الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81290 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

= فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الأشعث بإمرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للإجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخياً: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هو الإشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليداً متبعاً، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها.

ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ـ (أمير المؤمنين) مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد ألغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله.

ومهما يكن من أمر فإن أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو أمية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣.

بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الأمراء شعرا، فقال:

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجباً زاد على كل العجب

عـجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثـوا أحـمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كـذبـوا والله مـا نـعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أمية هذه:

وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٤١

= وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: (.. ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر الخ).

ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضاً أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الأمويين أو على العباسيين..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دوراً هاماً في الخلافة الإسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الإسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيتعليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته.

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك، فإن منصب الخلافة في الإسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الأمة قيادة صالحة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين: من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، =

٤٢

= بالقول، تصريحاً، وتلويحاً، وكناية، ونصاً، ووصفاً، وغير ذلك، وبالفعل أيضاً، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها، ولم يؤمر عليه أحداً، وغير ذلك..

هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.. ) وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : ((وا عجباً!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!!)). هكذا في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ولكن الظاهر هو أنها محرفة، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن أبي الحديد، وهي هكذا ((وا عجباً!! أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة!!)).

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: (الزموهم بما ألزموا به أنفسهم). ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام عليعليه‌السلام لأبي بكر، عندما جيء به ليبايع، فكان مما قاله: ((.. واحتججتم عليهم -أي على الأنصار- بالقرابة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ)).. راجع: الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضاًعليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضاً ما نسب إليهعليه‌السلام من الشعر(على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:

فـإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فـكيف بـهذا والـمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فـغيرك أولـى بـالنبي وأقـرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٦١، و ص ٣٠٠، و ص ٢٢٢، و ص ٢٣٥، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص ٥.

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص ٢٠٨، ٢١٢: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضاً حيث قال: (أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ).=

٤٣

= وهي نسبة غريبة حقاً ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم ـ فإن عقيدة الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائراً مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.

إنهم يستدلون على خلافة عليعليه‌السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقداً بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهمعليهم‌السلام . من أن عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة عليعليه‌السلام بالنص، لا بالقربى!!..

وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعاً لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:

(رمتني بدائها وانسلت).

وأخيراً.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستاراً من القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء.

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..

٤٤

وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، والياً عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال:

(.. أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب)(١) .

ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم..) وأشار إلى السفاح(٢) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧، ٨٨، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣، وإمبراطورية العرب ص ٤٢٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥، وفيه: (إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ).. وبرواية أخرى فيه: (أقسم بالله قسماً براً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا)..

٤٥

وقال المنصور في خطبة له: (وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه..)(١) .

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الإرث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لأن العباس نفسه كان قد أجازها.

كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الإرث عن هذا الطريق..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنها في ولده(٢) .

وكان الرشيد يقول: (ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله)(٣) . وقال الأمين عندما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: (.. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد..) (٤) .

ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له:

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولاً، فنقول:

إن تغدروا جهلاً بوارث أحمد

ووصي كل مسدد وموفق(٥)

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١، إلى ٨٥، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٦

دعوى الأخذ بثارات العلويين:

وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: (وسنأخذ بثأرهم..) يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضاً قول داوود ابن علي: (وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)..

ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: (ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم)(١) .

ويقول صالح بن علي لبنات مروان: (ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟!

ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان؟!

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١، وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧، نقلاً عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. (.. وقد قتلت بالحسين ألفاً من بني أمية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني أمية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب)..

٤٧

ألم يقتل الدعي عبيد الله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين(١) ؟!.

وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: (.. إذن، لا نستبقي منكم أحداً، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل.

وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام..)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أموياً مرة واحدة(٣) .

وكذلك فإنهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية بـ‍ (وزير آل محمد)، وأبا مسلم الخراساني بـ‍ (أمين، أو أمير آل محمد)(٤) . إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم‌السلام ، ولتبقى ـ من ثم ـ محتفظة بقوتها، وحيويتها.

وأخيراً.. فلم يكن اتخاذهم السواد شعاراً إلا تعبيراً عن الحزن والأسى

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٤٧، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضاً ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٢٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٩٢.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٥، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٧١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٤، والطبري ج ١٠ ص ٦٠، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، جزء ١ ص ١٥٢، وغيرهم، فإنه مما نص عليه أكثر المؤرخين..

٤٨

لما نال أهل البيت في عهد بني أمية(١) .

وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه..

بل إن من الملاحظ أن كثيراً من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: (الرضا من آل محمد).

نهاية المطاف..

وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الأسلوب الذي انتهجه العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم..

____________

(١) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لأجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص ٢٥٩، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية عليعليه‌السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فإن فلوتن في هامش: ص ١٢٦ من كتابه السيادة العربية، أو لأن رايات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك:

وإلا فارفعوا الرايات سوداً

على أهل الضلالة والتعدي

وفي صبح الأعشى ج ٣ ص ٣٧٠، نقلاً عن القاضي الماوردي في كتابه: (الحاوي الكبير): أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الأعشى أيضاً ج ٣ ص ٣٧١ نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن سبب ذلك هو قتل مروان لإبراهيم الإمام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعاراً لهم..

ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعاراً لهم، إظهارا للحزن والأسى لما نال أهل البيت في الدولة الأموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦. بل صرح البلاذري في أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٦٤ بما يدل على ذلك فراجع.

٤٩

وأيضاً الطريقة التي اتبعوها في إبعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعاً وتمويهاً، من أجل تنفيذ خطتهم، وإنجاح دعوتهم..

كما وظهر أن كون الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين، لم يكن أمراً عفوياً، وتلقائياً. وإنما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة.

وظهر أيضاً: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان.

وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الأمور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم.

ولكن.. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها؟!

هذا.. ما سوف نحاول الإجابة عليه فيما يأتي من الفصول.

مصدر الخطر على العباسيين

العلويون هم مصدر الخطر:

قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لأهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام . وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠

ومن هنا.. فإن من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم(١) ..

فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالإضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات.

أضف إلى ذلك كله: أن رجالات الإسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضي الله تعالى عنه)، فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، (رضوان الله عليهم أجمعين).

ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف..

وخلاصة الأمر: إنه لم يكن هناك مجال لإنكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فإن ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعناداً.

____________

(١) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظمعليه‌السلام والمأمون للرضاعليه‌السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضاً قوله للرضاعليه‌السلام : أنتم والله أمس برسول الله رحماً، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضاً، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ.

٥١

تخوف العباسيين من العلويين:

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:

أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: (قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم..)(١) .

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ(٢) .

خوف المنصور من العلويين

ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: (.. يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الأموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ٧٥٢، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٧٤، وتاريخ التمدن الإسلامي، وغير ذلك..

(٢) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج ١٠ ص ٤٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١.

٥٢

ثم لا ألومك..)(١) .

وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وإنما كل ما في الأمر أن المجتمع الإسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد عليعليه‌السلام . وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فإنه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية.

ومن جهة أخرى: كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الإمام الصادقعليه‌السلام ـ أنه مهدي هذه الأمة. ـ كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى..

ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الأيام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر إليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: (.. ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي، أم رأسي لإبراهيم؟)(٢) .

____________

(١) الطبري طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٤٨.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن الأموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ ٦٠٠ مليون درهم، و ١٤ مليون دينار. راجع أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٣٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨. وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١١٨، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور.

٥٣

وهيئت له آنئذٍ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: (أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله)(١) .

وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذٍ ـ إبلاً ودواباً، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى(٢) .

وفي حربه ـ أي المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جداً، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوماً(٣) .

وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه(٤) .

وأخيراً.. فكم من مرة رأيناه يجلب الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه.

فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات.

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٨. وهذا يعبر بوضوح عن نوعية تفكير خليفة المسلمين ونوعية طموحاته.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٣١٧، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٣. ومرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٩، وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٦، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، نقلاً عن تجارب الأمم لابن مسكويه ج ٤.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨، والمحاسن والمساوي ص ٣٧٣، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وأنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٨، ٢٩٩: (.. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك).

٥٤

حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: (.. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار)(١) .

وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس ـ ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ـ قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضاً طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

خوف المهدي من العلويين:

وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الإمام الكاظمعليه‌السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده(٢) .

كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن إبراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوماً لجلسائه: (لو وجدت رجلاً من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فاجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد)، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٤، ٢٩٥.

(٢) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الإمام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة.

وصرح في ينابيع المودة ص ٣٨٢، ٣٨٣ باتفاق المؤرخين على ذلك.

٥٥

بأنه: قد آخاه(١) . كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن إبراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه..

ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه(٢) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره وصار شعره كالأنعام..

خوف الرشيد من العلويين:

وأما الرشيد (الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة(٣) ،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٦٤، ٥٠٧، ٥٠٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٥٥ وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة:

بني أمية هبوا طال نومكـــم

إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعـود

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٢، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج ١ ص ٤١٩ وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص ١٥٥ أيضاً.

وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: (إن يعقوب رجل رافضي)..

ومع ذلك.. فإننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالإمام موسى ابن جعفرعليه‌السلام ، فراجع عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٧٣، وغيره..

(٣) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٧.

٥٦

فقد كان معنياً بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي.

وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى (خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد، وقلق من أمره). وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جداً، وفرح بذلك الصلح فرحاً عظيماً(١) . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور..

كما أنه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه أكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة ألف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه(٢) .

ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير أكثر الأئمة على يد الخلفاء قبله وبعده.

____________

(١) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ١٢٤، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٢، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، ١٣٢.

وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح ـ مع الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كانوا دائما يتهددون الأئمة ـ الذين ما كانوا يجدون الفرصة لأي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه ـ ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم ـ للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم و و. وكان الأئمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك!!

٥٧

وأما في زمن المأمون!

وأما في زمن المأمون: فقد كان الأمر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والأمصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الأنواء، ويضري به الأعصار.

عقدة الحقارة لدى العباسيين:

وكان ذلك بطبيعة الحال يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة.

يقول أبو فراس مشيراً إلى ذلك:

ثـم ادعاها بنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فيها ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمر لهم حكم

ولا رآهـم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

وقد كتب أبو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: (.. وأظهركم الله بعد الإخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ)(١) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٤. وغيره.

٥٨

وفي رسالة أخرى: (.. حتى عرفكم من كان جهلكم)(١) .

بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: (نحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو) كما سيأتي.

في مواجهة الخطر:

وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فإن عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئاً. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

فكيف عالج العباسيون الموقف؟!.

وما هو مدى نجاحهم في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.

سياسة العباسيين ضد العلويين

مما سبق:

قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم..

وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم..

وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة..

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٣، وغير ذلك.

٥٩

تطوير نظرية الإرث:

وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك لأنهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فإبراهيم الإمام، ثم منه إلى أخيه السفاح(١) وهكذا..

هذا.. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الأمويين، وغيرهم.

ويتضح إنكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل.

ومن ذلك أيضاً قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: (.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدوياً مرة، وأسدياً مرة وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته (يعني نفسه) يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ(٢) . وتقدم قول داوود ابن علي: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله الخ..) وروى أبو سليمان الناجي، قال: (جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي (الحميري)، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: إن فيها نصيحة للأمير، فأوصلها إليه. فأوصلها.

فإذا فيها:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٨، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٤٥٤، ٤٥٥، طبع سنة ١٣١٠، وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٦١، ١٦٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( سورة يوسف الآيات ١٠٣ - ١١١)

وَمَا أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( ١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين( ١٠٤) وَكَأَيّن مِنْ آيَةٍ فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ( ١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلّا وَهُم مُشْرِكُونَ( ١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلَى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ( ١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ اتّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ( ١٠٩) حَتّى‏ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَاءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( ١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى‏ وَلكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَي‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ١١١)

٣٠١

( بيان‏)

الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أنّ الإيمان الكامل و هو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلّا أقلّ قليل من الناس و أمّا الأكثرون فليسوا بمؤمنين و لو حرصت بإيمانهم و اجتهدت في ذلك جهدك، و الأقلّون و هم المؤمنون ما لهم إلّا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض و التوحيد الخالص إلّا أقلّ قليل.

و هذا التوحيد الخالص هو سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الّذي يدعو إليه على بصيرة هو و من اتّبعه، و أنّ الله ناصره و منجي من اتّبعه من المؤمنين من المهالك الّتي تهدّد توحيدهم و إيمانهم و عذاب الاستئصال الّذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.

و في قصصهم عبرة و بيان للحقائق و هدى و رحمة للمؤمنين.

قوله تعالى: ( وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا و انجذاب نفوسهم إلى زينتها و سهوهم عمّا اُودع في فطرهم من العلم بالله و آياته أن يؤمنوا به، و لو حرصت و أحببت إيمانهم، و الدليل على هذا المعنى الآيات التالية.

قوله تعالى: ( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) الواو حاليّة أي ما هم بمؤمنين و الحال أنّك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الّذي ننزّله عليك و تتلوه عليهم من أجر حتّى يصدّهم الغرامة الماليّة و إنفاق ما يحبّونه من المال عن قبول دعوته و الإيمان به.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) بيان لشأن القرآن الواقعيّ و هو أنّه ممحّض في أنّه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به و بآياته فما هو إلّا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة و الإعراض و ليس من الأمتعة الّتي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزّة أو جاه أو غير ذلك.

٣٠٢

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) الواو حاليّة و يحتمل الاستئناف و المرور على الشي‏ء هو موافاته ثمّ تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماويّة و الأرضيّة مشاهدتها واحدة بعد اُخرى.

و المعنى أنّ هناك آيات كثيرة سماويّة و أرضيّة تدلّ بوجودها و النظام البديع الجاري فيها على توحيد ربّهم و هم يشاهدونها واحدة بعد اُخرى فتتكرّر عليهم و الحال أنّهم معرضون عنها لا يتنبّهون.

و لو حمل قوله:( يَمُرُّونَ عَلَيْها ) على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيئة الحديثة من حركة الأرض وضعا و انتقالا فإنّا نحن المارون على الأجرام السماويّة بحركة الأرض الانتقاليّة و الوضعيّة لا بالعكس على ما يخيّل إلينا في ظاهر الحسّ.

قوله تعالى: ( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) الضمير في( أَكْثَرُهُمْ ) راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين و إن لم تسألهم عليه أجراً و إن كانوا يمرّون على الآيات السماويّة و الأرضيّة على كثرتها و الّذين آمنوا منهم - و هم الأقلّون - ما يؤمن أكثرهم بالله إلّا و هم متلبّسون بالشرك.

و تلبّس الإنسان بالإيمان و الشرك معاً مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محلّ واحد نظير تلبّسه بسائر الاعتقادات المتناقضة و الأخلاق المتضادّة إنّما يكون من جهة كونها من المعاني الّتي تقبل في نفسها القوّة و الضعف فتختلف بالنسبة و الإضافة كالقرب و البعد فإنّ القرب و البعد المطلقين لا يجتمعان إلّا أنّهما إذا كانا نسبيّين لا يمتنعان الاجتماع و التصادق كمكّة فإنّها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام، و كذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

و الإيمان بالله و الشرك به و حقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة

٣٠٣

الواجبيّة و تعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلّا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة و الإضافة فإنّ من الجائز أن يتعلّق الإنسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية و زينتها الباطلة و ينسى مع ذلك كلّ حقّ و حقيقة، و من الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس و يشغلها عن الله سبحانه و يتوجّه بكلّه إليه و يذكره و لا يغفل عنه فلا يركن في ذاته و صفاته إلّا إليه و لا يريد إلّا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.

و بين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين و البعد منه و هي الّتي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، و من الدليل على ذلك الأخلاق و الصفات المتمكّنة في النفوس الّتي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل، و الأعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدّعي الإيمان بالله يخاف و ترتعد فرائصه من أيّ نائبة أو مصيبة تهدّده و هو يذكر أن لا قوّة إلّا بالله، و يلتمس العزّة و الجاه من غيره و هو يتلو قوله تعالى:( إِنَّ الْعزّة لله جَمِيعاً ) و يقرع كلّ باب يبتغي الرزق و قد ضمنه الله، و يعصي الله و لا يستحيي و هو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل و لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، و على هذا القياس.

فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الّذي يجامع بعض مراتب الإيمان و هو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفيّ.

فما قيل: إنّ المراد بالمشركين في الآية مشركوا مكّة في غير محلّه، و كذا ما قيل: إنّهم المنافقون، و هو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيّد.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الغاشية صفة سادّة مسدّ الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه، و التقدير عقوبة غاشية تغشاهم و تحيط بهم.

و البغتة الفجأة. و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها و الحال أنّهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيّتها بعلامات

٣٠٤

تعيّن وقتها و تشخّص قيامها و الاستفهام للتعجيب، و المعنى أنّ أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء و الأرض و عدم إخلاصهم الإيمان لله و تماديهم في الغفلة عجيب أ فأمنوا عذاباً من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم و تبهتهم؟.

قوله تعالى: ( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ الله وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) لمّا ذكر سبحانه أنّ محض الإيمان به و الإخلاص التوحيد له عزيز المنال و هو الحقّ الصريح الّذي تدلّ عليه آيات السماوات و الأرض أمر نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يبيّن لهم أنّ سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.

فقوله:( هذِهِ سَبِيلِي ) إعلان لسبيله، و قوله:( أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) بيان للسبيل، و قوله:( وَ سُبْحانَ الله ) اعتراض للتنزيه، و قوله:( وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله و بيان أنّ هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.

و أمّا قوله:( أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) فتوسعة و تعميم لحمل الدعوة و أنّ السبيل و إن كانت سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) مختصّة به لكن حمل الدعوة و القيام به لا يختصّ به بل من اتّبعه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقوم بها لنفسه.

لكنّ السياق يدلّ على أنّ الإشراك ليس بذاك العموم الّذي يتراءى من لفظ( مَنِ اتَّبَعَنِي ) فإنّ السبيل الّتي تعرّفها الآية هي الدعوة عن بصيرة و يقين إلى إيمان محض و توحيد خالص و إنّما يشاركه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربّه ذا بصيرة و يقين و ليس كلّ من صدق عليه أنّه اتّبعه على هذا النعت، و لا أنّ الاستواء على هذا المستوي مبذول لكلّ مؤمن حتّى الّذين عدّهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين و ذمّهم بأنّهم غافلون عن ربّهم آمنون من مكره معرضون عن آياته، و كيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته و ذكره؟ و قد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال و العمى و الخسران و لا تجتمع هذه الخصال بالهداية و الإرشاد ألبتّة.

٣٠٥

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) إلى آخر الآية، لمّا ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثمّ حال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في دعوته إيّاهم عن رسالة إلهيّة من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجرّ لنفسه نفعا بين أنّ ذلك ليس ببدع من الأمر بل ممّا جرت عليه السنّة الإلهيّة في الدعوة الدينيّة فلم يكن الرسل الماضون ملائكة و إنّما بعثوا من بين هؤلاء الناس و كانوا رجالاً من أهل القرى يخالطون الناس و يعرفون عندهم أوحى الله إليهم و أرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أنّ النبيّ كذلك، و من الممكن أن يسير هؤلاء المدعوّون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم فبلادهم الخربة و مساكنهم الخالية تفصح عمّا آل إليه أمرهم، و تنبئ عن عاقبة كفرهم و جحودهم و تكذيبهم لآيات الله.

فالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) لا يدعوهم إلّا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله، و ليس يدعوهم إلّا إلى ما فيه خيرهم و صلاح حالهم و هو أن يتّقوا الله فيفلحوا و يفوزوا بسعادة خالدة و نعيم مقيم في دار باقية و لدار الآخرة خير للّذين اتّقوا أ فلا تعقلون.

فقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) تطبيق لدعوة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) على دعوة من قبله من الرسل. و لعلّ توصيفهم بأنّهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنّهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم و معروفين عندهم بالمعاشرة و المخالطة و لم يكونوا ملائكة و لا من غير أنفسهم، و يؤيّد ذلك توصيفهم بأنّهم كانوا رجالا فإنّ الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.

و قوله:( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إنذار لاُمّة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بمثل ما اُنذر به الاُمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.

و قوله:( وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) بيان النصح و أنّ ما يدعون إليه و هو التقوى ليس وراءه إلّا ما فيه كلّ خيرهم و جماع سعادتهم.

٣٠٦

قوله تعالى: ( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) إلى آخر الآية ذكروا أنّ يأس و استيأس بمعنى، و لا يبعد أن يقال: إنّ الاستيآس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال و هو ممّا يعدّ يأسا عرفا و ليس باليأس القاطع حقيقة.

و قوله:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ ) إلخ متعلّق الغاية بما يتحصّل من الآية السابقة و المعنى تلك الرسل الّذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى و تلك قراهم البائدة دعوهم فلم يستجيبوا و أنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتّى إذا استيأس الرسل من إيمان اُولئك الناس، و ظنّ الناس أنّ الرسل قد كذبوا أي اُخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجّي‏ء بذلك من نشاء و هم المؤمنون و لا يردّ بأسنا أي شدّتنا عن القوم المجرمين.

أمّا استيآس الرسل من إيمان قومهم فكما اُخبر في قصّة نوح:( وَ أُوحِيَ إِلى‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) هود: ٣٦( وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧ و يوجد نظيره في قصص هود و صالح و شعيب و موسى و عيسى (عليهم السلام).

و أمّا ظنّ اُممهم أنّهم قد كذبوا فكما اُخبر عنه في قصّة نوح من قولهم:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ) هود: ٢٧، و كذا في قصّة هود و صالح و قوله:( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً ) أسرى: ١٠١.

و أمّا تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى:( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ و قد أخبر به في هلاك بعض الاُمم أيضاً كقوله:( نَجَّيْنا هُوداً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٥٨( نَجَّيْنا صالِحاً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٦٦( نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٤، إلى غير ذلك.

و أمّا أنّ بأس الله لا يردّ عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموماً و خصوصاً كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا

٣٠٧

يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧، و قوله:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) الرعد: ١١ إلى غير ذلك من الآيات.

هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني، و الدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمّنه سابقتها كما قدّمناه، و قد أوردوا لها معاني اُخرى لا يخلو شي‏ء منها من السقم و الإضراب عنها أوجه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأمّا العبور فيختصّ بتجاوز الماء - إلى أن قال - و الاعتبار و العبرة بالحالة الّتي يتوصّل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً ) . انتهى.

و الضمير في قصصهم للأنبياء و منهم يوسف صاحب القصّة في السورة، و احتمل رجوعه إلى يوسف و إخوته و المعنى اُقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف و إخوته عبرة لأصحاب العقول، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفتري و لكن تصديق الّذي بين يدي القرآن، و هو التوراة المذكور فيها القصّة يعني توراة موسى (عليه السلام).

و قوله:( وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ أي بياناً و تمييزاً لكلّ شي‏ء ممّا يحتاج إليه الناس في دينهم الّذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و هدى إلى السعادة و الفلاح و رحمة خاصّة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنّه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال شرك طاعة و ليس شرك عبادة، و المعاصي الّتي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.

٣٠٨

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: شرك لا يبلغ به الكفر.

و فيه، عن مالك بن عطيّة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لضاع عيالي أ لا ترى أنّه جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا.

و فيه، عن زرارة قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) عن قول الله( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال: من ذلك قول الرجل: لا و حياتك.

أقول: يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقّه بذاته و الأخبار في هذه المعاني كثيرة.

و في الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) قال: ذاك رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أميرالمؤمنين و الأوصياء من بعدهما.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: يعني علىّ أوّل من اتّبعه على الإيمان و التصديق له و بما جاء به من عند الله عزّوجلّ من الاُمّة الّتي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق ممّن لم يشرك بالله قطّ و لم يلبس إيمانه بظلم و هو الشرك.

أقول: و الروايتان تؤيّدان ما قدّمناه في بيان الآية و في معناهما روايات، و لعلّ ذكر المصداق من باب التطبيق.

و فيه، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله( سُبْحانَ الله ) ما يعني به؟ قال: أنفة لله.

و فيه، بإسناده عن هشام الجواليقيّ قال: سألت أباعبدالله عن قول الله عزّوجلّ:( سُبْحانَ الله ) قال: تنزيه.

و في المعاني، بإسناده عن السيّار عن الحسن بن عليّ عن آبائه عن الصادق (عليهم السلام)

٣٠٩

في حديث قال فيه مخاطبا: أ و لست تعلم أنّ الله تعالى لم يخل الدنيا قطّ من نبيّ أو إمام من البشر؟ أ و ليس الله تعالى يقول:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) يعني إلى الخلق( إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمّة و حكّاما و إنّما اُرسلوا إلى الأنبياء.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى - و ذكر الحديث إلى أن قال فيه - قال المأمون لأبي الحسن: فأخبرني عن قول الله تعالى:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) قال الرضا: يقول الله: حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم فظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية، و ما في بعض الروايات أنّ الرسل ظنّوا أنّ الشيطان تمثّل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبدا رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار و كان الّذي يأتيه من الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزريّ قال: صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير و الضحّاك بن مزاحم فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أباعبدالله كيف تقرأ هذا الحرف؟ فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت أنّي لا أقرأ هذه السورة:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال: نعم حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا فقال الضحّاك: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.

٣١٠

( سورة الرعد مكّيّة و هي ثلاث و أربعون آية)

( سورة الرعد الآيات ١ - ٤)

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١) اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لاَِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبّرُ الْأَمْرَ يُفَصّلُ الْآيَاتِ لَعَلّكُم بِلِقَاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ( ٢) وَهُوَ الّذِي مَدّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ( ٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى‏ بِمَاءٍوَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ٤)

( بيان‏)

غرض السورة بيان حقّيّة ما نزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من الكتاب و أنّه آية الرسالة و أنّ قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و هم يعرّضون به للقرآن و لا يعدّونه آية كلام مردود إليهم و لا ينبغي للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يصغي إليه و لا لهم

٣١١

أن يتفوّهوا به.

و يدلّ على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) و اختتامها بقوله:( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى‏ بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) الآية، و تكرار حكاية قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

و محصّل البيان على خطاب النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أنّ هذا القرآن النازل عليك حقّ لا يخالطه باطل فإنّ الّذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الّذي تدلّ عليه آيات الكون من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى.

و تدلّ على حقّيّة دعوته أيضاً أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبيّنات فكفروا و كذّبوا فأخذهم الله بذنوبهم. فهذا ما يتضمّنه هذا الكتاب و هو آية دالّة على رسالتك.

و قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أوّلاً بأنّك لست إلّا منذراً و ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة و ثانياً أنّ الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتّى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنّما ذلك إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم و أمّا قولهم: لست مرسلاً فيكفيك من الحجّة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقّة على ذلك.

و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمّنه قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الآية، و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ، و قوله:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ، و قوله:( فَلله الْمَكْرُ جَمِيعاً ) .

و السورة مكّيّة كلّها على ما يدلّ عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنّها مكّيّة إلّا آخر آية منها فإنّها نزلت بالمدينة في

٣١٢

عبدالله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبيّ و مقاتل، و يدفعه أنّها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) .

و قيل: إنّ السورة مدنيّة كلّها إلّا آيتين منها و هما قوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ) الآية و الآية الّتي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنّها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة.

و قيل: إنّ المدنيّ منها قوله تعالى:( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ) الآية و الباقي مكّيّ و كان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتّضح به اندفاعه.

قوله تعالى: ( المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) إلخ، الحروف المصدّرة بها السورة هي مجموع الحروف الّتي صدّرت بها سور( الم ) و سور( الر ) كما أنّ المعارف المبيّنة في السورة كأنّها المجموع من المعارف المعنيّة في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و قوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتّصال و هي تعدّ الآيات الكونيّة من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالّة على توحيد الله سبحانه الّذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقّة، و هي تذكر أنّ التدبّر في تفصيلها و التفكّر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم، بأنّ الّذي اُنزل إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حقّ.

فظاهر ذلك كلّه أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) الموجودات الكونيّة و الأشياء الخارجيّة المسخّرة في النظام العامّ الإلهيّ،

٣١٣

و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الّذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونيّة بنوع من العناية و المجاز.

و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعيّة الّتي تتلبّس بها الآيات الكونيّة من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظيّة الّتي تتلبّس بها الآيات القرآنيّة المنزلة من عنده تعالى إلى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و يكون قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) استدراكا متعلّقاً بالجملتين معاً أعني بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) و قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) لا بالجملة الأخيرة فحسب.

و المعنى - و الله أعلم - تلك الاُمور الكونيّة - و قد اُشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها - آيات الكتاب العامّ الكونيّ دالّة على أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته و القرآن الّذي اُنزل إليك من ربّك حقّ ليس بباطل - و اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حقّ في نزوله و لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينيّة و لا بهذا الحقّ النازل، و في لحن الكلام شي‏ء من اللوم و العتاب.

و قد بان ممّا مرّ أنّ اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر، و مفاده أنّ الّذي اُنزل إليه حقّ فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حقّ و باطل.

و للمفسّرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله:( الْحَقُّ ) و المراد بأكثر الناس أقوال متنوّعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدّمناه و على من أراد الاطّلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عمد - بضمّتين - و عمد - بفتحتين - قال: في عمد ممدّدة، و قرئ في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى. و قيل: إنّ العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.

٣١٤

و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيّته تعالى وحده لا شريك له و أنّ السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخّران يجريان إلى أجل مسمّى، و لا بدّ ممّن يقوم على هذه الاُمور فيرفع السماء و ينظّم النظام و يسخّر الشمس و القمر و يدبّر الأمر و يفصّل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلاً فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربّكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى ربّ الكلّ لا ربّ غيره.

فقوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلّط به على الأرض بإلقاء أشعّتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطّن أنّ لها رافعا حافظا لها أن تتحوّل من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرّها.

و ذلك أنّ استقرار السماوات في رفيع مستقرّها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرّها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصّة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلّها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال.

لكنّ الإنسان - في عين أنّه يرى قانون العلّيّة الكلّيّ و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الاُمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرّر ذلك على حسّه أقنعه ذلك و لم يتعجّب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثمّ وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجّب و بحث عن ذلك حتّى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرّر على

٣١٥

الحسّ تقف نفسه عن البحث في كلّ مورد يشاهد فيه شيئاً رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.

أمّا إذا وجد أمراً يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلويّة القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافّات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبّه من رقدته.

فقوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) إنّما وصف السماوات فيه بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله:( تَرَوْنَها ) وصفاً توضيحيّاً لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنّها لمّا لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربّما يذهب إليه أوهام العامّة أنّ الّذي يستند إلى الله من الاُمور هو ما يجهل سببه كالاُمور السماويّة و الحوادث الجوّيّة و الروح و أمثال ذلك.

فإنّ كلامه تعالى ينصّ أوّلا على أنّ كلّ ما يصدق عليه الشي‏ء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كلّ خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤.

و ثانياً: على أنّ سنّة الأسباب جارية مطّردة و أنّه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الاُمور الجسمانيّة غير جار في بعض. و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضيّة إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالاُمور السماويّة مثلاً إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاصّ به بإذن الله، و إن قام جرم سماويّ من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضاً بسبب خاصّ به كطبيعته الخاصّة أو التجاذب العامّ مثلا بإذن الله.

بل إنّما قيّد رفع السماوات بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد

٣١٦

سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) على ما سنوضحه.

و لمّا كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هو توحيد الربوبيّة و بيان أنّ الله سبحانه ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ سواه لا أصل إثبات الصانع عقّب قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ بقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) إلخ، الدالّ على التدبير العامّ المتّحد باتّصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أنّ ربّ الجميع و مالكها المدبّر لأمرها واحد.

و ذلك أنّ الوثنيّة الّذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أنّ خالق الكلّ و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنّما يرون أنّه فوّض تدبير كلّ شأن من شؤون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البرّ و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القويّة فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره و يتّقي بها شرّه فلا ينفع في ردّهم إلّا قصر الربوبيّة في الله سبحانه و إثبات أنّه ربّ لا ربّ سواه، و أمّا توحيد الاُلوهيّة بمعنى إثبات أنّ الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كلّ وجود فهو أمر لا تنكره الوثنيّة و لا يضرّهم شيئاً.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلخ من غير أن يكون مقصوداً بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الّذيل في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) الآية: الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، و ما يشابهها من الآيات.

و يظهر أيضاً: أنّ قوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ ) متعلّق برفع و( تَرَوْنَها ) وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئيّة، و أمّا قول من يجعل:( تَرَوْنَها ) جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ) قال: ما الدليل على ذلك؟ فاُجيب و قيل:( تَرَوْنَها ) أي الدليل على ذلك أنّها مرئيّة

٣١٧

لكم، فبعيد. إلّا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنّها جميعاً مرفوعة من غير عمد و مرئيّة للإنسان.

و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) تقدّم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية ٥٤.

و قوله:( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) أي كلّ منهما يجري إلى أجل معيّن يقف عنده و لا يتعدّاه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كلّ من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمّى فإنّ حكم الجري و الحركة عامّ مطّرد في جميع هذه الأجسام.

و قد تقدّم الكلام في معنى الأجل المسمّى في تفسير سورة الأنعام الآية ١ فراجع.

و قوله:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) التدبير هو الإتيان بالشي‏ء عقيب الشي‏ء و يراد به ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة و نظمها بوضع كلّ شي‏ء في موضعه الخاصّ به بحيث يلحق بكلّ منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختلّ الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبّر أمر البيت أي نظم اُموره و التصرّفات العائدة إليه بحيث أدّى إلى صلاح شأنه و تمتّع أهله بالمطلوب من فوائده.

فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظماً جيّداً متقنا بحيث يتوجّه به كلّ شي‏ء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاصّ به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى، و تدبير الكلّ إجراء النظام العامّ العالميّ بحيث يتوجّه إلى غايته الكلّيّة و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا.

و قوله:( يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ظاهر السياق أنّ المراد بالآيات هي الآيات الكونيّة فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنّته تعالى يفصّل الأشياء و يميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء و يخرج من كلّ شي‏ء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم.

٣١٨

و لذا عقّبه بقوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) فإنّ يوم اللقاء هو الساعة الّتي سمّاها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتّقين من المجرمين و الفجّار قال:( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الدخان ٤٠، و قال:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: ٥٩، و قال:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) الأنفال: ٣٧.

و الأشهر عند المفسّرين أنّ المراد بالآيات آيات الكتب المنزّلة من عندالله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزّلة على أنبياء الله ليتدبّر فيها الناس و يتفكّروا و يفقهوا فإنّ في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدّمناه من المعنى أوضح لزوما و أمسّ بالسياق.

و في قوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ ) و لم يقل: لعلّكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبيّة و التأكيد له و الإشارة إلى أنّ الّذي خلق العالم و دبّر أمره فصار ربّا له هو ربّ لكم أيضاً فلا ربّ إلّا ربّ واحد لا شريك له.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلى آخر الآية، الرواسي جمع راسية من رسا إذا ثبت و قرّ، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرّها، و الزوج خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربّما يقيّد الزوجان باثنين تأكيداً للدلالة على أنّ المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.

و قوله:( هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مدّ الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

و قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض - و الله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة

٣١٩

الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مدّ الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادّخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادّخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شقّ من أطرافها أنهاراً و فجّر منها عيونا مطلّة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرّة صيفيّة و شتويّة برّيّة و أهليّة، و سلّط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويّان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثّرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدوابّ و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة.

فمدّ الأرض يسهّل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشقّ الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة و بالليل و النهار يتمّ المطلوب و في ذلك كلّه تدبير متّصل متّحد يكشف عن مدبّر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيّته، و إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون.

و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفيّ و الشتويّ و الحلو و غيره و الرطب و اليابس.

هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) الملك: ٤ اُريد به الرجوع كرّة بعد كرّة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.

و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى:( زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) جعل فيها من كلّ أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و اُنثى في أزهارها عند تكوّنها فقد أظهر الكشف الحديث أنّ كلّ شجر و زرع لا يتولّد ثمره و حبّه إلّا من بين اثنين ذكر و اُنثى.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431