الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85015 / تحميل: 6660
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( سورة يوسف الآيات ١٠٣ - ١١١)

وَمَا أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( ١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين( ١٠٤) وَكَأَيّن مِنْ آيَةٍ فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ( ١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلّا وَهُم مُشْرِكُونَ( ١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلَى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ( ١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ اتّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ( ١٠٩) حَتّى‏ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَاءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( ١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى‏ وَلكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَي‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ١١١)

٣٠١

( بيان‏)

الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أنّ الإيمان الكامل و هو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلّا أقلّ قليل من الناس و أمّا الأكثرون فليسوا بمؤمنين و لو حرصت بإيمانهم و اجتهدت في ذلك جهدك، و الأقلّون و هم المؤمنون ما لهم إلّا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض و التوحيد الخالص إلّا أقلّ قليل.

و هذا التوحيد الخالص هو سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الّذي يدعو إليه على بصيرة هو و من اتّبعه، و أنّ الله ناصره و منجي من اتّبعه من المؤمنين من المهالك الّتي تهدّد توحيدهم و إيمانهم و عذاب الاستئصال الّذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.

و في قصصهم عبرة و بيان للحقائق و هدى و رحمة للمؤمنين.

قوله تعالى: ( وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا و انجذاب نفوسهم إلى زينتها و سهوهم عمّا اُودع في فطرهم من العلم بالله و آياته أن يؤمنوا به، و لو حرصت و أحببت إيمانهم، و الدليل على هذا المعنى الآيات التالية.

قوله تعالى: ( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) الواو حاليّة أي ما هم بمؤمنين و الحال أنّك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الّذي ننزّله عليك و تتلوه عليهم من أجر حتّى يصدّهم الغرامة الماليّة و إنفاق ما يحبّونه من المال عن قبول دعوته و الإيمان به.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) بيان لشأن القرآن الواقعيّ و هو أنّه ممحّض في أنّه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به و بآياته فما هو إلّا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة و الإعراض و ليس من الأمتعة الّتي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزّة أو جاه أو غير ذلك.

٣٠٢

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) الواو حاليّة و يحتمل الاستئناف و المرور على الشي‏ء هو موافاته ثمّ تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماويّة و الأرضيّة مشاهدتها واحدة بعد اُخرى.

و المعنى أنّ هناك آيات كثيرة سماويّة و أرضيّة تدلّ بوجودها و النظام البديع الجاري فيها على توحيد ربّهم و هم يشاهدونها واحدة بعد اُخرى فتتكرّر عليهم و الحال أنّهم معرضون عنها لا يتنبّهون.

و لو حمل قوله:( يَمُرُّونَ عَلَيْها ) على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيئة الحديثة من حركة الأرض وضعا و انتقالا فإنّا نحن المارون على الأجرام السماويّة بحركة الأرض الانتقاليّة و الوضعيّة لا بالعكس على ما يخيّل إلينا في ظاهر الحسّ.

قوله تعالى: ( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) الضمير في( أَكْثَرُهُمْ ) راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين و إن لم تسألهم عليه أجراً و إن كانوا يمرّون على الآيات السماويّة و الأرضيّة على كثرتها و الّذين آمنوا منهم - و هم الأقلّون - ما يؤمن أكثرهم بالله إلّا و هم متلبّسون بالشرك.

و تلبّس الإنسان بالإيمان و الشرك معاً مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محلّ واحد نظير تلبّسه بسائر الاعتقادات المتناقضة و الأخلاق المتضادّة إنّما يكون من جهة كونها من المعاني الّتي تقبل في نفسها القوّة و الضعف فتختلف بالنسبة و الإضافة كالقرب و البعد فإنّ القرب و البعد المطلقين لا يجتمعان إلّا أنّهما إذا كانا نسبيّين لا يمتنعان الاجتماع و التصادق كمكّة فإنّها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام، و كذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

و الإيمان بالله و الشرك به و حقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة

٣٠٣

الواجبيّة و تعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلّا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة و الإضافة فإنّ من الجائز أن يتعلّق الإنسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية و زينتها الباطلة و ينسى مع ذلك كلّ حقّ و حقيقة، و من الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس و يشغلها عن الله سبحانه و يتوجّه بكلّه إليه و يذكره و لا يغفل عنه فلا يركن في ذاته و صفاته إلّا إليه و لا يريد إلّا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.

و بين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين و البعد منه و هي الّتي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، و من الدليل على ذلك الأخلاق و الصفات المتمكّنة في النفوس الّتي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل، و الأعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدّعي الإيمان بالله يخاف و ترتعد فرائصه من أيّ نائبة أو مصيبة تهدّده و هو يذكر أن لا قوّة إلّا بالله، و يلتمس العزّة و الجاه من غيره و هو يتلو قوله تعالى:( إِنَّ الْعزّة لله جَمِيعاً ) و يقرع كلّ باب يبتغي الرزق و قد ضمنه الله، و يعصي الله و لا يستحيي و هو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل و لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، و على هذا القياس.

فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الّذي يجامع بعض مراتب الإيمان و هو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفيّ.

فما قيل: إنّ المراد بالمشركين في الآية مشركوا مكّة في غير محلّه، و كذا ما قيل: إنّهم المنافقون، و هو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيّد.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الغاشية صفة سادّة مسدّ الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه، و التقدير عقوبة غاشية تغشاهم و تحيط بهم.

و البغتة الفجأة. و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها و الحال أنّهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيّتها بعلامات

٣٠٤

تعيّن وقتها و تشخّص قيامها و الاستفهام للتعجيب، و المعنى أنّ أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء و الأرض و عدم إخلاصهم الإيمان لله و تماديهم في الغفلة عجيب أ فأمنوا عذاباً من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم و تبهتهم؟.

قوله تعالى: ( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ الله وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) لمّا ذكر سبحانه أنّ محض الإيمان به و الإخلاص التوحيد له عزيز المنال و هو الحقّ الصريح الّذي تدلّ عليه آيات السماوات و الأرض أمر نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يبيّن لهم أنّ سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.

فقوله:( هذِهِ سَبِيلِي ) إعلان لسبيله، و قوله:( أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) بيان للسبيل، و قوله:( وَ سُبْحانَ الله ) اعتراض للتنزيه، و قوله:( وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله و بيان أنّ هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.

و أمّا قوله:( أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) فتوسعة و تعميم لحمل الدعوة و أنّ السبيل و إن كانت سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) مختصّة به لكن حمل الدعوة و القيام به لا يختصّ به بل من اتّبعه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقوم بها لنفسه.

لكنّ السياق يدلّ على أنّ الإشراك ليس بذاك العموم الّذي يتراءى من لفظ( مَنِ اتَّبَعَنِي ) فإنّ السبيل الّتي تعرّفها الآية هي الدعوة عن بصيرة و يقين إلى إيمان محض و توحيد خالص و إنّما يشاركه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربّه ذا بصيرة و يقين و ليس كلّ من صدق عليه أنّه اتّبعه على هذا النعت، و لا أنّ الاستواء على هذا المستوي مبذول لكلّ مؤمن حتّى الّذين عدّهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين و ذمّهم بأنّهم غافلون عن ربّهم آمنون من مكره معرضون عن آياته، و كيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته و ذكره؟ و قد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال و العمى و الخسران و لا تجتمع هذه الخصال بالهداية و الإرشاد ألبتّة.

٣٠٥

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) إلى آخر الآية، لمّا ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثمّ حال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في دعوته إيّاهم عن رسالة إلهيّة من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجرّ لنفسه نفعا بين أنّ ذلك ليس ببدع من الأمر بل ممّا جرت عليه السنّة الإلهيّة في الدعوة الدينيّة فلم يكن الرسل الماضون ملائكة و إنّما بعثوا من بين هؤلاء الناس و كانوا رجالاً من أهل القرى يخالطون الناس و يعرفون عندهم أوحى الله إليهم و أرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أنّ النبيّ كذلك، و من الممكن أن يسير هؤلاء المدعوّون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم فبلادهم الخربة و مساكنهم الخالية تفصح عمّا آل إليه أمرهم، و تنبئ عن عاقبة كفرهم و جحودهم و تكذيبهم لآيات الله.

فالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) لا يدعوهم إلّا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله، و ليس يدعوهم إلّا إلى ما فيه خيرهم و صلاح حالهم و هو أن يتّقوا الله فيفلحوا و يفوزوا بسعادة خالدة و نعيم مقيم في دار باقية و لدار الآخرة خير للّذين اتّقوا أ فلا تعقلون.

فقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) تطبيق لدعوة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) على دعوة من قبله من الرسل. و لعلّ توصيفهم بأنّهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنّهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم و معروفين عندهم بالمعاشرة و المخالطة و لم يكونوا ملائكة و لا من غير أنفسهم، و يؤيّد ذلك توصيفهم بأنّهم كانوا رجالا فإنّ الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.

و قوله:( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إنذار لاُمّة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بمثل ما اُنذر به الاُمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.

و قوله:( وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) بيان النصح و أنّ ما يدعون إليه و هو التقوى ليس وراءه إلّا ما فيه كلّ خيرهم و جماع سعادتهم.

٣٠٦

قوله تعالى: ( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) إلى آخر الآية ذكروا أنّ يأس و استيأس بمعنى، و لا يبعد أن يقال: إنّ الاستيآس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال و هو ممّا يعدّ يأسا عرفا و ليس باليأس القاطع حقيقة.

و قوله:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ ) إلخ متعلّق الغاية بما يتحصّل من الآية السابقة و المعنى تلك الرسل الّذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى و تلك قراهم البائدة دعوهم فلم يستجيبوا و أنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتّى إذا استيأس الرسل من إيمان اُولئك الناس، و ظنّ الناس أنّ الرسل قد كذبوا أي اُخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجّي‏ء بذلك من نشاء و هم المؤمنون و لا يردّ بأسنا أي شدّتنا عن القوم المجرمين.

أمّا استيآس الرسل من إيمان قومهم فكما اُخبر في قصّة نوح:( وَ أُوحِيَ إِلى‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) هود: ٣٦( وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧ و يوجد نظيره في قصص هود و صالح و شعيب و موسى و عيسى (عليهم السلام).

و أمّا ظنّ اُممهم أنّهم قد كذبوا فكما اُخبر عنه في قصّة نوح من قولهم:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ) هود: ٢٧، و كذا في قصّة هود و صالح و قوله:( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً ) أسرى: ١٠١.

و أمّا تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى:( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ و قد أخبر به في هلاك بعض الاُمم أيضاً كقوله:( نَجَّيْنا هُوداً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٥٨( نَجَّيْنا صالِحاً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٦٦( نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٤، إلى غير ذلك.

و أمّا أنّ بأس الله لا يردّ عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموماً و خصوصاً كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا

٣٠٧

يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧، و قوله:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) الرعد: ١١ إلى غير ذلك من الآيات.

هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني، و الدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمّنه سابقتها كما قدّمناه، و قد أوردوا لها معاني اُخرى لا يخلو شي‏ء منها من السقم و الإضراب عنها أوجه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأمّا العبور فيختصّ بتجاوز الماء - إلى أن قال - و الاعتبار و العبرة بالحالة الّتي يتوصّل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً ) . انتهى.

و الضمير في قصصهم للأنبياء و منهم يوسف صاحب القصّة في السورة، و احتمل رجوعه إلى يوسف و إخوته و المعنى اُقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف و إخوته عبرة لأصحاب العقول، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفتري و لكن تصديق الّذي بين يدي القرآن، و هو التوراة المذكور فيها القصّة يعني توراة موسى (عليه السلام).

و قوله:( وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ أي بياناً و تمييزاً لكلّ شي‏ء ممّا يحتاج إليه الناس في دينهم الّذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و هدى إلى السعادة و الفلاح و رحمة خاصّة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنّه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال شرك طاعة و ليس شرك عبادة، و المعاصي الّتي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.

٣٠٨

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: شرك لا يبلغ به الكفر.

و فيه، عن مالك بن عطيّة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لضاع عيالي أ لا ترى أنّه جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا.

و فيه، عن زرارة قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) عن قول الله( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال: من ذلك قول الرجل: لا و حياتك.

أقول: يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقّه بذاته و الأخبار في هذه المعاني كثيرة.

و في الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) قال: ذاك رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أميرالمؤمنين و الأوصياء من بعدهما.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: يعني علىّ أوّل من اتّبعه على الإيمان و التصديق له و بما جاء به من عند الله عزّوجلّ من الاُمّة الّتي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق ممّن لم يشرك بالله قطّ و لم يلبس إيمانه بظلم و هو الشرك.

أقول: و الروايتان تؤيّدان ما قدّمناه في بيان الآية و في معناهما روايات، و لعلّ ذكر المصداق من باب التطبيق.

و فيه، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله( سُبْحانَ الله ) ما يعني به؟ قال: أنفة لله.

و فيه، بإسناده عن هشام الجواليقيّ قال: سألت أباعبدالله عن قول الله عزّوجلّ:( سُبْحانَ الله ) قال: تنزيه.

و في المعاني، بإسناده عن السيّار عن الحسن بن عليّ عن آبائه عن الصادق (عليهم السلام)

٣٠٩

في حديث قال فيه مخاطبا: أ و لست تعلم أنّ الله تعالى لم يخل الدنيا قطّ من نبيّ أو إمام من البشر؟ أ و ليس الله تعالى يقول:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) يعني إلى الخلق( إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمّة و حكّاما و إنّما اُرسلوا إلى الأنبياء.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى - و ذكر الحديث إلى أن قال فيه - قال المأمون لأبي الحسن: فأخبرني عن قول الله تعالى:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) قال الرضا: يقول الله: حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم فظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية، و ما في بعض الروايات أنّ الرسل ظنّوا أنّ الشيطان تمثّل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبدا رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار و كان الّذي يأتيه من الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزريّ قال: صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير و الضحّاك بن مزاحم فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أباعبدالله كيف تقرأ هذا الحرف؟ فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت أنّي لا أقرأ هذه السورة:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال: نعم حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا فقال الضحّاك: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.

٣١٠

( سورة الرعد مكّيّة و هي ثلاث و أربعون آية)

( سورة الرعد الآيات ١ - ٤)

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١) اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لاَِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبّرُ الْأَمْرَ يُفَصّلُ الْآيَاتِ لَعَلّكُم بِلِقَاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ( ٢) وَهُوَ الّذِي مَدّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ( ٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى‏ بِمَاءٍوَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ٤)

( بيان‏)

غرض السورة بيان حقّيّة ما نزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من الكتاب و أنّه آية الرسالة و أنّ قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و هم يعرّضون به للقرآن و لا يعدّونه آية كلام مردود إليهم و لا ينبغي للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يصغي إليه و لا لهم

٣١١

أن يتفوّهوا به.

و يدلّ على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) و اختتامها بقوله:( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى‏ بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) الآية، و تكرار حكاية قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

و محصّل البيان على خطاب النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أنّ هذا القرآن النازل عليك حقّ لا يخالطه باطل فإنّ الّذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الّذي تدلّ عليه آيات الكون من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى.

و تدلّ على حقّيّة دعوته أيضاً أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبيّنات فكفروا و كذّبوا فأخذهم الله بذنوبهم. فهذا ما يتضمّنه هذا الكتاب و هو آية دالّة على رسالتك.

و قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أوّلاً بأنّك لست إلّا منذراً و ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة و ثانياً أنّ الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتّى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنّما ذلك إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم و أمّا قولهم: لست مرسلاً فيكفيك من الحجّة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقّة على ذلك.

و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمّنه قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الآية، و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ، و قوله:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ، و قوله:( فَلله الْمَكْرُ جَمِيعاً ) .

و السورة مكّيّة كلّها على ما يدلّ عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنّها مكّيّة إلّا آخر آية منها فإنّها نزلت بالمدينة في

٣١٢

عبدالله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبيّ و مقاتل، و يدفعه أنّها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) .

و قيل: إنّ السورة مدنيّة كلّها إلّا آيتين منها و هما قوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ) الآية و الآية الّتي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنّها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة.

و قيل: إنّ المدنيّ منها قوله تعالى:( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ) الآية و الباقي مكّيّ و كان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتّضح به اندفاعه.

قوله تعالى: ( المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) إلخ، الحروف المصدّرة بها السورة هي مجموع الحروف الّتي صدّرت بها سور( الم ) و سور( الر ) كما أنّ المعارف المبيّنة في السورة كأنّها المجموع من المعارف المعنيّة في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و قوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتّصال و هي تعدّ الآيات الكونيّة من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالّة على توحيد الله سبحانه الّذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقّة، و هي تذكر أنّ التدبّر في تفصيلها و التفكّر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم، بأنّ الّذي اُنزل إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حقّ.

فظاهر ذلك كلّه أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) الموجودات الكونيّة و الأشياء الخارجيّة المسخّرة في النظام العامّ الإلهيّ،

٣١٣

و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الّذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونيّة بنوع من العناية و المجاز.

و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعيّة الّتي تتلبّس بها الآيات الكونيّة من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظيّة الّتي تتلبّس بها الآيات القرآنيّة المنزلة من عنده تعالى إلى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و يكون قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) استدراكا متعلّقاً بالجملتين معاً أعني بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) و قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) لا بالجملة الأخيرة فحسب.

و المعنى - و الله أعلم - تلك الاُمور الكونيّة - و قد اُشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها - آيات الكتاب العامّ الكونيّ دالّة على أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته و القرآن الّذي اُنزل إليك من ربّك حقّ ليس بباطل - و اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حقّ في نزوله و لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينيّة و لا بهذا الحقّ النازل، و في لحن الكلام شي‏ء من اللوم و العتاب.

و قد بان ممّا مرّ أنّ اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر، و مفاده أنّ الّذي اُنزل إليه حقّ فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حقّ و باطل.

و للمفسّرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله:( الْحَقُّ ) و المراد بأكثر الناس أقوال متنوّعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدّمناه و على من أراد الاطّلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عمد - بضمّتين - و عمد - بفتحتين - قال: في عمد ممدّدة، و قرئ في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى. و قيل: إنّ العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.

٣١٤

و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيّته تعالى وحده لا شريك له و أنّ السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخّران يجريان إلى أجل مسمّى، و لا بدّ ممّن يقوم على هذه الاُمور فيرفع السماء و ينظّم النظام و يسخّر الشمس و القمر و يدبّر الأمر و يفصّل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلاً فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربّكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى ربّ الكلّ لا ربّ غيره.

فقوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلّط به على الأرض بإلقاء أشعّتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطّن أنّ لها رافعا حافظا لها أن تتحوّل من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرّها.

و ذلك أنّ استقرار السماوات في رفيع مستقرّها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرّها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصّة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلّها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال.

لكنّ الإنسان - في عين أنّه يرى قانون العلّيّة الكلّيّ و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الاُمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرّر ذلك على حسّه أقنعه ذلك و لم يتعجّب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثمّ وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجّب و بحث عن ذلك حتّى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرّر على

٣١٥

الحسّ تقف نفسه عن البحث في كلّ مورد يشاهد فيه شيئاً رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.

أمّا إذا وجد أمراً يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلويّة القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافّات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبّه من رقدته.

فقوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) إنّما وصف السماوات فيه بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله:( تَرَوْنَها ) وصفاً توضيحيّاً لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنّها لمّا لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربّما يذهب إليه أوهام العامّة أنّ الّذي يستند إلى الله من الاُمور هو ما يجهل سببه كالاُمور السماويّة و الحوادث الجوّيّة و الروح و أمثال ذلك.

فإنّ كلامه تعالى ينصّ أوّلا على أنّ كلّ ما يصدق عليه الشي‏ء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كلّ خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤.

و ثانياً: على أنّ سنّة الأسباب جارية مطّردة و أنّه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الاُمور الجسمانيّة غير جار في بعض. و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضيّة إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالاُمور السماويّة مثلاً إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاصّ به بإذن الله، و إن قام جرم سماويّ من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضاً بسبب خاصّ به كطبيعته الخاصّة أو التجاذب العامّ مثلا بإذن الله.

بل إنّما قيّد رفع السماوات بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد

٣١٦

سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) على ما سنوضحه.

و لمّا كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هو توحيد الربوبيّة و بيان أنّ الله سبحانه ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ سواه لا أصل إثبات الصانع عقّب قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ بقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) إلخ، الدالّ على التدبير العامّ المتّحد باتّصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أنّ ربّ الجميع و مالكها المدبّر لأمرها واحد.

و ذلك أنّ الوثنيّة الّذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أنّ خالق الكلّ و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنّما يرون أنّه فوّض تدبير كلّ شأن من شؤون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البرّ و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القويّة فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره و يتّقي بها شرّه فلا ينفع في ردّهم إلّا قصر الربوبيّة في الله سبحانه و إثبات أنّه ربّ لا ربّ سواه، و أمّا توحيد الاُلوهيّة بمعنى إثبات أنّ الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كلّ وجود فهو أمر لا تنكره الوثنيّة و لا يضرّهم شيئاً.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلخ من غير أن يكون مقصوداً بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الّذيل في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) الآية: الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، و ما يشابهها من الآيات.

و يظهر أيضاً: أنّ قوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ ) متعلّق برفع و( تَرَوْنَها ) وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئيّة، و أمّا قول من يجعل:( تَرَوْنَها ) جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ) قال: ما الدليل على ذلك؟ فاُجيب و قيل:( تَرَوْنَها ) أي الدليل على ذلك أنّها مرئيّة

٣١٧

لكم، فبعيد. إلّا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنّها جميعاً مرفوعة من غير عمد و مرئيّة للإنسان.

و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) تقدّم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية ٥٤.

و قوله:( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) أي كلّ منهما يجري إلى أجل معيّن يقف عنده و لا يتعدّاه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كلّ من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمّى فإنّ حكم الجري و الحركة عامّ مطّرد في جميع هذه الأجسام.

و قد تقدّم الكلام في معنى الأجل المسمّى في تفسير سورة الأنعام الآية ١ فراجع.

و قوله:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) التدبير هو الإتيان بالشي‏ء عقيب الشي‏ء و يراد به ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة و نظمها بوضع كلّ شي‏ء في موضعه الخاصّ به بحيث يلحق بكلّ منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختلّ الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبّر أمر البيت أي نظم اُموره و التصرّفات العائدة إليه بحيث أدّى إلى صلاح شأنه و تمتّع أهله بالمطلوب من فوائده.

فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظماً جيّداً متقنا بحيث يتوجّه به كلّ شي‏ء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاصّ به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى، و تدبير الكلّ إجراء النظام العامّ العالميّ بحيث يتوجّه إلى غايته الكلّيّة و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا.

و قوله:( يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ظاهر السياق أنّ المراد بالآيات هي الآيات الكونيّة فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنّته تعالى يفصّل الأشياء و يميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء و يخرج من كلّ شي‏ء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم.

٣١٨

و لذا عقّبه بقوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) فإنّ يوم اللقاء هو الساعة الّتي سمّاها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتّقين من المجرمين و الفجّار قال:( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الدخان ٤٠، و قال:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: ٥٩، و قال:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) الأنفال: ٣٧.

و الأشهر عند المفسّرين أنّ المراد بالآيات آيات الكتب المنزّلة من عندالله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزّلة على أنبياء الله ليتدبّر فيها الناس و يتفكّروا و يفقهوا فإنّ في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدّمناه من المعنى أوضح لزوما و أمسّ بالسياق.

و في قوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ ) و لم يقل: لعلّكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبيّة و التأكيد له و الإشارة إلى أنّ الّذي خلق العالم و دبّر أمره فصار ربّا له هو ربّ لكم أيضاً فلا ربّ إلّا ربّ واحد لا شريك له.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلى آخر الآية، الرواسي جمع راسية من رسا إذا ثبت و قرّ، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرّها، و الزوج خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربّما يقيّد الزوجان باثنين تأكيداً للدلالة على أنّ المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.

و قوله:( هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مدّ الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

و قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض - و الله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة

٣١٩

الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مدّ الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادّخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادّخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شقّ من أطرافها أنهاراً و فجّر منها عيونا مطلّة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرّة صيفيّة و شتويّة برّيّة و أهليّة، و سلّط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويّان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثّرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدوابّ و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة.

فمدّ الأرض يسهّل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشقّ الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة و بالليل و النهار يتمّ المطلوب و في ذلك كلّه تدبير متّصل متّحد يكشف عن مدبّر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيّته، و إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون.

و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفيّ و الشتويّ و الحلو و غيره و الرطب و اليابس.

هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) الملك: ٤ اُريد به الرجوع كرّة بعد كرّة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.

و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى:( زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) جعل فيها من كلّ أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و اُنثى في أزهارها عند تكوّنها فقد أظهر الكشف الحديث أنّ كلّ شجر و زرع لا يتولّد ثمره و حبّه إلّا من بين اثنين ذكر و اُنثى.

٣٢٠

فعضو الذكر قد يكون مع عضو الاُنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة اُخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إمّا أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة وحده و الثاني كالقرع و الأوّل كشجرة القطن فإنّ عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة. انتهى.

و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلميّة الّتي لا غبار عليها إلّا أنّ ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإنّ ظاهرها أنّ نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنّها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كلّ الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.

نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ) يس: ٣٦ و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) لقمان: ١٠ و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات: ٤٩.

و ذكر بعضهم أنّ زوجين اثنين الذكر و الاُنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الاُنثى و كلّ منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفيّ و خلافه. و هو كما ترى.

و قوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أنّ المراد به إغشاء كلّ من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدلّ على ذلك.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فإنّ التفكّر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتّصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدّي إلى توجّه المجموع و كلّ جزء من أجزائها إلى غايات تخصّها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقليّ في غاية الإتقان و الإحكام فيدلّ على أنّ لها ربّاً واحداً لا شريك له في ربوبيّته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية

٣٢١

بكلّ شي‏ء و خاصّة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى:( صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) . انتهى، و قال: و الاُكل لما يؤكل بضمّ الكاف و سكونه قال تعالى:( أُكُلُها دائِمٌ ) و الأكلة للمرّة و الاُكلة كاللقمة. انتهى.

و المعنى أنّ من الدليل على أنّ هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبّر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أنّ في الأرض قطعاً متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنّات من أعناب و العنب من الثمرات الّتي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرّقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضّل بعضها على بعض بما فيه من المزيّة المطلوبة في شي‏ء من صفاته.

فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصّة بكلّ منها أو العوامل الخارجيّة الّتي تعمل فيها فتتصرّف في إشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تقصّه الأبحاث العلميّة المتعرّضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصّها، و العوامل الّتي تؤثّر في كيفيّة تكوّنها و تتصرّف في صفاتها.

قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخليّة و العوامل فما هي العلّة في اختلافها المؤدّية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادّة المشتركة بين الكلّ المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلّا أنّ هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثمّ أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة اُخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميّز شي‏ء من

٣٢٢

شي‏ء و لا اختلف في شي‏ء هذا.

و من الواجب على الباحث المتدبّر في هذه الآيات أن يتنبّه أنّ استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالاً لقانون العلّة و المعلول كما ربّما يتوهّم فإنّ إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتّى تتغيّر ذاته بتغيّر الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامّة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتّى يوافيك توضيحه في محلّ يناسبه إن شاء الله.

و لمّا كانت الحجّة مبنيّة على مقدّمات عقليّة لا تتمّ بدونها عقّبها بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

و قد ظهر من البيان المتقدّم أنّ نسبة اختلاف الاُكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئيّة و مدّ الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عزّ من سبب.

و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلّم بالغير و هو ما في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لعلّ النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنّه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الاُكل و ليس المفضّل إلّا الله سبحانه ثمّ عرّف المتكلّم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنّه هو السبب الّذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثمّ اُوجز هذا التفضيل فقيل:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلّم مع الغير عن إشعار بأنّ هناك أسباباً إلهيّة دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية إنّما سيقت حجّة لتوحيد الربوبيّة لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخّصها أنّ اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتّحدة و انتظامها عن مشيّته و تدبيره فالمدبّر لها هو الله سبحانه و هو ربّها لا ربّ غيره، فما يتراآى من المفسّرين

٣٢٣

أنّ الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محلّه.

على أنّ الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيّين و هم إنّما ينكرون وحدة الربوبيّة و يثبتون أربابا شتّى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحقّ عزّ اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أنّ للعالم صانعا، و قد تنبّه به بعضهم فذكر أنّ الآية احتجاج على دهريّة العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنّه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدلّ على ما ادّعاه.

و ظهر أيضاً أنّ الفرق بين الحجّتين أعني ما في قوله:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) إلخ و ما في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) إلخ أنّ الاُولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتّصال في التدبير المتعلّق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدّي إلى وحدة مدبّرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواصّ في الأشياء الّتي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أنّ المبدء المفيض لهذه الآثار و الخواصّ المختلفة المتفرّقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو ربّ الجميع لا ربّ غيره.

و أمّا الحجّة الاُولى المذكورة قبل الحجّتين أعني ما في قوله تعالى:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنّها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرّقات الاُمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات. و محصّلها أنّ أمر العالم على تشتّته و تفرّقه تحت تدبير واحد فله ربّ واحد هو الله سبحانه، و أنّه تعالى يفصّل الآيات فيميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء فيفصّل السعيد من الشقيّ و الحقّ من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبيّة و المعاد معا إذ قال:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن الخطّاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمّد (عليهم السلام) قال:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) يعني هذه الأرض الطيّبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.

٣٢٤

و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشيّ في شرف المصطفى و الثعلبيّ في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي - و اللفظ له - بإسناده عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ (عليه السلام): الناس من شجرة شتّى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثمّ قرأ:( جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ ) بالنبيّ و بك: قال: و رواه النطنزيّ في الخصائص عن سلمان‏، و في رواية: أنا و عليّ من شجرة و الناس من أشجار شتّى.

قال صاحب البرهان: و روي حديث جابر بن عبدالله الطبرسيّ، و عليّ بن عيسى في كشف الغمّة.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول: يا عليّ الناس من شجر شتّى و أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة ثمّ قرأ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و حسّنه و البزّاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) قال: الدقل(١) و الفارسيّ و الحلو و الحامض.

____________________

(١) الدقل بفتحتين أردء التمر و كأن الفارسي نوع منه طيب.

٣٢٥

( سورة الرعد الآيات ٥ - ٦)

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنّا تُرَاباً أَءِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلَى‏ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَديدُ الْعِقَابِ( ٦)

( بيان‏)

عطف على بعض ما كان يتفوّه به المشركون في الردّ على الدعوة و الرسالة كقولهم: أنّى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا اُنزل علينا العذاب الّذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) إلى آخر الآية قال في المجمع: العجب و التعجّب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغلّ طوق تشدّ به اليد إلى العنق انتهى.

أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقّيّة ما أنزله إلى نبيّه من معارف الدين في كتابه ملوّحا إلى أنّ آيات التكوين تهدي إليه و تدلّ عليه و اُصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثمّ فصّل القول في دلالة الآيات التكوينيّة على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبيّة و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقّيّة الرسالة و الكتاب المنزل الّذي هو آيتها، فلمّا اتّضح ذلك و استنار تمهّدت الطريق لذكر شبه الكفّار فيما يرجع إلى الاُصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم

٣٢٦

في البعث و سيتعرّض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية.

و شبهتهم في ذلك قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أورده بعنوان أنّه عجب أحرى به أن يتعجّب منه لظهور بطلانه و فساده ظهوراً لا مسوّغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوّه به إنسان لكان من موارد العجب فقال:( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) إلخ.

و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلّق( تَعْجَبْ ) إن تحقّق منك تعجّب - و لا محالة يتحقّق لأنّ الإنسان لا يخلو منه - فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلّق به تعجّبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجّب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لبّ و حجى.

و قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الّذي هو الهيكل اللّحميّ الخاصّ المركّب من أعضاء خاصّة المجهّز بقوى مادّيّة على زعمهم و كيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديداً؟.

و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كلّ واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادّتها:

فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنساناً سويّاً، و قد اُجيب عنه بأنّ إمكان استحالة الموادّ الأرضيّة منيّا ثمّ المنيّ علقة ثمّ العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سويّ و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنساناً سويّاً قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) الآية: الحجّ: ٥.

و منها: استبعاد إيجاد الشي‏ء بعد عدمه. و اُجيب بأنّه مثل الخلق الأوّل فليجز كما جاز قال تعالى:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يس: ٧٩.

و منها: أنّ الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتّى تتلبّس بالخلق الجديد

٣٢٧

و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلّا في تصوّر المتصوّر دون الخارج بنحو.

و قد اُجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أنّ الإنسان ليس هو البدن المركّب من عدّة أعضاء مادّيّة حتّى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله بل حقيقته روح علويّة - و إن شئت قلت: نفس - متعلّق بهذا المركّب المادّيّ تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصيّة و إن تغيّر بدنه و تبدّل بمرور السنين و مضيّ العمر ثمّ الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثمّ البعث هو أن يجدّد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء.

قال تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) الم السجدة: ١١ يقول إنّكم بالموت لا تضلّون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكّل بالموت يأخذ الأمر الّذي تدلّ عليه لفظة( كم ) و( نا ) و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضلّ ثمّ إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم.

فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار اُخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتّع في حياته الثانية إلّا بما يكتسبه في حياته الاُولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يعدّه في يومه لغده من موادّ السعادة فإن اتّبع الحقّ و آمن بآيات الله سعد في اُخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكبّ على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غلّ بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار.

و إذا عرفت هذا الّذي قدّمناه و تأمّلته تأمّلاً كافياً بان لك أنّ قوله تعالى:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إلى آخر الآية ليس بمجرّد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) على ما يتخيّل في بادئ النظر بل

٣٢٨

جواب بلازم القول.

و توضيح ذلك أنّ لازم قولهم: إنّ الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانيّة و انعدمت الشخصيّة أن يكون الإنسان صورة مادّيّة قائمة بهذا الهيكل البدنيّ المادّيّ العائش بحياة مادّيّة من غير أن تكون له حياة اُخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الربّ تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده و بعبارة اُخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادّيّة غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبيّ إذ لا معنى لربّ لا معاد إليه.

و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همّه في المقاصد الدنيويّة و الغايات المادّيّة من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الّذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره.

و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنّه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي الّتي أشار تعالى إليه بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا ) إلخ.

فقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إشارة إلى اللازم الأوّل و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبيّ و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به.

و قوله:( وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيّد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مرّ في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) الآية: البقرة: ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنيّة حقائق أو مجازات فراجع إليه.

و قوله:( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء.

٣٢٩

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الاستعجال طلب التعجيل بالأمر و التعجيل تقديم الأمر قبل وقته، و السيّئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسرّ النفس، و المثلات العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء، و من قال في الواحد: مثلة بضمّ الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمّتين نحو غرفة و غرفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات - أي بسكون الثاء و فتحها - انتهى.

و قال الراغب في المفردات: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات - أي بضمّ الميم أو فتحها و ضمّ الثاء - و قد قرئ: من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد. انتهى.

و قوله:( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) ضمير الجمع للّذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيّئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله:( وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) - و الجملة في موضع الحال - فإنّ المراد به العقوبات النازلة على الاُمم الماضين القاطعة لدابرهم.

و المعنى: يسألك الّذين كفروا أن تنزّل عليهم العقوبة الإلهيّة قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الاُمم الماضين الّذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب.

و قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمراً عجيباً أي إنّ ربّك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتّى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إنّ ذلك لعجيب.

٣٣٠

و يظهر من هذا المعنى الّذي يعطيه السياق:

أوّلاً: أنّ التعبير عنه تعالى بقوله:( رَبَّكَ ) إنّما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيّين لا يأخذونه تعالى ربّاً بل النبي (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) هو الّذي يأخذه ربّاً من بين قومه.

و ثانياً: أنّ المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعمّ من المغفرة و العقوبة الدنيويّتين فإنّ المشركين إنّما كانوا يستعجلون بالسيّئة و العقوبة الدنيويّتين، و المثلات الّتي يذكر الله تعالى أنّها خلت من قبلهم إنّما هي العقوبات الدنيويّة النازلة عليهم.

على أنّ العفو و المغفرة لا يختصّان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أنّ آثارهما تختصّ بذلك، و قد تقدّم ذلك مراراً فله تعالى أن يبسط مغفرته على كلّ من شاء حتّى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

و لهذه النكتة عبّر تعالى عن مورد المغفرة بقوله:( لِلنَّاسِ ) و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أيّ واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أنّ المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

فكان على هؤلاء الّذين كفروا أن يسألوه تعالى - و يستعجلوا به - أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرّع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنّه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتّى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أمّا الظلم حال ما يتلبّس به الظالم فإنّ المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

٣٣١

الجمعة: ٥.

و ثالثاً: أنّ قوله:( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنّه للتحرّز من أن يدلّ على فعليّة المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنّه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شي‏ء.

و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنّه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتّصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيّراً في بعض ما تقدّم من نكت الآية غير أنّه غير ظاهر من السياق.

و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنّة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشي‏ء إلّا بما في قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية: النساء: ٤٨.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ‏ ) قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لا تّكل كلّ أحد.

٣٣٢

( سورة الرعد الآيات ٧ - ١٦)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ إِنّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧) اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَى‏ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَى‏ءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ( ٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ( ٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِالّيْلِ وَسَارِبُ بِالنّهَارِ( ١٠) لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ( ١١) هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشِئُ السّحَابَ الثّقَالَ( ١٢) وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ( ١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَي‏ءٍ إِلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلاَلٍ( ١٤) وَللّهِ‏ِ يَسْجُدُ مَن فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُم بِالْغُدُوّ وَالْآصَالِ( ١٥) قُلْ مَن رّبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُم مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِم نَفْعاً ولاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ

٣٣٣

يَسْتَوِي الْأَعْمَى‏ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ( ١٦)

( بيان‏)

تتعرّض الآيات لقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و تردّه عليهم أنّ الرسول ليس له إلّا أنّه منذر أرسله الله على سنّة الهداية إلى الحقّ ثمّ تسوق الكلام فيما يعقبه.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحقّ و الباطل المهلكة للاُمّة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) بأن يكون تكراراً لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو اُريد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: و يقولون لو لا إلخ.

بل المراد أنّهم يقترحون على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية اُخرى غير القرآن تدلّ على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبؤون به و يسألون آية اُخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريض منهم للقرآن.

و أما قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فإعطاء جواب للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلّغ الجواب إيّاهم تعريض لهم أنّهم لا يستحقّون جواباً لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أنّ اقتراحهم الآية مبنيّ على زعمهم - كما يدلّ عليه كثير ممّا حكى عنهم القرآن

٣٣٤

في هذا الباب - على أنّ من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبيّة مطلقة على كلّ ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما اُريد منه.

و الحال أنّ الرسول ليس إلّا بشراً مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذّرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنّة الإلهيّة الجارية في خلقه أنّه يهدي كلّ شي‏ء إلى كماله المطلوب و يدلّ عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم.

فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً و ليس عليه إلّا تبليغ رسالة ربّه و أمّا الآيات فأمرها إلى الله ينزّلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.

فالمعنى: أنّهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شي‏ء من ذلك و إنّما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنّة الله في عباده أن يبعث في كلّ قوم هاديا يهديهم.

و الآية تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحقّ إمّا نبيّ منذر و إمّا هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مرّ بعض ما يتعلّق بالمقام في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) قال في المفردات: غاض الشي‏ء و غاضه غيره نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى:( وَ غِيضَ الْماءُ ) ( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الّذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الّذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى.

و على هذا فالأنسب أن تكون الاُمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله:( ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) و( ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) و( ما تَزْدادُ ) إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيّام الحمل فما تحمله كلّ اُنثى هو الجنين الّذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم الحيض تنصبّ فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و

٣٣٥

ما تزداده هو الدم الّتي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة الّتي تراها أيّام الحمل أحيانا و هو الّذي يظهر من بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و ربّما ينسب إلى ابن عبّاس.

و أكثر المفسّرين على أنّ المراد بما تغيض الأرحام الوقت الّذي تنقصه الأرحام من مدّة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.

و فيه خلوّة عن شاهد يشهد عليه فإنّ الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة الّتي لا غنى لها عن القرينة.

و يروى عن بعضهم أنّ المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقلّ مدّة الحمل و هي ستّة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدّة الحمل، و عن بعض آخر أنّ الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه.

و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أنّ الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.

و قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) المقدار هو الحدّ الّذي يحدّ به الشي‏ء و يتعيّن و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشي‏ء الموجود عن تعيّن في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجداً ألبتّة.

و هذا المعنى أعني كون كلّ شي‏ء مصاحبا لمقدار و قرينا لحدّ لا يتعدّاه حقيقة قرآنيّة تكرّر ذكرها في كلامه تعالى كقوله:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ) الطلاق: ٣، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و غير ذلك من الآيات.

فإذا كان الشي‏ء محدوداً بحدّ لا يتعدّاه و هو مضروب عليه ذلك الحدّ عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شي‏ء كما قال:( إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) الحجّ: ١٧ و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و قال:( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) السبأ: ٣ فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كلّ اُنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد.

٣٣٦

فذيل الآية أعني قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) تعليل لصدرها أعني قوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) إلخ و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أنّ الله يعلم بكلّ شي‏ء و يقدر على كلّ شي‏ء و يجيب الدعوة و يخضع له كلّ شي‏ء فهو أحقّ بالربوبيّة فإليه أمر الآيات لا إليك و إنّما أنت منذر.

قوله تعالى: ( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) الغيب و الشهادة - كما سمعت مرارا - معنيان إضافيّان فالشي‏ء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أنّ الأشياء - كما تقدّم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفكّ عنها فما كان من الأشياء داخلاً في حدّ الشي‏ء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجاً عن حدّ الشي‏ء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.

و من هنا يظهر أنّ الغيب لا يعلم به إلّا الله سبحانه أمّا أنّه لا يصير معلوماً لشي‏ء فلأنّ العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشي‏ء بما هو خارج عن حدّ وجوده أجنبيّ عن إحاطته، و أمّا أنّه تعالى يعلم الغيب فلأنّه تعالى غير محدود الوجود بحدّ و هو بكلّ شي‏ء محيط فلا يمتنع شي‏ء عنه بحدّه فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنّه غيب بالنسبة إلى غيره.

فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنّه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللّذان يتحقّقان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أنّ الّذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الّذي لا يخرج عن حدّ وجودهم و الّذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكلّ شي‏ء.

و قوله( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإنّ الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن

٣٣٧

كذلك كان صغيراً ثمّ توسّعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الّذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كلّ كمال لشي‏ء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كلّ ذي كمال و زيادة.

و المتعال صفة من التعالي و هو المبالغة في العلوّ كما يدلّ عليه قوله:( تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) أسرى: ٤٣ فإنّ قوله:( عُلُوًّا كَبِيراً ) مفعول مطلق لقوله:( تَعالى) و موضوع في محلّ قولنا:( تعاليا ) فهو سبحانه عليّ و متعال أمّا أنّه علي فلأنّه علا كلّ شي‏ء و تسلّط عليه و العلوّ هو التسلّط، و أمّا أنّه متعال فلأنّ له غاية العلوّ لأنّ علوّه كبير بالنسبة إلى كلّ علوّ فهو العالي المتسلّط على كلّ عال من كلّ جهة.

و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) بقوله:( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) لأنّ مفاد مجموع الاسمين أنّه سبحانه محيط بكلّ شي‏ء متسلّط عليه و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه شي‏ء من جهة ألبتّة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه غيب حتّى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلّط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنّه كبير متعال.

قوله تعالى: ( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ ) السرب بفتحتين و السروب الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مرّ مرّاً و مروراً. كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.

و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالماً بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسرّ القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسرّ بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمدّ بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرّز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.

٣٣٨

قوله تعالى: ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) إلخ ظاهر السياق أنّ الضمائر الأربع( لَهُ ) ( يَدَيْهِ ) ( خَلْفِهِ ) ( يَحْفَظُونَهُ ) مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلّا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، فهذا الإنسان الّذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الّذي له معقّبات من بين يديه و من خلفه.

و تعقيب الشي‏ء إنّما يكون بالمجي‏ء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقّبات بقوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إنّما يتصوّر إذا كان سائراً في طريق، ثمّ طاف عليه المعقّبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: ٦ و في معناه سائر الآيات الدالّة على رجوعه إلى ربّه كقوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس: ٨٣( وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) العنكبوت: ٢١ فللإنسان و هو سائر إلى ربّه معقّبات تراقبه من بين يديه و من خلفه.

ثمّ من المعلوم من مشرب القرآن أنّ الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسمانيّ و البدن المادّيّ فحسب بل هو موجود تركّب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشؤون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجّه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة الّتي يتوسّل بها في مقاصدها و مآربها.

و على هذا يتّسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعمّ الاُمور الجسمانيّة و الروحيّة جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيّات الّتي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانيّة الّتي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربّه و الحالات الروحيّة الّتي يعتورها و يتقلّب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادّخر لها من الثواب و العقاب كلّ ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه

٣٣٩

و لهذه المعقّبات الّتي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أنّ لها تعلّقا بالإنسان.

و الإنسان الّذي وصفه الله بأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً لا يقدر على حفظ شي‏ء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنّما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى:( اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) الشورى: ٦ و قال:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١ و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) الانفطار: ١٠.

فلو لا حفظه تعالى إيّاها بهذه الوسائط الّتي سمّاها حافظين تارة و معقّبات اُخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنّه كما أنّ حفظها بأمر من الله عزّ شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأنّ الملك لله لا يدبّر أمره و لا يتصرّف فيه إلّا هو سبحانه فهو الّذي يهدي إليه التعليم القرآنيّ، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

و الملائكة أيضاً إنّما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢، و قال:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

و من هنا يظهر أنّ هذه المعقّبات الحفّاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإنّ جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أنّ جانب البقاء و الاستقامة و الصحّة بأمر الله فلا يدوم مركّب جسمانيّ إلّا بأمر الله كما لا ينحلّ تركيبه إلّا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحيّة أو عمل أو أثر عمل إلّا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلّا بأمر من الله فالأمر كلّه لله و إليه يرجع الأمر كلّه.

و على هذا فهذه المعقّبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله في الآية المبحوث عنها:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) .

و بما تقدّم يظهر وجه اتّصال قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431