الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 77767
تحميل: 5661


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77767 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بهذه الصفة، و كذا علمه تعالى بأنّ الإنسان سيعمل باختياره و إرادته عملاً أو أنّه سيشقى لعمل اختياريّ كذا يوجب وجوب تحقّق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن و سواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتّى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه بأنّ إنساناً كذا سيشقى بكفره اختياريّاً يستوجب تحقّق الشقوة الّتي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.

فاتّضح أنّ علمه تعالى بعمل الإنسان لا يستوجب بطلان الاختيار و ثبوت الإجبار و إن كان معلومه تعالى لا يتخلّف عن علمه له الحكم لا معقّب لحكمه.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) قال في المجمع: الزفير أوّل نهاق الحمار و الشهيق آخر نهاقه انتهى. و قال في الكشاف: الزفير إخراج النفس و الشهيق ردّه انتهى. و قال الراغب في المفردات، الزفير تردّد النفس حتّى ينتفخ الضلوع منه. و قال: الشهيق طول الزفير و هو ردّه و الزفير مدّه، قال تعالى:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) (سمعوا لها تغيّظا و زفيرا) و قال تعالى:( سَمِعُوا لَها شَهِيقا ) و أصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.

و المعاني - كما ترى - متقاربة و كأنّ في الكلام استعارة، و المراد أنّهم يردّون أنفاسهم إلى صدورهم ثمّ يخرجونها فيمدّونها برفع الصوت بالبكاء و الأنين من شدّة حرّ النار و عظم الكربة و المصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.

و كان الظاهر من سياق قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أن يقال بعده: فأمّا الّذي شقي ففي النار له فيها زفير و شهيق إلخ لكن السياق السابق عليه الّذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) مبنيّ على الكثرة و الجماعة، و مقتضاها المضيّ على هيئة الجمع: الّذين شقوا و الّذين سعدوا، و إنّما عبّر بقوله، شقيّ و سعيد لما قيل قبله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) فاختير المفرد المنكّر ليفيد النفي بذلك الاستغراق و العموم فلمّا حصل الغرض بقوله:( لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) عاد السياق السابق

٢١

المبنيّ على الكثرة و الجماعة فقيل:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) . بيان لمكث أهل النار فيها كما أنّ الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) بيان لمكث أهل الجنّة فيها و تأييد لاستقرارهم في مأواهم.

قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبرّي الشي‏ء من اعتراض الفساد و بقاؤه على الحالة الّتي هو عليها، و كلّ ما يتباطأ عنه التغيير و الفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي(١) : خوالد و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلودا قال تعالى:( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) و الخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الّذي يبقى من الإنسان على‏ حالته فلا يستحيل ما دام الإنسان حيّا استحالة سائر أجزائه، و أصل المخلّد الّذي يبقى مدّة طويلة، و منه قيل: رجل مخلّد لمن أبطأ عنه الشيب، و دابّة مخلّدة هي الّتي تبقى ثناياها حتّى تخرج رباعيّتها ثمّ أستعير للمبقي دائما.

و الخلود في الجنّة بقاء الأشياء على الحالة الّتي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى:( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) .

و قوله تعالى:( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، و قيل: مقرّطون بخلدة، و الخلدة ضرب من القرطة، و إخلاد الشي‏ء جعله مبقى و الحكم عليه بكونه مبقى، و على هذا قوله سبحانه:( وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ) أي ركن إليها ظانّا أنّه يخلد فيها. انتهى.

و قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود

____________________

(١) الأثافي، جمع الأثفية بضم الهمزة و هي الحجر الّذي توضع عليه القدر و هما أثفيتان.

٢٢

و المعنى دائمين فيها دوام السماوات و الأرض لكنّ الآيات القرآنيّة ناصّة على أنّ السماوات و الأرض لا تدوم دوام الأبد و هي مع ذلك ناصّة على بقاء الجنّة و النار بقاءً لا إلى فناء و زوال.

و من الآيات الناصّة على الأوّل قوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣، و قوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) الأنبياء: ١٠٤، و قوله:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) الزمر: ٦٧، و قوله:( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦.

و منها في النصّ على الثاني قوله تعالى:( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدا ) التغابن: ٩، و قوله:( وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيرا ) الأحزاب: ٦٥.

و على هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين:

إحداهما تحديد الخلود المؤبّد بمدّة دوام السماوات و الأرض و هما غير مؤبّدتين لما مرّ من الآيات.

و ثانيتهما تحديد الأمر الخالد الّذي تبتدئ من يوم القيامة و هو كون الفريقين في الجنّة و النار و استقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة و هو السماوات و الأرض، و هذا الإشكال الثاني أصعب من الأوّل لأنّه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنّة و النار معا بخلاف الأوّل.

و الّذي يحسم الإشكال أنّه تعالى يذكر في كلامه أنّ في الآخرة أرضا و سماوات و إن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) إبراهيم: ٤٨، و قال حاكياً عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤، و قال يعد المؤمنين و يصفهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: ٢٢.

٢٣

فللآخرة سماوات و أرض كما أنّ فيها جنّة و ناراً و لهما أهلا و قد وصف الله سبحانه الجميع بأنّها عنده، و قال:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) النحل: ٩٦ فحكم بأنّها باقية غير فانية.

و تحديد بقاء الجنّة و النار و أهلهما بمدّة دوام السماوات و الأرض إنّما هو من جهة أنّ السماوات و الأرض مطلقاً و من حيث إنّهما سماوات و أرض مؤبّدة غير فانية، و إنّما تفنى هذه السماوات و الأرض الّتي في هذه الدنيا على النظام المشهود و أمّا السماوات الّتي تظلّ الجنّة مثلاً و الأرض الّتي تقلّها و قد أشرقت بنور ربّها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، و بذلك يندفع الإشكالان جميعاً.

و قد أشار في الكشّاف إلى هذا الوجه إجمالاً حيث قال: و الدليل على أنّ لها سماوات و أرضا قوله سبحانه:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ ) و قوله سبحانه:( وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) و لأنّه لا بدّ لأرض الآخرة ممّا تقلّهم و تظلّهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى أو يظلّهم العرش، و كلّ ما أظلك فهو سماء. انتهى.

و إن كان الوجه الّذي أشار إليه ثانياً سخيفاً لأنّه إثبات للسماء و الأرض من جهة الإضافة و أنّ الجنّة و النار لا بدّ أن يتصوّر لهما فوق و تحت فيكون الجنّة و النار أصلاً و سماؤهما و أرضهما تبعين لهما في الوجود، و لازمه تحديد بقاء سمائهما و أرضهما بمدّة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.

على أنّ لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقّق للجنّة و النار أرض و سماء و أمّا السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإشكال في السماوات على حاله.

و بما تقدّم يندفع أيضاً ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: و فيه نظر لأنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه و من عرفه فإنّما عرفه بما يدلّ على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.

و مراده أنّ الآية تشبّه دوام الجنّة و النار بأهلهما بدوام السماوات و الأرض

٢٤

فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة و أرضها و لا يعرف أكثر الخلق وجودها و دوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى و هو غير جائز في الكلام البليغ.

و جوابه: أنّا إنّما عرفنا دوام الجنّة و النار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات و أرض لهما و كذا أبديّة الجميع من كلامه فأيّ مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالاُخرى في كلامه، و إن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الاُخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.

و يندفع به أيضاً ما ذكره الآلوسيّ في ذيل هذا البحث أنّ المتبادر من السماوات و الأرض هذه الأجرام المعهود عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخّصا.

وجه الاندفاع أنّ الآيات القرآنيّة إنّما تتّبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلّيّة الّتي تعطيها اللّغة و العرف، و أمّا في مقاصدها و تشخيص المصاديق الّتي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتّبع فيها هو التدبّر الّذي أمر به الله سبحانه و إرجاع المتشابه إلى المحكم و عرض الآية على الآية فإنّ القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض و يصدق بعضه بعضا - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنّه واحد أحد أو عالم قادر حيّ مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسّرها نفس كلامه تعالى و يكشفه التدبّر البالغ من معانيها، و قد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و قد وردت في الروايات و في كلمات المفسّرين توجيهات اُخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه و ليكن الّذي أوردناه أوّلها.

الوجه الثاني: أنّ المراد سماوات الجنّة و النار و أرضهما أي ما يظلّهما و ما يقلّهما فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و ما استقرّت عليه قدمك فهو أرض، و بعبارة اُخرى المراد بهما ما هو فوقهما و ما تحتهما.

٢٥

و هذا هو الوجه الّذي ذكره الزمخشريّ في آخر ما نقلناه من كلامه آنفاً، و قد عرفت الإشكال فيه. على أنّ هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدّم.

الوجه الثالث: أنّ المراد ما دامت الآخرة و هي دائمة أبداً كما أنّ دوام السماء و الأرض في الدنيا قدر مدّة بقائها، و لعلّ المراد أنّ قوله: (ما دامت السماوات و الأرض) موضوع وضع التشبيه كقولك: كلّمته تكليم المستهزئ الهازى‏ء به أي مثل تكليم من يستهزئ و يهزأ به.

و فيه: أنّه لو اُريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، و لو اُريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.

الوجه الرابع: أنّ المراد به التبعيد و إفادة الأبديّة لا أنّ المراد به التحديد بمدّة بقاء السماوات و الأرض بعينها فإنّ للعرب ألفاظا كثيرة يستخدمونها في إفادة التأبيد من غير أن يريدوا بها المعاني الّتي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا و كذا ما اختلف الليل و النهار، و ما ذرّ شارق، و ما طلع نجم، و ما هبّت نسيم، و ما دامت السماوات و قد استراحوا إليها و إلى أشباهها ظنّا منهم أنّ هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبدا ثمّ استعملوها كأنّها موضوعة للتبعيد.

و فيه: أنّهم إنّما استعملوها في التأبيد و أكثروا منه ظنّا منهم أنّ هذه الأمور دائمة مؤبّدة، و أمّا من يصرح في كلامه بأنّها مؤجّلة الوجود منقطعة فانية و يعدّ الإيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأيّ صورة تصوّرت. كيف لا؟ و قد قال تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و كيف يصحّ مع ذلك أن يقال: إنّ الجنّة و النار خالدتان أبداً ما دامت السماوات و الأرض.

الوجه الخامس: أن يكون المراد أنّهم خالدون بمدّة بقاء السماوات و الأرض الّتي يعلم انقطاعها ثمّ يزيدهم الله سبحانه على ذلك، و يخلّدهم و يؤبّد مقامهم، و هذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا و كذا سنة، ثمّ يضيف تعالى إلى ذلك ما

٢٦

لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى:( لابِثِينَ فِيها أَحْقابا ) النبأ: ٢٣ أي أحقابا ثمّ يزادون على ذلك.

و فيه: أنّه على الظاهر مبنيّ على استفادة بعض المدّة من قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و البعض الآخر الّذي لا يتناهى من قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و دلالته على ذلك تتوقّف على تقدير اُمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلا.

الوجه السادس: أنّ المراد بالنار و الجنّة نار البرزخ و جنّتها و هما خالدتان ما دامت السماوات و الأرض، و إذا انتهت مدّة بقاء السماوات و الأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.

و فيه: أنّه خلاف سياق الآيات فإنّ الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة و توصيفها بما له من الأوصاف، و من المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنّه يوم مجموع له الناس، و أنّه يوم مشهود، و أنّه يوم إذا أتى لا تكلّم نفس إلّا بإذنه حتى إذا اتّصل بأخصّ أوصافه و أوضحها و هو الجزاء بالجنّة و النار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنّة و النار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.

على أنّ الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى:( وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) المؤمن: ٤٦.

الوجه السابع: أنّ المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان و بالكون في الجنّة الكون في ولاية الله فإنّ ولاية الله هي الّتي تظهر جنّة في الآخرة يتنعّم فيها السعداء. و ولاية الشيطان هي الّتي تتصوّر بصورة النار فتعذّب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالّة على تجسّم الأعمال.

فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار و ربّما خرجوا منها إن أدركتهم العناية و التوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره و المجرم يتوب عن إجرامه، و السعداء يدخلون الجنّة بسعادتهم و ربّما خرجوا منها إن أضلّهم الشيطان و أخلدوا إلى الأرض و اتّبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتدّ كافرا و الصالح يعود طالحا.

٢٧

و فيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإنّ الآيات تعدّ ما ليوم القيامة من الأوصاف الخاصّة الهائلة المدهشة الّتي تذوب القلوب و تطير العقول باستماعها و التفكّر فيها لتنذر به اُولوا الاستكبار و الجحود من الكفّار و يرتدع به أهل المعاصي و الذنوب.

فيستبعد أن يذكر فيها أنّه يوم مجموع له الناس و يوم مشهود و يوم لا تتكلّم فيه نفس إلّا بإذنه ثمّ يذكر أنّ الكفّار و أهل المعاصي في نار منذ كفروا و أجرموا إلى يوم القيامة، و أهل الإيمان و العمل الصالح في جنّة منذ آمنوا و عملوا صالحا فإنّ هذا البيان لا يلائم السياق- أوّلا- من جهة أنّ الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصّة به لا ما قبله المنتهي إليه، و- ثانياً- من جهة أنّ الآيات مسوقة للإنذار و التبشير، و هؤلاء الكفّار و المجرمون أهل الاستكبار و الطغيان لا يعبئون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسّهم، و لا يرون لها قيمة، و لا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة و الرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية و هو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.

و هاهنا وجوه اُخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) طوينا ذكرها هاهنا إيثاراً للاختصار لأنّها تشترك مع الوجوه الآتية الّتي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإشكال فلنكتف بذلك.

و قوله تعالى:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء ممّا سبقه من حديث الخلود في النار، و نظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنّة، و( ما ) في قوله:( ما شاءَ رَبُّكَ ) مصدريّة و التقدير- على هذا- إلّا أن يشاء ربّك عدم خلودهم و لكن يضعّفه قوله بعد:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) فإنّ( ما ) هاهنا موصولة، و المراد بقوله( ما شاءَ ) و قوله:( ما يُرِيدُ ) واحد.

و إمّا موصولة و الاستثناء من مدّة البقاء المحكوم بالدوام الّذي يستفاد من السياق، و المعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلّا ما شاء ربّك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين و المعنى هم جميعا خالدون

٢٨

فيها إلّا من شاء الله أن يخرج منها و يدخل في الجنّة فيكون تصديقاً لما في الأخبار أنّ المذنبين و العصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها و يدخلون الجنّة بالآخرة للشفاعة، فإنّ خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم و صحّة الاستثناء.

و يبقى الكلام في إيقاع( ما ) في قوله:( ما شاءَ ) على من يعقل، و لا ضير فيه و إن لم يكن شائعا لوقوعه في كلامه تعالى كقوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) النساء- ٣.

و الكلام في الآية التالية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) إلخ نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أنّ الاستثناء في آية الجنّة يعقّبه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) و لازمه أن لا يكون الاستثناء مشيرا إلى تحقّق الوقوع فإنّه لا يلائم كون الجنّة عطاء غير مقطوع بل مشيرا إلى إمكان الوقوع و المعنى أنّ أهل الجنّة فيها أبداً إلّا أن يخرجهم الله منها لكنّ العطيّة دائميّة و هم غير خارجين و الله غير شاء ذلك أبداً.

فيكون الاستثناء مسوقا لإثبات قدرة الله المطلقة، و أنّ قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنّة الخالدة و سلطنته لا تنفد و ملكه لا يزول و لا يبطل و أنّ الزمام بيده و قدرته و إحاطته باقية على ما كانت عليه قبل فله تعالى أن يخرجهم من الجنّة و إن وعد لهم البقاء فيها دائماً لكنّه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، و الله لا يخلف الميعاد.

و الكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنّة لوحدة السياق بالمقابلة و المحاذاة و إن اختتمت الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) و فيه من الإشارة إلى التحقّق ما لا يخفى.

فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنّة لا يخرجون منها أبداً إلّا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنّه على كلّ شي‏ء قدير و لا يوجب فعل من الأفعال: إعطاء أو منع، سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأنّ قدرته مطلقة غير

٢٩

مقيّدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى:( وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم- ٢٧ و قال:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ ) الرعد- ٣٩ إلى غير ذلك من الآيات.

و لا منافاة بين هذا الوجه و بين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشيّة الله كما لا يخفى.

هذا وجه في الاستثناء و هنا وجوه اُخر أنهى الجميع في مجمع البيان، إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أوّلها.

و ثانيهما: أنّه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار و الزيادة من النعيم لأهل الجنّة و التقدير إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلّا الألفين اللّذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ لأنّ الكثير لا يستثني من القليل، و على هذا فيكون إلّا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربّك كما يقال: ما كان معنا رجل إلّا زيد أي سوى زيد.

و فيه: أنّه مبنيّ على عدم إفادة قوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) الدوام و الأبديّة و قد عرفت خلافه.

و ثالثها: أنّ الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنّهم ليسوا في جنّة و لا نار و مدّة كونهم في البرزخ الّذي هو ما بين الموت و الحياة لأنّه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا و لم يستثن لظنّ الظانّ أنّهم يكونون في النار و الجنّة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.

فإن قيل: كيف يستثني من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب أنّ ذلك جائز إذا كان الإخبار به قبل الدخول فيها.

و فيه: أنّه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنّ هذا الوجه بظاهره مبنيّ على إفادة قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) الشقاوة و السعادة الجبريّتين من غير اكتساب و اختيار و قد عرفت ما فيه.

و رابعها: أنّ الاستثناء الأوّل متّصل بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و تقديره

٣٠

إلّا ما شاء ربّك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين و لا يتعلّق الاستثناء بالخلود و في أهل الجنّة متّصل بما دلّ عليه الكلام فكأنّه قال: لهم فيها نعيم إلّا ما شاء ربّك من أنواع النعيم، و إنّما دلّ عليه قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

و فيه: أنّه قطع لاتّصال السياق و وحدته من غير دليل، و فيه أخذ( إِلَّا ) الاُولى بمعنى سوى و( إِلَّا ) الثانية بمعنى الاستثناء على أنّه لا قرينة هناك على تعلّق( إِلَّا ) الاُولى بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ ) و لا أنّ قوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يدلّ على ما ذكره فإنّه إنّما يدلّ على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.

ثمّ أيّة فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم و إظهار ذلك للسامعين و المقام مقام التطميع و التبشير و الظرف ظرف الدعوة و الترغيب فهذا من أسخف الوجوه.

و خامسها: أنّ( إِلَّا ) بمعنى الواو و إلّا كان الكلام متناقضا و المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض و ما شاء ربّك من الزيادة على ذلك.

و فيه: أن كون( إِلَّا ) بمعنى الواو لم يثبت و إنّما ذكره الفرّاء لكنّهم ضعّفوه. على أنّ الوجه مبنيّ على عدم إفادة التقدير و التحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام. و قد عرفت ما فيه.

و سادسها: أنّ المراد بالّذين شقوا من اُدخل النار من أهل التوحيد و هم الّذين ضمّوا إلى إيمانهم و طاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنّهم معاقبون في النّار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم منها إلى الجنّة و إيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

و أمّا الاستثناء الّذي في أهل الجنّة فهو استثناء من خلودهم أيضاً لأنّ من ينقل من النّار إلى الجنّة و يخلد فيها لا بدّ في الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم من حاله فكأنّه قال: إنّهم في الجنّة خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار.

٣١

قالوا: و الّذين شقوا في هذا القول هم الّذين سعدوا بأعيانهم، و إنّما اُجري عليهم كلّ من الوصفين في الحال الّذي يليق به ذلك فإذا اُدخلوا في النار و عوقبوا فيها فهم أهل شقاء، و إذا اُدخلوا في الجنّة و اُثبتوا فيها فهم أهل سعادة، و نسبوا هذا القول إلى ابن عبّاس و جابر بن عبدالله و أبي سعيد الخدريّ من الصحابة و جماعة من التابعين.

و فيه: أنّه لا يلائم السياق فإنّه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنّه يوم مجموع له الناس قسّم أهل الجمع إلى قسمين بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و من المعلوم أنّ قوله:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) إلخ و قوله:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) مبدوّين بأمّا التفصيليّة مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) و لازم ذلك كون المراد بالّذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصّة، و المراد بالّذين سعدوا جميع أصحاب الجنّة لا خصوص من اُخرج من النار و اُدخل الجنّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال: المراد بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أيضاً وصف طائفة خاصّة بأعيانهم كما أنّ المراد بالّذين شقوا و الّذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم. و المعنى أنّ بعض أهل الجمع شقيّ و سعيد معا و هم الّذين اُدخلوا النار و استقرّوا فيها خالدين ما دامت السماوات و الأرض إلّا ما شاء ربّك أن يخرجهم منها و يدخلهم الجنّة و يسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات و الأرض إلّا مقدارا من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنّة.

لكن ينتقل ما قدّمناه من الإشكال حينئذ إلى ما ادّعي من معنى قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامّة لا يساعد على إرادة طائفة خاصّة منهم بقوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) أوّلا ثمّ تفصيل حالهم بتفريقهم - و هم جماعة واحدة بعينهم - و إيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات و الأرض ثمّ استثناءين ليس المراد بهما إلّا واحد و أيّ فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبسا في المعنى و تعقيدا في النظم؟

و يمكن أن يقرّر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله:

٣٢

( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) تقسيم عامّة أهل الجمع إلى الشقيّ و السعيد، و المراد بقوله:( الّذينَ شَقُوا ) جميع أهل النار و بقوله:( الّذينَ سُعِدُوا ) جميع أصحاب الجنّة و يكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفسّاق من أهل التوحيد الّذين يخرجهم الله تعالى من النار و يدخلهم الجنّة و حينئذ يسلم من جلّ ما كان يرد على الوجه السابق من الإشكال.

و سابعها: أنّ التعليق بالمشيّة إنّما هو على سبيل التأكيد للخلود و التبعيد للخروج لأنّ الله سبحانه لا يشاء إلّا خلودهم على ما حكم به فكأنّه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنّه لا يشاء أن يخرجهم منها.

و هذا الوجه يشارك الوجه الأوّل في دعوى أنّ الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقض الخلود غير أنّ الوجه الأوّل يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهيّة و هذا الوجه يختصّ بدعوى أنّ الاستثناء لبيان أنّ الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلّا أن يشاء الله انتقاضه و لن يشاء أصلا.

و هذا هو وجه الضعف فيه فإنّ قوله: و لن يشاء أصلا لا دليل عليه هب أنّ قوله في أهل الجنّة:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) يشعر أو يدلّ على ذلك لكن قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) لا يشعر به و لا يدلّ عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.

و ثامنها: أنّ المراد به استثناء الزمان الّذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة و كذا في الطوائف الّذين يدخلون الجنّة فإنّه تعالى يقول:( وَ سِيقَ الّذينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً ) ( وَ سِيقَ الّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة و لا بدّ أن يقع بينهما تفاوت في الزمان و هو الّذي يستثنيه تعالى بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) و نقل الوجه عن سلام بن المستنير البصريّ.

و فيه: أنّ الظاهر من قوله:( فَفِي النَّارِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) و كذا في قوله:( فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ ) إلخ أنّ الوصف ناظر إلى مدّة الكون في النار أو الجنّة من جهة النهاية لا من جهة البداية.

٣٣

على أنّ المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنّة على أيّ حال هو يوم القيامة، و لا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة و التفاوت الزمانيّ الحاصل من ذلك.

و تاسعها: أنّ المعنى كونهم خالدين في النار معذّبين فيها مدّة كونهم في القبور ما دامت السماوات و الأرض في الدنيا، و إذا فنيتا و عدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، و قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان، عن شيخنا أبي جعفر الطوسيّ في تفسيره ناقلا عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.

و فيه: أنّ مرجعه إلى الوجه الثاني المبنيّ على أخذ( إِلَّا ) بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، و قد عرفت ما يرد عليه.

و عاشرها: أنّ المراد إلّا من شاء ربّك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الّذين شقوا، و التقدير فأمّا الّذين شقوا فكائنون في النار إلّا من شاء ربّك، و الظاهر أنّ هذا القائل يوجّه الاستثناء في ناحية أهل الجنّة( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) بأنّ المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنّة كما تقدّم في بعض الوجوه السابقة، و المعنى أنّ السعداء في الجنّة خالدين فيها إلّا الفساق من أهل التوحيد فإنّهم في النار ثمّ يخرجون فيدخلون الجنّة، و نسب الوجه إلى أبي مجلز.

و فيه: أنّ ما ذكره إنّما يجري في أوّل الاستثنائين فالثاني من الاستثنائين لا بدّ أن يوجّه بوجه آخر، و هو كائنا ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.

على أنّ العصاة من المؤمنين الّذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافا و إنّما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ ) إلخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثمّ يستثنوا لعدم دخولهم النار، و بالجملة هم ليسوا بأشقياء

٣٤

حتّى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنّة من أوّل.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) تعليل للاستثناء، و تأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) قرئ سعدوا بالبناء للمجهول و بالبناء للمعلوم و الثاني أوفق باللغة لأنّ مادّة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكنّ الأوّل و هو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون( شَقُوا ) في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أنّ السعادة و الخير من الله سبحانه و الشرّ الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدا ) النور: ٢١.

و الجذّ: هو القطع و عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعدّه تعالى الجنّة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من أحسن الشواهد على أنّ مراده باستثناء المشيّة إثبات بقاء إطلاق قدرته و أنّه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قطّ.

و يجري في هذه الآية جميع ما تقدّم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلّا ما كان من الوجوه مبنيّا على كون المستثنى في قوله:( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) من دخل النار أوّلا ثمّ خرج منها إلى الجنّة ثانياً، و ذلك أنّ من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنّة الآخرة و هي جنّة الخلد أحد ممّن دخلها جزاء أبدا، و هو كالضروريّ من الكتاب و السنّة، و قد تكاثرت الآيات و الروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، و إن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.

قال في مجمع البيان، في وجوب دخول أهل الطاعة الجنّة و عدم جواز خروجهم منها: لإجماع الاُمّة على أنّ من استحقّ الثواب فلا بدّ أن يدخل الجنّة، و أنّه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى.

٣٥

مسألة (وجوب دخول أهل الثواب الجنّة) مبنيّة على قاعدة عقليّة مسلّمة و هي أنّ الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأنّ الّذي تعلّق به الوعد حقّ للموعود له، و عدم الوفاء به إضاعة لحقّ الغير و هو من الظلم و أمّا الوعيد فهو جعل حقّ للموعد على التخلّف الّذي يوعد به له، و ليس من الواجب لصاحب الحقّ أن يستوفي حقّه بل له أن يستوفي و له أن يترك و الله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنّة بإطاعتهم، و أوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنّة توفية للحقّ الّذي جعله لهم على نفسه، و أمّا عقاب العاصين فهو حقّ جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقّه و له أن يتركهم بترك حقّ نفسه.

و أمّا مسألة عدم الخروج من الجنّة بعد دخولها فهو ممّا تكاثرت عليه الآيات و الروايات، و الإجماع الّذي ذكره مبنيّ على الّذي تسلّموه من دلالة الكتاب و السنّة أو العقل على ذلك، و ليس بحجّة مستقلّة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور،: أخرج البخاري و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله سبحانه ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته. ثمّ قرأ:( وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ )

و فيه: أخرج الترمذيّ و حسّنه و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عمر بن الخطّاب قال: لمّا نزلت:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شي‏ء قد فرغ منه، و جرت به الأقلام يا عمر، و لكن كلّ ميسّر لما خلق له‏.

٣٦

أقول: و هذا اللفظ مرويّ عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بطرق متعدّدة من طرق أهل السنّة كما في صحيح البخاريّ عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيم يعمل العاملون؟ قال: (كلّ ميسّر لما خلق له)

و فيه أيضاً عن عليّ كرّم الله وجهه عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، أنّه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم أحد إلّا كتب مقعده من الجنّة أو من النار. قالوا: أ لا نتّكل؟ قال: اعملوا (فكلّ ميسّر لما خلق له) و قرأ:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ ) إلخ.

و لتوضيح ذلك نقول: إنّه لا يخفى على ذي مسكة أنّ كلّا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان و آثارها ما لم يلبس لباس التحقّق و الوجود فهو على حدّ الإمكان و للإمكان نسبة إلى الوجود و العدم معا، فالخشبة ما لم تصر رمادا بالاحتراق لها إمكان أن تصير رمادا و أن لا تصير، و المني ما لم يصر إنسانا بالفعل فلها إمكان الإنسانيّة أي إنّها تحمل استعداد أن يصير إنساناً إن اجتمع معها بقيّة أجزاء العلّة الموجبة للإنسانيّة و استعداد أن يبطل فيصير شيئاً غير الإنسان.

و إذا تلبّس بلباس الوجود و صار مثلا رمادا بالفعل و إنساناً بالفعل بطل عند ذلك عنه الإمكان الّذي كان ينسبه إلى الرماد و غيره معا و إلى الإنسان و عدمه معا، و صار إنساناً فحسب يمتنع غيره و رمادا يمتنع مع هذه الفعليّة غيره.

و بهذا يتّضح أنّا إذا أخذنا الفعليّات و نسبناها إلى عللها الموجبة لها و هكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليّات لا يتغيّر شي‏ء منها عمّا هو عليه، و بطل الإمكانات و الاستعدادات و الاختيارات جميعاً، و إذا نظرنا إلى الاُمور من جهة الإمكانات و الاستعدادات الّتي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شي‏ء من الأشياء المادّيّة من حيّز الإمكان و مستقرّ الاختيار.

فللكون وجهان: وجه ضرورة و فعليّة يتعيّن فيه كلّ جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، و لا يقبل أيّ إبهام و تردّد، و أيّ تغيير و تبديل و هو الوجه الّذي تقوم فيه المسبّبات بأسبابها الموجبة و المعلولات بعللها التامّة الّتي لا تنفكّ عن مقتضياتها

٣٧

و لا تتخلّف معلولاتها عنها و لا تنفع في تغييرها عمّا هي عليه حيلة، و لا في تبديلها سعي و لا حركة.

و وجه آخر هو وجه الإمكان و صورة الاستعداد و القابليّة لا يتعيّن بحسبه شي‏ء إلّا بعد الوقوع، و لا يخرج عن الإبهام و الإجمال إلّا بعد التحقّق، و عليه يقوم ناموس الاختيار، و به يتقوّم السعي و الحركات، و يبتني العمل و الاكتساب، و إليه تركن التعاليم و التربية و الخوف و الرجاء و الأمانيّ و الأهواء، و به تنجح الدعوة و الأمر و النهي و يصحّ الثواب و العقاب.

و من الضروريّ أنّ الوجهين لا يتدافعان في الوجود و لا يبطل أحدهما الآخر فللفعليّة ظرفها و للإمكان و الاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانيّة تعيّنها بعد التحقّق، و لا تعيّنها بعده إبهامها قبله.

و الوجه الأوّل هو وجه القضاء الإلهيّ، و لا يبطل تعيّن الحوادث بحسبه عدم تعيّنها بحسب ظرف الدعوة و العمل و الاكتساب، و سنستوفي البحث في ذلك عند ما نضع الكلام في القضاء و القدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.

و لنرجع إلى الأحاديث:

التأمّل في سياقها يعطي أنّهم فهموا من كتابه السعادة و الشقاوة و الجنّة و النار و جريان القلم بذلك، الضرورة و الوجوب، و توهّموا من ذلك أوّلا لزوم بطلان المقدّمات الموصلة إلى الغايات، و ارتفاع الروابط بين المسبّبات و أسبابها، و أنّه إذا قضي للإنسان بالجنّة تحتّم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحاً أو اقترف سيّئا.

و توهّموا ثانياً أنّ تلك المقدّمات و الأسباب نظائر للغايات و المسبّبات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى و لا للسعي و الاكتساب مجال.

و الّذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: (يا رسول الله فعلام نعمل، على شي‏ء قد فرغ منه أو على شي‏ء لم يفرغ منه؟) و قولهم: (يا رسول الله فيم يعمل

٣٨

العاملون؟) و قولهم: (أ لا نتّكل؟) أي ألا نترك العمل اتّكالا على ما كتبه الله كتابه لا تتغيّر و لا تتبدّل؟ كلّ ذلك يشير إلى التوهّم الأوّل، و كأنّ الّذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار و الاستطاعة صرفهم عن الإشارة إلى ثاني التوهّمين و إن كان ناشباً على قلوبهم فإنّهما متلازمان.

و قد أجاب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن سؤالهم بقوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) و هو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإنسان:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠ أي إنّ كلّا من أهل الجنّة الّذي خلقه الله لها، و من أهل النار الّذي خلقه الله لها كما قال:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الأعراف: ١٧٩. له غاية في خلقه و قد يسّره الله السبيل إلى تلك الغاية و سهّل له السلوك منه إليها.

فبين الإنسان الّذي كتبت له الجنّة و بين الجنّة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، و بينه و بين النار الّتي كتبت له كذلك، و سبيل الجنّة هو الإيمان و التقوى، و سبيل النار هو الشرك و المعصية، فالإنسان الّذي كتب الله له الجنّة إنّما كتب له الجنّة الّتي سبيلها الإيمان و التقوى فلا بدّ من سلوكه، و لم يكتب له الجنّة سواء عمل أو لم يعمل و سواء عمل صالحا أو سيّئا، و كذلك الّذي كتب له النار إنّما كتب له النار من طريق الشرك و المعصية لا مطلقا.

و لذلك أعقب (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قوله: (كلّ ميسّر لما خلق له) - على ما في رواية عليّ (عليه السلام) - بتلاوة قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الليل: ١٠.

فالمتوقّع لإحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الريّ من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنّما الدار دار سعي و حركة لا تنال فيها غاية إلّا بسلوك و نقله، قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم، ٤١.

و لم يهمل (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الجواب عن ثاني التوهّمين حيث عبّر بالتيسير فإنّ

٣٩

التيسير هو التسهيل، و من المعلوم أنّ التسهيل إنّما يتحقّق في أمر لا ضرورة تحتمه و لا وجوب يعيّنه و يسدّ باب عدمه، و لو كان سبيل الجنّة ضروريّ السلوك حتميّ القطع على الإطلاق للإنسان الّذي كتبت له، كان ثابتا لا يتغيّر، و لم يكن معنى لتيسيره و تسهيل سلوكه له و هو ظاهر.

فقوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): (كلّ ميسّر لما خلق له) يدلّ على أنّ لما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة و الشقاء وجهين وجه ضرورة و قضاء حتم لا يتغيّر عن سبيل مثله، و وجه إمكان و اختيار ميسّر للإنسان يسلك إليه بالعمل و الاكتساب، و الدعوة الإلهيّة إنّما تتوجّه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأوّل.

و قد تقدّم كلام في الجبر و الاختيار في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة، ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن قتادة: أنّه تلا هذه الآية:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) فقال: حدّثنا أنس أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: (يخرج قوم من النار) و لا نقول كما قال أهل حروراء.

أقول: و قوله: (و لا نقول كما قال أهل حروراء) هو من كلام قتادة، و أهل حروراء قوم من الخوارج، و هم يقولون بخلود من دخل النار فيها.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا - إلى قوله -إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): إن شاء الله أن يخرج اُناسا من الّذين شقوا من النار فيدخلهم الجنّة فعل‏.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد الأهوازيّ في كتاب الزهد بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن الجهنّميّين فقال: كان أبوجعفر يقول: يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنّة تسمّى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم و جلودهم و شعورهم.

أقول: و رواه أيضاً بإسناده عن عمر بن أبان عنه (عليه السلام):

و المراد بالجهنّميّين طائفة خاصّة من أهل النار و هم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، و يسمّون

٤٠