الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81291 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

= فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الأشعث بإمرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للإجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخياً: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هو الإشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليداً متبعاً، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها.

ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ـ (أمير المؤمنين) مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد ألغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله.

ومهما يكن من أمر فإن أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو أمية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣.

بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الأمراء شعرا، فقال:

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجباً زاد على كل العجب

عـجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثـوا أحـمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كـذبـوا والله مـا نـعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أمية هذه:

وقالوا: ورثناها أبانا وأمنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٤١

= وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: (.. ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر الخ).

ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضاً أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الأمويين أو على العباسيين..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دوراً هاماً في الخلافة الإسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الإسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيتعليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته.

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك، فإن منصب الخلافة في الإسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الأمة قيادة صالحة، كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لأجل قرباهم النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لأن الأهلية، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الأصوليين: من باب الإشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الأمة، لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الأمور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، =

٤٢

= بالقول، تصريحاً، وتلويحاً، وكناية، ونصاً، ووصفاً، وغير ذلك، وبالفعل أيضاً، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها، ولم يؤمر عليه أحداً، وغير ذلك..

هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم، فراجع كلام الإمام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الإمام عليعليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.. ) وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : ((وا عجباً!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!!)). هكذا في نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ولكن الظاهر هو أنها محرفة، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن أبي الحديد، وهي هكذا ((وا عجباً!! أن تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة!!)).

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: (الزموهم بما ألزموا به أنفسهم). ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام عليعليه‌السلام لأبي بكر، عندما جيء به ليبايع، فكان مما قاله: ((.. واحتججتم عليهم -أي على الأنصار- بالقرابة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى الخ)).. راجع: الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضاًعليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضاً ما نسب إليهعليه‌السلام من الشعر(على ما في نهج البلاغة) وهو قوله:

فـإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فـكيف بـهذا والـمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فـغيرك أولـى بـالنبي وأقـرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٦١، و ص ٣٠٠، و ص ٢٢٢، و ص ٢٣٥، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الإسلام ص ٥.

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص ٢٠٨، ٢١٢: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضاً حيث قال: (أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فإنه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ).=

٤٣

= وهي نسبة غريبة حقاً ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم ـ فإن عقيدة الشيعة ـ تبعاً لأئمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائراً مدار القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها.

إنهم يستدلون على خلافة عليعليه‌السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الإسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الأدلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقداً بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهمعليهم‌السلام . من أن عندهم ميراث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم.

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة عليعليه‌السلام بالنص، لا بالقربى!!..

وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الأئمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الأمويين، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعاً لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول:

(رمتني بدائها وانسلت).

وأخيراً.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستاراً من القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء.

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب أخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى..

٤٤

وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، والياً عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال:

(.. أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب)(١) .

ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم..) وأشار إلى السفاح(٢) .

____________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧، ٨٨، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣، وإمبراطورية العرب ص ٤٢٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥، وفيه: (إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ).. وبرواية أخرى فيه: (أقسم بالله قسماً براً، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا)..

٤٥

وقال المنصور في خطبة له: (وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه..)(١) .

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الإرث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لأن العباس نفسه كان قد أجازها.

كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الإرث عن هذا الطريق..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنها في ولده(٢) .

وكان الرشيد يقول: (ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله)(٣) . وقال الأمين عندما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: (.. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد..) (٤) .

ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له:

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولاً، فنقول:

إن تغدروا جهلاً بوارث أحمد

ووصي كل مسدد وموفق(٥)

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١، إلى ٨٥، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٤٦

دعوى الأخذ بثارات العلويين:

وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: (وسنأخذ بثأرهم..) يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضاً قول داوود ابن علي: (وإنما أخرجنا الآنفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا..)..

ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: (ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم)(١) .

ويقول صالح بن علي لبنات مروان: (ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟!

ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان؟!

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١، وحياة الإمام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧، نقلاً عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. (.. وقد قتلت بالحسين ألفاً من بني أمية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني أمية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب)..

٤٧

ألم يقتل الدعي عبيد الله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين(١) ؟!.

وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: (.. إذن، لا نستبقي منكم أحداً، لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل.

وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا ـ كما يساق ذراري الروم ـ على الأقتاب إلى الشام..)(٢) .

ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أموياً مرة واحدة(٣) .

وكذلك فإنهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية بـ‍ (وزير آل محمد)، وأبا مسلم الخراساني بـ‍ (أمين، أو أمير آل محمد)(٤) . إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم‌السلام ، ولتبقى ـ من ثم ـ محتفظة بقوتها، وحيويتها.

وأخيراً.. فلم يكن اتخاذهم السواد شعاراً إلا تعبيراً عن الحزن والأسى

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٤٧، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضاً ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٢٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٩٢.

(٤) الفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٥، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٧١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٥٤، والطبري ج ١٠ ص ٦٠، وتاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الأول، جزء ١ ص ١٥٢، وغيرهم، فإنه مما نص عليه أكثر المؤرخين..

٤٨

لما نال أهل البيت في عهد بني أمية(١) .

وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه..

بل إن من الملاحظ أن كثيراً من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك ـ بطريقة أو بأخرى ـ أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيتعليهم‌السلام ، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: (الرضا من آل محمد).

نهاية المطاف..

وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الأسلوب الذي انتهجه العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم..

____________

(١) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لأجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص ٢٥٩، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية عليعليه‌السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فإن فلوتن في هامش: ص ١٢٦ من كتابه السيادة العربية، أو لأن رايات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيراً إلى ذلك:

وإلا فارفعوا الرايات سوداً

على أهل الضلالة والتعدي

وفي صبح الأعشى ج ٣ ص ٣٧٠، نقلاً عن القاضي الماوردي في كتابه: (الحاوي الكبير): أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الأعشى أيضاً ج ٣ ص ٣٧١ نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه (الأوائل) أن سبب ذلك هو قتل مروان لإبراهيم الإمام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعاراً لهم..

ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعاراً لهم، إظهارا للحزن والأسى لما نال أهل البيت في الدولة الأموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦. بل صرح البلاذري في أنساب الأشراف ج ٣ ص ٢٦٤ بما يدل على ذلك فراجع.

٤٩

وأيضاً الطريقة التي اتبعوها في إبعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعاً وتمويهاً، من أجل تنفيذ خطتهم، وإنجاح دعوتهم..

كما وظهر أن كون الدعوة ـ في بادئ الأمر ـ باسم العلويين، لم يكن أمراً عفوياً، وتلقائياً. وإنما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة.

وظهر أيضاً: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان.

وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الأمور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم.

ولكن.. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم؟! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها؟!

هذا.. ما سوف نحاول الإجابة عليه فيما يأتي من الفصول.

مصدر الخطر على العباسيين

العلويون هم مصدر الخطر:

قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت ـ في بداية أمرها ـ على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لأهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيتعليهم‌السلام . وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الأمة بدعوى القربى النسبية من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠

ومن هنا.. فإن من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة أبناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم(١) ..

فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والأهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالإضافة إلى ما كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات.

أضف إلى ذلك كله: أن رجالات الإسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب (رضي الله تعالى عنه)، فأبو طالب مربي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفيله، وعليعليه‌السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الأئمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، (رضوان الله عليهم أجمعين).

ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف..

وخلاصة الأمر: إنه لم يكن هناك مجال لإنكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فإن ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعناداً.

____________

(١) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظمعليه‌السلام والمأمون للرضاعليه‌السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضاً قوله للرضاعليه‌السلام : أنتم والله أمس برسول الله رحماً، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضاً، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ.

٥١

تخوف العباسيين من العلويين:

وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيداً مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الأولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:

أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: (قم بإنزالهم ولا تأل في ألطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالأمر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم..)(١) .

وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ(٢) .

خوف المنصور من العلويين

ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: (.. يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولاً لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الأموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١١ ص ٧٥٢، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٥ ص ٧٤، وتاريخ التمدن الإسلامي، وغير ذلك..

(٢) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج ١٠ ص ٤٣٢، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١.

٥٢

ثم لا ألومك..)(١) .

وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وإنما كل ما في الأمر أن المجتمع الإسلامي كان قد قبل ـ في تلك الفترة من الزمن ـ أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد عليعليه‌السلام . وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فإنه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية.

ومن جهة أخرى: كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي ـ قتيل المدينة ـ الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع ـ باستثناء الإمام الصادقعليه‌السلام ـ أنه مهدي هذه الأمة. ـ كما أنه ـ أي عيسى بن زيد ـ كان من المعاونين لإبراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى..

ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه إبراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الأيام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر إليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: (.. ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي، أم رأسي لإبراهيم؟)(٢) .

____________

(١) الطبري طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٤٨.

وتحسن الإشارة هنا إلى أن الأموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ ٦٠٠ مليون درهم، و ١٤ مليون دينار. راجع أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٣٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨. وأنساب الأشراف ج ٣ ص ١١٨، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور.

٥٣

وهيئت له آنئذٍ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: (أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله)(١) .

وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته ـ وهي الكوفة آنئذٍ ـ إبلاً ودواباً، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الأخرى(٢) .

وفي حربه ـ أي المنصور ـ مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جداً، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوماً(٣) .

وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه(٤) .

وأخيراً.. فكم من مرة رأيناه يجلب الإمام الصادقعليه‌السلام ، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه.

فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لإدراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات.

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٨. وهذا يعبر بوضوح عن نوعية تفكير خليفة المسلمين ونوعية طموحاته.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٣١٧، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١١٣. ومرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٩، وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٦، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ٢١٠، نقلاً عن تجارب الأمم لابن مسكويه ج ٤.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٠٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٩٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٨، والمحاسن والمساوي ص ٣٧٣، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وأنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٨.

(٤) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج ١ ص ٢٩٨، ٢٩٩: (.. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك).

٥٤

حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: (.. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار)(١) .

وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس ـ ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ـ قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضاً طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

خوف المهدي من العلويين:

وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الإمام الكاظمعليه‌السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده(٢) .

كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن إبراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوماً لجلسائه: (لو وجدت رجلاً من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فاجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد)، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٩٤، ٢٩٥.

(٢) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الإمام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة.

وصرح في ينابيع المودة ص ٣٨٢، ٣٨٣ باتفاق المؤرخين على ذلك.

٥٥

بأنه: قد آخاه(١) . كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن إبراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه..

ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه(٢) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره وصار شعره كالأنعام..

خوف الرشيد من العلويين:

وأما الرشيد (الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة(٣) ،

____________

(١) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ ص ٤٦٤، ٥٠٧، ٥٠٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٨٤، ١٨٥، وليراجع: الوزراء والكتاب ص ١٥٥ وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة:

بني أمية هبوا طال نومكـــم

إن الخليفة يعقوب بن داوود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعـود

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣١٢، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٢، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج ١ ص ٤١٩ وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص ١٥٥ أيضاً.

وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: (إن يعقوب رجل رافضي)..

ومع ذلك.. فإننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالإمام موسى ابن جعفرعليه‌السلام ، فراجع عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٧٣، وغيره..

(٣) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٧٧.

٥٦

فقد كان معنياً بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي.

وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى (خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والأمصار، فانزعج لذلك الرشيد، وقلق من أمره). وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جداً، وفرح بذلك الصلح فرحاً عظيماً(١) . وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور..

كما أنه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه أكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة ألف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه(٢) .

ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير أكثر الأئمة على يد الخلفاء قبله وبعده.

____________

(١) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٧، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص ١٢٤، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٢، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١، ١٣٢.

وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح ـ مع الإمام الصادقعليه‌السلام ـ كانوا دائما يتهددون الأئمة ـ الذين ما كانوا يجدون الفرصة لأي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه ـ ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم ـ للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم و و. وكان الأئمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك!!

٥٧

وأما في زمن المأمون!

وأما في زمن المأمون: فقد كان الأمر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والأمصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الأنواء، ويضري به الأعصار.

عقدة الحقارة لدى العباسيين:

وكان ذلك بطبيعة الحال يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة.

يقول أبو فراس مشيراً إلى ذلك:

ثـم ادعاها بنو العباس ملكهم

ومـا لـهم قـدم فيها ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يـحكم فـي أمر لهم حكم

ولا رآهـم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فـهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

وقد كتب أبو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: (.. وأظهركم الله بعد الإخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ)(١) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٤. وغيره.

٥٨

وفي رسالة أخرى: (.. حتى عرفكم من كان جهلكم)(١) .

بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: (نحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو) كما سيأتي.

في مواجهة الخطر:

وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فإن عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئاً. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم.

فكيف عالج العباسيون الموقف؟!.

وما هو مدى نجاحهم في ذلك؟ إن كان قدر لهم النجاح!!.

سياسة العباسيين ضد العلويين

مما سبق:

قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم..

وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم..

وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الأمر أن يقارعوهم الحجة بالحجة..

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٦٩، والإمامة والسياسة ج ٢ ص ١٣٣، وغير ذلك.

٥٩

تطوير نظرية الإرث:

وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك لأنهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فإبراهيم الإمام، ثم منه إلى أخيه السفاح(١) وهكذا..

هذا.. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الأمويين، وغيرهم.

ويتضح إنكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل.

ومن ذلك أيضاً قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: (.. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدوياً مرة، وأسدياً مرة وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته (يعني نفسه) يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ(٢) . وتقدم قول داوود ابن علي: (لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله الخ..) وروى أبو سليمان الناجي، قال: (جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي (الحميري)، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: إن فيها نصيحة للأمير، فأوصلها إليه. فأوصلها.

فإذا فيها:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٨، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٤٥٤، ٤٥٥، طبع سنة ١٣١٠، وإمبراطورية العرب ص ٤٠٦، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٦١، ١٦٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

مقصود بالتبع كالمتمّم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: و الّذين يصبرون ابتغاء وجه ربّهم و يقيمون الصلاة و ينفقون ممّا رزقناهم سرّا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيّئة فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعيّة لكن قيل:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) فأخذ جميع الصبر المستقرّ أمراً واحداً مستمرّاً ليدلّ على وقوع كلّ الصبر منهم ثمّ قيل:( وَ يَدْرَؤُنَ ) إلخ ليدلّ على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.

و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) الآية، حيث يدلّ على تفرّع تنزّل الملائكة على تحقّق قولهم:( رَبُّنَا اللَّهُ ) و استقامتهم دون الاستمرار عليه.

و قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبتها المحمودة فإنّها هي العاقبة حقيقة لأنّ الشي‏ء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلّا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أمّا العاقبة المذمومة السيّئة ففيها بطلان عاقبة الشي‏ء لخلل واقع فيه، و إنّما تسمّى عاقبة بنحو من التوسّع، و لذلك اُطلق في الآية عقبى الدار و اُريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله:( وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ، و من هنا يظهر أنّ المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقرّ فيه و منه المعدن لمستقرّ الجواهر الأرضيّة و جنّات عدن أي جنّات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كلّ جهة.

و جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ بدل أو عطف بيان من قوله:( عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنّات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها

٣٨١

الله عليه إلّا حياة واحدة متّصلة أوّلها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الّذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنّة بقوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لله الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤.

و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله:( يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) و بيان لعاقبة هذا الحقّ الّذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنّهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الاُمّهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله:( آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) لأنّ الاُمّهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرّيّاتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) و هذا عقبى أعمالهم الصالحة الّتي داموا عليها في كلّ باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.

و قوله:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذمّ و سوء أبداً.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله:( وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) بقيّة ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أنّ الأعمال الصالحة هي الّتي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدّي إلى سعادة النوع الإنسانيّ و رشد المجتمع البشريّ، و قد تقدّم بيانه في دليل النبوّة العامّة.

و قد بيّن تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) و اللعن الإبعاد من الرحمة و الطرد من كلّ كرامة، و ليس ذلك إلّا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحقّ النازل من الله، و ليس للباطل إلّا البوار.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) إلى آخر الآية بيان أنّ

٣٨٢

ما اُوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنّة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الّذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

و قد بيّن أنّ فعله تعالى يستمرّ على وفق ما جعله من نظام الحقّ و الباطل فالاعتقاد الحقّ و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنّة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.

و قوله:( وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) يريد به - على ما يفيده السياق - أنّ الرزق هو رزق الاُخرى لكنّهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطؤوا فإنّها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الّذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتّع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنّما تكون من الحقّ إذا اُخذت مقدّمة لها يكتسب بها رزقها و أمّا إذا اُخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلّا من الباطل الّذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شي‏ء، قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: ٦٤.

( بحث روائي)

في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) - في حديث يذكر فيه أحوال الكفّار - قوله:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الّذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحلّ و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الّذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الّذي لا يأتيه الباطل- من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره.

أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقيّ من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسّروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعمّ مدلولا كما مرّ.

٣٨٣

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن قتادة: في قوله:( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإنّ الله قد نهى عنه و قدّم فيه أشدّ التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدّمة إليكم و حجّة عليكم، و إنّما يعظم الاُمور بما عظّمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل- و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أنّ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له- و لا دين لمن لا عهد له.

أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أنّ ظاهر السياق خلافه.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال: قرابتك.

و فيه، أيضاً بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: نزلت في رحم آل محمّد و قد يكون في قرابتك. ثمّ قال: و لا تكوننّ ممّن يقول في الشي‏ء أنّه في شي‏ء واحد.

أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإنّ للقرآن ظهراً و بطناً و قد جعل الله مودّة ذي القربى - و هي من الصلة - أجر الرسالة في قوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الشورى: ٢٣ و يدلّ على ما ذكرنا الرواية الآتية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيّانا.

و فيه، عن محمّد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال هي رحم آل محمّد معلّقة بالعرش تقول: اللّهمّ صلّ من وصلّني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كلّ رحم.

أقول: و في هذه المعاني روايات اُخر، و قد تقدّم معنى تعلّق الرحم بالعرش

٣٨٤

في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: و ممّا فرض الله عزّوجلّ أيضاً في المال من غير الزكاة قوله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي. قال أبوعبدالله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقّة.

أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمّيّ.

و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) قال: الاستقصاء و المداقّة، و قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات.

أقول: و ذيل الحديث مرويّ بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنّما هو لمكان المداقّة و الحصول على وجوه الخلل الخفيّة كما تدلّ عليه الرواية التالية.

و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام) في الآية قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.

و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): برّ الوالدين و صلة الرحم يهوّن الحساب ثمّ تلا هذه الآية:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ- وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) .

و في الدرّ المنثور: في قوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): جنّة عدن قضيب غرسه الله بيده ثمّ قال له: كن فكان.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليمانيّ يرفع الحديث إلى عليّ (عليه السلام)

٣٨٥

قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

٣٨٦

( سورة الرعد الآيات ٢٧ - ٣٥)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧) الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ( ٢٨) الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ طُوبَى‏ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ( ٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبّي لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ( ٣٠) وَلَوْ أَنّ قُرآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْكُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى‏ بِل للّهِ‏ِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيَأْسِ الّذِينَ آمَنوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَي النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مِن دَارِهِمْ حَتّى‏ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُوا ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ( ٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى‏ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدّوا عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( ٣٣) لّهُمْ

٣٨٧

عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقّ وَمَا لَهُم مِنَ اللّهِ مِن وَاقٍ( ٣٤) مَثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلّهَا تِلْكَ عُقْبَى الّذِينَ اتّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النّارُ( ٣٥)

( بيان‏)

عود ثان إلى قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأنّ الهدى و الضلال ليس شي‏ء منهما إلى ما ينزل من آية بل إنّ ذلك إليه تعالى يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنّة الإلهيّة على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئنّ إلى ذكره و اُولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار. و إضلال من كفر بآياته الواضحة و اُولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشقّ و ما لهم من دون الله من واق.

و أنّ الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشيّة الله لكانت به لكنّ الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) عود إلى قول الكفّار( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و إنّما أرادوا به أنّه لو اُنزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية من ربّه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدّون القرآن النازل إليه آية.

و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) إلخ و قوله بعد:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ - إلى قوله -بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً )

٣٨٨

و قوله بعد:( وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ) إلى آخر الآية.

فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمراً نبيّه أن يلقيه إليهم:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فأفاد أنّ الأمر ليس إلى الآية حتّى يهتدوا بنزولها و يضلّوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء.

و لمّا لم يؤمن أن يتوهّموا منه أنّ الأمر يدور مدار مشيّة جزافيّة غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله تعالى جارية على سنّة دائمة و نظام متقن مستمرّ و ذلك أنّه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضلّ من أعرض و لم ينب فمن تلبّس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحقّ و لم يتقيّد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقّة و من كان دون ذلك ضلّ عن الطريق و إن كان مستقيماً و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ ) إلخ، على تقدير: أنّ الله يضلّ بمشيّته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيّته من أناب إليه.

و يظهر أيضاً أنّ الضمير( إِلَيْهِ ) في( يَهْدِي إِلَيْهِ ) راجع إليه تعالى و أنّ ما ذكره بعضهم أنّه راجع إلى القرآن. و آخرون أنّه راجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) غير وجيه.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الاطمئنان السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشي‏ء السكون إليه.

و ظاهر السياق أنّ صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة:( مَنْ أَنابَ ) فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيّؤ و استعداد يستعقب عطيّة الهداية الإلهيّة كما أنّ الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيّؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ و قال:( فلمّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الصف: ٥.

٣٨٩

و ليس الإيمان بالله تعالى مثلاً مجرّد إدراك أنّه حقّ فإنّ مجرد الإدراك ربّما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ مع أنّ الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشي‏ء مجرّد إدراك أنّه حقّ مثلاً بل مطاوعة و قبول خاصّ من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربّما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنّه لا يكفّ عنه لأنّ نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربّما طاوعته و سلّمت له بعد ما أدركته و كفّت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.

و هذا هو الّذي يظهر من قوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) الأنعام: ١٢٥ فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمراً نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبّر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقرّ هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.

و من ذلك يظهر أنّ قوله:( وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) عطف تفسيري على قوله:( آمَنُوا ) فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.

و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) الأنفال: ٢ فإنّ الوجل المذكور فيه حالة قلبيّة متقدّمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى:( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ الله ذلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) الزمر: ٢٣ و ذلك أنّ النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أمّا النقمة أيّاما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن

٣٩٠

إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيّاً صادراً منه تعالى على ما يفيده قوله:( ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) فاطر: ٢.

و إذا كان الخوف و الخشية إنّما هو من شرّ متوقّع و لا شرّ عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيّئة الّتي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانيّة إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أوّلاً إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثمّ التفتت ثانياً إلى ربّه الّذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنّت بذكره.

و قال في مجمع البيان: و قد وصف الله المؤمن ههنا بأنّه يطمئنّ قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنّه إذا ذكر الله وجل قلبه لأنّ المراد بالأوّل أنّه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه الّتي لا تحصى و أياديه الّتي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنّه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه. انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسّر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سمّاه الله تعالى ذكراً في مواضع كثيرة من كلامه كقوله:( وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) الأنبياء: ٥٠ و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) الحجر: ٩ و غير ذلك.

لكنّ الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعمّ من الذكر اللفظيّ و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجّة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فإنّه كضرب القاعدة يشمل كلّ ذكر سواء كان لفظيّاً أو غيره، و سواء كان قرآناً أو غيره.

و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فيه تنبيه للناس أن يتوجّهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنّه لا همّ للإنسان في حياته إلّا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلّا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الّذي

٣٩١

بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كلّه، و هو القاهر فوق عباده و الفعّال لما يريد و هو وليّ عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيّرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنّى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتّصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحّة و العافية آنا بعد آن.

فكلّ قلب - على ما يفيده الجمع المحلّىّ باللام من العموم - يطمئنّ بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنّما ذلك في القلب الّذي يستحقّ أن يسمّى قلباً و هو القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أمّا المنحرف عن أصله الّذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى:( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحجّ: ٤٦، و قال:( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) الأعراف: ١٧٩ و قال:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة: ٦٧.

و في لفظ الآية ما يدلّ على الحصر حيث قدم متعلّق الفعل أعني قوله:( بِذِكْرِ الله ) عليه فيفيد أنّ القلوب لا تطمئنّ بشي‏ء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدّمناه من الإيضاح ينوّر هذا الحصر إذ لا همّ لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلّا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلّق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلّا و هو غالب في جهة و مغلوب من اُخرى إلّا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغنيّ ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئنّ القلوب و لا يطمئنّ القلب إلى شي‏ء غيره إلّا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكّر بها أخذته الرعدة و القلق.

و ممّا قيل في الآية الكريمة أعني قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) إلخ أنّها استئناف، و قوله:( الّذينَ آمَنُوا ) مبتدأ خبره قوله في الآية التالية:( طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) و قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بدل من المبتدإ و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) اعتراض بين المبتدإ و خبره،

٣٩٢

و هو تكلّف بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) طوبى على وزن فعلى بضمّ الفاء مؤنّث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو - على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أنّ النعمة كائنة ما كانت إنّما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلّا إذا اطمئنّ القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلّا لمن آمن بالله و عمل عملاً صالحاً فهو الّذي يطمئنّ منه القلب و يطيب له العيش فإنّه في أمن من الشرّ و الخسران و سلام ممّا يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقرّ في ولاية الله لا يوجه إليه ربّه إلّا ما فيه سعادته إن اُعطى شيئاً فهو خير له و إن منع فهو خير له.

و قد قال في وصف طيب هذه الحياة:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧ و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله:( وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و لعلّ وصف الحياة أو المعيشة في الآية الّتي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحاً إلى أنّها نعمة لا تخلو من طيب على أيّ حال إلّا أنّها فيمن اطمأنّ قلبه بذكر الله أكثر طيباً لخلوصها من شوائب المنغّصات.

فقوله:( طُوبى‏ لَهُمْ ) في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و( لهم ) خبره و إنّما قدّم المبتدأ المنكر على الظرف لأنّ الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدّم ما به التهنئة استعجالاً بذكر ما يسرّ السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.

و بالجملة في الآية تهنئة الّذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الّذين آمنوا و تطمئنّ قلوبهم بذكر الله اطمئناناً مستمرّاً - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتّصالها بما قبلها فإنّ طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدّم.

٣٩٣

و قال في مج مع البيان:( طُوبى‏ لَهُمْ ) و فيه أقوال:

أحدها: أنّ معناه فرح لهم و قرّة عين. عن ابن عبّاس.

و الثاني: غبطة لهم. عن الضحّاك.

و الثالث: خير لهم و كرامة. عن إبراهيم النخعيّ.

و الرابع: الجنّة لهم. عن مجاهد.

و الخامس: معناه العيش المطيّب لهم. عن الزجّاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباريّ لأنّه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنّة. عن الجبائيّ.

و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.

و السابع: حسنى لهم. عن قتادة.

و الثامن: نعم ما لهم. عن عكرمة.

التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.

العاشر: أنّ طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في دار كلّ مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدريّ مرفوعا. انتهى موضع الحاجة.

و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ) إلى آخر الآية متاب مصدر ميميّ للتوبة و هي الرجو (عليه السلام)، و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره تعالى من سنّته الجارية من دعوة الاُمم إلى دين التوحيد ثمّ إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.

و المعنى: و أرسلناك في اُمّة قد خلت من قبلها اُمم إرسالاً يماثل هذه السنّة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الّذي أوحينا إليك و تبلّغهم ما يتضمّنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنّما قيل بالرحمن،

٣٩٤

دون أن يقال:( بنا) على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنّهم في ردّهم هذا الوحي الّذي يتلوه النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يكفرون برحمة إلهيّة عامّة تضمّن لهم سعادة دنياهم و اُخراهم لو أخذوه و عملوا به.

ثمّ أمر تعالى: أن يصرّح لهم القول في التوحيد فقال:( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) أي هو وحده ربّي من غير شريك كما تقولون و لربوبيّته لي وحده أتّخذه القائم على جميع اُموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أنّ قوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) من آثار الربوبيّة المتفرّعة عليها فإنّ الربّ هو المالك المدبّر فمحصّل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.

و قيل: إنّ المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأوّل من لزوم كون( إليه متاب) تأكيداً لقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) و هو خلاف ظاهر.

و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثمّ منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.

و ذكر بعضهم: أنّ المعنى إليه متابي و متابكم. و فيه أنّه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرّد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) المراد بتسيير الجبال قلعها من اُصولها و إذهابها من مكان إلى مكان و بتقطيع الأرض شقّها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عمّا جرى عليهم بعد الموت ليستدلّ على حقّيّة الدار الآخرة فإنّ هذا هو الّذي كانوا يقترحونه.

فهذه اُمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثاراً لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً ) إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإنّ الكلام معقّب بقوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و الآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أنّ أمر الهداية ليس براجع إلى الآية الّتي يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) بل الأمر

٣٩٥

إلى الله يضلّ من يشاء كما أضلّهم و يهدي إليه من أناب.

و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد:( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) ، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله ) الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.

فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أنّ قرآناً من شأنه أنّه تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلّم ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله بل الأمر كلّه لله ليس شي‏ء منه لغيره حتّى يتوهّم متوهّم أنّه لو اُنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيّته.

و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) الأنعام: ١١١.

و ما قيل: إنّ جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوّة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفّار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره. و المعنى: أنّ القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلّم به الموتى - أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكنّ الله لم ينزّل قرآناً كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله ) الحشر: ٢١.

و فيه أنّ سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده:

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و كذا قوله بعده:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلّفوا في قوله:

٣٩٦

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) بما لا يخلو عن تكلّف.

فقيل: إنّ المعنى لو أنّ قرآناً فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأنّ الأمر كلّه له وحده.

و قيل: إنّ حاصل الإضراب أنّه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره ممّا أراده الله فإنّ جميع الأمر له تعالى وحده.

و قيل: إنّ الأحسن أن يكون قوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) . معطوفاً على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شي‏ء بل الأمر لله جميعاً.

و أنت ترى أنّ السياق لا يساعد على شي‏ء من هذه المعاني، و أنّ حقّ المعنى الّذي يساعد عليه السياق أن يكون إضراباً عن نفس الشرطيّة السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) تفريع على سابقه.

ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حيّ من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحيّ:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

أ لم تيأسوا أنـي ابن فارس زهدم

و قول رباح بن عديّ:

ألم ييأس الأقوام أنـي أنا ابنه

و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا

و محصّل التفريع على هذا أنّه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئاً حتّى قرآن سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى و أنّ الأمر لله جميعاً فمن الواجب أن يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هداية الّذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا الّذين آمنوا و الّذين كفروا لكنّه لم يهد الّذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.

و ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أنّ قوله:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) مضمّن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو

٣٩٧

شاء ذلك لهدى الناس جميعاً و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.

فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثمّ ضمّن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلّق العلم الجملة الشرطيّة فقط أعني قوله:( لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) إيجازاً و إيثاراً للاختصار.

و ذكر بعضهم: أنّ قوله( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله:( أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ ) إلخ، متعلّق بقوله:( آمَنُوا ) بتقدير الباء و متعلّق( يَيْأَسِ ) محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الّذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من إيمانهم و ذلك أنّ الّذين آمنوا يرون أنّ الأمر لله جميعاً و يؤمنون بأنّه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعاً و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنّه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفّقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.

و هذه وجوه ثلاثة لعلّ أعدلها أوسطها و الآية على أيّ حال لا تخلو من إشارة إلى أنّ المؤمنين كانوا يودّون أن يؤمن الكفّار و لعلّهم لمودّتهم ذلك لمّا سمعوا قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية اُخرى غير القرآن فسألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات اُخرى من كلامه مكّيّة و مدنيّة كقوله في سورة يس و هي مكّيّة:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ١٠، و قوله في سورة البقرة و هي مدنيّة:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ٦.

قوله تعالى: ( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حتّى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) سياق الآيات يشهد أنّ المراد بقوله:( بِما صَنَعُوا ) كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقّة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنّها تؤذنه بأشدّ من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعيّ للّذين كفروا بعذاب غير مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم

٣٩٨

مرّة بعد مرّة حتّى يأتيهم العذاب الموعود.

و المعنى: و لا يزال هؤلاء الّذين كفروا بدعوتك الحقّة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحلّ تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتّى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأنّ الله لا يخلف ميعاده و لا يبدّل قوله.

و التأمّل في كون السورة مكّيّة على ما يشهد به مضامين آياتها ثمّ في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكّة يعطي أنّ المراد بالّذين كفروا هم كفّار العرب من أهل مكّة و غيرهم الّذين ردّوا أوّل الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحّوا على الفتنة و الفساد.

و المراد بالّذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شنّ الغارات، و بالّذين تحلّ القارعة قريباً من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرّتها و تنالهم وحشتها و همّها و سائر آثارها السيّئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الّذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.

و اعلم أنّ هذا العذاب الموعود للّذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدّم في سورة يونس في قوله تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ - إلى قوله ثانياً -وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧- ٥٤ فإنّ الّذي في سورة يونس وعيد عامّ للاُمّة، و الّذي في هذه الآيات وعيد خاصّ بالّذين كفروا في أوّل الدعوة النبويّة من قريش و غيرهم، و قد تقدّم في قوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦ في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ المراد بقوله:( الّذينَ كَفَرُوا ) في القرآن إذا اُطلق إطلاقاً المعاندون من مشركي العرب في أوّل الدعوة كما أنّ المراد بالّذين آمنوا إذا اُطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أوّل الدعوة.

و اعلم أيضاً أنّ للمفسّرين في الآية أقوالا شتّى تركنا إيرادها إذ لا طائل

٣٩٩

تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبّر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعيّ ببيان نظائر له تدلّ على إمكان وقوعه أي لا يتوهّمنّ متوهّم أنّ هذا الّذي نهدّدهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا:( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) النمل: ٦٨.

و ذلك أنّه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثمّ اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للّذين كفروا ثمّ أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيداً خالياً لا شي‏ء وراءه؟ أم كان أمراً يمكنهم أن يتّقوه أو يدفعوه أو يتحمّلوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.

و من ذلك يظهر أنّ قولهم: إنّ الآية تسلية و تعزية للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في غير محلّه.

و قد بدّل الاستهزاء في الآية ثانياً من الكفر إذ قيل:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) و لم يقل بالّذين استهزؤا للدلالة على أنّ استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أنّ كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزؤن بآيات الله كالّذين كفروا بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ ) القائم على شي‏ء هو المهيمن المتسلّط عليه و القائم بشي‏ء من الأمر هو الّذي يدبّره نوعاً من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت أمّا قيامه عليها فلأنّه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أمّا قيامه بما كسبت فلأنّه يدبّر أمر أعمالها فيحوّلها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثمّ يحوّلها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنّة و نار.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431