الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81264 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فعضو الذكر قد يكون مع عضو الاُنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة اُخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إمّا أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة وحده و الثاني كالقرع و الأوّل كشجرة القطن فإنّ عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة. انتهى.

و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلميّة الّتي لا غبار عليها إلّا أنّ ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإنّ ظاهرها أنّ نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنّها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كلّ الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.

نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ) يس: ٣٦ و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) لقمان: ١٠ و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات: ٤٩.

و ذكر بعضهم أنّ زوجين اثنين الذكر و الاُنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الاُنثى و كلّ منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفيّ و خلافه. و هو كما ترى.

و قوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أنّ المراد به إغشاء كلّ من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدلّ على ذلك.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فإنّ التفكّر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتّصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدّي إلى توجّه المجموع و كلّ جزء من أجزائها إلى غايات تخصّها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقليّ في غاية الإتقان و الإحكام فيدلّ على أنّ لها ربّاً واحداً لا شريك له في ربوبيّته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية

٣٢١

بكلّ شي‏ء و خاصّة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى:( صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) . انتهى، و قال: و الاُكل لما يؤكل بضمّ الكاف و سكونه قال تعالى:( أُكُلُها دائِمٌ ) و الأكلة للمرّة و الاُكلة كاللقمة. انتهى.

و المعنى أنّ من الدليل على أنّ هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبّر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أنّ في الأرض قطعاً متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنّات من أعناب و العنب من الثمرات الّتي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرّقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضّل بعضها على بعض بما فيه من المزيّة المطلوبة في شي‏ء من صفاته.

فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصّة بكلّ منها أو العوامل الخارجيّة الّتي تعمل فيها فتتصرّف في إشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تقصّه الأبحاث العلميّة المتعرّضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصّها، و العوامل الّتي تؤثّر في كيفيّة تكوّنها و تتصرّف في صفاتها.

قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخليّة و العوامل فما هي العلّة في اختلافها المؤدّية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادّة المشتركة بين الكلّ المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلّا أنّ هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثمّ أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة اُخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميّز شي‏ء من

٣٢٢

شي‏ء و لا اختلف في شي‏ء هذا.

و من الواجب على الباحث المتدبّر في هذه الآيات أن يتنبّه أنّ استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالاً لقانون العلّة و المعلول كما ربّما يتوهّم فإنّ إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتّى تتغيّر ذاته بتغيّر الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامّة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتّى يوافيك توضيحه في محلّ يناسبه إن شاء الله.

و لمّا كانت الحجّة مبنيّة على مقدّمات عقليّة لا تتمّ بدونها عقّبها بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

و قد ظهر من البيان المتقدّم أنّ نسبة اختلاف الاُكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئيّة و مدّ الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عزّ من سبب.

و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلّم بالغير و هو ما في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لعلّ النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنّه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الاُكل و ليس المفضّل إلّا الله سبحانه ثمّ عرّف المتكلّم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنّه هو السبب الّذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثمّ اُوجز هذا التفضيل فقيل:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلّم مع الغير عن إشعار بأنّ هناك أسباباً إلهيّة دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية إنّما سيقت حجّة لتوحيد الربوبيّة لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخّصها أنّ اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتّحدة و انتظامها عن مشيّته و تدبيره فالمدبّر لها هو الله سبحانه و هو ربّها لا ربّ غيره، فما يتراآى من المفسّرين

٣٢٣

أنّ الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محلّه.

على أنّ الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيّين و هم إنّما ينكرون وحدة الربوبيّة و يثبتون أربابا شتّى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحقّ عزّ اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أنّ للعالم صانعا، و قد تنبّه به بعضهم فذكر أنّ الآية احتجاج على دهريّة العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنّه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدلّ على ما ادّعاه.

و ظهر أيضاً أنّ الفرق بين الحجّتين أعني ما في قوله:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) إلخ و ما في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) إلخ أنّ الاُولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتّصال في التدبير المتعلّق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدّي إلى وحدة مدبّرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواصّ في الأشياء الّتي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أنّ المبدء المفيض لهذه الآثار و الخواصّ المختلفة المتفرّقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو ربّ الجميع لا ربّ غيره.

و أمّا الحجّة الاُولى المذكورة قبل الحجّتين أعني ما في قوله تعالى:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنّها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرّقات الاُمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات. و محصّلها أنّ أمر العالم على تشتّته و تفرّقه تحت تدبير واحد فله ربّ واحد هو الله سبحانه، و أنّه تعالى يفصّل الآيات فيميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء فيفصّل السعيد من الشقيّ و الحقّ من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبيّة و المعاد معا إذ قال:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن الخطّاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمّد (عليهم السلام) قال:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) يعني هذه الأرض الطيّبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.

٣٢٤

و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشيّ في شرف المصطفى و الثعلبيّ في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي - و اللفظ له - بإسناده عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ (عليه السلام): الناس من شجرة شتّى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثمّ قرأ:( جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ ) بالنبيّ و بك: قال: و رواه النطنزيّ في الخصائص عن سلمان‏، و في رواية: أنا و عليّ من شجرة و الناس من أشجار شتّى.

قال صاحب البرهان: و روي حديث جابر بن عبدالله الطبرسيّ، و عليّ بن عيسى في كشف الغمّة.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول: يا عليّ الناس من شجر شتّى و أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة ثمّ قرأ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و حسّنه و البزّاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) قال: الدقل(١) و الفارسيّ و الحلو و الحامض.

____________________

(١) الدقل بفتحتين أردء التمر و كأن الفارسي نوع منه طيب.

٣٢٥

( سورة الرعد الآيات ٥ - ٦)

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنّا تُرَاباً أَءِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلَى‏ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَديدُ الْعِقَابِ( ٦)

( بيان‏)

عطف على بعض ما كان يتفوّه به المشركون في الردّ على الدعوة و الرسالة كقولهم: أنّى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا اُنزل علينا العذاب الّذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) إلى آخر الآية قال في المجمع: العجب و التعجّب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغلّ طوق تشدّ به اليد إلى العنق انتهى.

أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقّيّة ما أنزله إلى نبيّه من معارف الدين في كتابه ملوّحا إلى أنّ آيات التكوين تهدي إليه و تدلّ عليه و اُصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثمّ فصّل القول في دلالة الآيات التكوينيّة على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبيّة و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقّيّة الرسالة و الكتاب المنزل الّذي هو آيتها، فلمّا اتّضح ذلك و استنار تمهّدت الطريق لذكر شبه الكفّار فيما يرجع إلى الاُصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم

٣٢٦

في البعث و سيتعرّض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية.

و شبهتهم في ذلك قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أورده بعنوان أنّه عجب أحرى به أن يتعجّب منه لظهور بطلانه و فساده ظهوراً لا مسوّغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوّه به إنسان لكان من موارد العجب فقال:( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) إلخ.

و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلّق( تَعْجَبْ ) إن تحقّق منك تعجّب - و لا محالة يتحقّق لأنّ الإنسان لا يخلو منه - فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلّق به تعجّبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجّب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لبّ و حجى.

و قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الّذي هو الهيكل اللّحميّ الخاصّ المركّب من أعضاء خاصّة المجهّز بقوى مادّيّة على زعمهم و كيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديداً؟.

و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كلّ واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادّتها:

فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنساناً سويّاً، و قد اُجيب عنه بأنّ إمكان استحالة الموادّ الأرضيّة منيّا ثمّ المنيّ علقة ثمّ العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سويّ و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنساناً سويّاً قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) الآية: الحجّ: ٥.

و منها: استبعاد إيجاد الشي‏ء بعد عدمه. و اُجيب بأنّه مثل الخلق الأوّل فليجز كما جاز قال تعالى:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يس: ٧٩.

و منها: أنّ الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتّى تتلبّس بالخلق الجديد

٣٢٧

و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلّا في تصوّر المتصوّر دون الخارج بنحو.

و قد اُجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أنّ الإنسان ليس هو البدن المركّب من عدّة أعضاء مادّيّة حتّى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله بل حقيقته روح علويّة - و إن شئت قلت: نفس - متعلّق بهذا المركّب المادّيّ تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصيّة و إن تغيّر بدنه و تبدّل بمرور السنين و مضيّ العمر ثمّ الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثمّ البعث هو أن يجدّد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء.

قال تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) الم السجدة: ١١ يقول إنّكم بالموت لا تضلّون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكّل بالموت يأخذ الأمر الّذي تدلّ عليه لفظة( كم ) و( نا ) و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضلّ ثمّ إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم.

فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار اُخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتّع في حياته الثانية إلّا بما يكتسبه في حياته الاُولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يعدّه في يومه لغده من موادّ السعادة فإن اتّبع الحقّ و آمن بآيات الله سعد في اُخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكبّ على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غلّ بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار.

و إذا عرفت هذا الّذي قدّمناه و تأمّلته تأمّلاً كافياً بان لك أنّ قوله تعالى:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إلى آخر الآية ليس بمجرّد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) على ما يتخيّل في بادئ النظر بل

٣٢٨

جواب بلازم القول.

و توضيح ذلك أنّ لازم قولهم: إنّ الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانيّة و انعدمت الشخصيّة أن يكون الإنسان صورة مادّيّة قائمة بهذا الهيكل البدنيّ المادّيّ العائش بحياة مادّيّة من غير أن تكون له حياة اُخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الربّ تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده و بعبارة اُخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادّيّة غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبيّ إذ لا معنى لربّ لا معاد إليه.

و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همّه في المقاصد الدنيويّة و الغايات المادّيّة من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الّذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره.

و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنّه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي الّتي أشار تعالى إليه بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا ) إلخ.

فقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إشارة إلى اللازم الأوّل و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبيّ و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به.

و قوله:( وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيّد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مرّ في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) الآية: البقرة: ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنيّة حقائق أو مجازات فراجع إليه.

و قوله:( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء.

٣٢٩

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الاستعجال طلب التعجيل بالأمر و التعجيل تقديم الأمر قبل وقته، و السيّئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسرّ النفس، و المثلات العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء، و من قال في الواحد: مثلة بضمّ الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمّتين نحو غرفة و غرفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات - أي بسكون الثاء و فتحها - انتهى.

و قال الراغب في المفردات: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات - أي بضمّ الميم أو فتحها و ضمّ الثاء - و قد قرئ: من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد. انتهى.

و قوله:( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) ضمير الجمع للّذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيّئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله:( وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) - و الجملة في موضع الحال - فإنّ المراد به العقوبات النازلة على الاُمم الماضين القاطعة لدابرهم.

و المعنى: يسألك الّذين كفروا أن تنزّل عليهم العقوبة الإلهيّة قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الاُمم الماضين الّذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب.

و قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمراً عجيباً أي إنّ ربّك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتّى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إنّ ذلك لعجيب.

٣٣٠

و يظهر من هذا المعنى الّذي يعطيه السياق:

أوّلاً: أنّ التعبير عنه تعالى بقوله:( رَبَّكَ ) إنّما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيّين لا يأخذونه تعالى ربّاً بل النبي (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) هو الّذي يأخذه ربّاً من بين قومه.

و ثانياً: أنّ المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعمّ من المغفرة و العقوبة الدنيويّتين فإنّ المشركين إنّما كانوا يستعجلون بالسيّئة و العقوبة الدنيويّتين، و المثلات الّتي يذكر الله تعالى أنّها خلت من قبلهم إنّما هي العقوبات الدنيويّة النازلة عليهم.

على أنّ العفو و المغفرة لا يختصّان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أنّ آثارهما تختصّ بذلك، و قد تقدّم ذلك مراراً فله تعالى أن يبسط مغفرته على كلّ من شاء حتّى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

و لهذه النكتة عبّر تعالى عن مورد المغفرة بقوله:( لِلنَّاسِ ) و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أيّ واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أنّ المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

فكان على هؤلاء الّذين كفروا أن يسألوه تعالى - و يستعجلوا به - أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرّع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنّه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتّى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أمّا الظلم حال ما يتلبّس به الظالم فإنّ المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

٣٣١

الجمعة: ٥.

و ثالثاً: أنّ قوله:( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنّه للتحرّز من أن يدلّ على فعليّة المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنّه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شي‏ء.

و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنّه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتّصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيّراً في بعض ما تقدّم من نكت الآية غير أنّه غير ظاهر من السياق.

و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنّة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشي‏ء إلّا بما في قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية: النساء: ٤٨.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ‏ ) قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لا تّكل كلّ أحد.

٣٣٢

( سورة الرعد الآيات ٧ - ١٦)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ إِنّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧) اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَى‏ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَى‏ءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ( ٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ( ٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِالّيْلِ وَسَارِبُ بِالنّهَارِ( ١٠) لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ( ١١) هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشِئُ السّحَابَ الثّقَالَ( ١٢) وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ( ١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَي‏ءٍ إِلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلاَلٍ( ١٤) وَللّهِ‏ِ يَسْجُدُ مَن فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُم بِالْغُدُوّ وَالْآصَالِ( ١٥) قُلْ مَن رّبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُم مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِم نَفْعاً ولاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ

٣٣٣

يَسْتَوِي الْأَعْمَى‏ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ( ١٦)

( بيان‏)

تتعرّض الآيات لقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و تردّه عليهم أنّ الرسول ليس له إلّا أنّه منذر أرسله الله على سنّة الهداية إلى الحقّ ثمّ تسوق الكلام فيما يعقبه.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحقّ و الباطل المهلكة للاُمّة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) بأن يكون تكراراً لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو اُريد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: و يقولون لو لا إلخ.

بل المراد أنّهم يقترحون على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية اُخرى غير القرآن تدلّ على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبؤون به و يسألون آية اُخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريض منهم للقرآن.

و أما قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فإعطاء جواب للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلّغ الجواب إيّاهم تعريض لهم أنّهم لا يستحقّون جواباً لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أنّ اقتراحهم الآية مبنيّ على زعمهم - كما يدلّ عليه كثير ممّا حكى عنهم القرآن

٣٣٤

في هذا الباب - على أنّ من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبيّة مطلقة على كلّ ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما اُريد منه.

و الحال أنّ الرسول ليس إلّا بشراً مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذّرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنّة الإلهيّة الجارية في خلقه أنّه يهدي كلّ شي‏ء إلى كماله المطلوب و يدلّ عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم.

فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً و ليس عليه إلّا تبليغ رسالة ربّه و أمّا الآيات فأمرها إلى الله ينزّلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.

فالمعنى: أنّهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شي‏ء من ذلك و إنّما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنّة الله في عباده أن يبعث في كلّ قوم هاديا يهديهم.

و الآية تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحقّ إمّا نبيّ منذر و إمّا هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مرّ بعض ما يتعلّق بالمقام في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) قال في المفردات: غاض الشي‏ء و غاضه غيره نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى:( وَ غِيضَ الْماءُ ) ( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الّذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الّذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى.

و على هذا فالأنسب أن تكون الاُمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله:( ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) و( ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) و( ما تَزْدادُ ) إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيّام الحمل فما تحمله كلّ اُنثى هو الجنين الّذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم الحيض تنصبّ فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و

٣٣٥

ما تزداده هو الدم الّتي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة الّتي تراها أيّام الحمل أحيانا و هو الّذي يظهر من بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و ربّما ينسب إلى ابن عبّاس.

و أكثر المفسّرين على أنّ المراد بما تغيض الأرحام الوقت الّذي تنقصه الأرحام من مدّة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.

و فيه خلوّة عن شاهد يشهد عليه فإنّ الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة الّتي لا غنى لها عن القرينة.

و يروى عن بعضهم أنّ المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقلّ مدّة الحمل و هي ستّة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدّة الحمل، و عن بعض آخر أنّ الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه.

و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أنّ الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.

و قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) المقدار هو الحدّ الّذي يحدّ به الشي‏ء و يتعيّن و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشي‏ء الموجود عن تعيّن في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجداً ألبتّة.

و هذا المعنى أعني كون كلّ شي‏ء مصاحبا لمقدار و قرينا لحدّ لا يتعدّاه حقيقة قرآنيّة تكرّر ذكرها في كلامه تعالى كقوله:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ) الطلاق: ٣، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و غير ذلك من الآيات.

فإذا كان الشي‏ء محدوداً بحدّ لا يتعدّاه و هو مضروب عليه ذلك الحدّ عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شي‏ء كما قال:( إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) الحجّ: ١٧ و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و قال:( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) السبأ: ٣ فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كلّ اُنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد.

٣٣٦

فذيل الآية أعني قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) تعليل لصدرها أعني قوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) إلخ و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أنّ الله يعلم بكلّ شي‏ء و يقدر على كلّ شي‏ء و يجيب الدعوة و يخضع له كلّ شي‏ء فهو أحقّ بالربوبيّة فإليه أمر الآيات لا إليك و إنّما أنت منذر.

قوله تعالى: ( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) الغيب و الشهادة - كما سمعت مرارا - معنيان إضافيّان فالشي‏ء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أنّ الأشياء - كما تقدّم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفكّ عنها فما كان من الأشياء داخلاً في حدّ الشي‏ء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجاً عن حدّ الشي‏ء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.

و من هنا يظهر أنّ الغيب لا يعلم به إلّا الله سبحانه أمّا أنّه لا يصير معلوماً لشي‏ء فلأنّ العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشي‏ء بما هو خارج عن حدّ وجوده أجنبيّ عن إحاطته، و أمّا أنّه تعالى يعلم الغيب فلأنّه تعالى غير محدود الوجود بحدّ و هو بكلّ شي‏ء محيط فلا يمتنع شي‏ء عنه بحدّه فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنّه غيب بالنسبة إلى غيره.

فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنّه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللّذان يتحقّقان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أنّ الّذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الّذي لا يخرج عن حدّ وجودهم و الّذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكلّ شي‏ء.

و قوله( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإنّ الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن

٣٣٧

كذلك كان صغيراً ثمّ توسّعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الّذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كلّ كمال لشي‏ء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كلّ ذي كمال و زيادة.

و المتعال صفة من التعالي و هو المبالغة في العلوّ كما يدلّ عليه قوله:( تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) أسرى: ٤٣ فإنّ قوله:( عُلُوًّا كَبِيراً ) مفعول مطلق لقوله:( تَعالى) و موضوع في محلّ قولنا:( تعاليا ) فهو سبحانه عليّ و متعال أمّا أنّه علي فلأنّه علا كلّ شي‏ء و تسلّط عليه و العلوّ هو التسلّط، و أمّا أنّه متعال فلأنّ له غاية العلوّ لأنّ علوّه كبير بالنسبة إلى كلّ علوّ فهو العالي المتسلّط على كلّ عال من كلّ جهة.

و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) بقوله:( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) لأنّ مفاد مجموع الاسمين أنّه سبحانه محيط بكلّ شي‏ء متسلّط عليه و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه شي‏ء من جهة ألبتّة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه غيب حتّى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلّط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنّه كبير متعال.

قوله تعالى: ( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ ) السرب بفتحتين و السروب الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مرّ مرّاً و مروراً. كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.

و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالماً بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسرّ القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسرّ بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمدّ بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرّز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.

٣٣٨

قوله تعالى: ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) إلخ ظاهر السياق أنّ الضمائر الأربع( لَهُ ) ( يَدَيْهِ ) ( خَلْفِهِ ) ( يَحْفَظُونَهُ ) مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلّا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، فهذا الإنسان الّذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الّذي له معقّبات من بين يديه و من خلفه.

و تعقيب الشي‏ء إنّما يكون بالمجي‏ء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقّبات بقوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إنّما يتصوّر إذا كان سائراً في طريق، ثمّ طاف عليه المعقّبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: ٦ و في معناه سائر الآيات الدالّة على رجوعه إلى ربّه كقوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس: ٨٣( وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) العنكبوت: ٢١ فللإنسان و هو سائر إلى ربّه معقّبات تراقبه من بين يديه و من خلفه.

ثمّ من المعلوم من مشرب القرآن أنّ الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسمانيّ و البدن المادّيّ فحسب بل هو موجود تركّب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشؤون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجّه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة الّتي يتوسّل بها في مقاصدها و مآربها.

و على هذا يتّسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعمّ الاُمور الجسمانيّة و الروحيّة جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيّات الّتي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانيّة الّتي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربّه و الحالات الروحيّة الّتي يعتورها و يتقلّب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادّخر لها من الثواب و العقاب كلّ ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه

٣٣٩

و لهذه المعقّبات الّتي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أنّ لها تعلّقا بالإنسان.

و الإنسان الّذي وصفه الله بأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً لا يقدر على حفظ شي‏ء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنّما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى:( اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) الشورى: ٦ و قال:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١ و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) الانفطار: ١٠.

فلو لا حفظه تعالى إيّاها بهذه الوسائط الّتي سمّاها حافظين تارة و معقّبات اُخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنّه كما أنّ حفظها بأمر من الله عزّ شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأنّ الملك لله لا يدبّر أمره و لا يتصرّف فيه إلّا هو سبحانه فهو الّذي يهدي إليه التعليم القرآنيّ، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

و الملائكة أيضاً إنّما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢، و قال:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

و من هنا يظهر أنّ هذه المعقّبات الحفّاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإنّ جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أنّ جانب البقاء و الاستقامة و الصحّة بأمر الله فلا يدوم مركّب جسمانيّ إلّا بأمر الله كما لا ينحلّ تركيبه إلّا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحيّة أو عمل أو أثر عمل إلّا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلّا بأمر من الله فالأمر كلّه لله و إليه يرجع الأمر كلّه.

و على هذا فهذه المعقّبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله في الآية المبحوث عنها:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) .

و بما تقدّم يظهر وجه اتّصال قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى

٣٤٠

يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) و أنّه في موضع التعليل لقوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) و المعنى أنّه تعالى إنّما جعل هذه المعقّبات و وكّلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغيّر في شي‏ء ممّا هو عليه لأنّ سنّته جرت أن لا يغيّر ما بقوم من الأحوال حتّى يغيّروا ما بأنفسهم من الحالات الروحيّة كأن يغيّروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغيّر الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ) إلخ، يدلّ بالجملة على أنّ الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسيّة الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحاً أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا ) الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيّروا حالهم في أنفسهم غيّر الله سبحانه حالهم الخارجيّة بتغيير النعم نقما.

و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أنّ بين حالات الإنسان النفسيّة و بين الأوضاع الخارجيّة نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمّهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيكفروا و يفسقوا فيغيّر الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتّى يغيّروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغيّر الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصّة ما تعقّبه من قوله( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّه أصدق شاهد على أنّه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتّى يغيّروا فالتغيير لما كان إلى السيّئة كان الأصل أعني( ما بِقَوْمٍ ) لا يراد به إلّا الحسنة فافهم ذلك.

على أنّ الله سبحانه يقول:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ

٣٤١

يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ فيذكر أنّه يعفو عن كثير من السيّئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجيّة في جانب الشرّ بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال: ٥٣.

و أمّا قوله تعالى:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فإنّما دخل في الحديث لا بالقصد الأوّليّ لكنّه تعالى لمّا ذكر أنّ كلّ شي‏ء عنده بمقدار و أنّ لكلّ إنسان معقّبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغيّر أو يضطرب في وجوده و النعم الّتي اُوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيّرها عليهم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أنّ هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضاً من الاُمور المحكمة المحتومة الّتي ليس لمانع أن يمنع من تحقّقها، و إنّما أمره إلى الله لا حظّ فيه لغيره، و بذلك يتمّ أنّ الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشرّ و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلّا إذا غيّروا ما بأنفسهم من سمات معبوديّة و مقتضيات الفطرة فلا مردّ لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثمّ قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) عطف تفسيريّ على قوله:( إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و يفيد معنى التعليل له فإنّه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلّا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدّم أنّ معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنّ لكلّ من الناس على أيّ حال كان معقّبات يعقّبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغيّر حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الّذي يغيّر الحال إنّما يؤثّر أثره إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له لأنّهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتّى يردّ ما أراد الله بهم من سوء.

٣٤٢

و قد تبيّن بذلك اُمور:

أحدها: أنّ الآية كالبيان التفصيلي لما تقدّم في الآيات السابقة من قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) فإنّ الجملة تفيد أنّ للأشياء حدوداً ثابتة لا تتعدّاها و لا تتخلّف عنها عندالله حتّى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصّل القول في الإنسان أنّ له معقّبات من بين يديه و من خلفه موكّلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلّق به من أن يهلك أو يتغيّر عمّا هو عليه، و لا يهلك و لا يتغيّر إلّا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنّه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلّا و عليه ملك موكّل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتّى يغيّر فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنيّة.

الثالث: أنّ هناك أمراً آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنّه يؤثّر فيما إذا غيّر قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغيّر الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الّذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمّى الّذي لا يختلف و لا يتخلّف، قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

الرابع: أنّ أمره تعالى هو المهيمن المتسلّط على متون الأشياء و حواشيها على أيّ حال و أنّ كلّ شي‏ء حين ثباته و حين تغيّره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أنّ الأمر الإلهيّ و إن كان مختلفاً بقياس بعضه إلى بعض منقسماً إلى أمر حافظ و أمر مغيّر ذو نظام واحد لا يتغيّر و قد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود ٥٦، و قال:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣.

الخامس: أنّ من القضاء المحتوم و السنّة الجارية الإلهيّة التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كلّ قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهريّة و الباطنيّة و نزولها من عندالله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله

٣٤٣

تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦ و قوله:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧ و قال:( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ) الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أمّا شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله:( لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ) جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليّته، و لذلك غيّر السياق فقال:( وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مردّ له.

و يؤيّد هذا المعنى قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠ حيث يدلّ صريحاً على أنّ بعض التغيير عند التغيير معفوّ عنه.

و أمّا الفرد من النوع فالكلام الإلهيّ يدلّ على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنويّة و على التغيّر عند التغيّر دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانيّة.

و الحكمة في ذلك كلّه ظاهرة فإنّ التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإنّ الله جعل للأنواع غايات و جهّزها بما يسوقها إلى غاياتها ثمّ بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئاً واحداً لا معاندة و لا مضادّة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كلّ نوع في عافية و نعمة و كرامة حتّى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنسانيّ عن مقتضى فطرته الأصليّة و لا منحرف من الأنواع ظاهراً غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشداً، و أمّا إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البرّ و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما

٣٤٤

عملوا لعلّهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنّما يتمّ في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامّة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأنّ الأشخاص ربّما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإنّ بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) الدخان: ٣٨ و قد تقدّم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدّم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنّها تفيد بظاهرها أنّه لا يقع تغيير النعم بقوم حتّى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أنّ ذلك خلاف ما قرّرته الشريعة من عدم جواز أخذ العامّة بذنوب الخاصّة هذا فإنّه أجنبيّ عن مفاد الآية بالكلّيّة.

هذا بعض ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و للمفسّرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتّى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) فمن قائل: إنّ الضمير راجع إلى( مِنْ ) في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، كما قدّمناه، و من قائل: إنّه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقّبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه. و فيه أنّه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنّه يوجب وقوع الالتفات في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إنّ الضمير للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و الآية تذكر أنّ الملائكة يحفظونه. و فيه أنّه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنّه يوجب عدم اتّصال الآية بسوابقها و لم يتقدّم للنبيّ- (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) ذكر.

و من قائل: إنّ الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقّبات فقيل: إنّ أصله المعتقبات صار معقّبات

٣٤٥

بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و ردّ بأنّه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنّه يطأ عقبه أي مؤخّر قدمه فقيل: إنّ المعقّبات ملائكة يعقّبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدّم، و قيل: المعقّبات كتّاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقّب بعضهم بعضاً فملائكة الليل تعقّب ملائكة النهار و هم يعقّبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنّه خلاف ظاهر قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ ) على أنّ فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقّبات الأحراس و الشرط و المواكب الّذين يعقّبون الملوك و الاُمراء و المعنى: أنّ لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الاُمراء معقّبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهّما منهم أنّهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) فقيل: إنّه متعلّق بمعقّبات أي يعقّبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أنّ التعقيب لا يتحقّق إلّا من خلف، و قيل: متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلّق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقّبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدّم.

و من جهة اُخرى قيل: إنّ المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدّامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدّم من أعماله و ما تأخّر يحفظها عليه الملائكة الحفّظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشؤون الجسميّة و الروحيّة ممّا له في حاضر حاله و ما خلّفه وراءه و هو الّذي قدّمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) فقيل هو بمعنى يحفظون

٣٤٦

عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضارّ.

و من ذلك اختلافهم في قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) فقيل: هو متعلّق بقوله:( مُعَقِّباتٌ ) و أنّ قوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) و قوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و قوله:( مِنْ أَمْرِ الله ) ثلاث صفات لمعقّبات. و فيه أنّه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلّق بقوله:( يَحْفَظُونَهُ ) و( مِنْ ) بمعنى الباء للسببيّة أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلّق بيحفظونه و( مِنْ ) للابتداء أو للنشوّ أي يحفظونه مبتدءً ذلك أو ناشئاً ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن( مِنْ ) بمعنى( عن ) أي يحفظونه عن أمر الله أن يحلّ به و يغشاه و فسّروا الحفظ من أمر الله بأنّ الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلّما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخّر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعلّه يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غنيّ عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إلخ فقيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) و قد تقدّم معناه، و قيل: متّصل بقوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أو قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متّصل بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) الآية يعني أنّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) محفوظ بالملائكة. و الحقّ أنّه متّصل بقوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) و نوع بيان له، و قد تقدّم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتّصال قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ فقيل: إنّه متّصل بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) الآية أي أنّه لا ينزل العذاب إلّا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتّى لو علم أنّ فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممّن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متّصل بقوله:( سارِبٌ بِالنَّهارِ ) يعني أنّه إذا اقترف المعاصي فقد غيّر ما به من سمة العبوديّة و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحقّ أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) إلخ، تعليل لما تقدّمه من قوله:( يَحْفَظُونَهُ

٣٤٧

مِنْ أَمْرِ الله ) و قد مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحسّ بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله:( يُرِيكُمُ ) و قوله:( يُنْشِئُ ) يؤيّد المعنى الأوّل.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير( يُرِيكُمُ ) أي خائفين و طامعين.

و المعنى: هو الّذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أنّ المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البرّ يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات الّتي تثقل بالمياه الّتي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة الناريّة النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبيّن أيّهما أشدّ و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:( وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي الله وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) معناه - و الله أعلم - أنّ الوثنيّين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيّته تعالى بتلفيق الحجّة على ربوبيّة أربابهم كالتمسّك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنّه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعوّ إلى الداعي و يتأتّى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعوّ على الداعي عن دعائه،

٣٤٨

و أمّا اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متمّمة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنّما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعوّ ذا نظر يمكن أن يوجّه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أمّا دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحقّ الدعاء و إن كان في صورته.

و لمّا كانت الآية الكريمة قرّر فيها التقابل بين قوله( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و بين قوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ، الّذي يذكر أنّ دعاء غيره خال عن الاستجابة ثمّ يصف دعاء الكافرين بأنّه في ضلال علمنا بذلك أنّ المراد بقوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) الدعوة الحقّة غير الباطلة و هي الدعوة الّتي يسمعها المدعوّ ثمّ يستجيبها ألبتّة، و هذا من صفاته تعالى و تقدّس فإنّه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغنيّ ذو الرحمة و قد قال:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلّا أن تتحقّق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلّق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحقّ من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقيّة بعناية أنّ الحقّ و الباطل كأنّهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحقّ و هو الّذي لا يتخلّف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الّذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لمّا ذكر في الآيات السابقة أنّه عليم بكلّ شي‏ء و أنّ له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أنّ له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنّه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حقّ الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أمّا الأوّل فقوله:( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيّده ما بعده من نفيه عن غيره، و أمّا الثاني فقوله:( وَ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) و قد أخبر فيه أنّ

٣٤٩

الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بيّن ذلك في مواضع من كلامه فإنّ هؤلاء المدعوّين إمّا أصنام يدعوهم عامّتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إمّا أرباب الأصنام من الملائكة أو الجنّ و روحانيّات الكواكب و البشر كما ربّما يتنبّه له خاصّتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً فكيف بغيرهم و لله الملك كلّه و له القوّة كلّها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثمّ استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله:( كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ ) .

فإنّ الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثمّ يبسط كفّيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حقّ الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أمّا الظمآن البعيد من الماء يريد الريّ لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنّه يبسط إليه كفّيه يبلغ فاه فليس يبلغ ألبتّة فاه و ليس له من طلبه إلّا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلّا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمّى فهؤلاء المدعوّون من دون الله لا يستجيبون للّذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلّا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلّا صورة الطلب ببسط الكفّين.

و من هنا يعلم أنّ هذا الاستثناء( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ ) إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمّن إلّا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإنّ مفاده أنّ الّذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة اُخرى لن ينالوا بدعائهم إلّا أن لا ينالوا شيئاً أي لن ينالوا شيئاً ألبتّة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي:( قُلْ

٣٥٠

أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) و آكد منه كما سيجيي‏ء إن شاء الله.

و قد تبيّن بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ قوله:( دَعْوَةُ الْحَقِّ ) المراد به حقّ الدعاء و هو الّذي يستجاب و لا يردّ ألبتّة، و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلّا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانياً: أنّ تقدير قوله( وَ الّذينَ يَدْعُونَ ) إلخ بإظهار الضمائر: الّذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اُولئك المدعوّون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثاً: أنّ الاستثناء من قوله:( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ ) و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئاً إلّا كما يستجاب لباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعلّ الاستجابة مضمّن معنى النيل و نحوه.

ثمّ أكّد سبحانه الكلام بقوله:( وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة اُخرى و هي أنّه لا غرض لدعاء إلّا الله سبحانه فإنّه العليم القدير و الغنيّ ذو الرحمة فلا طريق له إلّا طريق التوجّه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضلّ دعاؤه فإنّ الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى:( وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) يوسف: ١٠٠، و قال:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشّقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمّها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

٣٥١

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أوّل النهار، و قوبل في القرآن الغدوّ بالآصال نحو قوله:( بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و قوبل الغداة بالعشيّ قال:( بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) انتهى و الغدوّ جمع غداة كقنىّ و قناة و قال في المجمع: الآصال جمع اُصل - بضمّتين - و اُصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنّه أصل الليل الّذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعيّة الّتي يؤتى بها لأغراض معنويّة كالتصدّر الّذي يمثّل به الرئاسة و التقدّم الّذي يمثّل به السيادة و الركوع الّذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الّذي يظهر به نهاية تذلّل الساجد و ضعته قبال تعزّز المسجود له و اعتلائه تسمّى غاياتها بأساميها كما تسمّى نفسها فكما يسمّى التقدّم تقدّماً كذلك تسمّى السيادة تقدّماً و كما أنّ الانحناء الخاصّ ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاصّ ركوع و كما أنّ الخرور على الأرض سجود كذلك التذلّل سجود كلّ ذلك بعناية أنّ الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي الّتي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) البقرة: ١١٦ و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) أسرى: ٤٤ و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩ و قوله:( وَ لله يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الاُمور المنسوبة إلى الأشياء الكونيّة و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنسانيّ أنّ الغايات موجودة في القسم الأوّل بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنّها إنّما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلّة المكوّنات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلّة وضعة حقيقيّة بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنّه ذلّة وضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربّما يتخلّف.

فقوله تعالى:( وَ لله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أخذ بما تقدّم من

٣٥٢

النظر و لعلّه إنّما خصّ اُولي العقل بالذكر حيث قال:( مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مع شمول هذه الذلّة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدّمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال:( وَ ظِلالُهُمْ ) إلخ، لأنّ الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكأنّ في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتّى أنّ ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضاً تعلّقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثمّ إنّ هذا التذلّل و التواضع، الّذي هو من عامّة الموجودات لساحة ربّهم عزّ و علا، خضوع ذاتيّ لا ينفكّ عنها و لا يتخلّف فهو بالطوع ألبتّة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتّى يتوهّم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم ألبتّة غير أنّ هناك عناية اُخرى ربّما صحّحت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أنّ بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهّزة بطباع ربّما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب اُخر و هي الأشياء المستقرّة في عالمنا هذا عالم المادّة الّتي ربّما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرّقة و لا شكّ أنّ مخالف الطبع مكروه كما أنّ ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير أنّها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الّذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم إنّ المراد بالسجدة هو الحقيقيّ منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلاً فهم جميعاً ساجدون غير أنّ المؤمن يسجد

٣٥٣

طوعاً و الكافر يسجد خوفاً من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إنّ المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكلّ إلّا أنّ ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحلّ به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائيّ.

و كذا قول آخرين: إنّ المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من اُولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخصّ اُولي العقل للتغليب.

و أمّا قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإنّ الظلّ و إن كان عدميّا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلّا أنّ له آثاراً خارجيّة و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافاً ظاهراً للحسّ فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنّما خصّ الغدوّ و الآصال بالذكر لا لما قيل: إنّ المراد بهما الدوام لأنّه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو اُريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتّى يعمّ جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله:( وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه - والله أعلم - أنّ الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثّلان للحسّ السقوط على الأرض و ذلّة السجود، و أمّا وقت الظهيرة و أوساط النهار فربّما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شكّ في أنّ سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيّؤها، و ليس النظر مقصوراً على مجرّد طاعتها التكوينيّة في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لله وَ هُمْ داخِرُونَ ) النحل: ٤٨ فإنّ العناية بذلك ظاهرة فيه.

٣٥٤

و ليس ذلك قولاً شعريّاً و تصويراً تخييليّاً يتوسّل به في الدعوة الحقّة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نصّ أنّه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحسّ إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحسّ نوع ظهور و يتمثّل لها بوجه كان من الحريّ أن يستمدّ به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحسّ و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنّه من الحسّ و الخيال الحقّ المستظهر بالحقائق المؤيّد بالحقّ فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عدّه تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيّئة من الأجسام المنتصبة بالغدوّ و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من اُولي العقل.

و من هذا الباب أيضاً ما تقدّم من قوله:( وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الّذي يمثّل لساناً ناطقاً بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشّر به بالريح و السحاب و البرق مع أنّ الأشياء قاطبة مسبّحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتيّ منهم و دلالته دلالة ذاتيّة عقليّة غير مرتبطة بالدلالات اللفظيّة الّتي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكنّ الرعد بصوته الشديد الهائل يمثّل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتيّ فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتيّ الّذي يقوم بذات كلّ شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدّم في مفتتح السورة في قوله تعالى:( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) و قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) الآية أنّ التمسّك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالاُمور المجهول أسبابها عند الحسّ ليس لأنّ سببيّته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الاُمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإنّ القرآن الكريم ينصّ على عموم قانون السببيّة و أنّه تعالى

٣٥٥

فوق الجميع بل لأنّ الاُمور الّتي لا تظهر أسبابها على الحسّ لبادئ نظرة تنبّه الأفهام البسيطة و تمثّل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أوّل هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدوّ و الآصال على الأرض سجوداً منها لله سبحانه مبنيّة على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتيّة الّتي لها في ذواتها بمثال حسّيّ ينبّه الحسّ لمعنى السجدة الذاتيّة و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقليّة.

هذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى، و أمّا حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعريّة أو جعلها مجازاً مثلاً يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنّها توجد كما شاء أو القول بأنّ المراد بالظلّ هو الشخص فإنّ من يسجد يسجد ظلّه معه فإنّ هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) الآية بما تشتمل على أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أنّ الآيات السابقة تبيّن بأوضح البيان أنّ تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أنّ خلقها منه و أنّه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أنّ كلّ من دونه مخلوق مدبّر لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً و ينتج ذلك أنّه الربّ دون غيره.

فأمر تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يسجّل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحقّ لهم بقوله:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي من هو الّذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبّر أمرها؟ ثمّ أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول:( اللَّهُ ) لأنّهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبيّة و في ذلك تلويح إلى أنّهم لا يعقلون حجّة

٣٥٦

و لا يفقهون حديثا.

ثمّ استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتّضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أنّ مقتضى ربوبيّته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنّه هو المالك للنفع و الضرر فكلّ من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا فكيف لغيره؟ فاتّخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرّا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنّهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

و هذا هو المراد بقوله مفرّعاً على السؤال السابق:( قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا ) أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟ أي إذا كان الله سبحانه هو ربّ السماوات و الأرض فقد قلتم باتّخاذكم أولياء آلهة من دونه قولاً يكذّبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنّهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبيّة لهم.

و بالتأمّل فيما قدّمناه أنّ الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبيّن ما تقدّم فمن ربّ السماوات و الأرض إلّا الله؟ أ فأتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعاً و لا ضرّاً؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرّة بعد مرّة إنّما هو للتنزّه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجّة و إتمامها عليهم و أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يضربهما لهم يبيّن بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجّة الحقّة و الآيات البيّنات غير المسلّم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوّي بينهما ببديهة عقله، و يبيّن بالثاني أنّ الكفر بالحقّ ظلمات كما أنّ الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحقّ نور كما أنّ المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان ألبتّة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلّموا للحقّ

٣٥٧

و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ - إلى قوله -وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) في التعبير بقوله:( جَعَلُوا ) و( عَلَيْهِمْ ) دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أنّ الكلام مصروف عنهم إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثمّ العود في جواب هذا الاحتمال الّذي يتضمّنه قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) دليل على أنّ السؤال إنّما هو عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائيّ لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلّا لأنّهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرّر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكاً في الخلق و الإيجاد و إنّما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبيّة لا في توحيد الاُلوهيّة بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبيّة و تتمّ الحجّة عليهم لأنّ اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبيّة مع انتفاء هذه النعوت الكماليّة.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبيّة شركائهم مع الله سبحانه إلّا أن ينكروا توحّده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنّه تعالى إذ يقول:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) يقول لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): هؤلاء تمّت عليهم الحجّة في توحيد الربوبيّة من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلّا أن يقولوا بشركة شركائهم في

٣٥٨

الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأنّ شركائهم خلقوا خلقاً كخلقه ثمّ تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيّتهم إجمالاً مع الله.

ثمّ أمر النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال:( قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنّه تعالى واحد في خالقيّته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كلّ عدد و كثرة و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ :) يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهّار، و تبيّن هناك أنّ مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحديّة.

و قد بان ممّا ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله:( أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمّل في ذلك و اعلم أنّ أكثر المفسّرين اشتبه عليهم الحال في الحجج الّتي تقيمها الآيات القرآنيّة لإثبات ربوبيّته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما اُقيمت لإثبات الصانع فتنبّه لذلك.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تبارك و تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفّار في البصائر، و العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( أنا المنذر و عليّ الهادي) أنّي مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و علىّ مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أنّ المراد بالمنذر هو رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و المراد بالهادي هو عليّ (عليه السلام) فإنّ ذلك مناف لظاهر الآية ألبتّة.

٣٥٩

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلميّ و ابن عساكر و ابن النجّار قال: لمّا نزلت:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) وضع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب عليّ فقال: أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبيّ في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلميّ قال: دعا رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بيد عليّ بعد ما تطهّر فألصقها بصدره ثمّ قال:( إنّما أنت منذر) و يعني نفسه ثمّ ردّها إلى صدر عليّ ثمّ قال:( و لكلّ قوم هاد) ثمّ قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القرّاء أشهد على ذلك إنّك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزبانيّ في ما نزل من القرآن في أميرالمؤمنين.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و ابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.

أقول: و من طرق أهل السنّة في هذا المعنى روايات اُخرى كثيرة.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) في قوله تعالى:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال: كلّ إمام هاد لكلّ قوم في زمانهم.

و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم.

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431