الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85850 / تحميل: 6683
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي. يا با محمّد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتّى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمّد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنّه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.

أقول: و الرواية تشهد على ما قدّمناه أنّ شمول الآية لعليّ (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمّة، و هذا الجري هو المراد ممّا ورد أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا.( وَ ما تَزْدادُ ) قال: الذكر و الاُنثى جميعا.

أقول: و قوله: الذكر و الاُنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.

و فيه، عن محمّد بن مسلم و غيره عنهما (عليهما السلام) قال:( ما تَحْمِلُ ) كلّ من اُنثى أو ذكر( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا( وَ ما تَزْدادُ ) عن اُنثى أو ذكر.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عمّن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله عزّوجلّ:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ ) قال: الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر( وَ ما تَزْدادُ ) كلّ شي‏ء تزداد على تسعة أشهر فكلّما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنّها تزداد بعدد الأيّام الّتي رأت في حملها من الدم.

أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسّرين:

و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

٣٦١

أقول: ليس المراد من( ما لم يكن) المعدوم الّذي ليس بشي‏ء بل الأمر الّذي بالقوّة ما لم يدخل في ظرف الفعليّة، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عبّاس: أنّ أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنّة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لا. فلمّا قفى من عنده قال: لأملأنّها عليك خيلاً و رجالاً، قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): يمنعك الله.

فلمّا خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إنّي ساُلهي محمّداً عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإنّ الناس إذا قتلت محمّداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمّد قم معي اُكلّمك فقام منه فخلّيا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلّمه و سلّ أربد السيف فلمّا وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سلّ سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست.

فلمّا خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حتّى إذا كانا بحرّة رقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ و اُسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوّي الله لعنكما الله و وقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا اُسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي.

حتّى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتّى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما

٣٦٢

تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ - إلى قوله -لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) قال: المعقّبات من أمر الله يحفظون محمّداً (صلّي الله و عليه وآله وسلّم). ثمّ ذكر أربد و ما قتله فقال:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ - إلى قوله -وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

أقول: و روي ما في معناه عن الطبريّ و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه:

أخشـى علـى أربد الحتـوف ولا

أرهب نوء السماء و الأسد

فجعني الرعد و الصواعق بالفارس

يـوم الكـريـهة النـجد

و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصّة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكّيّة بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضاً على ما مرّ من معناها.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال: ليس من عبد إلّا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردّى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بين القدر.

أقول: و روي أيضاً ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه. و روي ما في معناه عن الصادقين (عليهما السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال حدّثنا هذه الآية:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) الآية قال: من المقدّمات المؤخّرات المعقّبات الباقيات الصالحات.

أقول: ظاهره أنّ الباقيات الصالحات من مصاديق المعقّبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلّا بالملائكة الموكّلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدّمناه في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدّمات المؤخّرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدّمناه ظاهر.

و فيه، عن أبي عمرو المدائنيّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ أبي كان يقول:

٣٦٣

إنّ الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، عن أحمد بن محمّد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فصار الأمر إلى الله تعالى.

أقول: إشارة إلى ما قدّمناه من معنى الآية.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابليّ يقول: سمعت زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب الّتي تغيّر النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) قال: خوفاً للمسافر و طمعاً للمقيم.

و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ (عليه السلام): في قوله تعالى:( وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) يريد المكر.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بعث رجلاً إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عزّوجلّ فقال للرسول: أخبرني عن هذا الّذي تدعوني إليه أ من فضّة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فأخبره بقوله فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبيّ الله إنّه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلّمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جلّ ثناؤه( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ‏ ) .

أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مرّ من قصّة عامر و أربد و

٣٦٤

يزيد هذا الخبر أنّ قوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ ) إلخ بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول.

و في التفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية: أمّا من يسجد من أهل السماوات طوعاً فالملائكة يسجدون لله طوعاً، و أمّا من يسجد من أهل الأرض ممّن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعاً، و أمّا من يسجد له كرهاً فمن جبر على الإسلام و أمّا من لم يسجد فظلّه يسجد له بالغدوّ و الآصال.

أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإنّ الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوّه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبئ عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أنّ السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامّة موجودة إمّا فيهم و إمّا في ظلالهم فإنّ سجدوا حقيقة طوعاً أو كرهاً فهي و إلّا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.

على أنّه لا يوافق العموم المتراآى من قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و أوضح منه العموم الّذي في قوله:( اَوَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) النحل: ٤٩.

٣٦٥

( سورة الرعد الآيات ١٧ - ٢٦)

أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثَالَ( ١٧) لِلّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهمُ الْحُسْنَى‏ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنّ لَهُم مّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( ١٨) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ( ١٩) الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ( ٢٠) وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ( ٢١) وَالّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ( ٢٢) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِن كُلّ بَابٍ( ٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ( ٢٤) وَالّذِينَ يَنقُضُونَ

٣٦٦

عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ( ٢٥) اللّهُ يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلّا مَتَاعٌ( ٢٦)

( بيان)

لمّا أتمّ الحجّة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثمّ أبان لهم الفرق الجليّ بين الحقّ و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) أخذ في البيان التفصيليّ للفرق بين الطريقين طريق الحقّ الّذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الّذي هو الشرك و العمل السيّئ و أهلهما الّذين هم المؤمنون و المشركون، و أنّ للأوّلين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كلّه بمثل يبيّن به حال الحقّ و الباطل و أثر كلّ منهما الخاصّ به ثمّ بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.

قوله تعالى: ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلى آخر الآية قال في مجمع البيان: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الّذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنّه جمع المال العظيم الّذي يؤدّى عن القتيل، و القدر اقتران الشي‏ء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.

قال: و الاحتمال رفع الشي‏ء على الظهر بقوّة الحامل له، و يقال: علا صوته

٣٦٧

على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.

و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفرّاء: كلّ شي‏ء ينضمّ بعضه إلى بعض فإنّه يجي‏ء على فُعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.

و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتّقدت و توقّدت، و المتاع ما تمتّعت به، و المكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث - بفتح الكاف و ضمّها - و تمكّث أي تلبّث. انتهى.

و قال الراغب: الباطل نقيض الحقّ و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عزّوجلّ:( وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) و قال:( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) . انتهى موضع الحاجة.

فبطلان الشي‏ء هو أن يقدّر للشي‏ء نوع من الوجود ثمّ إذا طبّق على الخارج لم يثبت على ما قدّر و لم يطابقه الخارج و الحقّ بخلافه فالحقّ و الباطل يتّصف بهما أوّلا الاعتقاد ثمّ غيره بعناية مّا.

فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقّاً لمطابقة الواقع إيّاه إذا فحص عنه و طبّق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدّر له من الثبات، و الفعل يكون حقّاً إذا وقع على ما قدّر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحّة مثلاً إذا أثّر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلاً إذا لم يقع على ما قدّر عليه من الغاية أو الأمر و الشي‏ء الموجود في الخارج حقّ من جهة أنّه موجود كما اعتقد كوجود الحقّ تعالى، و الشي‏ء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان

٣٦٨

موجوداً لكن قدّر له من خواصّ الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدّر له و إن كان حقّاً من جهة أصل الوجود قال:

ألا كلّ شي‏ء ما خلا الله باطل

و كلّ نعيم لا محالة زائل

و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنيّة تبحث عن طبيعة الحقّ و الباطل فتصف بدء تكوّنهما و كيفيّة ظهورهما و الآثار الخاصّة بكلّ منهما و سنّة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنّة الله تحويلاً و لن تجد لسنّة الله تبديلاً.

بيّن تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنّما هو مثل واحد ينحلّ إلى أمثال فقال تعالى:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) و قوله:( أَنْزَلَ ) فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير( ماءِ ) للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشي‏ء أو يشوبه تغيّر، و تنكير( أَوْدِيَةٌ ) للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازيّة نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كلّه بدلالة السياق، و إنّما مثل بالسيل لأنّ احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محلّ الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كلّ بقدره الخاصّ به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كلّ واحد من الأودية المختلفة زبداً طافياً عالياً هو الظاهر على الحسّ يستر الماء سترا.

ثمّ قال تعالى:( وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) من نشويّة و ما يوقدون عليه أنواع الفلزّات و المواد الأرضيّة القابلة للإذابة المصوغة

٣٦٩

منها آلات الزينة و أمتعة الحياة الّتي يتمتّع بها و المعنى و يخرج من الفلزّات و الموادّ الأرضيّة الّتي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضّة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتّخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الّذي يربو السيل يطفو على المادّة المذابة و يعلوه.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ ) أي يثبت الله الحقّ و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.

فالمراد بالضرب - والله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلّة و المسكنة أي اُوقعت و اُثبتت و ضرب بينهم بسور أي اُوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبّت و إلى هذا المعنى أيضاً يعود ضرب المثل لأنّه تثبيت و نصب لما يماثل الممثّل حتّى يتبيّن به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإنّ الضرب و هو إيقاع شي‏ء على شي‏ء بقوّة و عنف لا ينفكّ عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد اُطلق الضرب و هو الملزوم و اُريد التثبيت و هو الأمر اللازم.

و من هنا يظهر أنّ قول المفسّرين إنّ في الجملة حذفاً أو مجازاً و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحقّ و الباطل أو مثل الحقّ و مثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محلّه فإنّه تكلّف من غير موجب و لا دليل يدلّ عليه.

على أنّه لو اُريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و هو يغني عنه.

على أنّ ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإنّ كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحقّ و الباطل يوجب كون ثبوت الحقّ نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثمّ قال تعالى:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

٣٧٠

الْأَرْضِ ) جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرّقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصّة و هو أنّه يذهب جفاء، و لذا قدّمنا آنفاً أنّ الآية تتضمّن مثلاً واحداً و إن انحلّ إلى غير واحد من الأمثال.

و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله:( وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ ) للدلالة على خاصّة يختصّ بها الحقّ و هو أنّ الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.

و المعنى: فأمّا الزبد الّذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج ممّا يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلاً متلاشياً، و أمّا الماء الخالص أو العين الأرضيّة المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمّتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و ختم به القول أي إنّ الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنّها تميّز الحقّ من الباطل و تبيّن للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.

و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد الموادّ الأرضيّة و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجيّة و التكوّنات العينيّة لا القول فيدلّ على أنّ هذه الوقائع الكونيّة و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي اُولي النهي و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أنّ ما في عالم الشهادة آيات دالّة على ما في عالم الغيب على ما تكرّر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالاً مضروبة أو آيات دالّة و هو ظاهر.

و قد تبيّن بهذا المثل المضروب في الآية اُمور هي من كلّيّات المعارف الإلهيّة:

أحدها: أنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الّذي هو بمنزلة الرحمة السماويّة و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الّذي يحتمل

٣٧١

من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنّما تنال الأشياء من العطيّة الإلهيّة بقدر قابليّتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.

و هذا أصل عظيم يدلّ عليه أو يلوّح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦ و من الدليل عليه جميع آيات القدر.

ثمّ إنّ هذه الاُمور المسمّاة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماويّة مقدّرة لها لكنّها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى،( إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) هود: ١٢٣، و قال:( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) الآية: ٣١ من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدقّ معنى و أوسع مصداقا.

و ثانيها: أنّ تفرّق هذه الرحمة السماويّة في أودية العالم و تقدّرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفكّ عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنّها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدّرة بالأقدار فإنّها باقية ثابتة أي حقّة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حقّ و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.

و الحقّ من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ فهذه الموجودات يشتمل كلّ منها على جزء حقّ ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) يونس: ٨٢ و قال:( إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) أسرى: ٨١ و قال:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) الأنبياء: ١٨.

٣٧٢

و ثالثها: أنّ من حكم الحقّ أنّه لا يعارض حقّاً غيره و لا يزاحمه بل يمدّه و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدلّ على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحقّ الّذي ينفع الناس.

و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنّما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلّا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثمّ الحيوان يأكل بعضه بعضاً ثمّ الأرض يأكل الجميع بل المراد أنّ هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهيّة و يتسبّب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعيّة فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنّهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجّار في صنعة الباب مثلاً، و مثل كفّتي الميزان فإنّهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنّه يعارض الغرض الحقّ و يخيّب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضرّ من غير نفع.

و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله:( وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) : الجاثية: ١٣ فكلّ شي‏ء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنّه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

و هذه الاُصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبّرت في الآيات القرآنيّة الّتي تذكر الحقّ و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.

و اعلم أنّ هذه الاُصول كما تجري في الاُمور العينيّة و الحقائق الخارجيّة كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحقّ في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الّذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى:( يُثَبِّتُ

٣٧٣

اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) : إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‏ وَ الّذينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ) إلى آخر الآية المهاد الفراش الّذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهّد الموطّأ و سمّيت جهنّم مهاداً لأنّها مهّدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيّئة.

و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرّعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - يبيّن الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحقّ و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإنّ الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أنّ العاقبة المحمودة الّتي للإيمان لا يقوم مقامها شي‏ء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أنّ المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنّة و إن كان حقّاً بحسب المآل فإنّ عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهيّة الحسنى و هي الجنّة لكن المثوبة أو الجنّة غير مقصودة في المقام بما أنّها مثوبة أو جنّة بل بما أنّها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصّة بهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) الآية.

و على هذا أيضاً فقوله:( لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ) موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشرّ و الشقوة بما لا يذكر.

و المعنى: و الّذين لم يستجيبوا لربهم يحلّ بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى - من صفته أنّه لو أنّ لهم ما في الأرض من نعمة تلتذّ بها النفس الإنسانيّة و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمنّاه ثمّ اُضيف إليه

٣٧٤

مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخّصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الّذي يملكونه فرضا عمّا يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه:( غير موصوف ما نزل بهم) .

ثمّ أخبر تعالى عن هذا الّذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ‏ ) و سوء الحساب الحساب الّذي يسوؤهم و لا يسرّهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثمّ ذمّ تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله:( وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) أي بئس المهاد مهادهم الّذي مهّد لهم و يستقرّون فيه، و مجموع قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ) إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الّذي من صفته كذا و كذا.

و معنى الآية - والله أعلم- للّذين استجابوا لدعوة ربّهم الحقّة العاقبة الحسنى و الّذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلّص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنّوه لأنّ الّذي يحلّ بهم من العاقبة السيّئة يتضمّن أو يقارن سوء الحساب و القرار في جهنّم و بئس المهاد مهادهم.

و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كلّ بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) استفهام إنكاريّ و هو في موضع التعليل لما تتضمّنه الآية السابقة، و بيان تفصيليّ لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحقّ و عدمها.

و ملخّص البيان: أنّ الحقّ يستقرّ في قلوب هؤلاء الّذين استجابوا لربّهم فتصير قلوبهم ألباباً و قلوباً حقيقيّة لها آثارها و بركاتها و هو التذكّر و التبصّر، و من خواصّ هذه القلوب الّتي يعرف بها صاحبوها أنّ اُولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربّهم، و يثبتون على احترام

٣٧٥

ما وصلهم الله به و هي الرحم الّتي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجّه إلى ربّهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيّئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنّة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرّيّاتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحقّ.

و قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ ) الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدّم - و فيه نفي التساوي بين من استقرّ في قلبه العلم بالحقّ و من جهل الحقّ و في توصيف الجاهل بالحقّ بالأعمى إيماء إلى أنّ العالم به يصير و قد سمّاهما بالأعمى و البصير في قوله آنفاً:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) الآية، فالعلم بالحقّ بصيرة و الجهل به عمى و التبصّر يفيد التذكّر و لذا عدّه من خواصّ اُولي العلم بقوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ ) .

و قوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ ) إلخ، أي إنّهما لا يستويان لأنّ لاُولي العلم تذكّراً ليس لاُولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع اُولي العلم اُولوا الألباب فدلّ على دعوى اُخرى تفيد فائدة التعليل كأنّه قيل: لا يستويان لأنّ لأحد الفريقين تذكّراً ليس للآخر، و إنّما اختصّ التذكّر بهم لأنّ لهم ألباباً و قلوباً و ليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: ( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) ظاهر السياق أنّ الجملة الثانية عطف تفسيريّ على الجملة الاُولى فالمراد بالميثاق الّذي لا ينقضونه هو عهد الله الّذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكّرهم هو ما عاهدوا به ربّهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحّدوه و

٣٧٦

يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإنّ الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.

و أمّا العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكلّ ذلك من فروع الميثاق الفطريّ فإنّ الدين فطريّ.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر هو الأمر التشريعيّ النازل بشهادة ذيل الآية( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فإنّ الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهراً و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإنّ المستضعف الّذي لم يبلغه الحكم الإلهيّ و لم يقصّر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ الحجّة لا تتمّ على الإنسان بمجرّد الإدراك الفطريّ لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) : النساء: ١٦٥.

و الآية مطلقة فالمراد به كلّ صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم الّتي أمر الله بها و أكّد القول في وجوبها، قال تعالى:( وَ اتَّقُوا اللَّهَ الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) : النساء: ١.

و قد أكّد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله:( وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فأشار إلى أنّ في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملاً سيّئاً مكتوباً في صحيفة العمل محفوظاً على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيّئ.

و الظاهر أنّ الفرق بين الخشية و الخوف أنّ الخشية تأثّر القلب من إقبال الشرّ أو ما في حكمه، و الخوف هو التأثّر عملاً بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتّقى به المحذور و إن لم يتأثّر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه:( وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ) : الأحزاب: ٣٩. فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله:( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏ ) : طه: ٦٧ و قوله:( وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) : الأنفال: ٥٨.

٣٧٧

و لعلّه إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أنّ الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم. و لذا خصّ العلماء بها في قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) و كذا قول بعضهم: إنّ الخشية أشدّ الخوف لأنّها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة أي يابسة. و كذا قول بعضهم: إنّ الخوف يتعلّق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنّها تتعلّق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.

و لو لا رجوعها إلى ما قدّمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أنّ الفرق أغلبيّ لا كلّيّ، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلاً و هو مردود بما قدّمناه من الآيات.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا ) إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدلّ على اتّصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنّه مع ذلك مقيّد بقوله:( ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) أي طلباً لوجه ربّهم فصفتهم الّتي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأنّ الكلام في صفاتهم الّتي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربّهم و علمهم بحقّيّة ما أنزل إليهم من ربّهم لا كلّ صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديّتهم و إيمانهم بربّهم كالصبر عند الكريهة تمنّعاً و عجباً بالنفس أو طلباً لجميل الثناء و نحوه كما قيل:

و قولي كلّما جشأت و جاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

و المراد بوجه الربّ تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة الّتي عليها يظهر و يستقرّ العمل عنده تعالى أعني المثوبة الّتي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) : آل عمران: ١٩٥، و قال:( وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) : النحل: ٩٦ و قال:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) : القصص: ٨٨.

و قوله:( وَ أَقامُوا الصَّلاةَ ) أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها

٣٧٨

و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاصّ على العامّ اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره- كما قيل-.

و قوله:( وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) المراد به مطلق الإنفاق أعمّ من الواجب و غيره، و الآية مكّيّة لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله:( سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) للدلالة على استيفائهم حقّه فإنّ من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحقّ أن يستوفي من كلّ حقّه فيسرّ بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنّة الرّياء أو السمعة أو إهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البرّ و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.

و قوله:( وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيّئة جاؤا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيّئة، و هذا أعمّ من أن يكون ذلك في سيّئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاؤا بها فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات أو دفعوها بتوبة إلى ربّهم فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيّئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا: سلاما أو اُتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا بها.

فذلك كلّه من درء السيّئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدلّ على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتّة.

و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لاُولي الألباب:( الّذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرؤن) فأتي في بعضها - و هي ستّة - بلفظ المضارع، و في بعضها - و هي ثلاثة - بلفظ الماضي.

و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أنّ التعبير في قوله:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدّم بلفظ

٣٧٩

المضارع على سبيل التفنّن في الفصاحة لأنّ هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني( الّذينَ ) و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطيّة، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطيّة نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

و لذا قال النحويّون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامّة احتمل أن يراد به المضيّ و أن يراد به الاستقبال فمن الأوّل( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) و من الثاني( إِلَّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) .

و فيه أنّ إلغاء خصوصيّة زمان الفعل من المضيّ و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقّق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإنّ في الماضي مثلا عناية بالتحقّق و إن كان ملغى الزمان فصحّة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محلّه بعد.

و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أنّ المراد بالأوصاف المتقدّمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكنّ الصبر لمّا كان ممّا يتوقّف على تحقّقه التلبّس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبّر بلفظ الماضي الدالّ على التحقّق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.

و فيه أنّ بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمّيّة عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الّذي اُريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبّر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.

و الّذي أحسب - والله أعلم - أنّ مجموع قوله تعالى:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرّمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيّئة بالحسنة الّذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل

٣٨٠

مقصود بالتبع كالمتمّم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: و الّذين يصبرون ابتغاء وجه ربّهم و يقيمون الصلاة و ينفقون ممّا رزقناهم سرّا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيّئة فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعيّة لكن قيل:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) فأخذ جميع الصبر المستقرّ أمراً واحداً مستمرّاً ليدلّ على وقوع كلّ الصبر منهم ثمّ قيل:( وَ يَدْرَؤُنَ ) إلخ ليدلّ على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.

و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) الآية، حيث يدلّ على تفرّع تنزّل الملائكة على تحقّق قولهم:( رَبُّنَا اللَّهُ ) و استقامتهم دون الاستمرار عليه.

و قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبتها المحمودة فإنّها هي العاقبة حقيقة لأنّ الشي‏ء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلّا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أمّا العاقبة المذمومة السيّئة ففيها بطلان عاقبة الشي‏ء لخلل واقع فيه، و إنّما تسمّى عاقبة بنحو من التوسّع، و لذلك اُطلق في الآية عقبى الدار و اُريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله:( وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ، و من هنا يظهر أنّ المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقرّ فيه و منه المعدن لمستقرّ الجواهر الأرضيّة و جنّات عدن أي جنّات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كلّ جهة.

و جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ بدل أو عطف بيان من قوله:( عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنّات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها

٣٨١

الله عليه إلّا حياة واحدة متّصلة أوّلها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الّذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنّة بقوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لله الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤.

و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله:( يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) و بيان لعاقبة هذا الحقّ الّذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنّهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الاُمّهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله:( آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) لأنّ الاُمّهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرّيّاتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) و هذا عقبى أعمالهم الصالحة الّتي داموا عليها في كلّ باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.

و قوله:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذمّ و سوء أبداً.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله:( وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) بقيّة ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أنّ الأعمال الصالحة هي الّتي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدّي إلى سعادة النوع الإنسانيّ و رشد المجتمع البشريّ، و قد تقدّم بيانه في دليل النبوّة العامّة.

و قد بيّن تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) و اللعن الإبعاد من الرحمة و الطرد من كلّ كرامة، و ليس ذلك إلّا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحقّ النازل من الله، و ليس للباطل إلّا البوار.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) إلى آخر الآية بيان أنّ

٣٨٢

ما اُوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنّة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الّذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

و قد بيّن أنّ فعله تعالى يستمرّ على وفق ما جعله من نظام الحقّ و الباطل فالاعتقاد الحقّ و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنّة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.

و قوله:( وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) يريد به - على ما يفيده السياق - أنّ الرزق هو رزق الاُخرى لكنّهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطؤوا فإنّها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الّذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتّع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنّما تكون من الحقّ إذا اُخذت مقدّمة لها يكتسب بها رزقها و أمّا إذا اُخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلّا من الباطل الّذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شي‏ء، قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: ٦٤.

( بحث روائي)

في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) - في حديث يذكر فيه أحوال الكفّار - قوله:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الّذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحلّ و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الّذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الّذي لا يأتيه الباطل- من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره.

أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقيّ من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسّروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعمّ مدلولا كما مرّ.

٣٨٣

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن قتادة: في قوله:( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإنّ الله قد نهى عنه و قدّم فيه أشدّ التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدّمة إليكم و حجّة عليكم، و إنّما يعظم الاُمور بما عظّمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل- و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أنّ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له- و لا دين لمن لا عهد له.

أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أنّ ظاهر السياق خلافه.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال: قرابتك.

و فيه، أيضاً بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: نزلت في رحم آل محمّد و قد يكون في قرابتك. ثمّ قال: و لا تكوننّ ممّن يقول في الشي‏ء أنّه في شي‏ء واحد.

أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإنّ للقرآن ظهراً و بطناً و قد جعل الله مودّة ذي القربى - و هي من الصلة - أجر الرسالة في قوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الشورى: ٢٣ و يدلّ على ما ذكرنا الرواية الآتية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيّانا.

و فيه، عن محمّد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال هي رحم آل محمّد معلّقة بالعرش تقول: اللّهمّ صلّ من وصلّني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كلّ رحم.

أقول: و في هذه المعاني روايات اُخر، و قد تقدّم معنى تعلّق الرحم بالعرش

٣٨٤

في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: و ممّا فرض الله عزّوجلّ أيضاً في المال من غير الزكاة قوله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي. قال أبوعبدالله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقّة.

أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمّيّ.

و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) قال: الاستقصاء و المداقّة، و قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات.

أقول: و ذيل الحديث مرويّ بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنّما هو لمكان المداقّة و الحصول على وجوه الخلل الخفيّة كما تدلّ عليه الرواية التالية.

و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام) في الآية قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.

و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): برّ الوالدين و صلة الرحم يهوّن الحساب ثمّ تلا هذه الآية:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ- وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) .

و في الدرّ المنثور: في قوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): جنّة عدن قضيب غرسه الله بيده ثمّ قال له: كن فكان.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليمانيّ يرفع الحديث إلى عليّ (عليه السلام)

٣٨٥

قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

٣٨٦

( سورة الرعد الآيات ٢٧ - ٣٥)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧) الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ( ٢٨) الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ طُوبَى‏ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ( ٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبّي لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ( ٣٠) وَلَوْ أَنّ قُرآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْكُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى‏ بِل للّهِ‏ِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيَأْسِ الّذِينَ آمَنوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَي النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مِن دَارِهِمْ حَتّى‏ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُوا ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ( ٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى‏ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدّوا عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( ٣٣) لّهُمْ

٣٨٧

عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقّ وَمَا لَهُم مِنَ اللّهِ مِن وَاقٍ( ٣٤) مَثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلّهَا تِلْكَ عُقْبَى الّذِينَ اتّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النّارُ( ٣٥)

( بيان‏)

عود ثان إلى قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأنّ الهدى و الضلال ليس شي‏ء منهما إلى ما ينزل من آية بل إنّ ذلك إليه تعالى يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنّة الإلهيّة على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئنّ إلى ذكره و اُولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار. و إضلال من كفر بآياته الواضحة و اُولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشقّ و ما لهم من دون الله من واق.

و أنّ الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشيّة الله لكانت به لكنّ الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) عود إلى قول الكفّار( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و إنّما أرادوا به أنّه لو اُنزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية من ربّه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدّون القرآن النازل إليه آية.

و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) إلخ و قوله بعد:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ - إلى قوله -بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً )

٣٨٨

و قوله بعد:( وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ) إلى آخر الآية.

فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمراً نبيّه أن يلقيه إليهم:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فأفاد أنّ الأمر ليس إلى الآية حتّى يهتدوا بنزولها و يضلّوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء.

و لمّا لم يؤمن أن يتوهّموا منه أنّ الأمر يدور مدار مشيّة جزافيّة غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله تعالى جارية على سنّة دائمة و نظام متقن مستمرّ و ذلك أنّه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضلّ من أعرض و لم ينب فمن تلبّس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحقّ و لم يتقيّد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقّة و من كان دون ذلك ضلّ عن الطريق و إن كان مستقيماً و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ ) إلخ، على تقدير: أنّ الله يضلّ بمشيّته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيّته من أناب إليه.

و يظهر أيضاً أنّ الضمير( إِلَيْهِ ) في( يَهْدِي إِلَيْهِ ) راجع إليه تعالى و أنّ ما ذكره بعضهم أنّه راجع إلى القرآن. و آخرون أنّه راجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) غير وجيه.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الاطمئنان السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشي‏ء السكون إليه.

و ظاهر السياق أنّ صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة:( مَنْ أَنابَ ) فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيّؤ و استعداد يستعقب عطيّة الهداية الإلهيّة كما أنّ الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيّؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ و قال:( فلمّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الصف: ٥.

٣٨٩

و ليس الإيمان بالله تعالى مثلاً مجرّد إدراك أنّه حقّ فإنّ مجرد الإدراك ربّما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ مع أنّ الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشي‏ء مجرّد إدراك أنّه حقّ مثلاً بل مطاوعة و قبول خاصّ من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربّما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنّه لا يكفّ عنه لأنّ نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربّما طاوعته و سلّمت له بعد ما أدركته و كفّت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.

و هذا هو الّذي يظهر من قوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) الأنعام: ١٢٥ فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمراً نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبّر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقرّ هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.

و من ذلك يظهر أنّ قوله:( وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) عطف تفسيري على قوله:( آمَنُوا ) فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.

و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) الأنفال: ٢ فإنّ الوجل المذكور فيه حالة قلبيّة متقدّمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى:( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ الله ذلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) الزمر: ٢٣ و ذلك أنّ النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أمّا النقمة أيّاما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن

٣٩٠

إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيّاً صادراً منه تعالى على ما يفيده قوله:( ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) فاطر: ٢.

و إذا كان الخوف و الخشية إنّما هو من شرّ متوقّع و لا شرّ عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيّئة الّتي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانيّة إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أوّلاً إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثمّ التفتت ثانياً إلى ربّه الّذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنّت بذكره.

و قال في مجمع البيان: و قد وصف الله المؤمن ههنا بأنّه يطمئنّ قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنّه إذا ذكر الله وجل قلبه لأنّ المراد بالأوّل أنّه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه الّتي لا تحصى و أياديه الّتي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنّه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه. انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسّر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سمّاه الله تعالى ذكراً في مواضع كثيرة من كلامه كقوله:( وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) الأنبياء: ٥٠ و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) الحجر: ٩ و غير ذلك.

لكنّ الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعمّ من الذكر اللفظيّ و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجّة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فإنّه كضرب القاعدة يشمل كلّ ذكر سواء كان لفظيّاً أو غيره، و سواء كان قرآناً أو غيره.

و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فيه تنبيه للناس أن يتوجّهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنّه لا همّ للإنسان في حياته إلّا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلّا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الّذي

٣٩١

بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كلّه، و هو القاهر فوق عباده و الفعّال لما يريد و هو وليّ عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيّرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنّى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتّصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحّة و العافية آنا بعد آن.

فكلّ قلب - على ما يفيده الجمع المحلّىّ باللام من العموم - يطمئنّ بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنّما ذلك في القلب الّذي يستحقّ أن يسمّى قلباً و هو القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أمّا المنحرف عن أصله الّذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى:( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحجّ: ٤٦، و قال:( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) الأعراف: ١٧٩ و قال:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة: ٦٧.

و في لفظ الآية ما يدلّ على الحصر حيث قدم متعلّق الفعل أعني قوله:( بِذِكْرِ الله ) عليه فيفيد أنّ القلوب لا تطمئنّ بشي‏ء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدّمناه من الإيضاح ينوّر هذا الحصر إذ لا همّ لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلّا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلّق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلّا و هو غالب في جهة و مغلوب من اُخرى إلّا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغنيّ ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئنّ القلوب و لا يطمئنّ القلب إلى شي‏ء غيره إلّا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكّر بها أخذته الرعدة و القلق.

و ممّا قيل في الآية الكريمة أعني قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) إلخ أنّها استئناف، و قوله:( الّذينَ آمَنُوا ) مبتدأ خبره قوله في الآية التالية:( طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) و قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بدل من المبتدإ و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) اعتراض بين المبتدإ و خبره،

٣٩٢

و هو تكلّف بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) طوبى على وزن فعلى بضمّ الفاء مؤنّث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو - على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أنّ النعمة كائنة ما كانت إنّما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلّا إذا اطمئنّ القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلّا لمن آمن بالله و عمل عملاً صالحاً فهو الّذي يطمئنّ منه القلب و يطيب له العيش فإنّه في أمن من الشرّ و الخسران و سلام ممّا يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقرّ في ولاية الله لا يوجه إليه ربّه إلّا ما فيه سعادته إن اُعطى شيئاً فهو خير له و إن منع فهو خير له.

و قد قال في وصف طيب هذه الحياة:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧ و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله:( وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و لعلّ وصف الحياة أو المعيشة في الآية الّتي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحاً إلى أنّها نعمة لا تخلو من طيب على أيّ حال إلّا أنّها فيمن اطمأنّ قلبه بذكر الله أكثر طيباً لخلوصها من شوائب المنغّصات.

فقوله:( طُوبى‏ لَهُمْ ) في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و( لهم ) خبره و إنّما قدّم المبتدأ المنكر على الظرف لأنّ الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدّم ما به التهنئة استعجالاً بذكر ما يسرّ السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.

و بالجملة في الآية تهنئة الّذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الّذين آمنوا و تطمئنّ قلوبهم بذكر الله اطمئناناً مستمرّاً - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتّصالها بما قبلها فإنّ طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدّم.

٣٩٣

و قال في مج مع البيان:( طُوبى‏ لَهُمْ ) و فيه أقوال:

أحدها: أنّ معناه فرح لهم و قرّة عين. عن ابن عبّاس.

و الثاني: غبطة لهم. عن الضحّاك.

و الثالث: خير لهم و كرامة. عن إبراهيم النخعيّ.

و الرابع: الجنّة لهم. عن مجاهد.

و الخامس: معناه العيش المطيّب لهم. عن الزجّاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباريّ لأنّه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنّة. عن الجبائيّ.

و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.

و السابع: حسنى لهم. عن قتادة.

و الثامن: نعم ما لهم. عن عكرمة.

التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.

العاشر: أنّ طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في دار كلّ مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدريّ مرفوعا. انتهى موضع الحاجة.

و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ) إلى آخر الآية متاب مصدر ميميّ للتوبة و هي الرجو (عليه السلام)، و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره تعالى من سنّته الجارية من دعوة الاُمم إلى دين التوحيد ثمّ إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.

و المعنى: و أرسلناك في اُمّة قد خلت من قبلها اُمم إرسالاً يماثل هذه السنّة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الّذي أوحينا إليك و تبلّغهم ما يتضمّنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنّما قيل بالرحمن،

٣٩٤

دون أن يقال:( بنا) على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنّهم في ردّهم هذا الوحي الّذي يتلوه النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يكفرون برحمة إلهيّة عامّة تضمّن لهم سعادة دنياهم و اُخراهم لو أخذوه و عملوا به.

ثمّ أمر تعالى: أن يصرّح لهم القول في التوحيد فقال:( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) أي هو وحده ربّي من غير شريك كما تقولون و لربوبيّته لي وحده أتّخذه القائم على جميع اُموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أنّ قوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) من آثار الربوبيّة المتفرّعة عليها فإنّ الربّ هو المالك المدبّر فمحصّل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.

و قيل: إنّ المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأوّل من لزوم كون( إليه متاب) تأكيداً لقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) و هو خلاف ظاهر.

و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثمّ منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.

و ذكر بعضهم: أنّ المعنى إليه متابي و متابكم. و فيه أنّه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرّد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) المراد بتسيير الجبال قلعها من اُصولها و إذهابها من مكان إلى مكان و بتقطيع الأرض شقّها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عمّا جرى عليهم بعد الموت ليستدلّ على حقّيّة الدار الآخرة فإنّ هذا هو الّذي كانوا يقترحونه.

فهذه اُمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثاراً لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً ) إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإنّ الكلام معقّب بقوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و الآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أنّ أمر الهداية ليس براجع إلى الآية الّتي يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) بل الأمر

٣٩٥

إلى الله يضلّ من يشاء كما أضلّهم و يهدي إليه من أناب.

و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد:( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) ، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله ) الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.

فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أنّ قرآناً من شأنه أنّه تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلّم ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله بل الأمر كلّه لله ليس شي‏ء منه لغيره حتّى يتوهّم متوهّم أنّه لو اُنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيّته.

و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) الأنعام: ١١١.

و ما قيل: إنّ جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوّة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفّار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره. و المعنى: أنّ القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلّم به الموتى - أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكنّ الله لم ينزّل قرآناً كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله ) الحشر: ٢١.

و فيه أنّ سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده:

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و كذا قوله بعده:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلّفوا في قوله:

٣٩٦

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) بما لا يخلو عن تكلّف.

فقيل: إنّ المعنى لو أنّ قرآناً فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأنّ الأمر كلّه له وحده.

و قيل: إنّ حاصل الإضراب أنّه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره ممّا أراده الله فإنّ جميع الأمر له تعالى وحده.

و قيل: إنّ الأحسن أن يكون قوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) . معطوفاً على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شي‏ء بل الأمر لله جميعاً.

و أنت ترى أنّ السياق لا يساعد على شي‏ء من هذه المعاني، و أنّ حقّ المعنى الّذي يساعد عليه السياق أن يكون إضراباً عن نفس الشرطيّة السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) تفريع على سابقه.

ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حيّ من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحيّ:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

أ لم تيأسوا أنـي ابن فارس زهدم

و قول رباح بن عديّ:

ألم ييأس الأقوام أنـي أنا ابنه

و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا

و محصّل التفريع على هذا أنّه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئاً حتّى قرآن سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى و أنّ الأمر لله جميعاً فمن الواجب أن يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هداية الّذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا الّذين آمنوا و الّذين كفروا لكنّه لم يهد الّذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.

و ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أنّ قوله:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) مضمّن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو

٣٩٧

شاء ذلك لهدى الناس جميعاً و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.

فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثمّ ضمّن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلّق العلم الجملة الشرطيّة فقط أعني قوله:( لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) إيجازاً و إيثاراً للاختصار.

و ذكر بعضهم: أنّ قوله( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله:( أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ ) إلخ، متعلّق بقوله:( آمَنُوا ) بتقدير الباء و متعلّق( يَيْأَسِ ) محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الّذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من إيمانهم و ذلك أنّ الّذين آمنوا يرون أنّ الأمر لله جميعاً و يؤمنون بأنّه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعاً و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنّه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفّقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.

و هذه وجوه ثلاثة لعلّ أعدلها أوسطها و الآية على أيّ حال لا تخلو من إشارة إلى أنّ المؤمنين كانوا يودّون أن يؤمن الكفّار و لعلّهم لمودّتهم ذلك لمّا سمعوا قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية اُخرى غير القرآن فسألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات اُخرى من كلامه مكّيّة و مدنيّة كقوله في سورة يس و هي مكّيّة:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ١٠، و قوله في سورة البقرة و هي مدنيّة:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ٦.

قوله تعالى: ( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حتّى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) سياق الآيات يشهد أنّ المراد بقوله:( بِما صَنَعُوا ) كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقّة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنّها تؤذنه بأشدّ من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعيّ للّذين كفروا بعذاب غير مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم

٣٩٨

مرّة بعد مرّة حتّى يأتيهم العذاب الموعود.

و المعنى: و لا يزال هؤلاء الّذين كفروا بدعوتك الحقّة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحلّ تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتّى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأنّ الله لا يخلف ميعاده و لا يبدّل قوله.

و التأمّل في كون السورة مكّيّة على ما يشهد به مضامين آياتها ثمّ في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكّة يعطي أنّ المراد بالّذين كفروا هم كفّار العرب من أهل مكّة و غيرهم الّذين ردّوا أوّل الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحّوا على الفتنة و الفساد.

و المراد بالّذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شنّ الغارات، و بالّذين تحلّ القارعة قريباً من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرّتها و تنالهم وحشتها و همّها و سائر آثارها السيّئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الّذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.

و اعلم أنّ هذا العذاب الموعود للّذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدّم في سورة يونس في قوله تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ - إلى قوله ثانياً -وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧- ٥٤ فإنّ الّذي في سورة يونس وعيد عامّ للاُمّة، و الّذي في هذه الآيات وعيد خاصّ بالّذين كفروا في أوّل الدعوة النبويّة من قريش و غيرهم، و قد تقدّم في قوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦ في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ المراد بقوله:( الّذينَ كَفَرُوا ) في القرآن إذا اُطلق إطلاقاً المعاندون من مشركي العرب في أوّل الدعوة كما أنّ المراد بالّذين آمنوا إذا اُطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أوّل الدعوة.

و اعلم أيضاً أنّ للمفسّرين في الآية أقوالا شتّى تركنا إيرادها إذ لا طائل

٣٩٩

تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبّر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعيّ ببيان نظائر له تدلّ على إمكان وقوعه أي لا يتوهّمنّ متوهّم أنّ هذا الّذي نهدّدهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا:( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) النمل: ٦٨.

و ذلك أنّه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثمّ اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للّذين كفروا ثمّ أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيداً خالياً لا شي‏ء وراءه؟ أم كان أمراً يمكنهم أن يتّقوه أو يدفعوه أو يتحمّلوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.

و من ذلك يظهر أنّ قولهم: إنّ الآية تسلية و تعزية للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في غير محلّه.

و قد بدّل الاستهزاء في الآية ثانياً من الكفر إذ قيل:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) و لم يقل بالّذين استهزؤا للدلالة على أنّ استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أنّ كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزؤن بآيات الله كالّذين كفروا بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ ) القائم على شي‏ء هو المهيمن المتسلّط عليه و القائم بشي‏ء من الأمر هو الّذي يدبّره نوعاً من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت أمّا قيامه عليها فلأنّه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أمّا قيامه بما كسبت فلأنّه يدبّر أمر أعمالها فيحوّلها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثمّ يحوّلها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنّة و نار.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431