الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81300 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهكذا نلاحظ كثيراً من الأدلة القرآنية التي تؤيد هذا الأمر. إذن ما ذهب إليه الإمامية صحيح ، لا يخالف القرآن كما إدعاه البعض.

وبعد هذا البيان والدراسة في بحث (الغيب) ، ندخل في دراسة القصة الغيبية.

ب ـ أقسام القصة الغيبية :

سبق أن قلنا أنّ هذا النوع من القصص تعد أحداثها بتفاصيلها مصدرها الوحي ، فهذه القصص من قبيل الغيب الذي كشفه الله عَزّ وجَلّ لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي غيب سواء أكانت في الماضي أو المستقبل ، فعلى هذا يمكن تقسيم القصة الغيبية إلى ما يلي :

الأول ـ قصص الماضي :

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب ، خصوصاً ما جرى على الأمم الماضية ، فعلى سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته حيث أوحى الله سبحانه إلى يوسف في قوله تعالى :( لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [يوسف / ١٥]. ففي الآية غيب موحى إلى يوسف ، وكذلك غيب موحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الوحي له بما حصل ليوسف عليه السلام وأكّد على ذلك في قوله تعالى :( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) [يوسف / ١٠٢]. إلى غير ذلك مما ذكره القرآن الكريم من أخبار الأمم الماضية ، فالقرآن ذكر تلك القصص على نحو الإختصار ، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوضحها ، فالملاحظ أنّ تلك القصص وما تضمنته من أحداث ليست في متناول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تحدث أمامه ، كما أنّه لم يُنشئها ولم يأخذها عن طريق غيره

١٠١

من المؤرخين ، بل مصدره الوحي ، وأخذ عنه أهل بيته عليهم السلام. «وذكر العلامة الجليل الورع الثقة النبيل ، السيد هاشم البحراني في كتابه (مدينة المعاجز) أكثر من ستمائة رواية في إخبارات الأئمة الإثني عشر صلوات الله عليهم»(١٠٥) .

الثاني ـ قصص المستقبل :

يتناول هذا اللون من القصص أموراً مختلفة كلها تتحدث عن أمور غيبية خاصة تحدث في الواقع ، ولو تأملنا ما ذكر في القرآن الكريم ، وعلى لسان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأمكن تقسيمه إلى ما يلي :

أولاً ـ أخبار تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :

رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ـ وكان ذلك في المدينة المنورة قبل أن يخرج إلى الحديبية ـ أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكة عامهم هذا ، فلما إنصرفوا ولم يدخلوا مكة ؛ قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله هذه الآية :( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) [الفتح / ٢٧]. وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة. وكان عام سبع للهجرة وتَمّ الفتح القريب من دونه ـ وهو صلح الحديبية ـ ، الذي كان مقدمة لفتح مكة سنة ثمان للهجرة.

ثانياً ـ أخبار تحققت بعد حياته :

وهذا ال نوع من القصص منه ما هو مشهور كأخبار آخر الزمان ، المسمى بـ(أحاديث الفتن والملاحم) ، ويندرج تحت هذا النوع كثير من الإخبارات ،

__________________

(١٠٥) ـ النمازي ، الشيخ علي الشاهرودي : مستدرك سفينة البحار ، ج ٨ / ٨٠.

١٠٢

كخبر الدابة التي تخرج للناس في آخر الزمان ، وقد جاء في القرآن الكريم خبرها في قوله تعالى :( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ) [النمل / ٨٢]. ومن أراد تفاصيل ذلك ؛ فليراجع كتب التفسير.

كما ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة إخبارات غيبية ، من أهمها ما يحل على أهل بيته عليهم السلام كإخباره بمقتل سبطه الحسين عليه السلام في كربلاء ، وقد ذكر منها ابن الأثير في ترجمة أنس بن الحارث حيث قال : «روى حديثه أشعث بن سحيم ، عن أبيه عن أنّه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (إنّ ابني هذا يقتل بأرض من أرض ال عراق ، فمن أدركه فلينصره) ، فقتل مع الحسين عليه السلام»(١٠٦) .

وأيضاً إخباره عن الإمام المهدي عليه السالم ، وقد ذكرها علماء المسلمين ، لا ينكر ذلك إلا مكابر لا قيمة لرأيه.

ثالثاً ـ أخبار البعث والنشور :

لعلّ من أهم القضايا التي واجه بها نبينا الأعظم عليه السلام مشركي قريش قضية البعث والنشور ، فقد أنكر المشركون هذا الأمر باصرار عنيف ، واستغربوا من ذلك أشد الإستغراب ، وقد سجل القرآن الكريم هذا الإنكار في أكثر من آية ، منها ما يلي :

قوله تعالى :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ) [سبأ / ٧ ـ ٨].

__________________

(١٠٦) ـ ابن الاثير ، علي بن محمد : أسد الغابة ، ج ١ / ١٢٣.

١٠٣

وقوله تعالى :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) [الجاثية / ٢٤].

وقوله تعالى :( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ) [الصافات / ١٦ ـ ١٩].

وإزاء هذا الإنكار لهذه القضية ، إستخدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القصة في عرض البعث واليوم الآخر ، وأكّد على ذلك بأن نَزّل المستقبل منزلة الحار ، فهذه القصص في الوقت الذي تحمل الرد على المنكرين ، فإنّها تُؤكِّد الإيمان بالبعث والنشور ، كما أنّ هناك عاملاً جوهرياً يضاف إلى وجود هذا النوع من قصص العالم الآخر ، ووراء كثرته وتكراره أنّ ذلك العالم هو محل العقاب والثواب ، وقضية العقاب والثواب أساسية يتمد عليها منهج التربية في الشريعة الإسلامية ، من أجل قيام الإنسان المسلم على مبادئ دينه والإلتزام بها ، حيث سيظل وازع الإحساس بالمسؤولية ، ـ عما يقول أو يفعل ـ مائلاً أمامه من خلال تصوره لحياة أخرى يؤمن بأنّه سيجازي فيها على سلوكه ، على الخير بالخير في الجنة والنعيم ، وعلى الشر بالشر في النار والعذاب ، كما في قوله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة / ٧ ـ ٨].

١٠٤

٣ ـ القصة الخيالية

أ ـ الخرافية

ب ـ التمثيلية

ج ـ الخيال العلمي

١٠٥
١٠٦

٢ ـ القصة الخيالية :

هي حكايات يبتدعها خيال المؤلف ، قد تكون نثراً أو نظماً ، والروايات والقصص القصيرة ، هي من أشهر أشكال قصص الخيال رواجاً ، وسمات هذه القصص أنّها تحتوي على عناصر خيالية ، إما كلياً أو جزئياً ، وهذه العناصر تشمل الشخصيات والأوضاع المحيطة ، وفي بعض قصص الخيال تكون العناصر الخيالية واضحة ـ أي بعيدة عن الواقع ـ مثل القصة الإطارية ، وهي قصة تروي في إطارها مجموعة من الحكايات ، ومن أحسن الأمثلة عليها قصة شَهْرَيَار الملك وشَهْرَزَاد في كتاب (ألف ليلة وليلة) ، ومع ذلك ليس من الضروري أن تختلف كثيراً عن الواقع ؛ إذ أنّ كثيراً من نماذج قصص الخيال تمثل شخصيات قريبة من الواقع ، وتصف أوضاعاً واقعية ، وبعض القصص ترتكز على شخصيات وحوادث حقيقية ، وتدمج عادة العناصر الواقعية في قصص الخيال مع الأوضاع والشخصيات والحوادث الخيالية ، والغرض الرئيس لمعظم قصص الخيال هو التسلية ، إلا أنّ هناك بعض الأعمال الجادة من قصص الخيال التي تحفز العقل وتدعو إلى التفكير عن طريق إيجاد الشخصيات ، ووضعها في مواقف محددة ، وتأسيس وجهات النظر ، ويقوم مؤلفو قصص الخيال الجادة بتوضيح الأحكام المميزة بين الأشياء ، وهذه الأحكام تتناول المسائل الأخلاقية والفلسفية والنفسية والإجتماعية ، ولعلّ أهم ما يمكن دراسته من أقسامها هي التالي :

أ ـ الخرافية :

الخُرافَة : «الحديث المستملح من الكذب. وقالوا : حديث خرافة ، ذكر إبن الكلبي في قولهم حديث خرافة أنّ خرافة من بني عُذْرَة أو من جُهَيْنَة ، إختطفته الجن ، ثم رجع إلى قومه فكان يُحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها

١٠٧

الناس ، فكذبوه فجرى على ألسن الناس»(١٠٧) . وعُرِّفت الخرافة أيضاً بـ«معتقد لا عقلاني أو ممارسة لا عقلانية. والخرافات قد تكون دينية ، وقد تكون ثقافية أو إجتماعية. فمن الخرافات الدينية إيمان بعض المشلولين أو المقعدين ، بقدرة قديس بعينه أو قديسة بعينها على شفائهم.

ومن الخرافات الثقافية أو الإجتماعية ، إيمان كثير من الناس بأنّ الخرزة الزرقاء تدفع الشر ، وبأنّ نعل الفرس مجلبة للخير»(١٠٨) وبعد هذا التعريف فالحكاية الخرافية : «قصة أو حكاية خيالية قصيرة ذات مغزى في معظم الحكايات الخرافية ، يمثل واحد أو أكثر من الشخصيات حيواناً أو نباتاً أو شيئاً يتكلم ويتصرف كمخلوق بشري ، ويمكن أن نُقص الحكاية الخرافية نثراً أو شعراً ، وفي عديد من الحكايات يمكن تلخيص المراد من القصة ، أو مغزاها في النهاية على شكل مثل شعبي»(١٠٩) .

وهذا النوع من القصة الخيالية لا قيمة له على المستوى الديني ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية.

ب ـ التمثيلية :

لست بصدد دراسة القصة التمثيلية من جميع جوانبها ، وإنّما الهدف هو التعريف بها من بعض جوانبها ، في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي يهمنا بحثه هو التالي :

__________________

(١٠٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٩ / ٦٥ ـ ٦٦.

(١٠٨) ـ البعلبكي ، منير : موسوعة المورد العربية ، ج ١ / ٤٦١.

(١٠٩) ـ الموسوعة العربية العالمية ، ج ٩ / ٤٨١.

١٠٨

١ ـ التعريف بالمثل :

يطلق المثل على معانٍ ثلاثة ، هي كالتالي :

الأول ـ المثل السائر :

هو كلمة موجزة قيلت في مناسبة تناقلتها الأجيال بدون تبديل ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ من البيان لسحرا)(١١٠) ، قال الميداني : «يعني أنّ بعض البيان يعمل عمل السحر ، ومعنى السحر : إظهار الباطل في صورة الحق ، والبيان : إجتماع الفصاحة والبلاغة ، وذكاء القلب مع اللسَنِ ، وإنما شُبّه بالسحر ، لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له. يضرب في إستحسان المنطق ، وإيراد الحجة البالغة»(١١١) . والهدف منه مقصور على التطبيق.

الثاني ـ المثل القياسي :

ويقصد به البيانيون متشكل من أي وصف أو قصة أو تصوير رائع لتوضيح فكرة ، عن طريق تشبيه يسميه البلاغيون (التمثيل المركب) لتقريب أمر معقول من محسوس يجمع بذلك بين عمق الفكرة ، وجمال التصوير ولم يقصر على سماع أو نقل ، والإهتمام بصياغة الفكر فيه أكثر من إقتباس مثل سائر ، وحاصل القياسي : هو ما يخلقه المتمثل لغرض ينشده ، ومن نماذجه في القرآن الكريم ، قوله تعالى :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل / ١١٢]. فالآية فيها إستعارة تمثيلية ؛ حيث أخذ اللباس في الجوع والخوف الدال على إستعمالها لمن

__________________

(١١٠) ـ الميداني ، احمد بن محمد النيسابوري : مجمع الأمثال ، ج ١ / ٧.

(١١١) ـ نفس المصدر.

١٠٩

كفر بأنعم الله تعالى ـ الأمن والصحة والكفاية في الرزق وغيرها من النعم التي لا تحصى ـ ، ولو إكتفى بالإذاقة لفات ذلك. وفي الأمثال النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أيها الناس إياكم وخضراء من الدِمَن. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١١٢) .

قال الشريف الرضي : «... أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن ـ وهي منبت السوء ، أو في البيت السوء ـ ، فوجه المجاز في هذا القول ، أنّه عليه الصلاة والسلام ، شَبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة لجمال ظاهرها ، وشبّه منبتها السوء بالدِمْنَة لقباحته ، والدِمْنَة هي : الأبعار المتجمعة تركبها السوافي ، ويعلوها الهابي ، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتاً خضراء يروق منظره ويسوء مخبره ، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها ، أو مطعوناً عليها في نسبها ، لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها ، وتضرب في نسلها ، قال الشاعر :

وأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عِرق السوء لا بدّ مدرك(١١٣)

وفي السيرة الحسينية ما جاء في خطبته في مكة المكرمة : «خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه ، فكأنّي بأوصالي تُقطعها عُسْلَان الفَلوات بين النَوَاوِيس وكربلا ، فيملأن مني أكراشاً جُوفَاً ، وأجْرُبَة سُغُبَاً»(١١٤) .

__________________

(١١٢) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ٢٧٢.

(١١٣) ـ الشريف الرضي ، محمد بن الحسين : المجازات النبوية / ٦٠ ـ ٦١.

(١١٤) ـ السماوي ، الشيخ محمد طاهر : إبصار العين في أنصار الحسين / ٦.

١١٠

إنّ بلاغة هذه الخطبة وعُلو مضمونها ، يوجب لنا الإطمئنان بصدورها عن سيد الشهداء عليه السلام ، كما أنّها على وجازتها تضمنت نهج الحسين عليه السلام وهدفه ، ونهايته ووصف مصرعه ومكانه ، والذي يهمنا بحثه ـ هنا ـ بيان بعض أوجهها البلاغية ، المتمثلة فيما يلي :

أولاً ـ عَبّر الحسين عليه السلام عن الموت الذي هو طبيعي للبشر بأنّه : (خط مخط القِلادة على جِيدْ الفَتاة). وهذا التعبير براعة إستهلال عجيبة المعنى ؛ حيث أنّ مخط القلادة يراد منه شيئين :

أ ـ إسم مكان : وهو موضع خط القلادة ـ وهي الجلد المستدير من الجيد ـ ، فكما أنّ ذلك الجلد لازم على الرقبة ، كذلك الموت على ولد آدم.

ب ـ إسم مصدر : والمراد به نفس الخط ، فيكون معنى ذلك : أنّ الموت دائرة لا يخرج ابن آدم عن وسطها ، كما أنّ القلادة دائرة لا يخرج الجيد منها حال تقليده. فإذا كان الموت لابد منه ؛ فليختر الإنسان أفضل ميتة ، وأعظمها شرفاً ونفعاً ، وإن أدّت إلى تقطيع أوصاله.

ثانياً ـ إختيار الحسين عليه السلام لنفسه الموتة الكريمة ، التي هي مرتبطة بأمر السماء التي تتم فيها شهادة الحسين وسعادته ، وسعادة من سار على نهجه ، لقد قضي الأمر وتمت الخيرة ، وكيفية القتلة ومكانها وعَبّر عن ذلك بقوله : (وخِير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تُقَطّعها عُسْلَان الفَلوات ، بين النَواوِيس وكربلاء).

فعسلان الفلوات : هي الذئاب ، ولعلّ الحسين عليه السلام يعني بها ـ مجازاً ـ الوحوش البشرية من أعدائه التي وَزّعت جسده الطاهر ، وتركته بالعراء وسلبته ووطأته بالخيول ، ثم تركته بلا مواراة ثلاثة أيام ، وقد عَبّر عن وحشيتهم بقوله

١١١

(فيملأن مني أكراشاً جُوْفَاً ـ أي واسعة ـ ، وأجربة سُغُباً ـ أي البطون الجائعة ـ ، وهذا تعبير عن شدتها وكثرة أكلها من دون محام ولا دافع عن الأعضاء المقطعة ، ويُؤَيّد هذا المعنى ما قاله لأصحابه لما نزل بَطْن العَقَبة : «ما أراني إلا مقتولاً ، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع»(١١٥) . أراد الحسين عليه السلام أن يُبيّن للمسلمين من خلال خطبته ، تلك الجريمة النكراء التي إقترفها الأمويون في حق البيت النبوي الطاهر ، ومدى اللثم والخسة في نفوس أعدائه ، حيث إمتدت تلك الجريمة ـ بعد تقطيع الحسين عليه السلام بالسيوف ، ووطئ جثته بالخيول ـ لتدخل الرعب والهلع في نفوس النساء والأطفال ، وتُعَرِّضَهم للعطش والحرق والسحق والأسر وضرب السياط ، وبهذا أراد الحسين عليه السلام أن يسجل على صفحات التاريخ ، صوراً من البطش والهمجية التي لا يرتكبها إلا الذئاب المفترسة والوحوش الضارية.

الثالث ـ مطلق ما يسمى بالمثل :

سواء فيه المثل السائر ، والقياسي والفرضي المعروف بالخياليات التي صنعت للإعتبار والموعظة ، كفرضيات كتاب (كليلة ودمنة) ، وكل وصف به نوع غرابة أو إعجاب زائد ، كقوله تعالى :( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ .) [محمد / ١٥]. المستفاد من كلمات اللغويين أنّ المثل بمعنى التمثيل والتنظير ، وسمي المثل مثلاً لأنّه ماثل بخاطر الإنسان ؛ أي شاخص به. يقول الجوهري : «ومثلت له كذا تمثلاً إذا صَوّرت له مثاله

__________________

(١١٥) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق الموسوي : مقتل الحسين / ١٨١.

١١٢

بالكتابة وغيرها»(١١٦) . فكأنّ مراد الجوهري الصورة بالكتابة والتمثال بخير الكتابة ؛ لأنّ غير الكتابة إما يكون وصفاً ؛ فهو أمر تخييلي محض ، وإما أن يكون عملاً يدوياً محسوساً فهو التمثال. فيكون الغاية من سوق المثل والتنظير له إقامة الحجة أو إظهار آية دالة على شيء ما. فالأسلوب في الآية عرضها مثول وانتصاب لحقيقتها أمام الناظر. ومن هذا الباب ما جاء عن الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، حينما إستدعى ابن سعد ومَثّل له نهايته ، حيث قال له : «أي عمر ، أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدّعي بلاد الرّي وجُورجَان ، والله لا تهنأ بذلك ، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فصرف بوجهه عنه مغضباً»(١١٧) .

وعند خروج الأكبر عليه السلام إلى الميدان ؛ صاح بعمر بن سعد : «مالك؟! قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسَلّط عليك من يذبحك على فراشك»(١١٨) .

٢ ـ أهمية المثل :

للمثل أهمية كبرى يمكن تلخيصها فيما يلي :

١ ـ إنّ أهمية الأمثال بيانية ، حيث لم يكن في كلام العرب أوجز منها ، ولا أشد إختصاراً. قال إبراهيم النظام : «إجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في

__________________

(١١٦) ـ الجوهري ، إسماعيل بن حَمّاد : تاج اللغة وصحاح العربية ، ج ٥ / ١٨١٦.

(١١٧) ـ المقرّم ، عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٥.

(١١٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٧.

١١٣

غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة»(١١٩) .

٢ ـ إنّ المقصود من ضرب الأمثال ، أنّها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ؛ وذلك لأنّ الغرض في المثل أن تنفعل به النفوس ، وتؤمن به القلوب ، فإن كان مدحاً ؛ كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس ، وأعظم وأهز للعطف ، وأسرع للإلف ، وأذكر وأيسر على الألسن ، وأولى بأن تعتلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذماً ؛ كان مَسّه أوجع ، ووقعه أشدّ ، وحَدّه أحد. ومن هذا ما ورد في الخطب الحسينية في الطريق وفي كربلاء. وكذلك ما ورد عن أهل بيته عليهم السلام أثناء الخطب في الكوفة ، ويمكن التركيز منها على ما يلي :

المثل في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) :

قال عليه السلام لابن عباس : «والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقَة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذبهم ، حتى يكونوا أذلّ من فِرَام المرأة»(١٢٠) .

وقال أثناء طريقه إلى الكوفة : «إنّ هؤلاء أخافوني ـ وهذه كتب أهل الكوفة ـ وهم قاتليَّ ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا الله محرماً إلا انتهكوه ؛ بعث

__________________

(١١٩) ـ الغروي ، الشيخ محمد : الأمثال النبوية ، ج ١ / ١٠.

(١٢٠) ـ المقرّم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٢٣٤.

١١٤

الله إليهم من يقتلهم ، وحتى يكونوا أذلّ من فِرَام الأمّة»(١٢١) . وخاطب الأعداء يوم عاشوراء بقوله : (يا عَبيد الأمّة)(١٢٢) تحقيراً لهم.

إيضاح أهم مفردات المثل الحسيني :

الفِرَام : ورد في كتب اللغة أنّ (الفِرَام) : دواء تُضيِّق به المرأة المسلك ، أو حب الزبيب تحتشى به لذلك ، وكانت في أحراح ثقيف سعة يتضيقن بعجم الزبيب. والفرامة : هي الخرقة تحتشي بها المرأة عند الحيض كالفِرَام ، وفيها يقول الشاعر :

وجَدْتُك فيها كأمِّ الغلام

متى ما تَجِدْ فَارِما تَفْترِم(١٢٣)

وأيضاً قال في (بَطْن العَقَبة) : «إنّهم لن يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي ، فإذا فعلوا ذلك ؛ سَلّط الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم»(١٢٤) .

وقال في (الرُهَيَمة) : «وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله ليقتلوني فيلبسهم الله ذِلّاً شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، ويسلط عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذلّ من قوم سَبأ ؛ إذ ملكتهم إمرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(١٢٥) . هذه بعض الأمثال الحسينية الواردة في خطبه عليه السلام.

__________________

(١٢١) ـ المصدر السابق / ١٧٥.

(١٢٢) ـ نفس املصدر / ١٦٨.

(١٢٣) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ١٢ / ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(١٢٤) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ١٨١.

(١٢٥) ـ نفس المصدر / ١٨٥.

١١٥

وإن كان وعظاً ؛ كان أشفى للصدر ، وأدعى للفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، ويبصر الغاية.

المثل في خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة :

ومما ورد في الخطبة الزينبية التي خطبتها في الكوفة ـ من الأمثال ما يلي : «الحمد لله ، والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الخَتَل والغَدْر ، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّه ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»(١٢٦) . تشير أم المصائب زينب عليها السلام إلى قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [النحل / ٩٢].

وبعد مراجعة كتب المفسرين حول هذه الآية ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولاً ـ هذا مثل قرآني يشير إلى المرأة التي غزلت ثم نقضت غزلها من بعد إمرار وفَتلٍ للغزل ؛ وهي إمرأة حمقاء من قريش ، واسمها رَيطَة بنت عمرو ، بن كعب ، بن سعد ، بن تميم ، بن مُرّة ، وكانت تسمى خَرْقَاء مكة ، كانت تغزل مع جواريها إلى إنتصاف النهار ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، ولا يزال ذلك دأبها.

ثانياً ـ هذا نهي من الله للمكلفين أن يتصفوا بالصفات المذكورة في الآية ، المندرجة تحت الألفاظ التالية :

__________________

(١٢٦) ـ المصدر السابق / ٣١١.

١١٦

١ ـ أنْكَاثاً : جمع نِكْث ، وكل شيء نقض بعد الفتل ؛ فهو أنكاث حبلاً كان أو غزلاً.

٢ ـ دَخَلاً : الدَخَل ، ما أدخل في الشيء على فساد ، فالمراد بالدخل وسيلته ، من تسمية السبب باسم المسبب ؛ أي وسيلة للغدر والخدعة والخيانة ؛ تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتدعونهم بنقضها. ومعنى ذلك : أنكم كمثلها ، إذا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم فتؤدونها وتعقدونها ، ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثلها ، والله ينهاكم عنه.

٣ ـ أرْبَى : أي أكثر عدداً ومنه أربا فلان للزيادة التي يزيدها على غريمة في رأس ماله. ومعنى ذلك لا ينقضوا العهد بسبب أن يكون قوم أكثر من قوم ؛ أي لا تنقضوا عهدكم ، متخذيها دغلاً وغدراً وخديعة ، لمداراتكم قوماً هم أكثر عدداً ممن عاهدتم له ، بل عليكم الوفاء والحفظ لما عاهدتم عليه. فالسيدة زينب عليها السلام تذكرهم وتوبخهم بالعهد والبيعة لسيد الشهداء عليه السلام التي نقضوها ، وشبهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة ، إلى أن قالت : «ألا وهل فيكم إلا الصَلَف النَطَف ، والعجب والكذب والشَنِف ، ومَلِق الإماء ؛ وغَمَز الأعداء؟!» وفي هذا المقطع عَبّرت عنهم بألفاظ تعيبهم وتكشفهم بها توبيخاً لهم (فالصَلَف) : الذي يمتدح بما ليس عنده. وفي حديث المؤمن : (لا عنف ولا صَلَف) ، يقال : سحاب صلف ، إذ كان قليل الماء ، كثير الرعد ، وفي المثل (رُبّ صَلَف تحت الرَاعِدَة) يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم فيه»(١٢٧) .

__________________

(١٢٧) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٥ / ٨٢.

١١٧

(والنَطَفَ) : «القذف بالفجور ، أو الفساد ، أو الشر»(١٢٨) .

(والشنف) : المبغض(١٢٩) .

(ومَلِق الإماء) :

«المَلأِق : الضعيف. أو التودد والتذلل ، وإبداء ما باللسان من الإكرام والودّ ما ليس في القلب»(١٣٠) .

(وغَمَز الأعداء) :

«الغَمَز : الضعف والميل والعيب»(١٣١) ؛ أي أنتم ضعاف في عقولكم وعملكم بحيث إستزِهدكم الأعداء ، وسخروا بكم بإطاعتكم لهم. إلى أن قالت : «أو كَمَرْعَى على دِمّنَة ، أو كقَصّةٍ على مَلْحُودَة».

(الدِمنَة) :

«هي ما تُدمّنُه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها ؛ أي تلبّده في مرابضها ؛ فربما نبت الحسن النضير. ومنه الحديث : (فينبتون نبات الدِّمن في السيل) ، هكذا جاء في رواية بكسر الدال وسيكون يرعى البعير ؛ لسرعة ما ينبت فيه»(١٣٢) .

وقيل الدِّمنة : هي المنزل الذي ينزل فيه أخيار العرب وتحصل فيه بسبب نزولهم تغيّر في الأرض بسبب الأحداث الواقعة منهم ومن مواشيهم ، فإذا أمطرت أنبتت نبتاً حسناً شديد الخضرة والطراوة ؛ لكنّه مرعى وَبِيء للإبل

__________________

(١٢٨) ـ لويس ، معلوف : المنجد في اللغة / ٨١٦.

(١٢٩) ـ نفس المصدر / ٤٠٤.

(١٣٠) ـ نفس المصدر / ٧٧٤.

(١٣١) ـ نفس المصدر / ٥٥٩.

(١٣٢) ـ ابن الأثير ، المبارك بن محمد الجزري : نهاية في غريب الحديث ، ج ٢ / ١٣٤.

١١٨

مُضرّبها)(١٣٣) . ومن هذا ، ما ورد في الحديث النبوي (.. إياكم وخَضْرَاء الدِّمن ، وقيل يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وما خضراء الدِّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السوء)(١٣٤) .

قال الشريف الرضي (ره) : «والقول الآخر : أن يكون عليه الصلاة والسلام ؛ إنّما نهى في الحقيقة عن تغارض النفاق وتعاير الأخلاق ، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل ، وينطوي عن الباطن الدميم ، أو يخدعه بحلاوة اللسان ، ومن خلفها مرارة الجنان ، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله :

وقد يَنْبُتُ المرْعَى على دِمَنِ الثّرَى

وتَبْقَى حَزَازَاتُ النفوس كما هِيَا

كأنه أراد ، إنا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر ، فإنّا نضمر لكم على باطن الغش والغمز ، ومثل هذا قول الآخر :

وفِينَا وإن قِيلَ إصْظَلحْنَا تَضَاغُنٌ

كما طرّ أوبارُ الجِرَابِ على النّشْرِ

وقال أهل العربية : النشر أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ ؛ وهو الجرب فيرى كأن ظاهره سليم وباطنه سقيم»(١٣٥) ، وبعد هذا الإيضاح يظهر لنا مغزى ما يستفاد من كلام السيدة زينب عليها السلام ، حيث أنّ الغرض هو التعريف بأن الدِّمنَة وإن زها ظاهرها بالنبت ، إلا أنّه لا يفيد الحيوان قوة ؛ لأنّها مجمع الأوساخ والكشافات السامة القاتلة ، فنتاج الدِّمنة لا يكون طيباً ، وأهل الكوفة وإن زها

__________________

(١٣٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٦ / ٢٤٨.

(١٣٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢٠ / ٣٥ (الباب ٧ من أبواب مقدمات النكاح ـ الحديث ٧).

(١٣٥) ـ الشريف الرضي ، محمد بن ابي احمد الحسين : المجازات النبوية / ٦١.

١١٩

ظاهرهم بالإسلام ؛ إلا أنّ الصدور إنطوت على قلوب مظلمة لا يصدر منها إلا بما يقوم به أهل الجاهلية والإلحاد»(١٣٦) .

(أو كقَصّةٍ على مَلْحُودة) :

«القَصّةُ والقِصّة والقَصُّ ، الجَصّ : لغة حجازية. وقيل : الحجارة من الجَصّ ، وقد قصّصَ داره ، أي جصّصَها. ومدينة مُقصّصَة : مطلية بالقصّ ، وكذلك قبر مُقصّصٌ ، والتقصيص : هو التجصيص ، وذلك أنّ الجَصّ يقال له ، القَصّة. يقال : قصصت البيت وغيره ؛ أي جصّصته. وفي حديث زينب (يا قَصّةٌ عُلى مَلحُودَةٍ) ؛ شبهت أجسادهم بالقبور المتخذة من الجصّ ، وأنفسهم بجيف الموتى التي تشتمل عليها القبور»(١٣٧) .

قال السيد المقرّم (ره) : «والذي أراه ، أنّ النكتة في هذه الإستعارة ، أنّ القصّة بلغة الحجاز الجصّ ، والملحودة ؛ القبر لكونه ذا لحد ، فكان القبر يتزين ظاهره ببياض الجصّ ، ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، إلا أنّ قلوبهم كجيف الموتى ؛ بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادئ الصحيحة ؛ وقد إنفردت (متتمة الدعوة الحسينية) بهذه النكات البديعة ، التي لم بسبقها مهرة البلغاء إليها»(١٣٨) .

إلى أن قالت عليها السلام : (ولقد أتيتم بها خَرْقَاء ، شَوْهَاء كِطلَاعِ الأرض ، ومِلء السماء).

__________________

(١٣٦) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١١ (بتصرف).

(١٣٧) ـ ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ج ٧ / ٧٦ ـ ٧٧.

(١٣٨) ـ المقرم ، السيد عبد الرزاق : مقتل الحسين / ٣١٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( سورة يوسف الآيات ١٠٣ - ١١١)

وَمَا أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( ١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين( ١٠٤) وَكَأَيّن مِنْ آيَةٍ فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ( ١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إِلّا وَهُم مُشْرِكُونَ( ١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلَى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ( ١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِم مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ اتّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ( ١٠٩) حَتّى‏ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَاءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( ١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى‏ وَلكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَي‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ١١١)

٣٠١

( بيان‏)

الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أنّ الإيمان الكامل و هو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلّا أقلّ قليل من الناس و أمّا الأكثرون فليسوا بمؤمنين و لو حرصت بإيمانهم و اجتهدت في ذلك جهدك، و الأقلّون و هم المؤمنون ما لهم إلّا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض و التوحيد الخالص إلّا أقلّ قليل.

و هذا التوحيد الخالص هو سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الّذي يدعو إليه على بصيرة هو و من اتّبعه، و أنّ الله ناصره و منجي من اتّبعه من المؤمنين من المهالك الّتي تهدّد توحيدهم و إيمانهم و عذاب الاستئصال الّذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.

و في قصصهم عبرة و بيان للحقائق و هدى و رحمة للمؤمنين.

قوله تعالى: ( وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا و انجذاب نفوسهم إلى زينتها و سهوهم عمّا اُودع في فطرهم من العلم بالله و آياته أن يؤمنوا به، و لو حرصت و أحببت إيمانهم، و الدليل على هذا المعنى الآيات التالية.

قوله تعالى: ( وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) الواو حاليّة أي ما هم بمؤمنين و الحال أنّك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الّذي ننزّله عليك و تتلوه عليهم من أجر حتّى يصدّهم الغرامة الماليّة و إنفاق ما يحبّونه من المال عن قبول دعوته و الإيمان به.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) بيان لشأن القرآن الواقعيّ و هو أنّه ممحّض في أنّه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به و بآياته فما هو إلّا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة و الإعراض و ليس من الأمتعة الّتي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزّة أو جاه أو غير ذلك.

٣٠٢

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) الواو حاليّة و يحتمل الاستئناف و المرور على الشي‏ء هو موافاته ثمّ تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماويّة و الأرضيّة مشاهدتها واحدة بعد اُخرى.

و المعنى أنّ هناك آيات كثيرة سماويّة و أرضيّة تدلّ بوجودها و النظام البديع الجاري فيها على توحيد ربّهم و هم يشاهدونها واحدة بعد اُخرى فتتكرّر عليهم و الحال أنّهم معرضون عنها لا يتنبّهون.

و لو حمل قوله:( يَمُرُّونَ عَلَيْها ) على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيئة الحديثة من حركة الأرض وضعا و انتقالا فإنّا نحن المارون على الأجرام السماويّة بحركة الأرض الانتقاليّة و الوضعيّة لا بالعكس على ما يخيّل إلينا في ظاهر الحسّ.

قوله تعالى: ( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) الضمير في( أَكْثَرُهُمْ ) راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين و إن لم تسألهم عليه أجراً و إن كانوا يمرّون على الآيات السماويّة و الأرضيّة على كثرتها و الّذين آمنوا منهم - و هم الأقلّون - ما يؤمن أكثرهم بالله إلّا و هم متلبّسون بالشرك.

و تلبّس الإنسان بالإيمان و الشرك معاً مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محلّ واحد نظير تلبّسه بسائر الاعتقادات المتناقضة و الأخلاق المتضادّة إنّما يكون من جهة كونها من المعاني الّتي تقبل في نفسها القوّة و الضعف فتختلف بالنسبة و الإضافة كالقرب و البعد فإنّ القرب و البعد المطلقين لا يجتمعان إلّا أنّهما إذا كانا نسبيّين لا يمتنعان الاجتماع و التصادق كمكّة فإنّها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام، و كذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

و الإيمان بالله و الشرك به و حقيقتهما تعلّق القلب بالله بالخضوع للحقيقة

٣٠٣

الواجبيّة و تعلّق القلب بغيره تعالى ممّا لا يملك شيئاً إلّا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة و الإضافة فإنّ من الجائز أن يتعلّق الإنسان مثلاً بالحياة الدنيا الفانية و زينتها الباطلة و ينسى مع ذلك كلّ حقّ و حقيقة، و من الجائز أن ينقطع عن كلّ ما يصدّ النفس و يشغلها عن الله سبحانه و يتوجّه بكلّه إليه و يذكره و لا يغفل عنه فلا يركن في ذاته و صفاته إلّا إليه و لا يريد إلّا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.

و بين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين و البعد منه و هي الّتي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، و من الدليل على ذلك الأخلاق و الصفات المتمكّنة في النفوس الّتي تخالف مقتضى ما تعتقده من حقّ أو باطل، و الأعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدّعي الإيمان بالله يخاف و ترتعد فرائصه من أيّ نائبة أو مصيبة تهدّده و هو يذكر أن لا قوّة إلّا بالله، و يلتمس العزّة و الجاه من غيره و هو يتلو قوله تعالى:( إِنَّ الْعزّة لله جَمِيعاً ) و يقرع كلّ باب يبتغي الرزق و قد ضمنه الله، و يعصي الله و لا يستحيي و هو يرى أنّ ربّه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل و لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، و على هذا القياس.

فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الّذي يجامع بعض مراتب الإيمان و هو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفيّ.

فما قيل: إنّ المراد بالمشركين في الآية مشركوا مكّة في غير محلّه، و كذا ما قيل: إنّهم المنافقون، و هو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيّد.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الغاشية صفة سادّة مسدّ الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه، و التقدير عقوبة غاشية تغشاهم و تحيط بهم.

و البغتة الفجأة. و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها و الحال أنّهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيّتها بعلامات

٣٠٤

تعيّن وقتها و تشخّص قيامها و الاستفهام للتعجيب، و المعنى أنّ أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء و الأرض و عدم إخلاصهم الإيمان لله و تماديهم في الغفلة عجيب أ فأمنوا عذاباً من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم و تبهتهم؟.

قوله تعالى: ( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ الله وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) لمّا ذكر سبحانه أنّ محض الإيمان به و الإخلاص التوحيد له عزيز المنال و هو الحقّ الصريح الّذي تدلّ عليه آيات السماوات و الأرض أمر نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يبيّن لهم أنّ سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.

فقوله:( هذِهِ سَبِيلِي ) إعلان لسبيله، و قوله:( أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) بيان للسبيل، و قوله:( وَ سُبْحانَ الله ) اعتراض للتنزيه، و قوله:( وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله و بيان أنّ هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.

و أمّا قوله:( أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) فتوسعة و تعميم لحمل الدعوة و أنّ السبيل و إن كانت سبيل النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) مختصّة به لكن حمل الدعوة و القيام به لا يختصّ به بل من اتّبعه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقوم بها لنفسه.

لكنّ السياق يدلّ على أنّ الإشراك ليس بذاك العموم الّذي يتراءى من لفظ( مَنِ اتَّبَعَنِي ) فإنّ السبيل الّتي تعرّفها الآية هي الدعوة عن بصيرة و يقين إلى إيمان محض و توحيد خالص و إنّما يشاركه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربّه ذا بصيرة و يقين و ليس كلّ من صدق عليه أنّه اتّبعه على هذا النعت، و لا أنّ الاستواء على هذا المستوي مبذول لكلّ مؤمن حتّى الّذين عدّهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين و ذمّهم بأنّهم غافلون عن ربّهم آمنون من مكره معرضون عن آياته، و كيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته و ذكره؟ و قد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال و العمى و الخسران و لا تجتمع هذه الخصال بالهداية و الإرشاد ألبتّة.

٣٠٥

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) إلى آخر الآية، لمّا ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثمّ حال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في دعوته إيّاهم عن رسالة إلهيّة من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجرّ لنفسه نفعا بين أنّ ذلك ليس ببدع من الأمر بل ممّا جرت عليه السنّة الإلهيّة في الدعوة الدينيّة فلم يكن الرسل الماضون ملائكة و إنّما بعثوا من بين هؤلاء الناس و كانوا رجالاً من أهل القرى يخالطون الناس و يعرفون عندهم أوحى الله إليهم و أرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أنّ النبيّ كذلك، و من الممكن أن يسير هؤلاء المدعوّون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم فبلادهم الخربة و مساكنهم الخالية تفصح عمّا آل إليه أمرهم، و تنبئ عن عاقبة كفرهم و جحودهم و تكذيبهم لآيات الله.

فالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) لا يدعوهم إلّا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله، و ليس يدعوهم إلّا إلى ما فيه خيرهم و صلاح حالهم و هو أن يتّقوا الله فيفلحوا و يفوزوا بسعادة خالدة و نعيم مقيم في دار باقية و لدار الآخرة خير للّذين اتّقوا أ فلا تعقلون.

فقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) تطبيق لدعوة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) على دعوة من قبله من الرسل. و لعلّ توصيفهم بأنّهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنّهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم و معروفين عندهم بالمعاشرة و المخالطة و لم يكونوا ملائكة و لا من غير أنفسهم، و يؤيّد ذلك توصيفهم بأنّهم كانوا رجالا فإنّ الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.

و قوله:( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إنذار لاُمّة النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بمثل ما اُنذر به الاُمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.

و قوله:( وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) بيان النصح و أنّ ما يدعون إليه و هو التقوى ليس وراءه إلّا ما فيه كلّ خيرهم و جماع سعادتهم.

٣٠٦

قوله تعالى: ( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) إلى آخر الآية ذكروا أنّ يأس و استيأس بمعنى، و لا يبعد أن يقال: إنّ الاستيآس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال و هو ممّا يعدّ يأسا عرفا و ليس باليأس القاطع حقيقة.

و قوله:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ ) إلخ متعلّق الغاية بما يتحصّل من الآية السابقة و المعنى تلك الرسل الّذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى و تلك قراهم البائدة دعوهم فلم يستجيبوا و أنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتّى إذا استيأس الرسل من إيمان اُولئك الناس، و ظنّ الناس أنّ الرسل قد كذبوا أي اُخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجّي‏ء بذلك من نشاء و هم المؤمنون و لا يردّ بأسنا أي شدّتنا عن القوم المجرمين.

أمّا استيآس الرسل من إيمان قومهم فكما اُخبر في قصّة نوح:( وَ أُوحِيَ إِلى‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) هود: ٣٦( وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧ و يوجد نظيره في قصص هود و صالح و شعيب و موسى و عيسى (عليهم السلام).

و أمّا ظنّ اُممهم أنّهم قد كذبوا فكما اُخبر عنه في قصّة نوح من قولهم:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ) هود: ٢٧، و كذا في قصّة هود و صالح و قوله:( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً ) أسرى: ١٠١.

و أمّا تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى:( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ و قد أخبر به في هلاك بعض الاُمم أيضاً كقوله:( نَجَّيْنا هُوداً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٥٨( نَجَّيْنا صالِحاً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٦٦( نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) هود: ٤، إلى غير ذلك.

و أمّا أنّ بأس الله لا يردّ عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموماً و خصوصاً كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا

٣٠٧

يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧، و قوله:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) الرعد: ١١ إلى غير ذلك من الآيات.

هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني، و الدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمّنه سابقتها كما قدّمناه، و قد أوردوا لها معاني اُخرى لا يخلو شي‏ء منها من السقم و الإضراب عنها أوجه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأمّا العبور فيختصّ بتجاوز الماء - إلى أن قال - و الاعتبار و العبرة بالحالة الّتي يتوصّل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً ) . انتهى.

و الضمير في قصصهم للأنبياء و منهم يوسف صاحب القصّة في السورة، و احتمل رجوعه إلى يوسف و إخوته و المعنى اُقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف و إخوته عبرة لأصحاب العقول، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفتري و لكن تصديق الّذي بين يدي القرآن، و هو التوراة المذكور فيها القصّة يعني توراة موسى (عليه السلام).

و قوله:( وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ أي بياناً و تمييزاً لكلّ شي‏ء ممّا يحتاج إليه الناس في دينهم الّذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و هدى إلى السعادة و الفلاح و رحمة خاصّة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنّه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال شرك طاعة و ليس شرك عبادة، و المعاصي الّتي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.

٣٠٨

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: شرك لا يبلغ به الكفر.

و فيه، عن مالك بن عطيّة عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: هو الرجل يقول: لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لضاع عيالي أ لا ترى أنّه جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا.

و فيه، عن زرارة قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) عن قول الله( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) قال: من ذلك قول الرجل: لا و حياتك.

أقول: يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقّه بذاته و الأخبار في هذه المعاني كثيرة.

و في الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) قال: ذاك رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أميرالمؤمنين و الأوصياء من بعدهما.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية قال: يعني علىّ أوّل من اتّبعه على الإيمان و التصديق له و بما جاء به من عند الله عزّوجلّ من الاُمّة الّتي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق ممّن لم يشرك بالله قطّ و لم يلبس إيمانه بظلم و هو الشرك.

أقول: و الروايتان تؤيّدان ما قدّمناه في بيان الآية و في معناهما روايات، و لعلّ ذكر المصداق من باب التطبيق.

و فيه، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله( سُبْحانَ الله ) ما يعني به؟ قال: أنفة لله.

و فيه، بإسناده عن هشام الجواليقيّ قال: سألت أباعبدالله عن قول الله عزّوجلّ:( سُبْحانَ الله ) قال: تنزيه.

و في المعاني، بإسناده عن السيّار عن الحسن بن عليّ عن آبائه عن الصادق (عليهم السلام)

٣٠٩

في حديث قال فيه مخاطبا: أ و لست تعلم أنّ الله تعالى لم يخل الدنيا قطّ من نبيّ أو إمام من البشر؟ أ و ليس الله تعالى يقول:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) يعني إلى الخلق( إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ ) فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمّة و حكّاما و إنّما اُرسلوا إلى الأنبياء.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى - و ذكر الحديث إلى أن قال فيه - قال المأمون لأبي الحسن: فأخبرني عن قول الله تعالى:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا ) قال الرضا: يقول الله: حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم فظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية، و ما في بعض الروايات أنّ الرسل ظنّوا أنّ الشيطان تمثّل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبدا رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار و كان الّذي يأتيه من الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزريّ قال: صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير و الضحّاك بن مزاحم فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أباعبدالله كيف تقرأ هذا الحرف؟ فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت أنّي لا أقرأ هذه السورة:( حتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) قال: نعم حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا فقال الضحّاك: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.

٣١٠

( سورة الرعد مكّيّة و هي ثلاث و أربعون آية)

( سورة الرعد الآيات ١ - ٤)

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ( ١) اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لاَِجَلٍ مُسَمّىً يُدَبّرُ الْأَمْرَ يُفَصّلُ الْآيَاتِ لَعَلّكُم بِلِقَاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ( ٢) وَهُوَ الّذِي مَدّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ( ٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى‏ بِمَاءٍوَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( ٤)

( بيان‏)

غرض السورة بيان حقّيّة ما نزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من الكتاب و أنّه آية الرسالة و أنّ قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و هم يعرّضون به للقرآن و لا يعدّونه آية كلام مردود إليهم و لا ينبغي للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يصغي إليه و لا لهم

٣١١

أن يتفوّهوا به.

و يدلّ على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) و اختتامها بقوله:( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى‏ بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) الآية، و تكرار حكاية قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

و محصّل البيان على خطاب النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أنّ هذا القرآن النازل عليك حقّ لا يخالطه باطل فإنّ الّذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الّذي تدلّ عليه آيات الكون من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى.

و تدلّ على حقّيّة دعوته أيضاً أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبيّنات فكفروا و كذّبوا فأخذهم الله بذنوبهم. فهذا ما يتضمّنه هذا الكتاب و هو آية دالّة على رسالتك.

و قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أوّلاً بأنّك لست إلّا منذراً و ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة و ثانياً أنّ الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتّى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنّما ذلك إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم و أمّا قولهم: لست مرسلاً فيكفيك من الحجّة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقّة على ذلك.

و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمّنه قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الآية، و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ، و قوله:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ، و قوله:( فَلله الْمَكْرُ جَمِيعاً ) .

و السورة مكّيّة كلّها على ما يدلّ عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنّها مكّيّة إلّا آخر آية منها فإنّها نزلت بالمدينة في

٣١٢

عبدالله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبيّ و مقاتل، و يدفعه أنّها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) .

و قيل: إنّ السورة مدنيّة كلّها إلّا آيتين منها و هما قوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ) الآية و الآية الّتي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنّها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة.

و قيل: إنّ المدنيّ منها قوله تعالى:( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ) الآية و الباقي مكّيّ و كان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتّضح به اندفاعه.

قوله تعالى: ( المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) إلخ، الحروف المصدّرة بها السورة هي مجموع الحروف الّتي صدّرت بها سور( الم ) و سور( الر ) كما أنّ المعارف المبيّنة في السورة كأنّها المجموع من المعارف المعنيّة في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و قوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتّصال و هي تعدّ الآيات الكونيّة من رفع السماوات و مدّ الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالّة على توحيد الله سبحانه الّذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقّة، و هي تذكر أنّ التدبّر في تفصيلها و التفكّر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم، بأنّ الّذي اُنزل إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حقّ.

فظاهر ذلك كلّه أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) الموجودات الكونيّة و الأشياء الخارجيّة المسخّرة في النظام العامّ الإلهيّ،

٣١٣

و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الّذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونيّة بنوع من العناية و المجاز.

و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعيّة الّتي تتلبّس بها الآيات الكونيّة من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظيّة الّتي تتلبّس بها الآيات القرآنيّة المنزلة من عنده تعالى إلى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و يكون قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) استدراكا متعلّقاً بالجملتين معاً أعني بقوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) و قوله:( وَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ) لا بالجملة الأخيرة فحسب.

و المعنى - و الله أعلم - تلك الاُمور الكونيّة - و قد اُشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها - آيات الكتاب العامّ الكونيّ دالّة على أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته و القرآن الّذي اُنزل إليك من ربّك حقّ ليس بباطل - و اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حقّ في نزوله و لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينيّة و لا بهذا الحقّ النازل، و في لحن الكلام شي‏ء من اللوم و العتاب.

و قد بان ممّا مرّ أنّ اللّام في قوله:( الْحَقُّ ) للحصر، و مفاده أنّ الّذي اُنزل إليه حقّ فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حقّ و باطل.

و للمفسّرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله:( الْحَقُّ ) و المراد بأكثر الناس أقوال متنوّعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدّمناه و على من أراد الاطّلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عمد - بضمّتين - و عمد - بفتحتين - قال: في عمد ممدّدة، و قرئ في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى. و قيل: إنّ العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.

٣١٤

و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيّته تعالى وحده لا شريك له و أنّ السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخّران يجريان إلى أجل مسمّى، و لا بدّ ممّن يقوم على هذه الاُمور فيرفع السماء و ينظّم النظام و يسخّر الشمس و القمر و يدبّر الأمر و يفصّل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلاً فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربّكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى ربّ الكلّ لا ربّ غيره.

فقوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلّط به على الأرض بإلقاء أشعّتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطّن أنّ لها رافعا حافظا لها أن تتحوّل من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرّها.

و ذلك أنّ استقرار السماوات في رفيع مستقرّها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرّها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصّة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلّها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال.

لكنّ الإنسان - في عين أنّه يرى قانون العلّيّة الكلّيّ و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الاُمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرّر ذلك على حسّه أقنعه ذلك و لم يتعجّب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثمّ وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجّب و بحث عن ذلك حتّى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرّر على

٣١٥

الحسّ تقف نفسه عن البحث في كلّ مورد يشاهد فيه شيئاً رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.

أمّا إذا وجد أمراً يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلويّة القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافّات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبّه من رقدته.

فقوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) إنّما وصف السماوات فيه بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله:( تَرَوْنَها ) وصفاً توضيحيّاً لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنّها لمّا لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربّما يذهب إليه أوهام العامّة أنّ الّذي يستند إلى الله من الاُمور هو ما يجهل سببه كالاُمور السماويّة و الحوادث الجوّيّة و الروح و أمثال ذلك.

فإنّ كلامه تعالى ينصّ أوّلا على أنّ كلّ ما يصدق عليه الشي‏ء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كلّ خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى:( اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الرعد: ١٦، و قال:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤.

و ثانياً: على أنّ سنّة الأسباب جارية مطّردة و أنّه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الاُمور الجسمانيّة غير جار في بعض. و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضيّة إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالاُمور السماويّة مثلاً إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاصّ به بإذن الله، و إن قام جرم سماويّ من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضاً بسبب خاصّ به كطبيعته الخاصّة أو التجاذب العامّ مثلا بإذن الله.

بل إنّما قيّد رفع السماوات بقوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد

٣١٦

سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) على ما سنوضحه.

و لمّا كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هو توحيد الربوبيّة و بيان أنّ الله سبحانه ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ سواه لا أصل إثبات الصانع عقّب قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ بقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) إلخ، الدالّ على التدبير العامّ المتّحد باتّصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أنّ ربّ الجميع و مالكها المدبّر لأمرها واحد.

و ذلك أنّ الوثنيّة الّذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أنّ خالق الكلّ و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنّما يرون أنّه فوّض تدبير كلّ شأن من شؤون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البرّ و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القويّة فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره و يتّقي بها شرّه فلا ينفع في ردّهم إلّا قصر الربوبيّة في الله سبحانه و إثبات أنّه ربّ لا ربّ سواه، و أمّا توحيد الاُلوهيّة بمعنى إثبات أنّ الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كلّ وجود فهو أمر لا تنكره الوثنيّة و لا يضرّهم شيئاً.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) إلخ من غير أن يكون مقصوداً بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الّذيل في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ ) الآية: الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، و ما يشابهها من الآيات.

و يظهر أيضاً: أنّ قوله:( بِغَيْرِ عَمَدٍ ) متعلّق برفع و( تَرَوْنَها ) وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئيّة، و أمّا قول من يجعل:( تَرَوْنَها ) جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ) قال: ما الدليل على ذلك؟ فاُجيب و قيل:( تَرَوْنَها ) أي الدليل على ذلك أنّها مرئيّة

٣١٧

لكم، فبعيد. إلّا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنّها جميعاً مرفوعة من غير عمد و مرئيّة للإنسان.

و قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) تقدّم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية ٥٤.

و قوله:( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) أي كلّ منهما يجري إلى أجل معيّن يقف عنده و لا يتعدّاه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كلّ من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمّى فإنّ حكم الجري و الحركة عامّ مطّرد في جميع هذه الأجسام.

و قد تقدّم الكلام في معنى الأجل المسمّى في تفسير سورة الأنعام الآية ١ فراجع.

و قوله:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) التدبير هو الإتيان بالشي‏ء عقيب الشي‏ء و يراد به ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة و نظمها بوضع كلّ شي‏ء في موضعه الخاصّ به بحيث يلحق بكلّ منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختلّ الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبّر أمر البيت أي نظم اُموره و التصرّفات العائدة إليه بحيث أدّى إلى صلاح شأنه و تمتّع أهله بالمطلوب من فوائده.

فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظماً جيّداً متقنا بحيث يتوجّه به كلّ شي‏ء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاصّ به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى، و تدبير الكلّ إجراء النظام العامّ العالميّ بحيث يتوجّه إلى غايته الكلّيّة و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا.

و قوله:( يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ظاهر السياق أنّ المراد بالآيات هي الآيات الكونيّة فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنّته تعالى يفصّل الأشياء و يميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء و يخرج من كلّ شي‏ء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم.

٣١٨

و لذا عقّبه بقوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) فإنّ يوم اللقاء هو الساعة الّتي سمّاها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتّقين من المجرمين و الفجّار قال:( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الدخان ٤٠، و قال:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: ٥٩، و قال:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) الأنفال: ٣٧.

و الأشهر عند المفسّرين أنّ المراد بالآيات آيات الكتب المنزّلة من عندالله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزّلة على أنبياء الله ليتدبّر فيها الناس و يتفكّروا و يفقهوا فإنّ في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدّمناه من المعنى أوضح لزوما و أمسّ بالسياق.

و في قوله:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ ) و لم يقل: لعلّكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبيّة و التأكيد له و الإشارة إلى أنّ الّذي خلق العالم و دبّر أمره فصار ربّا له هو ربّ لكم أيضاً فلا ربّ إلّا ربّ واحد لا شريك له.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلى آخر الآية، الرواسي جمع راسية من رسا إذا ثبت و قرّ، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرّها، و الزوج خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربّما يقيّد الزوجان باثنين تأكيداً للدلالة على أنّ المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.

و قوله:( هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مدّ الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) .

و قوله:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً ) الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض - و الله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة

٣١٩

الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مدّ الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادّخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادّخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شقّ من أطرافها أنهاراً و فجّر منها عيونا مطلّة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرّة صيفيّة و شتويّة برّيّة و أهليّة، و سلّط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويّان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثّرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدوابّ و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة.

فمدّ الأرض يسهّل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشقّ الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة و بالليل و النهار يتمّ المطلوب و في ذلك كلّه تدبير متّصل متّحد يكشف عن مدبّر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيّته، و إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون.

و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفيّ و الشتويّ و الحلو و غيره و الرطب و اليابس.

هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) الملك: ٤ اُريد به الرجوع كرّة بعد كرّة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.

و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى:( زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) جعل فيها من كلّ أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و اُنثى في أزهارها عند تكوّنها فقد أظهر الكشف الحديث أنّ كلّ شجر و زرع لا يتولّد ثمره و حبّه إلّا من بين اثنين ذكر و اُنثى.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431