين الّذين أنزلوه إلى هناك، و كان الربّ مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً و كان في بيت سيّده المصريّ.

و رأى سيّده أنّ الربّ معه، و أنّ كلّ ما يصنع كان الربّ ينجحه بيده فوجد يوسف‏ نعمة في عينيه و خدمه فوكله إلى بيته و دفع إلى يده كلّ ما كان له، و كان من حين وكّله على بيته و على كلّ ما كان له أنّ الربّ بارك بيت المصريّ بسبب يوسف، و كانت بركة الربّ على كلّ ما كان له في البيت و في الحفل فترك كلّ ما كان له في يد يوسف و لم يكن معه يعرف شيئاً إلّا الخبز الّذي يأكل، و كان يوسف حسن الصورة و حسن المنظر.

و حدث بعد هذه الاُمور أنّ امرأة سيّده رفعت عينيها إلى يوسف و قالت: اضطجع معي فأبى و قال لامرأة سيّده: هو ذا سيّدي لا يعرف معي ما في البيت و كلّ ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت، و لم يمسك عني شيئاً غيرك لأنّك امرأته فكيف أصنع هذا الشرّ العظيم؟ و اُخطئ إلى الله؟ و كان إذ كلّمت يوسف يوماً فيوماً أنّه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.

ثمّ حدث نحو هذا الوقت أنّه دخل البيت ليعمل عمله و لم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي فترك ثوبه في يدها و هرب و خرج إلى خارج، و كان لمّا رأت أنّه ترك ثوبه في يدها و هرب إلى خارج أنّها نادت أهل بيتها و كلّمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبرانيّ ليداعبنا. دخل إليّ ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، و كان لمّا سمع أنّي رفعت صوتي

____________________

(١) الإصحاح ٣٩ من سفر التكوين.

٢٨٩

و صرخت أنّه ترك ثوبه بجانبي و هرب و خرج إلى خارج.

فوضعت ثوبه بجانبها حتّى جاء سيّده إلى بيته فكلّمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إليّ العبد العبرانيّ الّذي جئت به إلينا ليداعبني و كان لمّا رفعت صوتي و صرخت أنّه ترك ثوبه بجانبي و هرب إلى خارج.

فكان لمّا سمع سيّده كلام امرأته الّذي كلّمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أنّ غضبه حمي فأخذ يوسف سيّده و وضعه في بيت السجن المكان الّذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، و كان هناك في بيت السجن.

و لكن الربّ كان مع يوسف و بسط إليه لطفا و جعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الّذين في بيت السجن، و كل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، و لم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئاً ألبتّة ممّا في يده لأنّ الربّ كان معه، و مهما صنع كان الربّ ينجحه.

ثمّ(١) ساقت التوراة قصّة صاحبي السجن و رؤياهما و رؤيا فرعون مصر و ملخّصه أنّهما كانا رئيس سقاة فرعون و رئيس الخبّازين أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه أنّه يعصر خمراً، و الآخر أنّ الطير تأكل من طعام حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبّر رؤيا الأوّل برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق، و الثاني بصلبه و أكل الطير من لحمه، و سأل الساقي أن يذكره عند فرعون لعلّه يخرج من السجن لكنّ الشيطان أنساه ذلك.

ثمّ بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر و سبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون ثمّ نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة و سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقيّة نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون

____________________

(١) الإصحاح ٤١ من سفر التكوين.

٢٩٠

ذلك و جمع سحرة مصر و حكمائها و قصّ عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.

و عند ذلك ادّكر رئيس السقاة يوسف فذكره لفرعون و ذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام فأمر فرعون بإحضاره فلمّا اُدخل عليه كلّمه و استفتاه فيما رآه في منامه مرّة بعد اخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد أخبر الله فرعون بما هو صانع: البقرات السبع الحسنة في سبع سنين و سنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، و البقرات السبع الرقيقة القبيحة الّتي طلعت وراءها هي سبع سنين و السنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقيّة يكون سبع سنين جوعا.

هو الأمر الّذي كلّمت به فرعون قد أظهر الله لفرعون و ما هو صانع، هو ذا سبع سنين قادمة شعباً عظيماً في كلّ أرض مصر ثمّ تقوم بعدها سبع سنين جوعا فينسى كلّ السبع في أرض مصر و يتلف الجوع الأرض، و لا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده لأنّه يكون شديداً جدّاً، و أمّا عن تكرار الحلم على فرعون مرّتين فلأنّ الأمر مقرّر من عند الله و الله مسرع لصنعه.

فالآن لينظر فرعون رجلا بصيراً و حكيماً و يجعله على أرض مصر يفعل فرعون‏ فيوكّل نظّارا على الأرض و يأخذ خمس غلّة أرض مصر في سبع سني الشبع فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيّدة القادمة و يخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاماً في المدن و يحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع الّتي تكون في أرض مصر فلا تنقرض الأرض بالجوع.

قالت التوراة ما ملخّصه أنّ فرعون استحسن كلام يوسف و تعبيره و أكرمه و أعطاه إمارة المملكة في جميع شؤونها و خلع عليه بخاتمه و ألبسه ثياب بوص و وضع طوق ذهب في عنقه و أركبه في مركبته الخاصّة و نودي أمامه: أن اركعوا، و أخذ يوسف يدبّر الاُمور في سني الخصب ثمّ في سني الجدب أحسن إدارة.

ثمّ(١) قالت التوراة ما ملخّصه أنّه لمّا عمّت السنة أرض كنعان أمر يعقوب

____________________

(١) الإصحاح ٤٢- ٤٣ من سفر التكوين.

٢٩١

بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاما فساروا و دخلوا على يوسف فعرفهم و تنكّر لهم و كلّمهم بجفاء و سألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها قالوا: نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان كنّا اثني عشر أخا فقد منّا واحد و بقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا، و الباقون بحضرتك و نحن جميعا اُمناء لا نعرف الفساد و الشرّ.

قال يوسف: لا و حياة فرعون نحن نراكم جواسيس و لا نخلّي سبيلكم حتّى تحضرونا أخاكم الصغير حتّى نصدّقكم فيما تدّعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيّام ثمّ أحضرهم و أخذ من بينهم شمعون و قيّده أمام عيونهم و أذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان و يجيؤا بأخيهم الصغير.

ثمّ أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا و تردّ فضّة كلّ واحد منهم إلى عدله ففعل فرجعوا إلى أبيهم و قصّوا عليه القصص فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم و قال. أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود و شمعون مفقود و بنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبداً و قال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إنّ لكم أخا تركتموه عندي قالوا: إنّه سأل عنّا و عن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حيّ بعد؟ و هل لكم أخ آخر فأخبرناه كما سألنا و ما كنّا نعلم أنّه سيقول. جيئوا إليّ بأخيكم.

فلم يزل يعقوب يمتنع حتّى أعطاه يهودا الموثق أن يردّ إليه بنيامين فأذن في ذهابهم به معهم، و أمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل و أن يأخذوا معهم أصرّة الفضّة الّتي ردّت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.

و لمّا وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على اُموره و أخبروه بحاجتهم و أنّ بضاعتهم ردّت إليهم في رحالهم و عرضوا له هديّتهم فرحّب بهم و أكرمهم و أخبرهم أنّ فضّتهم لهم و أخرج إليهم شمعون الرهين ثمّ أدخلهم على يوسف فسجدوا له و قدّموا إليه هديّتهم فرحّب بهم و استفسرهم عن حالهم و عن سلامة أبيهم و عرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه و دعا له ثمّ أمر بتقديم الطعام فقدّم له وحده، و لهم وحدهم و لمن عنده من المصريّين وحدهم.

٢٩٢

ثمّ أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما و أن يدسّ فيها هديّتهم و أن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل فلمّا أضاء الصبح من غد شدّوا الرحال على الحمير و انصرفوا.

فلمّا خرجوا من المدينة و لمّا يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم و قل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة سرقتم طاس سيّدي الّذي يشرب فيه و يتفأل به فتبهّتوا من استماع هذا القول، و قالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضّة الّتي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيّدك فضّة أو ذهبا، من وجد الطاس في رحله يقتل و نحن جميعا عبيد سيّدك فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، و أنزل كلّ واحد منهم عدله و فتحه فأخذ يفتّشها و ابتدأ من الكبير حتّى انتهى إلى الصغير و أخرج الطاس من عدله.

فلمّا رأى ذلك إخوته مزّقوا ثيابهم و رجعوا إلى المدينة و دخلوا على يوسف و أعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب و عليهم سيماء الصغار و الهوان و الخجل فقال: حاشا أن نأخذ إلّا من وجد متاعنا عنده، و أمّا أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.

فتقدّم إليه يهوذا و تضرّع إليه و استرحمه و ذكر له قصّتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فأبى أشدّ الإباء حتّى آتاه يهوذا الميثاق على أن يردّ بنيامين إليه و ذكر أنّهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم و ليس معهم بنيامين، و أنّ أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ثمّ سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه و يطلق بنيامين لتقرّ بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من اُمّه يوسف.

قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده فصرخ أخرجوا كلّ إنسان عنّي فلم يقف أحد عنده حين عرّف يوسف إخوته بنفسه

٢٩٣

فأطلق صوته بالبكاء فسمع المصريّون و سمع بيت فرعون، و قال يوسف لإخوته: أنا يوسف أ حيّ أبي بعد؟ فلمّا يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنّهم ارتاعوا منه.

و قال يوسف لإخوته: تقدّموا إليّ، فتقدّموا فقال: أنا يوسف أخوكم الّذي بعتموه إلى مصر و الآن لا تتأسّفوا و لا تغتاظوا لأنّكم بعتموني إلى هنا لأنّه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدّامكم لأنّ للجوع في الأرض الآن سنتين و خمس سنين أيضاً لا يكون فيها فلاحة و لا حصاد فقد أرسلني الله قدّامكم ليجعل لكم بقيّة في الأرض و ليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله و هو قد جعلني أبا لفرعون و سيّدا لكلّ بيته و متسلّطا على كلّ أرض مصر.

أسرعوا و أصعدوا إلى أبي و قولوا له هكذا يقول ابنك يوسف: أنزل إليّ لا تقف فتسكن في أرض جاسان و تكون قريباً منّي أنت و بنوك و بنو بيتك و غنمك و بقرك و كلّ ما لك، و أعولك هناك لأنّه يكون أيضاً خمس سنين جوعا لئلّا تفتقر أنت و بيتك و كلّ ما لك، و هو ذا عيونكم ترى و عينا أخي بنيامين أنّ فمي هو الّذي يكلّمكم، و تخبرون أنّي بكلّ مجدي في مصر و بكلّ ما رأيتم و تستعجلون و تنزلون بأبي إلى هنا ثمّ وقع على عين بنيامين أخيه و بكى، و بكى بنيامين على عنقه و قبّل جميع إخوته و بكى عليهم.

ثمّ قالت التوراة: ما ملخّصه أنّه جهّزهم أحسن التجهيز و سيّرهم إلى كنعان فجاؤا أباهم و بشّروه بحياة يوسف و قصّوا عليه القصص فسّر بذلك و سار بأهله جميعا إلى مصر و هم جميعا سبعون نسمة و وردوا أرض جاسان من مصر و ركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه و لقيه قادما فتعانقا و بكى طويلا ثمّ أنزله و بنيه و أقرّهم هناك و أكرمهم فرعون إكراما بالغا و آمنهم و أعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر و عالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة و عاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة.

هذا ما قصّته التوراة من قصّة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخّصه إلّا في بعض فقراتها لمسيس الحاجة.

٢٩٤

( كلام في الرؤيا في فصول)

١- الاعتناء بشأنها: كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى و المنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخيّ، و عند كلّ قوم قوانين و موازين متفرّقة متنوّعة يزنون بها المنامات و يعبّرونها بها و يكشفون رموزها، و يحلّون بها مشكلات إشاراتها فيتوقّعون بذلك خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً بزعمهم.

و قد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه (عليه السلام) قال:( فلمّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ - إلى أن قال -وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) الصافّات: ١٠٥.

و منها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (عليه السلام)( إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) يوسف: ٤.

و منها رؤيا صاحبي يوسف في السجن:( قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف: ٣٦.

و منها رؤيا الملك:( وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ) يوسف: ٤٣.

و منها رؤيا اُمّ موسى قال تعالى:( إِذْ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّكَ ما يُوحى‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ) طه: ٣٩ على ما ورد في الروايات أنّه كان رؤيا.

و منها ما ذكر من رؤي رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال تعالى:( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ) الأنفال: ٤٣، و قال:( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) الفتح: ٢٧ و قال:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي

٢٩٥

أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) الإسراء: ٦٠.

و قد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تصدّق ذلك و تؤيّده.

لكنّ الباحثين من علماء الطبيعة من اُوربه لا يرون لها حقيقة و لا للبحث عن شأنها و ارتباطها بالحوادث الخارجيّة وزنا علميّا إلّا بعضهم من علماء النفس ممّن اعتنى بأمرها، و احتجّ عليهم ببعض المنامات الصحيحة الّتي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو اُمور خفيّة إنباء عجيباً لا سبيل إلى حمله على مجرّد الاتّفاق و الصدفة، و هي منامات كثيرة جدّاً مرويّة بطرق صحيحة لا يخالطها شكّ، كاشفة عن حوادث خفيّة أو مستقبلة أوردها في كتبهم.

٢- و للرؤيا حقيقة: ما منّا واحد إلّا و قد شاهد من نفسه شيئاً من الرؤى و المنامات دلّه على بعض الاُمور الخفيّة أو المشكلات العلميّة أو الحوادث الّتي ستستقبله من الخير أو الشرّ أو قرع سمعه بعض المنامات الّتي من هذا القبيل، و لا سبيل إلى حمل ذلك على الاتّفاق و انتفاء أيّ رابطة بينها و بين ما ينطبق عليها من التأويل. و خاصّة في المنامات الصريحة الّتي لا تحتاج إلى تعبير.

نعم ممّا لا سبيل أيضاً إلى إنكاره أنّ الرؤيا أمر إدراكيّ و للخيال فيها عمل، و المتخيّلة من القوى الفعّالة دائماً ربّما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحسّ كاللمس و السمع، و ربّما تأخذ صوراً بسيطة أو مركّبة من الصور و المعاني المخزونة عندها فتحلّل المركّبات كتفصيل صورة الإنسان التامّة إلى رأس و يد و رجل و غير ذلك و تركّب البسائط كتركيبها إنساناً ممّا اختزن عندها من أجزائه و أعضائه فربّما ركّبته بما يطابق الخارج و ربّما ركّبته بما لا يطابقه كتخيّل إنسان لا رأس له أو له عشرة رؤس.

و بالجملة للأسباب و العوامل الخارجيّة المحيطة بالبدن كالحرّ و البرد و نحوها و الداخليّة الطارئة عليه كأنواع الأمراض و العاهات و انحرافات المزاج و امتلاء المعدة و التعب و غيرها تأثير في المتخيّلة فلها تأثير في الرؤيا.

٢٩٦

فترى أنّ من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤجّجة أو الشتاء و الجمد و نزول الثلوج، و أنّ من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام و بركان الماء و نزول الأمطار و نحو ذلك، و أنّ من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوّشة لا ترجع إلى طائل.

و كذلك الأخلاق و السجايا الإنسانيّة شديدة التأثير في نوع تخيّله فالّذي يحب إنساناً أو عملاً لا ينفكّ بتخيّله في يقظته و يراه في نومته و الضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيّل إثره اُموراً هائلة لا إلى غاية، و كذلك البغض و العداوة و العجب و الكبر و الطمع و نظائرها كلّ منها يجر الإنسان إلى تخيّله صور متسلسلة تناسبه و تلائمه، و قلّما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.

و لذلك كان أغلب الرؤى و المنامات من التخيّلات النفسانيّة الّتي ساقها إليها شي‏ء من الأسباب الخارجيّة و الداخليّة الطبيعيّة و الخلقيّة و نحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلّا كيفيّة عمل تلك الأسباب و أثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.

و هذا هو الّذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثّرة في الخيال العمّالة في إدراك الإنسان.

و من المسلم ما أورده غير أنّه لا ينتج إلّا أنّ كلّ الرؤيا ليس ذا حقيقة و هو غير المدّعى و هو أنّ كلّ منام ليس ذا حقيقة فإنّ هناك منامات صالحة و رؤيا صادقة تكشف عن حقائق و لا سبيل إلى إنكارها و نفي الرابطة بينها و بين الحوادث الخارجيّة و الاُمور المستكشفة كما تقدّم.

فقد ظهر ممّا بيّنا أنّ جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أنّ هذه الإدراكات المتنوّعة المختلفة الّتي تعرض النفس الإنسانيّة في المنام و هي المسمّاة بالرؤى لها اُصول و أسباب تستدعي وجودها للنفس و ظهورها للخيال و هي على اختلافها تحكي و تمثّل باُصولها و أسبابها الّتي استدعتها فلكلّ منام تأويل و تعبير غير أنّ تأويل

٢٩٧

بعضها السبب الطبيعيّ العامل في البدن في حال النوم، و تأويل بعضها السبب الخلقيّ و بعضها أسباب متفرّقة اتّفاقيّة كمن يأخذه النوم و هو متفكّر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهناً له.

و إنّما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، و هي لرؤى الّتي لا تستند إلى أسباب خارجيّة طبيعيّة، أو مزاجيّة أو اتّفاقيّة و لا إلى أسباب داخليّة خلقيّة أو غير ذلك، و لها ارتباط بالحوادث الخارجيّة. و الحقائق الكونيّة.

٣- المنامات الحقة: المنامات الّتي لها ارتباط بالحوادث الخارجيّة و خاصّة المستقبلة منها لمّا كان أحد طرفي الارتباط أمراً معدوماً بعد كمن يرى أنّ حادثة كذا وقعت ثمّ وقعت بعد حين كما رأى. و لا معنى للارتباط الوجودي بين موجود و معدوم، أو أمراً غائباً عن النفس لم يتّصل بها من طريق شي‏ء من الحواسّ كمن رأى أنّ في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا و من الفضّة كذا في وعاء صفته كذا و كذا ثمّ مضى إليه و حفر كما دلّ عليه فوجده كما رأى، و لا معنى للارتباط الإدراكيّ بين النفس و بين ما هو غائب عنها لم ينله شي‏ء من الحواسّ.

و لذا قيل: إنّ الارتباط إنّما استقرّ بينها و بين النفس النائمة من جهة اتّصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الّذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة و من طريق سببها بنفسها.

توضيح ذلك أنّ العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة و هو العالم الدنيويّ الّذي نعيش فيه و الأشياء الموجودة فيها صور مادّيّة تجري على نظام الحركة و السكون و التغيّر و التبدّل.

و ثانيها: عالم المثال و هو فوق عالم الطبيعة وجوداً، و فيه صور الأشياء بلا مادّة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعيّة و إليها تعود، و له مقام العلّيّة و نسبة السببيّة لحوادث عالم الطبيعة.

و ثالثها: عالم العقل و هو فوق عالم المثال وجوداً و فيه حقائق الأشياء و كلّيّاتها من غير مادّة طبيعيّة و لا صورة، و له نسبة السببيّة لما في عالم المثال.

٢٩٨

و النفس الإنسانيّة لتجرّدها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال و عالم العقل فإذا نام الإنسان و تعطّلت الحواسّ انقطعت النفس طبعا عن الاُمور الطبيعيّة الخارجيّة و رجعت إلى عالمها المسانخ لها و شاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد و الإمكان.

فإن كانت النفس كاملة متمكّنة من إدراك المجرّدات العقليّة أدركتها و استحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلّيّة و النوريّة، و إلّا حكتها حكاية خياليّة بما تأنس بها من الصور و الأشكال الجزئيّة الكونيّة كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلّيّة بتصوّر جسم سريع الحركة، و نحكي مفهوم العظمة بالجبل، و مفهوم الرفعة و العلوّ بالسماء و ما فيها من الأجرام السماويّة و نحكي الكائد المكّار بالثعلب و الحسود بالذئب و الشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

و إن لم تكن متمكّنة من إدراك المجرّدات على ما هي عليها و الارتقاء إلى عالمها توقّفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربّما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها و أسبابها من غير أن تتصرّف فيها بشي‏ء من التغيير، و يتّفق ذلك غالباً في النفوس السليمة المتخلّقة بالصدق و الصفاء، و هذه هي المنامات الصريحة.

و ربّما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء و التلبّس، و الفخار بالتاج و العلم بالنور و الجهل بالظلمة و خمود الذكر بالموت، و ربّما انتقلنا من الضدّ إلى الضدّ كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى و انتقالنا من تصوّر النار إلى تصوّر الجمد و من تصوّر الحياة إلى تصوّر الموت و هكذا، و من أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أنّ رجلاً رأى في المنام أنّ بيده خاتما يختم به أفواه الناس و فروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنّك ستصير مؤذّنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.

و قد تبيّن ممّا قدّمناه أنّ المنامات الحقّة تنقسم انقساماً أوّليّا إلى منامات صريحة لم تتصرّف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مؤنة، و منامات غير صريحة تصرّفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال و الانتقال من

٢٩٩

معنى إلى ما يناسبه أو يضادّه، و هذه هي الّتي تحتاج إلى التعبير بردّها إلى الأصل الّذي هو المشهود الأوّليّ للنفس كردّ التاج إلى الفخار، و ردّ الموت إلى الحياة و الحياة إلى الفرج بعد الشدّة و ردّ الظلمة إلى الجهل و الحيرة أو الشقاء.

ثمّ هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرّف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشي‏ء إلى ما يناسبه أو يضادّه و وقفت في المرّة و المرّتين مثلاً بحيث لا يعسر ردّه إلى أصله كما مرّ من الأمثلة. و ثانيهما ما تتصرّف فيه النفس من غير أن تقف على حدّ كان تنتقل مثلاً من الشي‏ء إلى ضدّه و من الضدّ إلى مثله و من مثل الضدّ إلى ضدّ المثل و هكذا بحيث يتعذّر أو يتعسّر للمعبّر أن يردّه إلى الأصل المشهود، و هذا النوع من المنامات هي المسمّاة بأضغاث الأحلام و لا تعبير لها لتعسّره أو تعذّره.

و قد بان بذلك أنّ هذه المنامات ثلاثة أقسام كلّيّة: و هي المنامات الصريحة و لا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، و أضغاث الأحلام و لا تعبير فيها لتعذّره أو تعسّره و المنامات الّتي تصرّفت فيها النفس بالحكاية و التمثيل و هي الّتي تقبل التعبير.

هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا و استقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.

٤- و في القرآن ما يؤيّد ذلك-: قال تعالى:( وَ هُوَ الّذي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ) الأنعام: ٦٠، و قال:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى) الزمر: ٤٢ و ظاهره أنّ النفوس متوفّاة و مأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلّق بالحواسّ الظاهرة راجعة إلى ربّها نوعاً من الرجوع يضاهي الموت.

و قد اُشير في كلامه إلى كلّ واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأوّل ما ذكر من رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و رؤيا اُمّ موسى و بعض رؤي النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و من القسم الثاني ما في قوله تعالى:( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) الآية: يوسف: ٤٤ و من القسم الثالث رؤيا يوسف و مناما صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) و أنّه في موضع التعليل لقوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) و المعنى أنّه تعالى إنّما جعل هذه المعقّبات و وكّلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغيّر في شي‏ء ممّا هو عليه لأنّ سنّته جرت أن لا يغيّر ما بقوم من الأحوال حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الحالات الروحيّة كأن يغيّروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغيّر الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ) إلخ، يدلّ بالجملة على أنّ الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسيّة الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحاً أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا ) الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيّروا حالهم في أنفسهم غيّر الله سبحانه حالهم الخارجيّة بتغيير النعم نقما.

و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أنّ بين حالات الإنسان النفسيّة و بين الأوضاع الخارجيّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيكفروا و يفسقوا فيغيّر الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغيّر الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصّة ما تعقّبه من قوله( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّه أصدق شاهد على أنّه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتّى يغيّروا فالتغيير لما كان إلى السيّئة كان الأصل أعني( ما بِقَوْمٍ ) لا يراد به إلّا الحسنة فافهم ذلك.

على أنّ الله سبحانه يقول:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ

٣٤١

يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ فيذكر أنّه يعفو عن كثير من السيّئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجيّة في جانب الشرّ بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّما دخل في الحديث لا بالقصد الأوّليّ لكنّه تعالى لمّا ذكر أنّ كلّ شي‏ء عنده بمقدار و أنّ لكلّ إنسان معقّبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغيّر أو يضطرب في وجوده و النعم الّتي اُوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيّرها عليهم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أنّ هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضاً من الاُمور المحكمة المحتومة الّتي ليس لمانع أن يمنع من تحقّقها، و إنّما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتمّ أنّ الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشرّ و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلّا إذا غيّروا ما بأنفسهم من سمات معبوديّة و مقتضيات الفطرة فلا مردّ لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثمّ قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) عطف تفسيريّ على قوله:( إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و يفيد معنى التعليل له فإنّه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنّ لكلّ من الناس على أيّ حال كان معقّبات يعقّبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغيّر حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الّذي يغيّر الحال إنّما يؤثّر أثره إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له لأنّهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتّى يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

٣٤٢

و قد تبيّن بذلك اُمور:

أحدها: أنّ الآية كالبيان التفصيلي لما تقدّم في الآيات السابقة من قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) فإنّ الجملة تفيد أنّ للأشياء حدوداً ثابتة لا تتعدّاها و لا تتخلّف عنها عندالله حتّى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصّل القول في الإنسان أنّ له معقّبات من بين يديه و من خلفه موكّلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلّق به من أن يهلك أو يتغيّر عمّا هو عليه، و لا يهلك و لا يتغيّر إلّا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنّه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلّا و عليه ملك موكّل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتّى يغيّر فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنيّة.

الثالث: أنّ هناك أمراً آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنّه يؤثّر فيما إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الّذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمّى الّذي لا يختلف و لا يتخلّف، قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

الرابع: أنّ أمره تعالى هو المهيمن المتسلّط على متون الأشياء و حواشيها على أيّ حال و أنّ كلّ شي‏ء حين ثباته و حين تغيّره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أنّ الأمر الإلهيّ و إن كان مختلفاً بقياس بعضه إلى بعض منقسماً إلى أمر حافظ و أمر مغيّر ذو نظام واحد لا يتغيّر و قد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود ٥٦، و قال:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣.

الخامس: أنّ من القضاء المحتوم و السنّة الجارية الإلهيّة التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كلّ قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهريّة و الباطنيّة و نزولها من عندالله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله

٣٤٣

تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦ و قوله:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ و قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أمّا شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله:( لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ) جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليّته، و لذلك غيّر السياق فقال:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مردّ له.

و يؤيّد هذا المعنى قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ حيث يدلّ صريحاً على أنّ بعض التغيير عند التغيير معفوّ عنه.

و أمّا الفرد من النوع فالكلام الإلهيّ يدلّ على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنويّة و على التغيّر عند التغيّر دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانيّة.

و الحكمة في ذلك كلّه ظاهرة فإنّ التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإنّ الله جعل للأنواع غايات و جهّزها بما يسوقها إلى غاياتها ثمّ بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئاً واحداً لا معاندة و لا مضادّة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوع في عافية و نعمة و كرامة حتّى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنسانيّ عن مقتضى فطرته الأصليّة و لا منحرف من الأنواع ظاهراً غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشداً، و أمّا إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البرّ و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما

٣٤٤

عملوا لعلّهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنّما يتمّ في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامّة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأنّ الأشخاص ربّما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإنّ بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨ و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنّها تفيد بظاهرها أنّه لا يقع تغيير النعم بقوم حتّى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أنّ ذلك خلاف ما قرّرته الشريعة من عدم جواز أخذ العامّة بذنوب الخاصّة هذا فإنّه أجنبيّ عن مفاد الآية بالكلّيّة.

هذا بعض ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و للمفسّرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتّى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) فمن قائل: إنّ الضمير راجع إلى( مِنْ ) في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، كما قدّمناه، و من قائل: إنّه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه. و فيه أنّه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنّه يوجب وقوع الالتفات في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إنّ الضمير للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و الآية تذكر أنّ الملائكة يحفظونه. و فيه أنّه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنّه يوجب عدم اتّصال الآية بسوابقها و لم يتقدّم للنبيّ- (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) ذكر.

و من قائل: إنّ الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقّبات فقيل: إنّ أصله المعتقبات صار معقّبات

٣٤٥

بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و ردّ بأنّه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنّه يطأ عقبه أي مؤخّر قدمه فقيل: إنّ المعقّبات ملائكة يعقّبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدّم، و قيل: المعقّبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقّب بعضهم بعضاً فملائكة الليل تعقّب ملائكة النهار و هم يعقّبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنّه خلاف ظاهر قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) على أنّ فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقّبات الأحراس و الشرط و المواكب الّذين يعقّبون الملوك و الاُمراء و المعنى: أنّ لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الاُمراء معقّبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهّما منهم أنّهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) فقيل: إنّه متعلّق بمعقّبات أي يعقّبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أنّ التعقيب لا يتحقّق إلّا من خلف، و قيل: متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلّق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقّبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدّم.

و من جهة اُخرى قيل: إنّ المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدّامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدّم من أعماله و ما تأخّر يحفظها عليه الملائكة الحفّظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشؤون الجسميّة و الروحيّة ممّا له في حاضر حاله و ما خلّفه وراءه و هو الّذي قدّمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) فقيل هو بمعنى يحفظون

٣٤٦

عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضارّ.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) فقيل: هو متعلّق بقوله:( مُعَقِّباتٌ ) و أنّ قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) و قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) ثلاث صفات لمعقّبات. و فيه أنّه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و( مِنْ ) بمعنى الباء للسببيّة أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلّق بيحفظونه و( مِنْ ) للابتداء أو للنشوّ أي يحفظونه مبتدءً ذلك أو ناشئاً ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن( مِنْ ) بمعنى( عن ) أي يحفظونه عن أمر الله أن يحلّ به و يغشاه و فسّروا الحفظ من أمر الله بأنّ الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلّما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعلّه يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنيّ عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ فقيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) و قد تقدّم معناه، و قيل: متّصل بقوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أو قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متّصل بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية يعني أنّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) محفوظ بالملائكة. و الحقّ أنّه متّصل بقوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) و نوع بيان له، و قد تقدّم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ فقيل: إنّه متّصل بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) الآية أي أنّه لا ينزل العذاب إلّا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتّى لو علم أنّ فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممّن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) يعني أنّه إذا اقترف المعاصي فقد غيّر ما به من سمة العبوديّة و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحقّ أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ، تعليل لما تقدّمه من قوله:( يَحْفَظُونَهُ

٣٤٧

مِنْ أَمْرِ الله ) و قد مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحسّ بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله:( يُرِيكُمُ ) و قوله:( يُنْشِئُ ) يؤيّد المعنى الأوّل.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير( يُرِيكُمُ ) أي خائفين و طامعين.

و المعنى: هو الّذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أنّ المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البرّ يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات الّتي تثقل بالمياه الّتي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة الناريّة النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبيّن أيّهما أشدّ و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:( وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي الله وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) معناه - و الله أعلم - أنّ الوثنيّين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسّك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الداعي و يتأتّى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعوّ على الداعي عن دعائه،

٣٤٨

و أمّا اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متمّمة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنّما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعوّ ذا نظر يمكن أن يوجّه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أمّا دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحقّ الدعاء و إن كان في صورته.

و لمّا كانت الآية الكريمة قرّر فيها التقابل بين قوله( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و بين قوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ، الّذي يذكر أنّ دعاء غيره خال عن الاستجابة ثمّ يصف دعاء الكافرين بأنّه في ضلال علمنا بذلك أنّ المراد بقوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) الدعوة الحقّة غير الباطلة و هي الدعوة الّتي يسمعها المدعوّ ثمّ يستجيبها ألبتّة، و هذا من صفاته تعالى و تقدّس فإنّه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغنيّ ذو الرحمة و قد قال:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلّا أن تتحقّق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلّق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحقّ من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقيّة بعناية أنّ الحقّ و الباطل كأنّهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحقّ و هو الّذي لا يتخلّف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الّذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّه عليم بكلّ شي‏ء و أنّ له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أنّ له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنّه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حقّ الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أمّا الأوّل فقوله:( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيّده ما بعده من نفيه عن غيره، و أمّا الثاني فقوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) و قد أخبر فيه أنّ

٣٤٩

الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بيّن ذلك في مواضع من كلامه فإنّ هؤلاء المدعوّين إمّا أصنام يدعوهم عامّتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إمّا أرباب الأصنام من الملائكة أو الجنّ و روحانيّات الكواكب و البشر كما ربّما يتنبّه له خاصّتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً فكيف بغيرهم و لله الملك كلّه و له القوّة كلّها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثمّ استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:( كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) .

فإنّ الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثمّ يبسط كفّيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حقّ الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أمّا الظمآن البعيد من الماء يريد الريّ لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنّه يبسط إليه كفّيه يبلغ فاه فليس يبلغ ألبتّة فاه و ليس له من طلبه إلّا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلّا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمّى فهؤلاء المدعوّون من دون الله لا يستجيبون للّذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلّا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلّا صورة الطلب ببسط الكفّين.

و من هنا يعلم أنّ هذا الاستثناء( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ) إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمّن إلّا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإنّ مفاده أنّ الّذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة اُخرى لن ينالوا بدعائهم إلّا أن لا ينالوا شيئاً أي لن ينالوا شيئاً ألبتّة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي:( قُلْ

٣٥٠

أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) و آكد منه كما سيجيي‏ء إن شاء الله.

و قد تبيّن بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ قوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) المراد به حقّ الدعاء و هو الّذي يستجاب و لا يردّ ألبتّة، و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانياً: أنّ تقدير قوله( وَ الّذينَ يَدْعُونَ ) إلخ بإظهار الضمائر: الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اُولئك المدعوّون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثاً: أنّ الاستثناء من قوله:( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئاً إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعلّ الاستجابة مضمّن معنى النيل و نحوه.

ثمّ أكّد سبحانه الكلام بقوله:( وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة اُخرى و هي أنّه لا غرض لدعاء إلّا الله سبحانه فإنّه العليم القدير و الغنيّ ذو الرحمة فلا طريق له إلّا طريق التوجّه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضلّ دعاؤه فإنّ الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) يوسف: ١٠٠، و قال:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشّقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمّها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

٣٥١

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أوّل النهار، و قوبل في القرآن الغدوّ بالآصال نحو قوله:( بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و قوبل الغداة بالعشيّ قال:( بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) انتهى و الغدوّ جمع غداة كقنىّ و قناة و قال في المجمع: الآصال جمع اُصل - بضمّتين - و اُصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنّه أصل الليل الّذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعيّة الّتي يؤتى بها لأغراض معنويّة كالتصدّر الّذي يمثّل به الرئاسة و التقدّم الّذي يمثّل به السيادة و الركوع الّذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الّذي يظهر به نهاية تذلّل الساجد و ضعته قبال تعزّز المسجود له و اعتلائه تسمّى غاياتها بأساميها كما تسمّى نفسها فكما يسمّى التقدّم تقدّماً كذلك تسمّى السيادة تقدّماً و كما أنّ الانحناء الخاصّ ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاصّ ركوع و كما أنّ الخرور على الأرض سجود كذلك التذلّل سجود كلّ ذلك بعناية أنّ الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي الّتي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) البقرة: ١١٦ و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أسرى: ٤٤ و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩ و قوله:( وَ لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الاُمور المنسوبة إلى الأشياء الكونيّة و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنسانيّ أنّ الغايات موجودة في القسم الأوّل بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنّها إنّما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلّة المكوّنات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلّة وضعة حقيقيّة بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنّه ذلّة وضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربّما يتخلّف.

فقوله تعالى:( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أخذ بما تقدّم من

٣٥٢

النظر و لعلّه إنّما خصّ اُولي العقل بالذكر حيث قال:( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مع شمول هذه الذلّة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدّمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال:( وَ ظِلالُهُمْ ) إلخ، لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكأنّ في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتّى أنّ ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضاً تعلّقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثمّ إنّ هذا التذلّل و التواضع، الّذي هو من عامّة الموجودات لساحة ربّهم عزّ و علا، خضوع ذاتيّ لا ينفكّ عنها و لا يتخلّف فهو بالطوع ألبتّة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتّى يتوهّم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم ألبتّة غير أنّ هناك عناية اُخرى ربّما صحّحت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أنّ بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهّزة بطباع ربّما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب اُخر و هي الأشياء المستقرّة في عالمنا هذا عالم المادّة الّتي ربّما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرّقة و لا شكّ أنّ مخالف الطبع مكروه كما أنّ ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنّها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الّذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم إنّ المراد بالسجدة هو الحقيقيّ منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلاً فهم جميعاً ساجدون غير أنّ المؤمن يسجد

٣٥٣

طوعاً و الكافر يسجد خوفاً من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إنّ المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكلّ إلّا أنّ ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحلّ به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائيّ.

و كذا قول آخرين: إنّ المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من اُولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخصّ اُولي العقل للتغليب.

و أمّا قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإنّ الظلّ و إن كان عدميّا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلّا أنّ له آثاراً خارجيّة و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافاً ظاهراً للحسّ فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنّما خصّ الغدوّ و الآصال بالذكر لا لما قيل: إنّ المراد بهما الدوام لأنّه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو اُريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتّى يعمّ جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أنّ الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثّلان للحسّ السقوط على الأرض و ذلّة السجود، و أمّا وقت الظهيرة و أوساط النهار فربّما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شكّ في أنّ سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيّؤها، و ليس النظر مقصوراً على مجرّد طاعتها التكوينيّة في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لله وَ هُمْ داخِرُونَ ) النحل: ٤٨ فإنّ العناية بذلك ظاهرة فيه.

٣٥٤

و ليس ذلك قولاً شعريّاً و تصويراً تخييليّاً يتوسّل به في الدعوة الحقّة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نصّ أنّه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحسّ إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحسّ نوع ظهور و يتمثّل لها بوجه كان من الحريّ أن يستمدّ به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحسّ و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنّه من الحسّ و الخيال الحقّ المستظهر بالحقائق المؤيّد بالحقّ فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عدّه تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيّئة من الأجسام المنتصبة بالغدوّ و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من اُولي العقل.

و من هذا الباب أيضاً ما تقدّم من قوله:( وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الّذي يمثّل لساناً ناطقاً بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشّر به بالريح و السحاب و البرق مع أنّ الأشياء قاطبة مسبّحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتيّ منهم و دلالته دلالة ذاتيّة عقليّة غير مرتبطة بالدلالات اللفظيّة الّتي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكنّ الرعد بصوته الشديد الهائل يمثّل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتيّ فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتيّ الّذي يقوم بذات كلّ شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدّم في مفتتح السورة في قوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) و قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) الآية أنّ التمسّك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالاُمور المجهول أسبابها عند الحسّ ليس لأنّ سببيّته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الاُمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإنّ القرآن الكريم ينصّ على عموم قانون السببيّة و أنّه تعالى

٣٥٥

فوق الجميع بل لأنّ الاُمور الّتي لا تظهر أسبابها على الحسّ لبادئ نظرة تنبّه الأفهام البسيطة و تمثّل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أوّل هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدوّ و الآصال على الأرض سجوداً منها لله سبحانه مبنيّة على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتيّة الّتي لها في ذواتها بمثال حسّيّ ينبّه الحسّ لمعنى السجدة الذاتيّة و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقليّة.

هذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، و أمّا حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعريّة أو جعلها مجازاً مثلاً يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنّها توجد كما شاء أو القول بأنّ المراد بالظلّ هو الشخص فإنّ من يسجد يسجد ظلّه معه فإنّ هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) الآية بما تشتمل على أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أنّ الآيات السابقة تبيّن بأوضح البيان أنّ تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أنّ خلقها منه و أنّه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أنّ كلّ من دونه مخلوق مدبّر لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و ينتج ذلك أنّه الربّ دون غيره.

فأمر تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يسجّل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحقّ لهم بقوله:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي من هو الّذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبّر أمرها؟ ثمّ أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول:( اللَّهُ ) لأنّهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبيّة و في ذلك تلويح إلى أنّهم لا يعقلون حجّة

٣٥٦

و لا يفقهون حديثا.

ثمّ استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتّضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أنّ مقتضى ربوبيّته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنّه هو المالك للنفع و الضرر فكلّ من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا فكيف لغيره؟ فاتّخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرّا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

و هذا هو المراد بقوله مفرّعاً على السؤال السابق:( قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟ أي إذا كان الله سبحانه هو ربّ السماوات و الأرض فقد قلتم باتّخاذكم أولياء آلهة من دونه قولاً يكذّبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنّهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبيّة لهم.

و بالتأمّل فيما قدّمناه أنّ الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبيّن ما تقدّم فمن ربّ السماوات و الأرض إلّا الله؟ أ فأتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعاً و لا ضرّاً؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرّة بعد مرّة إنّما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجّة و إتمامها عليهم و أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يضربهما لهم يبيّن بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجّة الحقّة و الآيات البيّنات غير المسلّم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوّي بينهما ببديهة عقله، و يبيّن بالثاني أنّ الكفر بالحقّ ظلمات كما أنّ الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحقّ نور كما أنّ المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان ألبتّة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلّموا للحقّ

٣٥٧

و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ - إلى قوله -وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) في التعبير بقوله:( جَعَلُوا ) و( عَلَيْهِمْ ) دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذي يتضمّنه قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل على أنّ السؤال إنّما هو عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلّا لأنّهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرّر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكاً في الخلق و الإيجاد و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبيّة لا في توحيد الاُلوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبيّة و تتمّ الحجّة عليهم لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع الله سبحانه إلّا أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) يقول لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الربوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلّا أن يقولوا بشركة شركائهم في

٣٥٨

الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقاً كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالاً مع الله.

ثمّ أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ :) يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار، و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمّل في ذلك و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما اُقيمت لإثبات الصانع فتنبّه لذلك.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفّار في البصائر، و العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( أنا المنذر و عليّ الهادي) أنّي مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علىّ مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أنّ المراد بالمنذر هو رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المراد بالهادي هو عليّ (عليه السلام) فإنّ ذلك مناف لظاهر الآية ألبتّة.

٣٥٩

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلميّ و ابن عساكر و ابن النجّار قال: لمّا نزلت:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وضع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبيّ في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلميّ قال: دعا رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بيد عليّ بعد ما تطهّر فألصقها بصدره ثمّ قال:( إنّما أنت منذر) و يعني نفسه ثمّ ردّها إلى صدر عليّ ثمّ قال:( و لكلّ قوم هاد) ثمّ قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القرّاء أشهد على ذلك إنّك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزبانيّ في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و ابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: و من طرق أهل السنّة في هذا المعنى روايات اُخرى كثيرة.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: كلّ إمام هاد لكلّ قوم في زمانهم.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم.

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431