الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84992 / تحميل: 6659
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الجهنّميّين، لا عامّة أهل النار كما يدلّ عليه ما سيأتي.

و فيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أباجعفر (عليه السلام) يقول: إنّ اُناسا يخرجون من النار. حتّى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشّح أهل الجنّة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم و دماؤهم، و يذهب عنهم قشف النار، و يدخلون الجنّة يقولون - أهل الجنّة - الجهنّميّين فينادون بأجمعهم: اللّهمّ أذهب عنّا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثمّ قال: يا أبابصير إنّ أعداء علي هم المخلّدون في النار و لا تدركهم الشفاعة.

و فيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنّميّين: إنّهم يدخلون النار بذنوبهم، و يخرجون بعفو الله.

و فيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) إنّهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أنّ الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنّة مع أولياء الله؟ فقال: أ ما يقرءون قول الله تبارك و تعالى:( وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ) إنّها جنّة دون جنّة و نار دون نار. إنّهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما و الله منزلة، و لكن لا أستطيع أن أتكلّم، إنّ أمرهم لأضيق من الحلقة، إنّ القائم إذا قام بدأ بهؤلاء.

أقول: قوله: (إنّ القائم) إلخ، أي إذا ظهر بدأ بهؤلاء المستهزءين بأهل الحقّ انتقاماً.

و في تفسير العياشي، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قوله:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال: هذه في الّذين يخرجون من النار.

و فيه،: عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قال: في ذكر أهل النار استثنى، و ليس في ذكر أهل الجنّة استثنى( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

٤١

أقول: يشير (عليه السلام) إلى أنّ الاستثناء بالمشيّة في أهل الجنّة لمّا عقّبه الله بقوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) لم يكن استثناء دالّا على إخراج بعض أهل الجنّة منها، و إنّما يدلّ على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنّه معقّب بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) المشعر بوقوع الفعل، و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ عن السدّيّ في قوله:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيّة الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا ) إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها و أوجب لهم خلود الأبد، و قوله:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيّة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة:( وَ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ - إلى قوله -ظِلًّا ظَلِيلاًَ ) فأوجب لهم خلود الأبد.

أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنّهما تدلّان على الانقطاع قد عرفت خلافه. على أنّ النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل و لا نقل. على أنّ ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنّة. على أنّ خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكّيّة كالأنعام و الأعراف و غيرهما.

و فيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.

و فيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنّم يوم لا يبقى فيها أحد، و قرأ:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) .

و فيه أخرج ابن المنذر و أبوالشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال: و قال ابن مسعود: ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها.

أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة و لا حجّة فيها على غيرهم، و لو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب و قد قال تعالى

٤٢

في الكفّار:( وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) البقرة: ١٦٧.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّه بلغنا أنّه يأتي على جهنّم حتى(١) يصفق أبوابها. فقال: لا و الله إنّه الخلود. قلت:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار.

أقول: و الروايات الدالّة على خلود الكفار في النار من طرق أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً، و قد قدّمنا بحثا فلسفيّا في خلود العذاب و انقطاعه في ذيل قوله:( وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) البقرة: ١٦٧ في الجزء الأوّل من الكتاب.

____________________

(١) حين ظ

٤٣

( سورة هود الآية ١٠٩ - ١١٩)

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلّا كَمَا يَعْبُدُ آباؤُهُم مِن قَبْلُ وَإِنّا لَمُوَفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ( ١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَرِيبٍ( ١١٠) وَإِنّ كُلّاً لَمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( ١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ١١٢) وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ( ١١٣) وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئاتِ ذلِكَ ذِكْرَى‏ لِلذّاكِرِينَ( ١١٤) وَاصْبِرْ فإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ١١٥) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلّا قَلِيلاً مِمّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ( ١١٦) وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى‏ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ( ١١٧) وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ( ١١٨) إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لَأَمْلَأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ١١٩)

٤٤

( بيان‏)

لمّا فصّل تعالى فيما قصّة لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قصص الاُمم الغابرة و ما أداهم إليه شركهم و فسقهم و جحودهم لآيات الله و استكبارهم عن قبول الحقّ الّذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم و ساقهم إلى الهلاك و عذاب الاستئصال ثمّ إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثمّ لخّص القول في أمرهم في الآيات السابقة.

أمر في هذه الآيات نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يعتبر هو و من معه بذلك، و يستيقنوا أنّ الشرك بالله و الفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلّا إلى الهلاك و البوار فعليهم أن يلزموا طريق العبوديّة و يمسّكوا بالصبر و الصلاة و لا يركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّهم النار و ما لهم من دون الله من أولياء ثمّ لا ينصرون، و يعلموا أنّ كلمة الله هي العليا، و كلمة الّذين كفروا السفلى و أنّ مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلّا لتحقيق كلمة الحقّ الّتي سبقت منه و ستتمّ بما يجازيهم به يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) إلخ تفريع لما تقدّم من تفصيل قصص الاُمم الماضيّة الّتي ظلموا أنفسهم باتّخاذ الشركاء و الفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، و المشار إليهم بقوله:( هؤُلاءِ ) هم قوم النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و قوله:( ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) أي إنّهم يعبدونها تقليداً كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الّذي سلكه الأوّلون من غير حجّة، و المراد بنصيبهم ما هو حظّهم قبال شركهم و فسقهم.

و قوله:( غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) حال من النصيب و فيه تأكيد لقوله:( لَمُوَفُّوهُمْ ) فإنّ التوفية تأدية حقّ الغير بالتمام و الكمال، و فيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهيّ.

و معنى الآية: فإذا سمعت قصص الأوّلين و أنّهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله و يكذّبون بآياته، و علمت سنّة الله تعالى فيهم و أنّها الهلاك في الدنيا و

٤٥

المصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شكّ و مرية من عبادة هؤلاء الّذين هم قومك ما يعبدون إلّا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجّة و لا بيّنة، و إنّا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئاً بشفاعة أو عفو كيفما كان.

و يمكن أن يكون المراد بآبائهم، الاُمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلاً و ذلك أنّ الله سمّاهم آباء لهم أوّلين كما في قوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون: ٦٨ و هذا أنسب و أحسن و المعنى - على هذا - فلا تكن في شكّ من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلّا كمثل عبادة أولئك الاُمم الهالكة الّذين هم آباؤهم، و لا شكّ أنّا سنعطيهم حظّهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) لمّا كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، و كانت القصص نفسها سردت ليتّعظ بها القوم و يقضوا بالحقّ في اتّخاذهم شركاء لله سبحانه، و تكذيبهم بآيات الله و رمي القرآن بأنّه افتراء على الله تعالى.

تعرّض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتّخاذهم الآلهة و تكذيب القرآن فذكر تعالى أنّ عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الاُمم الماضية لها و سينالهم العذاب كما نال أسلافهم و أنّ اختلافهم في كتاب الله كاختلاف اُمّة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب و أنّ الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ‏ ) إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.

و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) كرّر سبحانه في كتابه ذكر أنّ اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكنّ اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلّا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى:( وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس: ١٩ و قال:( وَ مَا اخْتَلَفَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ

٤٦

بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) آل عمران: ١٩، و قال:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣.

و قد قضى الله سبحانه أن يوفّي الناس أجر ما عملوه و جزاء ما اكتسبوه، و كان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنّه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتّعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، و يكتسبوا في دنياهم لاُخراهم كما قال:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦، و مقتضى هذين القضاءين أن يؤخّر القضاء بين المختلفين في دين الله و كتابه بغيا، إلى يوم القيامة.

فإن قلت: فما بال الاُمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلّا أخّرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه.

قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم و لا معاصيهم و بالجملة مجرّد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر و يؤخّره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧.

و بالجملة قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يشير إلى أنّ اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يقتضي الآخر أن يمتّعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، و مقتضى ذلك كلّه أن يتأخّر عذابهم إلى يوم القيامة.

و قوله:( وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) الإرابة إلقاء الشكّ في القلب، فتوصيف الشكّ بالمريب من قبيل قوله:( ظِلًّا ظَلِيلًا ) و( حِجاباً مَسْتُورا ) و( حِجْراً مَحْجُورا ) و غير ذلك، و يفيد تأكّداً لمعنى الشكّ.

و الظاهر أنّ مرجع الضمير في قوله:( وَ إِنَّهُمْ ) اُمّة موسى و هم اليهود، و حقّ لهم أن يشكّوا فيه فإنّ سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل

٤٧

من كهنتهم يسمّى عزراء عند ما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدّسة، و قد اُحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا و نظيرها الإنجيل من جهة سنده.

على أنّ التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانيّة أن تنسبها إلى كتاب سماويّ و مقتضاه الشكّ فيها.

و أمّا إرجاع الضمير في قوله:( وَ إِنَّهُمْ ) إلى مشركي العرب، و في قوله:( مِنْهُ ) إلى القرآن كما فعله بعض المفسّرين فبعيد من الصواب لأنّ الله سبحانه قد أتمّ الحجّة عليهم في صدر السورة أنّه كتابه المنزل من عنده على نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و تحدّى بمثل قوله:( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) و لا معنى مع ذلك لإسناد شكّ إليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) لفظة إنّ هي المشبهة بالفعل و اسمها قوله:( كُلًّا ) منوّناً مقطوعاً عن الإضافة و التقدير كلّهم أي المختلفين، و خبرها قوله:( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) و اللّام و النون لتأكيد الخبر، و قوله:( لَمَّا ) مؤلّف من لام تدلّ على القسم و ما مشدّدة تفصل بين اللّامين، و تفيد مع ذلك تأكيدا، و جواب القسم محذوف يدلّ عليه خبر إنّ.

و المعنى - و الله أعلم - و إنّ كلّ هؤلاء المختلفين أقسم ليوفّينّهم و يعطينّهم ربّك أعمالهم أي جزاءها إنّه بما يعملون من أعمال الخير و الشرّ خبير.

و نقل في روح المعاني، عن أبي حيّان عن ابن الحاجب أنّ( لَمَّا ) في الآية هي لمّا الجازمة و حذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت و لمّا، و سافرت و لمّا. ثمّ قال: و الأولى على هذا أن يقدّر: لمّا يوفّوها أي و إنّ كلّا منها لمّا يوفّوا أعمالهم ليوفّينّهم ربّك إيّاها. و هذا وجه وجيه.

و لأهل التفسير في مفردات الآية و نظمها أبحاث أدبيّة طويلة لا يهمّنا منها أزيد ممّا أوردناه، و من شاء الوقوف عليها فليراجع مطوّلات التفاسير.

٤٨

قوله تعالى: ( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقال: قام كذا و ثبت و ركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب و غيره، و الظاهر أنّ الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان و ذلك أنّ الإنسان في سائر حالاته و أوضاعه غير القيام كالقعود و الانبطاح و الجثوّ و الاستلقاء و الانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنّه إذا قام على ساقه قياماً كان على أعدل حالاته الّذي يسلّطه على عامّة أعماله من ثبات و حركة و أخذ و ردّ و إعطاء و منع و جلب و دفع، و ثبت مهيمنا على ما عنده من القوى و أفعالها، فقيام الإنسان يمثّل شخصيّته الإنسانيّة بما له من الشؤن.

ثمّ أستعير في كلّ شي‏ء لأعدل حالاته الّذي يسلّط معه على آثاره و أعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله و قيام الشجر أن يركز على ساقه متعرّقا بأصله في الأرض، و قيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه و قيام العدل أن ينبسط على الأرض، و قيام السنّة و القانون أن تجري في المملكة.

و الإقامة جعل الشي‏ء قائماً أي جعله بحال يترتّب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئاً منها كإقامة العدل و إقامة السنّة و إقامة الصلاة و إقامة الشهادة، و إقامة الحدود، و إقامة الدين و نحو ذلك.

و الاستقامة طلب القيام من الشي‏ء و استدعاء ظهور عامّة آثاره و منافعه فاستقامة الطريق اتّصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء و الوضوح و عدم إضلاله من ركبه، و استقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به و إصلاحه بحيث لا يتطرّق إليه فساد و لا نقص، و يأتي تامّاً كاملاً، قال تعالى:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) حم السجدة: ٦ أي قوموا بحقّ توحيده في اُلوهيّته، و قال:( إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) حم السجدة: ٣٠ أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم إلّا إلى ما يوافق التوحيد و يلائمه أي يراعونه و يحفظونه في عامّة ما يواجههم

٤٩

في باطنهم و ظاهرهم. و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا ) الروم: ٣٠ فإنّ المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل و تواجهه، و إقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.

فقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) أي كن ثابتاً على الدين موفّيا حقّه طبق ما اُمرت بالاستقامة، و قد اُمر به في قوله:( وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يونس: ١٠٥، و قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الروم: ٣٠.

قال في روح المعاني،: أمر رسوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاستقامة مثل الاستقامة الّتي اُمر بها و هذا يقتضي أمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بوحي آخر و لو غير متلوّ كما قاله غير واحد، و الظاهر أنّ هذا أمر بالدوام على الاستقامة، و هي لزوم المنهج المستقيم و هو المتوسّط بين الإفراط و التفريط، و هي كلمة جامعة لكلّ ما يتعلّق بالعلم و العمل و سائر الأخلاق. انتهى.

أمّا احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلوّ يشير إليه قوله تعالى:( كَما أُمِرْتَ ) أي استقم كما اُمرت سابقاً بالاستقامة فبعيد عن سنّة القرآن و حاشا أن يعتمد بالبيان القرآنيّ على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، و قد عرفت أنّ الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، و إقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، و قد ورد قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكّيّتان، و سورة يونس الّتي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعاً و إن لم يسلّم ذلك في السورة الاُخرى الّتي هي سورة الروم.

و أمّا قوله: إنّ المراد بقوله:( اسْتَقِمْ ) الدوام على الاستقامة و هي لزوم المنهج المستقيم المتوسّط بين الإفراط و التفريط فقد عرفت أنّ معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه و توفية حقّه بتمامه و كماله، و استقامة الإنسان مطلقاً ركوزه و ثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه و أركانه بحيث لا يترك

٥٠

شيئاً من قدرته و استطاعته لغي لا أثر له.

و لو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط و التفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط و التفريط معاً مع أنّه تعالى عقّبه بقوله:( وَ لا تَطْغَوْا ) فنهى عن الإفراط فقط، و هو بمنزلة عطف التفسير لقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد بقوله:( فَاسْتَقِمْ ) إلخ الأمر بإظهار الثبات على العبوديّة و لزوم القيام بحقّها، ثمّ نهى عن تعدّي هذا الطور و الاستكبار عن الخضوع لله و الخروج بذلك عن زيّ العبوديّة فقيل:( وَ لا تَطْغَوْا ) كما فعل ذلك الاُمم الماضيّة، و لم يكونوا مبتلين إلّا بالإفراط دون التفريط و الاستكبار دون التذلّل.

و قوله:( وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) عطف على الضمير المستكنّ في( اسْتَقِمْ ) أي استقم أنت و من تاب معك أي استقيموا جميعاً و إنّما أخرج النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من بينهم و أفرده بالذكر معهم تشريفاً لمقام النبوّة، و على ذلك تجري سنّته تعالى في كلامه كقوله تعالى:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٢٨٥ و قوله:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم: ٨.

على أنّ الأمر الّذي تقيّد به قوله:( فَاسْتَقِمْ ) أعني قوله:( كَما أُمِرْتَ ) يختصّ بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و لا يشاركه فيه غيره فإنّ ما ذكر من مثل قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) إلخ خاصّ به فلو قيل: فاستقيموا لم يصحّ تقييده بالأمر السابق.

و المراد بمن تاب مع النبيّ المؤمنون الّذين رجعوا إلى الله بالإيمان و إطلاق التوبة على أصل الإيمان - و هو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى:( وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) المؤمن: ٧ إلى غير ذلك.

و قوله:( وَ لا تَطْغَوْا ) أي لا تتجاوزوا حدّكم الّذي خطّته لكم الفطرة و الخلقة و هو العبوديّة لله وحده كما تجاوزه الّذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك و ساقهم إلى الهلكة، و الظاهر أنّ الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز

٥١

حدّه، ثمّ أستعير لهذا الأمر المعنويّ الّذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر و هو الفساد.

و قوله:( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) تعليل لمضمون ما تقدّمه، و معنى الآية اثبت على دين التوحيد و الزم طريق العبوديّة من غير تزلزل و تذبذب، و ليثبت الّذين آمنوا معك، و لا تتعدّوا الحدّ الّذي حدّ لكم لأنّ الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.

و في الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحسّ فيها بشي‏ء من آثار الرحمة و أمارات الملاطفة و قد تقدّمها من الآيات ما يتضمّن من حديث مؤاخذة الاُمم الماضية و القرون الخالية بأعمالهم و استغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس و تطير القلوب.

غير ما في قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) من أفراد النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالذكر و إخراجه من بين المؤمنين تشريفاً لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقّه فإنّ تخصيصه قبلاً بالذكر يوجب توجّه هول الخطاب و روع التكليم من مقام العزّة و الكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجّه إلى جميع الاُمّة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) إسراء: ٧٥.

و لذلك ذكر أكثر المفسّرين ‏أنّ قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): (شيّبتني سورة هود) ناظر إلى هذه الآية، و سيوافيك الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) قال في الصحاح،: ركن إليه كنصر، ركوناً: مال و سكن، و الركن بالضمّ الجانب الأقوى. و الأمر العظيم و العزّ و المنعة انتهى و عن لسان العرب، مثله، و عن المصباح، أنّ الركون هو الاعتماد على الشي‏ء.

و قال الراغب:، ركن الشي‏ء جانبه الّذي يسكن إليه، و يستعار للقوّة، قال تعالى:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) و ركنت إلى فلان أركن

٥٢

بالفتح و الصحيح أن يقال: ركن يركن - كنصر - و ركن يركن - كعلم - قال تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) و ناقة مركنة الضرع له أركان تعظّمه و المركن الإجّانة، و أركان العبادات جوانبها الّتي عليها مبناها، و بتركها بطلانها. انتهى و هذا قريب ممّا ذكره في المصباح.

و الحقّ أنّه الاعتماد على الشي‏ء عن ميل إليه لا مجرّد الاعتماد فحسب و لذلك عدّي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللّغة تفسير له بالأعمّ من معناه على ما هو دأبهم.

فالركون إلى الّذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إمّا في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه الّتي يضرّهم إفشاؤها و إمّا في حياة دينيّة كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة اُمور المجتمع الدينيّ بولاية الاُمور العامّة أو المودّة الّتي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيويّة.

و بالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينيّة من الّذين ظلموا بنوع من الاعتماد و الاتّكاء يخرج الدين أو الحياة الدينيّة عن الاستقلال في التأثير و يغيّرهما عن الوجهة الخالصة، و لازم ذلك السلوك إلى الحقّ من طريق الباطل أو إحياء حقّ بإحياء باطل و بالآخرة إماتة الحقّ لإحيائه.

و الدليل على هذا الّذي ذكرنا أنّه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الّذي هو من تتمّة الخطاب في الآية السابقة بين النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و بين المؤمنين من اُمّته، و الشئون الّتي له و لاُمّته هي المعارف الدينيّة و الأخلاق و السنن الإسلاميّة في تبليغها و حفظها و إجرائها و الحياة الاجتماعيّة بما يطابقها، و ولاية اُمور المجتمع الإسلاميّ، و انتحال الفرد بالدين و استنانه بسنّة الحياة الدينيّة فليس للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و لا لاُمّته أن يركنوا في شي‏ء من ذلك إلى الّذين ظلموا.

على أنّ من المعلوم أنّ هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة الّتي أخذهم الله بظلمهم و هما متفرّعتان عليها ناظرتان إليها، و لم يكن ظلم

٥٣

هؤلاء الاُمم الهالكة في شركهم بالله تعالى و عبادة الأصنام فحسب بل كان ممّا ذمّه الله من فعالهم اتّباع الظالمين و الفساد في الأرض بعد إصلاحها و هو الاستنان بالسنن الظالمة الّتي يقيمها الولاة الجائرون، و يستنّ بها الناس و هم بذلك ظالمون.

و من المعلوم أيضاً من السياق أنّ الآيتين مترتّبتان في غرضهما فالاُولى تنهى عن أن يكونوا من اُولئك الّذين ظلموا، و الثانية تنهى أن يقتربوا منهم و يميلوا إليهم و يعتمدوا(١) في حقّهم على باطلهم فقوله:( لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) نهي عن الميل إليهم و الاعتماد عليهم و البناء على باطلهم في أمر أصل الدين و الحياة الدينيّة جميعاً.

و وقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرّعة على ما تقدّم من القصص المذكورة يفيد أنّ المراد بالّذين ظلموا في الآية ليس من تحقّق منه الظلم تحقّقاً مّا و إلّا لعمّ جميع الناس إلّا أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذ معنى، و ليس المراد بالّذين ظلموا الظالمين أي المتلبّسين بهذا الوصف المستمرّين في ظلمهم فإنّ لإفادة الفعل الدالّ على مجرّد التحقّق معنى الصفة الدالّة على التلبّس و الاستمرار أسباباً لا يوجد في المقام منها شي‏ء و لا دلالة لشي‏ء على شي‏ء جزافاً.

بل المراد بالّذين ظلموا اُناس حالهم في الظلم حال اُولئك الّذين قصّهم الله في الآيات السابقة من الاُمم الهالكة، و كان الشأن في قصّتهم أنّه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهيّة المتوجّهة إليهم ثمّ قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردّها ثمّ عبّر عمّن قبلها بالّذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمّن ردّها بالّذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الّذينَ ظَلَمُوا ) و قوله:( وَ أَخَذَتِ الّذينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) و قوله:( وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) و قوله:( أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) و قوله:( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) إلى غير ذلك.

____________________

(١) أي أن يتوسّلوا في إجراء الحقّ بين أنفسهم بالوسيلة الباطلة الّتي عند أعداء الدين من الظالمين.

٥٤

فقد عبّر سبحانه عن ردّهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهيّة و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدالّ على مجرّد التحقّق و الوقوع، و أمّا في الخارج من مقام القياس و النسبة فإنّ التعبير بالصفة كقوله:( وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) إلى غير ذلك و هو كثير.

و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردّاً أن يكتفي بمجرّد الوقوع و التحقّق، و يبيّن أنّهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتّصاف و الاستمرار بالتلبّس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتّبعوا أمر فرعون أنّهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتّباع أمر فرعون، و معنى نجّينا الّذين آمنوا نجّينا الّذين اتّسموا بسمة الإيمان و تعلّموا بعلامته.

فكان التعبير بالماضي كافياً في إفادة أصل الاتّسام المذكور و إن كان ممّا يلزمه الاتّصاف، و بعبارة اُخرى الّذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكنّ العناية إنّما تعلّقت بحسب المقام بتحقّق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، و لذا ترى أنّه كلّما خرج الكلام عن مقام القياس و النسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله:( بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ) فافهم ذلك.

و من هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله:( الّذينَ ظَلَمُوا ) حيث أخذه بعضهم دالّا على مجرّد تحقّق ظلم مّا، و آخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره: فسّر الزمخشريّ( الّذينَ ظَلَمُوا ) بقوله: أي إلى الّذين وجد منهم الظلم و لم يقل: إلى الظالمين، و حكى أنّ الموفّق صلّى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلمّا أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى.

و معنى هذا أنّ الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيراً إلى من وقع منه ظلم قليل أيّ ظلم كان، و هذا غلط أيضاً و إنّما المراد بالّذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الّذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين

٥٥

ليردّوهم عنه فهم كالّذين كفروا في الآيات الكثيرة الّتي يراد بها فريق الكافرين لا كلّ فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي و حسبك منه قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦، و المخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) .

و قد عبّر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالّذين ظلموا كما عبّر عن أقوام الرسل الأوّلين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات ٣٧، ٦٧، ٩٤، و عبّر عنهم فيها بالظالمين أيضاً كقوله:( وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف و التعبير بالّذي و صلته فإنّهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد - انتهى.

أمّا قول صاحب الكشّاف: (إنّ المراد بالّذين ظلموا) الّذين وجد منهم الظلم و لم يقل:( إلى الظالمين ) فهو كذلك لكنّه لا ينفعه فإنّ التعبير بالفعل في ما قرّرناه من المقام و إن كان لا يفيد أزيد من تحقّق المعنى الحدثيّ و وقوعه لكنّه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏ وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏ ) النازعات: ٤١ حيث عبّر بالفعل و هو منطبق على معنى الصفة.

و أمّا قول صاحب المنار: (إنّما المراد بالّذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الّذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه) فتحكّم محض، و أيّ دليل يدلّ على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب و قد ذكرهم الله أخيراً في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغياً، و قد نهى الله عن ولايتهم و شدّد فيه حتى قال:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) المائدة: ٥١، و قال في ولاية مطلق الكافرين،( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ ) آل عمران: ٢٨.

و أيّ مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الاُمّة و فيهم من هو أشقى من جبابرة عاد و ثمود و أطغى من فرعون و هامان و قارون.

٥٦

و مجرّد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش و مشركي مكّة و حواليها لا يوجب تخصيصاً في اللّفظ فإنّ خصوص المورد لا يخصّص عموم اللّفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كلّ من اتّسم بسمة الظلم، أي من كان مشركاً أو موحّداً مسلماً أو من أهل الكتاب.

و أمّا قوله: إنّ المراد بقوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) المعنى الوصفيّ و إن كان فعلاً أي الكافرون لا كلّ فرد من الناس وقع من كفر في الماضي. ففيه أنّا بيّنا في الكلام على تلك الآية و في مواضع اُخرى تقدّمت في الكتاب أنّ الآية خاصّة بالكفّار من صناديد قريش الّذين شاقّوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في بادئ أمره حتّى كفاه الله إيّاهم و أفناهم ببدر و غيره، و أنّهم المسمّون بالّذين كفروا. و ليست الآية عامّة، و لو كانت الآية عامّة و كان المراد بالّذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتّى من كفّار مكّة بعد نزول هذه الآية.

و لو قيل: إنّ المراد بهم الّذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئاً إذ لا معنى لقولنا: إنّ الكافرين الّذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصّة غير عامّة، و كون المراد بالّذين كفروا طائفة خاصّة بأعيانهم.

و قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ( الّذينَ آمَنُوا ) أيضاً فيما لا دليل في المورد يدلّ على خلافه اسم تشريفيّ لمن آمن بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في أوّل دعوته الحقّة، و بهم تختصّ خطابات( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) في القرآن و إن شاركهم غيرهم في الأحكام.

و أمّا قوله في آخر كلامه: و قد عبّر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالّذين ظلموا كما عبّر عن أقوام الرسل الأوّلين في قصصهم من هذه السورة به و عبّر عنهم فيها بالظالمين أيضاً فلا فرق بين التعبيرين إلخ و محصّله أنّ التعبير عنهم تارة بالّذين ظلموا و تارة بالظالمين دليل على أنّ المراد بالكلمتين واحد.

ففيه أنّه خفي عليه وجه العناية الكلاميّة الّذي تقدّمت الإشارة إليه و اتّحاد

٥٧

مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلّقة بهما.

فالمحصّل من مضمون الآية نهي النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و اُمّته عن الركون إلى من اتّسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم و يعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينيّة فهذا هو المراد بقوله:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) .

و قوله:( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مسّ النار، و قد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مسّ النار و عاقبة نفس الظلم النار، و هذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم و التلبس بالظلم نفسه.

و قوله:( وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) في موضع الحال من مفعول( فَتَمَسَّكُمُ ) أي تمسّكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء و هو يوم القيامة الّذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله. أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، و المراد بقوله:( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) نفي الشفاعة على الأوّل و الخذلان الإلهيّ على الثاني.

و التعبير بثمّ في قوله:( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة و الخذلان كأنّه قيل: تمسّكم النار و ليس لكم إلّا الله فتدعونه فلا يجيبكم و تستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران و الخيبة و الخذلان.

و قد تحصّل ممّا تقدّم من الأبحاث في الآية اُمور:

الأوّل: أنّ المنهيّ عنه في الآية إنّما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينيّة كالسكوت في بيان حقائق الدين عن اُمور يضرّهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الاُمور العامّة أو إجراء الاُمور الدينيّة بأيدهم و قوّتهم و أشباه ذلك.

و أمّا الركون و الاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع و شرى و الثقة بهم و ائتمانهم في بعض الاُمور فإنّ ذلك كلّه غير مشمول للنهي الّذي في الآية لأنّها ليست بركون في دين أو حياة دينيّة، و قد وثق النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عند ما خرج من مكّة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق و ائتمنه ليوافيه

٥٨

بها في الغار بعد ثلاثة أيّام و كان يعامل هو و كذا المسلمون بمرأى و مسمع منه الكفّار و المشركين.

الثاني: أنّ الركون المنهيّ عنه في الآية أخصّ من الولاية المنهيّ عنها في آيات اُخرى كثيرة فإنّ الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثّر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أمّا الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينيّة على ظلمهم فهو أخصّ من الولاية مورداً أي إنّ كلّ مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلّيّ، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعمّ ممّا يكون بالفعل.

و يظهر من جمع من المفسّرين أنّ الركون المنهيّ عنه في الآية هو الولاية المنهيّ عنها في آيات اُخر.

قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشريّ قوله: إنّ النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم و الانقطاع إليهم و مصاحبتهم و مجالستهم و زيارتهم و مداهنتهم و الرضا بأعمالهم، و التشبّه بهم و التزييّ بزيّهم، و مدّ العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و تأمّل قوله:( وَ لا تَرْكَنُوا ) فإنّ الركون هو الميل اليسير، و قوله:( إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) أي إلى الّذين وجد منهم الظلم، و لم يقل: إلى الظالمين. انتهى.

أقول: كلّ ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الّذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، و قد يكون من لوازم الركون الحقيرة و لكن لا يصحّ أن يجعل شي‏ء منه تفسيرا للآية مراداً منها، و المخاطب الأوّل بها رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و السابقون الأوّلون إلى التوبة من الشرك و الإيمان معه، و لم يكن أحد منهم مظنّة للانقطاع بظلمة المشركين، و الانحطاط في هواهم، و الرضا بأعمالهم. إلى آخر ما أطنب فيه.

و قد ناقض فيه نفسه أوّلا حيث اعترف بكون بعض الاُمور المذكورة من لوازم الركون لكنّه استحقرها و نفى شمول الآية لها، و المعصية كلّها عظيمة لا

٥٩

يستهان بها غير أنّ أكثر المفسّرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.

و أفسد من ذلك قوله: إنّ المخاطب الأوّل بهذا النهي رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و السابقون الأوّلون و لم يكونوا مظنّة للانقطاع إلى ظلمة المشركين و الانحطاط في هواهم و الرضا بأعمالهم إلخ فإنّ فيه أوّلا: أنّ الخطاب خطاب واحد موجّه إليه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و إلى اُمّته، و لا أوّل فيه و لا ثاني، و تقدّم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين ممّا ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.

و ثانياً: أنّ عدم كون المخاطب مظنّة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه و خاصّة النواهي الصادرة عن مقام التشريع و إنّما يمنع عن تأكيده و الإلحاح عليه و قد نهى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عمّا هو أعظم من الركون إلى الّذين ظلموا كالشرك بالله و عن ترك تبليغ بعض أوامره و نواهيه، قال تعالى:( وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الّذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الزمر: ٦٥، و قال:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) المائدة: ٦٧، و قال:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَ اتَّبِعْ ما يُوحى‏ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الأحزاب: ٢ و لا يظنّ به (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يشرك بربّه ألبتّة، و لا أن لا يبلّغ ما اُنزل إليه من ربّه أو يطيع الكافرين و المنافقين أو لا يتّبع ما يوحى إليه من ربّه إلى غير ذلك من النواهي.

و كذا السابقون الأوّلون نهوا عن اُمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله:( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) نزلت في أهل بدر و فيهم السابقون الأوّلون و قد وصف بعضهم بقوله:( الّذينَ ظَلَمُوا ) و هو أشدّ لحناً من قوله:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) ، و كعدّة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر و اُحد و حنين، و النواهي الموجّهة إلى نساء النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فكلّ ذلك

٦٠

ممّا لم يكن يظنّ بالسابقين الأوّلين أن يبتلوا به على أنّ بعضهم ابتلي ببعضها بعد.

الثالث: أنّ الآية بما لها من السياق المؤيّد بإشعار المقام إنّما تنهى عن الركون إلى الّذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحقّ أو حياتهم الدينيّة على شي‏ء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحقّ و عملهم الحقّ جانب ظلمهم و باطلهم حتّى يكون في ذلك إحياء للحقّ بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حقّ بإماتة حقّ آخر كما تقدّمت الإشارة إليه.

و أمّا الميل إلى شي‏ء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلاميّ أو في ظرف الحياة الشخصيّة فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.

و قد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسّرين فأوردوا في المقام أبحاثاً لا تمسّ الآية أدنى مسّ، و قد أغمضنا عن إيرادها و البحث في صحّتها و سقمها إيثاراً للاختصار و من أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.

قوله تعالى: ( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) إلخ، طرفا النهار هو الصباح و المساء و الزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا و معنى على ما قيل، و هو وصف سادّ مسدّ موصوفه كالساعات و نحوها، و التقدير و ساعات من اللّيل أقرب من النهار.

و المعنى أقم الصلاة في الصباح و المساء و في ساعات من الليل هي أقرب من النهار، و ينطبق من الصلوات الخمس اليوميّة على صلاة الصبح و العصر و هي صلاة المساء و المغرب و العشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح و المغرب و وقتهما طرفا النهار و العشاء الآخرة و وقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، و قيل غير ذلك.

لكنّ البحث لمّا كان فقهيّا كان المتّبع فيه ما ورد عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل بيته (عليه السلام) من البيان، و سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) تعليل لقوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) و

٦١

بيان أنّ الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي و هي ما تعتريها من السيّئات، و قد تقدّم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قوله:( ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ ) أي هذا الّذي ذكر و هو أنّ الحسنات يذهبن السيّئات على رفعة قدرة تذكار للمتلبّسين بذكر الله تعالى من عباده.

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ثمّ أمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله:( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ٤٥ و ذلك أنّ كلّا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، و الصبر في الأخلاق و قد قال تعالى في الصلاة:( وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥ و قال في الصبر:( إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى: ٤٣.

و اجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب و المكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق و الجزع و الانهزام، و الصلاة توجّهها إلى ناحية الربّ تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، و قد تقدّم بيان في ذلك في تفسير الآية ٤٥ من سورة البقرة في الجزء الأوّل من الكتاب.

و إطلاق الأمر بالصبر يعطي أنّ المراد به الأعمّ من الصبر على العبادة و الصبر عن المعصية و الصبر عند النائبة، و على هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدّم من الأوامر و النواهي أعني قوله:( فَاسْتَقِمْ ) ( وَ لا تَطْغَوْا ) ( وَ لا تَرْكَنُوا ) ( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) .

لكن إفراد الأمر و تخصيصه بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يفيد أنّه صبر في أمر يختصّ به و إلّا قيل: و( اصبروا ) جرياً على السياق، و هذا يؤيّد قول من قال: إنّ المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه و ظلم الظالمين منهم، و أمّا قوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) فإنّه ليس أمراً بما يخصّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.

و قوله:( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) تعليل للأمر بالصبر.

٦٢

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ) إلخ لو لا بمعنى هلّا و إلّا يفيد التعجيب و التوبيخ، و المعنى هلّا كان من القرون الّتي كانت من قبلكم و قد أفنيناها بالعذاب و الهلاك اُولوا بقيّة أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها و يحفظوا اُمّتهم من الاستئصال.

و قوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ) استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإنّ المعنى: من العجب أنّه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله و شاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلّا قليلاً ممّن أنجينا من العذاب و الهلاك منهم فإنّهم كانوا ينهون عن الفساد.

و قوله:( وَ اتَّبَعَ الّذينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ ) بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء و هم أكثرهم و عرّفهم بأنّهم الّذين ظلموا و بيّن أنّهم اتّبعوا لذائذ الدنيا الّتي اُترفوا فيها و كانوا مجرمين.

و قد تحصّل بهذا الاستثناء و هذا الباقي الّذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله و المجرمون و لذلك عقّبه بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) أي لم يكن من سنّته تعالى إهلاك القرى الّتي أهلها مصلحون لأنّ ذلك ظلم و لا يظلم ربّك أحداً فقوله:( بِظُلْمٍ ) قيد توضيحيّ لا احترازيّ، و يفيد أنّ سنّته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم( وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - إلى قوله -أَجْمَعِينَ ) الخلف خلاف القدّام و هو الأصل فيما اشتقّ من هذه المادّة من المشتقّات يقال: خلف أباه أي سدّ مسدّه لوقوعه بعده، و أخلف وعده أي لم يف به كأنّه جعله خلفه، و مات و خلف ابنا أي تركه خلفه، و استخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله

٦٣

تعالى آدم و ذرّيّته في الأرض، و خالف فلان فلانا و تخالفا إذا تفرّقا في رأي أو عمل كأنّ كلّا منهما يجعل الآخر خلفه، و تخلّف عن أمره إذا أدبر و لم يأتمر به، و اختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، و اختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحداً بعد واحد، و اختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرّات كلّ واحدة بعد اُخرى.

ثمّ الاختلاف و يقابله الاتّفاق من الاُمور الّتي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها و آثار اُخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق كلّ ذلك يذهب بالأمن و السلام غير أنّ نوعاً منه لا مناص منه في العالم الإنسانيّ و هو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإنّ التركيبات البدنيّة مختلفة في الأفراد و هو يؤدّي إلى اختلاف الاستعدادات البدنيّة و الروحيّة و بانضمام اختلاف الأجواء و الظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق و السنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النوعيّة و الشخصيّة في المجتمعات الإنسانيّة، و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعيّة أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنسانيّ و لا طرفة عين.

و قد ذكره الله تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه حيث قال:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢. و لم يذمّه تعالى في شي‏ء من كلامه إلّا إذا صحب هوى النفس و خالف هدى العقل.

و ليس منه الاختلاف في الدين فإنّ الله سبحانه يذكر أنّه فطر الناس على معرفته و توحيده و سوّى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها، و أنّ الدين الحنيف هو من الفطرة الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، و لذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) .

و قد جمع الله الاختلافين في قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ

٦٤

مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ - و هذا هو الاختلاف الأوّل في الحياة و المعيشة - و ما اختلف فيه - و هذا هو الاختلاف الثاني في الدين -إِلَّا الّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢١٣ فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.

و الّذي ذكره بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) يريد به رفع الاختلاف من بينهم و توحيدهم على كلمة واحدة يتّفقون فيه، و من المعلوم أنّه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله و هم قليل و طائفة اُخرى و هم الّذين ظلموا.

فالمعنى أنّهم و إن اختلفوا في الدين فإنّهم لم يعجزوا الله بذلك و لو شاء الله لجعل الناس اُمّة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله:( وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) النحل: ٩ و قوله:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيع ) الرعد: ٣١.

و على هذا فقوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) إنّما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإنّ ذلك هو الّذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، و الكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.

على أنّ قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يصرّح أنّه رفعه عن طائفة رحمهم، و الاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتّى عن الطائفة المرحومة، و إنّما رفع عنهم الاختلاف الدينيّ الّذي يذمّه و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحقّ.

و قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) استثناء من قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحقّ أبداً إلّا الّذين رحمهم الله فإنّهم لا يختلفون في الحقّ و لا يتفرّقون عنه، و الرحمة هي الهداية الإلهيّة كما يفيده قوله:( فَهَدَى اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢١٣.

فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي و الإثبات

٦٥

فيصير معنى قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) أنّهم منقسمون دائماً إلى محقّ و مبطل، و لا يصحّ حينئذ ورود الاستثناء عليه إلّا بحسب الأزمان دون الأفراد و ذلك أنّ انضمام قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) إليه يؤوّل المعنى إلى مثل قولنا: إنّهم منقسمون دائماً إلى مبطلين و محقّين إلّا من رحم ربّك منهم فإنّهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقّين فقط، و من المعلوم أنّ المستثنين منهم هم المحقّون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إنّ منهم مبطلين و محقّين و المحقّون محقّون لا مبطل فيهم، و هذا كلام لا فائدة فيه.

على أنّه لا معنى لاستثناء المحقّين من حكم الاختلاف أصلاً و هم من الناس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا.

قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرّضة له الذامّة لأهله إنّما هو الاختلاف في الحقّ و مخالفة البعض للبعض في الحقّ و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحقّ و على بصيرة من الأمر لكنّه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرّقهم عن الحقّ و عدم اجتماعهم عليه و تركهم إيّاه بحياله، و مقتضاه اختفاء الحقّ عنهم و ارتيابهم فيه.

و الله سبحانه إنّما يذمّ الاختلاف من جهة لازمة هذا و هو التفرّق و الإعراض عن الحقّ و الآيات تشهد بذلك فإنّه تعالى يذمّ فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا أنّ المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة الّتي تفرّقهم عن الحقّ لم يصحّ ذلك.

و من أحسن ما يؤيّده قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى: ١٣ حيث عبّر عن الاختلاف بالتفرّق، و كذا قوله:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣ و هذا أوضح دلالة من سابقه فإنّه يجعل أهل الحقّ الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرّق و الاختلاف.

٦٦

و لذلك ترى أنّه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرّ من الآيات:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) آية: ١١٠ من السورة و قد كرّر هذا المعنى في مواضع من كلامه.

و قال تعالى:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الّذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) النبأ: ٣ أي يأتي فيه كلّ بقول يبعّدهم من الحقّ فيتفرّقون و قال:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) الذاريات: ١٠ أي قول لا يقف على وجه و لا يبتني على علم بل الخرص و الظنّ هو الّذي أوجده فيكم.

و في هذا المعنى قوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) آل عمران: ٧١ فإنّ هذا اللبس المذموم منهم إنّما كان بإظهار قول يشبه الحقّ و ليس به و هو إلقاء التفرّق الّذي يختفي به الحقّ.

فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا و آراء يتفرّقون بها عن الحقّ و يظهر بها الريب فهم لاتّباعهم أهواءهم المخالفة للحقّ يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرّقة تضاهي صورة الحقّ ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا و عدوانا بعد علمهم بالحقّ فهو اختلافهم في الحقّ بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

و يتبيّن بما تقدّم على طوله أنّ الإشارة بقوله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) إلى الرحمة المدلول عليه بقوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) و التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأنّ المصدر جائز الوجهين، قال تعالى:( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف: ٥٦ و ذلك لأنّك عرفت أنّ هذا الاختلاف بغي منهم يفرّقهم عن الحقّ و يستره و يظهر الباطل و لا يجوز كون الباطل غاية حقيقيّة للحقّ تعالى في خلقه، و لا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنسانيّ ليبغوا و يميتوا الحقّ و يحيوا الباطل فيهلكهم ثمّ يعذّبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.

على أنّ سياق الآيات - مع الغضّ عمّا ذكر - يدفع ذلك فإنّها في مقام بيان

٦٧

أنّ الله تعالى يدعو الناس برأفته و رحمته إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما و لا شرّا، و لكنّهم بظلمهم و اختلافهم في الحقّ يستنكفون عن دعوته، و يكذّبون بآياته، و يعبدون غيره، و يفسدون في الأرض فيستحقّون العذاب، و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون، و لا أن يخلقهم ليبغوا و يفسدوا فيهلكهم فالّذي منه هو الرحمة و الهداية، و الّذي من بغيهم و اختلافهم و ظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، و هذا هو الّذي يعطيه سياق الآيات.

و كون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنّما هو لاتّصالها بما هو الغاية الأخيرة و هو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي هَدانا لِهذا ) الأعراف: ٤٣ و هذا نظير عدّ العبادة غاية لها لاتّصالها بالسعادة في قوله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦.

و قوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) أي حقّت كلمته تعالى و أخذت مصداقها منهم بما ظلموا و اختلفوا في الحقّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، و الكلمة هي قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) إلخ.

و الآية نظيره قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) الم السجدة: ١٣ و الأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥ و الآيات متّحدة المضمون يفسّر بعضها بعضا.

هذه جملة ما يعطيه التدبّر في معنى الآيتين و قد تلخّص بذلك:

أوّلا أنّ المراد بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) توحيدهم برفع التفرّق و الخلاف من بينهم و قيل: إنّ المراد هو الإلجاء إلى الإسلام و رفع الاختيار لكنّه ينافي التكليف و لذلك لم يفعل و نسب إلى قتادة، و قيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنّة لكنّه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، و نسب إلى أبي مسلم. و أنت خبير بأنّ سياق الآيات لا يساعد على شي‏ء

٦٨

من المعنيين.

و ثانياً: أنّ المراد بقوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) دوامهم على الاختلاف في الدين و معناه التفرّق عن الحقّ و ستره بتصويره في صور متفرّقة باطلة تشبه الحقّ. و قال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق و الأحوال و بالجملة الاختلاف غير الدينيّ و نسب إلى الحسن. و قد عرفت أنّه أجنبيّ من سياق الآيات السابقة. و قال آخرون: إنّ معنى( مُخْتَلِفِينَ ) يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم و تعاطي باطلهم، و هو كسابقه أجنبيّ من مساق الآيات و فيها قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) الآية.

و ثالثاً: أنّ المراد بقوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) إلّا من هداه الله من المؤمنين.

و رابعاً: أنّ الإشارة بقوله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) إلى الرحمة و هي الغاية الّتي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم. و ذكر بعضهم. أنّ المعنى خلقهم للاختلاف و نسب إلى الحسن و عطاء. و قد عرفت أنّه سخيف رديّ جدّاً نعم لو جاز عود ضمير( خلقهم ) إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عدّ الاختلاف غاية لخلقهم و كانت الآية قريبة المضمون من قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الآية الأعراف: ١٧٩.

و ذكر آخرون: أنّ الإشارة إلى مجموع ما يدلّ عليه الكلام من مشيّته تعالى في خلقهم مستعدّين للاختلاف و التفرّق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم و من ذلك الدين و الإيمان و الطاعة و العصيان، و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعمّ ممّا في الدين أو في غيره.

و نسب إلى ابن عبّاس بناء على ما روي عنه أنّه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، و فريقا لا يرحم فيختلف، و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنّة و فريق في السعير، و قد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.

و خامساً: أنّ المراد بتمام الكلمة هو تحقّقها و أخذها مصداقها.

٦٩

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) الآية قال: قال (عليه السلام): في القيامة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن الحسن قال: لمّا نزلت هذه الآية:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) قال: شمّروا شمّروا فما رؤي ضاحكا.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) الآية قال ابن عبّاس: ما نزل على رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية كانت أشدّ عليه و لا أشقّ من هذه الآية، و لذلك‏ قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله. شيّبتني هود و الواقعة.

أقول: و الحديث مشهور في بعض الألفاظ شيّبتني هود و أخواتها، و عدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) الآية يبعّد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، و المشترك فيه بين السورتين حديث القيامة و الله أعلم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا ) الآية قال: قال (عليه السلام): ركون مودّة و نصيحة و طاعة.

أقول: و رواه أيضاً في المجمع، مرسلا عنهم (عليه السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام):( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) قال: أمّا إنّه لم يجعلها خلودا و لكن( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) فلا تركنوا إليهم.

أقول: أي و لكن قال: تمسّكم النار فجعله مسّاً.

و فيه عن جرير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) و طرفاه المغرب و الغداة( وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و هي صلاة العشاء الآخرة.

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث في الصلوات

٧٠

الخمس اليوميّة: و قال تعالى في ذلك( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و هي صلاة العشاء الآخرة.

أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر و ما بعدها ليشمل أوقات الخمس.

و في المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار:.

أقول: و الحديث مرويّ في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، و أمالي المفيد، و أمالي الشيخ.

و في المجمع، عن الواحديّ بإسناده عن حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابساً منها فهزّه حتّى تحاتّ ورقه ثمّ قال: يا أباعثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟ قال: هكذا فعله رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزّه حتّى تحاتّ ورقه، ثمّ قال: ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: و لم فعلته؟ قال: إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق. ثمّ قرأ هذه الآية: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إلى آخرها.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الطيالسيّ و أحمد و الدارميّ و ابن جرير و الطبرانيّ و البغوي في معجمه، و ابن مردويه غير مسلسل.

و فيه، عنه بإسناده عن الحارث عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنّا مع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلمّا قضى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أ ليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنّها كفّارة ذنبك.

أقول: و الرواية مرويّة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي أمامة و معاذ بن

٧١

جبل و ابن عبّاس و بريدة و واثلة بن الأسقع و أنس و غيرهم و في سرد القصّة اختلاف مّا في ألفاظهم، و رواه الترمذيّ و غيره عن أبي اليسر و هو صاحب القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إنّ عليّا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أيّ آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) قال: حسنة و ليست إيّاها. فقال بعضهم:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال: حسنة و ليست إيّاها. و قال بعضهم:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) قال: حسنة و ليست إيّاها.

قال: ثمّ أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا و الله ما عندنا شي‏ء. قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول: أرجى آية في كتاب الله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و قرأ الآية كلّها، و قال: يا عليّ و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه و قلبه لم ينفتل عن صلاته و عليه من ذنوبه شي‏ء كما ولدته اُمّه فإذا أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس.

ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لاُمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم؟ أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و الله الصلوات الخمس لاُمّتي.

أقول: و قد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنّة عن عدّة من الصحابة كأبي هريرة و أنس و جابر و أبي سعيد الخدريّ عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و فيه، عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: و لم يقل في جوابه، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): جئت من هنا و هاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإنّ معك ملكا موكّلا يحفظ و يكتب ما تعمل فلا تحتقر سيّئة و إن كانت صغيرة فإنّها ستسوؤك يوما، و لا تحتقر حسنة فإنّه ليس شي‏ء أشدّ طلبا من الحسنة

٧٢

إنّها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه و تسقطه و تذهب به بعدك، و ذلك قول الله( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ )

و فيه، عن سماعة بن مهران قال: سأل أباعبدالله (عليه السلام) رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالاً من أعمال السلطان فهو يتصدّق منه و يصل قرابته و يحجّ ليغفر له ما اكتسب، و هو يقول:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) . فقال أبوعبدالله (عليه السلام): إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة و لكن الحسنة تكفّر الخطيئة.

ثمّ قال أبوعبدالله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): ما من امرء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضّأ فيحسن الوضوء و يصلّي فيحسن الصلاة إلّا غفرت له ما بينها و بين الصلاة الّتي كانت قبلها من ذنوبه.

أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه و الديلميّ عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يسأل عن تفسير هذه الآية:( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) فقال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): و أهلها ينصف بعضهم بعضا.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: سئل أبوعبدالله (عليه السلام) عن قول الله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) فقال: كانوا اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين ليتّخذ عليهم الحجّة.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.

و في المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: و سألته عن قوله عزّوجلّ:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

٧٣

و في تفسير القمّيّ عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يعني آل محمد و أتباعهم يقول الله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

و في تفسير العيّاشيّ، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال: نزلت هذه بعد تلك.

أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) لكونها خاصّة ناسخة للآية الاُولى العامّة، و قد تقدّم في الكلام على النسخ أنّه في عرفهم (عليه السلام) أعمّ ممّا اصطلح عليه علماء الاُصول، و الآيات الخاصّة التكوينيّة ظاهرة في حكمها على الآيات العامّة فإنّ العوامل و الأسباب الخاصّة أنفذ حكما من العامّة فافهمه.

٧٤

( سورة هود الآيات ١٢٠ - ١٢٣)

وَكُلّاً نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ( ١٢٠) وَقُل لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى‏ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ( ١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ( ١٢٢) وَللّهِ‏ِ غَيْبُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ( ١٢٣)

( بيان‏)

الآيات تلخّص للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، و تنبّؤه أنّ السورة تبيّن له حقّ القول في المبدأ و المعاد و سنّة الله الجارية في عباده فهي بالنسبة إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) تعليم للحقّ، و بالنسبة إلى المؤمنين موعظة و ذكرى، و بالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الإيمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجّهم: اعملوا بما ترون و نحن عاملون بما نراه، و ننتظر جميعا صدق ما قصّ الله علينا من سنّته الجارية في خلقه من إسعاد المصلحين و إشقاء المفسدين، و تختم بأمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بعبادته و التوكّل عليه لأنّ الأمر كلّه إليه.

قوله تعالى: ( وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) إلى آخر الآية أي و كلّ القصص نقصّ عليك تفصيلاً أو إجمالاً، و قوله:( مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ) بيان لما اُضيف إليه كلّ، و قوله:( ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) عطف بيان للأنباء اُشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و هو تثبيت فؤاده و حسم مادّة القلق و الاضطراب منه.

٧٥

و المعنى نقصّ عليك أنباء الرسل لنثبّت به فؤادك و نربط جأشك في ما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحقّ، و النهضة على قطع منابت الفساد، و المحنة من أذى قومك.

ثمّ ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و قومه مؤمنين و كافرين فقال فيما يرجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من فائدة نزول السورة:( وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ) و الإشارة إلى السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الإنباء على وجه، و مجي‏ء الحقّ فيها هو ما بيّن الله تعالى في ضمن القصص و قبلها و بعدها من حقائق المعارف في المبدأ و المعاد و سنّته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل و نشر الدعوة ثمّ إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، و في الآخرة بالجنّة، و إشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة.

و قال فيما يرجع إلى المؤمنين:( وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فإنّ فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسوه من علوم الفطرة في المبدأ و المعاد و ما يرتبط بهما، و فيما ذكر فيها من القصص و العبر موعظة يتّعظون بها.

قوله تعالى: ( وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) و هذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يختم الحجاج معهم و يقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أمّا إذا لم تؤمنوا و لم تنقطعوا عن الشرك و الفساد بما ألقيت إليكم من التذكرة و العبر و لم تصدّقوا بما قصّه الله من أنباء الاُمم و أخبر به من سنّته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة و المنزلة، و بما تحسبونه خيراً لكم إنّا عاملون، و انتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم إنّا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبإ الإلهيّ و كذبه.

و هذا قطع للخصام و نوع تهديد أورده الله في القصص الماضية قصّة نوح و هود و صالح (عليه السلام)، و في قصّة شعيب (عليه السلام) حاكيا عنه:( وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏

٧٦

مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) آية : ٩٣ من السورة.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) لمّا كان أمره تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يأمرهم بالعمل بما تهوى أنفسهم و الانتظار، و إخبارهم بأنّه و من آمن معه عاملون و منتظرون، في معنى أمره و من تبعه بالعمل و الانتظار عقّبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس و ثبات من القلب من أنّ الدائرة ستكون له عليهم.

و المعنى فاعمل و انتظر أنت و من تبعك فغيب السماوات و الأرض الّذي يتضمّن عاقبة أمرك و أمرهم إنّما يملكه ربّك الّذي هو الله سبحانه دون آلهتهم الّتي يشركون بها و دون الأسباب الّتي يتوكّلون عليها حتّى يديروا الدائرة لأنفسهم و يحوّلوا العاقبة إلى ما ينفعهم، و إلى ربّك الّذي هو الله يرجع الأمر كلّه فيظهر من غيبه عاقبة الأمر على ما شاءه و أخبر به، فالدائرة لك عليهم، و هذا من عجيب البيان.

و من هنا يظهر وجه تبديل قوله:( رَبُّكَ ) المكرّر في هذه الآيات بلفظ الجلالة( الله ) لأنّ فيه من الإشعار بالإحاطة بكلّ ما دقّ و جلّ ما ليس في غيره، و المقام يقتضي الاعتماد و الالتجاء إلى ملجاء لا يقهره قاهر و لا يغلب عليه غالب، و هو الله سبحانه و لذلك ترى أنّه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرّره من صفة الربّ، و هو قوله:( وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) الظاهر أنّه تفريع لقوله:( وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) أي إذا كان الأمر كلّه مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئاً و لا يستقلّ بشي‏ء فاعبده سبحانه و اتّخذه وكيلا في جميع الاُمور و لا تتوكّل على شي‏ء من الأسباب دونه لأنّها أسباب بتسبيبه غير مستقلّة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شي‏ء منها. و ما ربّك بغافل عمّا تعملون فلا يجوز التساهل في عبادته و التوكّل عليه.

٧٧

( سورة يوسف مكّيّة و هي مائة و إحدى عشرة آية)

( سورة يوسف الآيات ١ - ٣)

.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ( ١) إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ( ٢) نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ( ٣)

( بيان‏)

غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الّذي أخلص إيمانه له تعالى إخلاصا و امتلأ بمحبّته تعالى لا يبتغي له بدلا و لم يلو إلى غيره تعالى من شي‏ء، و أنّ الله تعالى يتولّى هو أمره فيربّيه أحسن تربية فيورده مورد القرب و يسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى فيخلصه لنفسه و يحييه حياة إلهيّة و إن كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، و يرفعه و إن توفّرت الحوادث على ضعته، و يعزّه و إن دعت النوائب و رزايا الدهر إلى ذلّته و حطّ قدره.

و قد بيّن تعالى ذلك بسرد قصّة يوسف الصدّيق (عليه السلام) - و لم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصّة من القصص باستقصائها من أوّلها إلى آخرها غير قصّته (عليه السلام) - و قد خصّت السورة بها من غير شركة مّا من غيرها.

فقد كان (عليه السلام) عبداً مخلصا في عبوديّته فأخلصه الله لنفسه و أعزّه بعزّته و

٧٨

قد تجمّعت الأسباب على إذلاله و ضعته فكلّما ألقته في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل الّتي كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده إخوته فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر و أدخله في بيت الملك و العزّة، راودته الّتي هو في بيتها عن نفسه و اتّهمته عند العزيز و لم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثمّ اتّهمته و أدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، و كان قميصه الملطّخ بالدم الّذي جاؤا به إلى أبيه يعقوب أوّل يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره فصار قميصه بعينه و قد أرسله بيد إخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، و على هذا القياس.

و بالجملة كلّما نازعه شي‏ء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره و نجاح طلبته، و لم يزل سبحانه يحوّله من حال إلى حال حتّى آتاه الحكم و الملك و اجتباه و علّمه من تأويل الأحاديث و أتمّ نعمته عليه كما وعده أبوه.

و قد بدأ الله سبحانه قصّته بذكر رؤيا رآها في بادئ الأمر و هو صبيّ في حجر أبيه و الرؤيا من المبشّرات ثمّ حقّق بشارته و أتمّ كلمته فيه بما خصّه به من التربية الإلهيّة، و هذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يونس: ٦٤.

و في قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف و تعبير أبيه (عليه السلام) لها:( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) إشعار بأنّه كان هناك قوم سألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عمّا يرجع إلى هذه القصّة، و هو يؤيّد ما ورد أنّ قوما من اليهود بعثوا مشركي مكّة أن يسألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر و قد كان يعقوب (عليه السلام) ساكنا في أرض الشام فنزلت السورة.

و على هذا فالغرض بيان قصته (عليه السلام) و قصّة آل يعقوب، و قد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها و هو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من

٧٩

مفتتح السورة و مختتمها، و السورة مكّيّة على ما يدلّ عليه سياق آياتها، و ما ورد في بعض الروايات عن ابن عبّاس أنّ أربعاً من آياتها مدنيّة، و هي الآيات الثلاث الّتي في أوّلها، و قوله( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد.

قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم و التفخيم، و الظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلوّ و هو مبين واضح في نفسه و مبين موضح لغيره ما ضمّنه الله تعالى من المعارف الإلهيّة و حقائق المبدأ و المعاد.

و قد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أوّل سورة يونس:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) لكون هذه السورة نازلة في شأن قصّة آل يعقوب و بيانها، و من المحتمل أن يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الضمير للكتاب بما أنّه مشتمل على الآيات الإلهيّة و المعارف الحقيقيّة، و إنزاله قرآناً عربيّاً هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة و العربيّة، و جعله لفظاً متلوّاً مطابقاً لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) من قبيل توسعة الخطاب و تعميمه فإنّ السورة مفتتحة بخطاب النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) ، و على ذلك يجري بعد كما في قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) إلخ.

فمعنى الآية - والله أعلم - إنّا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربيّ محلّى بحليته ليقع في معرض التعقّل منك و من قومك أو اُمّتك، و لو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقروّ أو لم يجعل عربيّا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من أسرار الآيات بل اختصّ فهمه بك لاختصاصك بوحيه و تعليمه.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431