الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 77750
تحميل: 5661


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77750 / تحميل: 5661
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجهنّميّين، لا عامّة أهل النار كما يدلّ عليه ما سيأتي.

و فيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أباجعفر (عليه السلام) يقول: إنّ اُناسا يخرجون من النار. حتّى إذا صاروا حمما أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشّح أهل الجنّة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم و دماؤهم، و يذهب عنهم قشف النار، و يدخلون الجنّة يقولون - أهل الجنّة - الجهنّميّين فينادون بأجمعهم: اللّهمّ أذهب عنّا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثمّ قال: يا أبابصير إنّ أعداء علي هم المخلّدون في النار و لا تدركهم الشفاعة.

و فيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبدا صالحا يقول في الجهنّميّين: إنّهم يدخلون النار بذنوبهم، و يخرجون بعفو الله.

و فيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) إنّهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أنّ الله يخرج قوما من النار ليجعلهم من أهل الجنّة مع أولياء الله؟ فقال: أ ما يقرءون قول الله تبارك و تعالى:( وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ) إنّها جنّة دون جنّة و نار دون نار. إنّهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما و الله منزلة، و لكن لا أستطيع أن أتكلّم، إنّ أمرهم لأضيق من الحلقة، إنّ القائم إذا قام بدأ بهؤلاء.

أقول: قوله: (إنّ القائم) إلخ، أي إذا ظهر بدأ بهؤلاء المستهزءين بأهل الحقّ انتقاماً.

و في تفسير العياشي، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قوله:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال: هذه في الّذين يخرجون من النار.

و فيه،: عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ ) قال: في ذكر أهل النار استثنى، و ليس في ذكر أهل الجنّة استثنى( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

٤١

أقول: يشير (عليه السلام) إلى أنّ الاستثناء بالمشيّة في أهل الجنّة لمّا عقّبه الله بقوله:( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) لم يكن استثناء دالّا على إخراج بعض أهل الجنّة منها، و إنّما يدلّ على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنّه معقّب بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) المشعر بوقوع الفعل، و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ عن السدّيّ في قوله:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيّة الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا ) إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها و أوجب لهم خلود الأبد، و قوله:( وَ أَمَّا الّذينَ سُعِدُوا ) الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيّة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة:( وَ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ - إلى قوله -ظِلًّا ظَلِيلاًَ ) فأوجب لهم خلود الأبد.

أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعما منه أنّهما تدلّان على الانقطاع قد عرفت خلافه. على أنّ النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل و لا نقل. على أنّ ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنّة. على أنّ خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكّيّة كالأنعام و الأعراف و غيرهما.

و فيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.

و فيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنّم يوم لا يبقى فيها أحد، و قرأ:( فَأَمَّا الّذينَ شَقُوا ) .

و فيه أخرج ابن المنذر و أبوالشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) قال: و قال ابن مسعود: ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها.

أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة و لا حجّة فيها على غيرهم، و لو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب و قد قال تعالى

٤٢

في الكفّار:( وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) البقرة: ١٦٧.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): إنّه بلغنا أنّه يأتي على جهنّم حتى(١) يصفق أبوابها. فقال: لا و الله إنّه الخلود. قلت:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار.

أقول: و الروايات الدالّة على خلود الكفار في النار من طرق أئمّة أهل البيت كثيرة جدّاً، و قد قدّمنا بحثا فلسفيّا في خلود العذاب و انقطاعه في ذيل قوله:( وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) البقرة: ١٦٧ في الجزء الأوّل من الكتاب.

____________________

(١) حين ظ

٤٣

( سورة هود الآية ١٠٩ - ١١٩)

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلّا كَمَا يَعْبُدُ آباؤُهُم مِن قَبْلُ وَإِنّا لَمُوَفّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ( ١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَرِيبٍ( ١١٠) وَإِنّ كُلّاً لَمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( ١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( ١١٢) وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ( ١١٣) وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئاتِ ذلِكَ ذِكْرَى‏ لِلذّاكِرِينَ( ١١٤) وَاصْبِرْ فإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ( ١١٥) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلّا قَلِيلاً مِمّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ( ١١٦) وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى‏ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ( ١١٧) وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ( ١١٨) إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لَأَمْلَأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ١١٩)

٤٤

( بيان‏)

لمّا فصّل تعالى فيما قصّة لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قصص الاُمم الغابرة و ما أداهم إليه شركهم و فسقهم و جحودهم لآيات الله و استكبارهم عن قبول الحقّ الّذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم و ساقهم إلى الهلاك و عذاب الاستئصال ثمّ إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثمّ لخّص القول في أمرهم في الآيات السابقة.

أمر في هذه الآيات نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يعتبر هو و من معه بذلك، و يستيقنوا أنّ الشرك بالله و الفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلّا إلى الهلاك و البوار فعليهم أن يلزموا طريق العبوديّة و يمسّكوا بالصبر و الصلاة و لا يركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسّهم النار و ما لهم من دون الله من أولياء ثمّ لا ينصرون، و يعلموا أنّ كلمة الله هي العليا، و كلمة الّذين كفروا السفلى و أنّ مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلّا لتحقيق كلمة الحقّ الّتي سبقت منه و ستتمّ بما يجازيهم به يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) إلخ تفريع لما تقدّم من تفصيل قصص الاُمم الماضيّة الّتي ظلموا أنفسهم باتّخاذ الشركاء و الفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، و المشار إليهم بقوله:( هؤُلاءِ ) هم قوم النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و قوله:( ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) أي إنّهم يعبدونها تقليداً كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الّذي سلكه الأوّلون من غير حجّة، و المراد بنصيبهم ما هو حظّهم قبال شركهم و فسقهم.

و قوله:( غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) حال من النصيب و فيه تأكيد لقوله:( لَمُوَفُّوهُمْ ) فإنّ التوفية تأدية حقّ الغير بالتمام و الكمال، و فيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهيّ.

و معنى الآية: فإذا سمعت قصص الأوّلين و أنّهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله و يكذّبون بآياته، و علمت سنّة الله تعالى فيهم و أنّها الهلاك في الدنيا و

٤٥

المصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شكّ و مرية من عبادة هؤلاء الّذين هم قومك ما يعبدون إلّا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجّة و لا بيّنة، و إنّا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئاً بشفاعة أو عفو كيفما كان.

و يمكن أن يكون المراد بآبائهم، الاُمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلاً و ذلك أنّ الله سمّاهم آباء لهم أوّلين كما في قوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون: ٦٨ و هذا أنسب و أحسن و المعنى - على هذا - فلا تكن في شكّ من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلّا كمثل عبادة أولئك الاُمم الهالكة الّذين هم آباؤهم، و لا شكّ أنّا سنعطيهم حظّهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) لمّا كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، و كانت القصص نفسها سردت ليتّعظ بها القوم و يقضوا بالحقّ في اتّخاذهم شركاء لله سبحانه، و تكذيبهم بآيات الله و رمي القرآن بأنّه افتراء على الله تعالى.

تعرّض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتّخاذهم الآلهة و تكذيب القرآن فذكر تعالى أنّ عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الاُمم الماضية لها و سينالهم العذاب كما نال أسلافهم و أنّ اختلافهم في كتاب الله كاختلاف اُمّة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب و أنّ الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ‏ ) إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.

و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) كرّر سبحانه في كتابه ذكر أنّ اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكنّ اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلّا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى:( وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس: ١٩ و قال:( وَ مَا اخْتَلَفَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ

٤٦

بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) آل عمران: ١٩، و قال:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣.

و قد قضى الله سبحانه أن يوفّي الناس أجر ما عملوه و جزاء ما اكتسبوه، و كان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنّه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتّعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، و يكتسبوا في دنياهم لاُخراهم كما قال:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦، و مقتضى هذين القضاءين أن يؤخّر القضاء بين المختلفين في دين الله و كتابه بغيا، إلى يوم القيامة.

فإن قلت: فما بال الاُمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلّا أخّرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه.

قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم و لا معاصيهم و بالجملة مجرّد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر و يؤخّره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧.

و بالجملة قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يشير إلى أنّ اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يقتضي الآخر أن يمتّعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، و مقتضى ذلك كلّه أن يتأخّر عذابهم إلى يوم القيامة.

و قوله:( وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) الإرابة إلقاء الشكّ في القلب، فتوصيف الشكّ بالمريب من قبيل قوله:( ظِلًّا ظَلِيلًا ) و( حِجاباً مَسْتُورا ) و( حِجْراً مَحْجُورا ) و غير ذلك، و يفيد تأكّداً لمعنى الشكّ.

و الظاهر أنّ مرجع الضمير في قوله:( وَ إِنَّهُمْ ) اُمّة موسى و هم اليهود، و حقّ لهم أن يشكّوا فيه فإنّ سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل

٤٧

من كهنتهم يسمّى عزراء عند ما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدّسة، و قد اُحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا و نظيرها الإنجيل من جهة سنده.

على أنّ التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانيّة أن تنسبها إلى كتاب سماويّ و مقتضاه الشكّ فيها.

و أمّا إرجاع الضمير في قوله:( وَ إِنَّهُمْ ) إلى مشركي العرب، و في قوله:( مِنْهُ ) إلى القرآن كما فعله بعض المفسّرين فبعيد من الصواب لأنّ الله سبحانه قد أتمّ الحجّة عليهم في صدر السورة أنّه كتابه المنزل من عنده على نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و تحدّى بمثل قوله:( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ) و لا معنى مع ذلك لإسناد شكّ إليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) لفظة إنّ هي المشبهة بالفعل و اسمها قوله:( كُلًّا ) منوّناً مقطوعاً عن الإضافة و التقدير كلّهم أي المختلفين، و خبرها قوله:( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) و اللّام و النون لتأكيد الخبر، و قوله:( لَمَّا ) مؤلّف من لام تدلّ على القسم و ما مشدّدة تفصل بين اللّامين، و تفيد مع ذلك تأكيدا، و جواب القسم محذوف يدلّ عليه خبر إنّ.

و المعنى - و الله أعلم - و إنّ كلّ هؤلاء المختلفين أقسم ليوفّينّهم و يعطينّهم ربّك أعمالهم أي جزاءها إنّه بما يعملون من أعمال الخير و الشرّ خبير.

و نقل في روح المعاني، عن أبي حيّان عن ابن الحاجب أنّ( لَمَّا ) في الآية هي لمّا الجازمة و حذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت و لمّا، و سافرت و لمّا. ثمّ قال: و الأولى على هذا أن يقدّر: لمّا يوفّوها أي و إنّ كلّا منها لمّا يوفّوا أعمالهم ليوفّينّهم ربّك إيّاها. و هذا وجه وجيه.

و لأهل التفسير في مفردات الآية و نظمها أبحاث أدبيّة طويلة لا يهمّنا منها أزيد ممّا أوردناه، و من شاء الوقوف عليها فليراجع مطوّلات التفاسير.

٤٨

قوله تعالى: ( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يقال: قام كذا و ثبت و ركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب و غيره، و الظاهر أنّ الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان و ذلك أنّ الإنسان في سائر حالاته و أوضاعه غير القيام كالقعود و الانبطاح و الجثوّ و الاستلقاء و الانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنّه إذا قام على ساقه قياماً كان على أعدل حالاته الّذي يسلّطه على عامّة أعماله من ثبات و حركة و أخذ و ردّ و إعطاء و منع و جلب و دفع، و ثبت مهيمنا على ما عنده من القوى و أفعالها، فقيام الإنسان يمثّل شخصيّته الإنسانيّة بما له من الشؤن.

ثمّ أستعير في كلّ شي‏ء لأعدل حالاته الّذي يسلّط معه على آثاره و أعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله و قيام الشجر أن يركز على ساقه متعرّقا بأصله في الأرض، و قيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه و قيام العدل أن ينبسط على الأرض، و قيام السنّة و القانون أن تجري في المملكة.

و الإقامة جعل الشي‏ء قائماً أي جعله بحال يترتّب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئاً منها كإقامة العدل و إقامة السنّة و إقامة الصلاة و إقامة الشهادة، و إقامة الحدود، و إقامة الدين و نحو ذلك.

و الاستقامة طلب القيام من الشي‏ء و استدعاء ظهور عامّة آثاره و منافعه فاستقامة الطريق اتّصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء و الوضوح و عدم إضلاله من ركبه، و استقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به و إصلاحه بحيث لا يتطرّق إليه فساد و لا نقص، و يأتي تامّاً كاملاً، قال تعالى:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ) حم السجدة: ٦ أي قوموا بحقّ توحيده في اُلوهيّته، و قال:( إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) حم السجدة: ٣٠ أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم إلّا إلى ما يوافق التوحيد و يلائمه أي يراعونه و يحفظونه في عامّة ما يواجههم

٤٩

في باطنهم و ظاهرهم. و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا ) الروم: ٣٠ فإنّ المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل و تواجهه، و إقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.

فقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) أي كن ثابتاً على الدين موفّيا حقّه طبق ما اُمرت بالاستقامة، و قد اُمر به في قوله:( وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يونس: ١٠٥، و قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الروم: ٣٠.

قال في روح المعاني،: أمر رسوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالاستقامة مثل الاستقامة الّتي اُمر بها و هذا يقتضي أمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بوحي آخر و لو غير متلوّ كما قاله غير واحد، و الظاهر أنّ هذا أمر بالدوام على الاستقامة، و هي لزوم المنهج المستقيم و هو المتوسّط بين الإفراط و التفريط، و هي كلمة جامعة لكلّ ما يتعلّق بالعلم و العمل و سائر الأخلاق. انتهى.

أمّا احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلوّ يشير إليه قوله تعالى:( كَما أُمِرْتَ ) أي استقم كما اُمرت سابقاً بالاستقامة فبعيد عن سنّة القرآن و حاشا أن يعتمد بالبيان القرآنيّ على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، و قد عرفت أنّ الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، و إقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، و قد ورد قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكّيّتان، و سورة يونس الّتي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعاً و إن لم يسلّم ذلك في السورة الاُخرى الّتي هي سورة الروم.

و أمّا قوله: إنّ المراد بقوله:( اسْتَقِمْ ) الدوام على الاستقامة و هي لزوم المنهج المستقيم المتوسّط بين الإفراط و التفريط فقد عرفت أنّ معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه و توفية حقّه بتمامه و كماله، و استقامة الإنسان مطلقاً ركوزه و ثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه و أركانه بحيث لا يترك

٥٠

شيئاً من قدرته و استطاعته لغي لا أثر له.

و لو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط و التفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط و التفريط معاً مع أنّه تعالى عقّبه بقوله:( وَ لا تَطْغَوْا ) فنهى عن الإفراط فقط، و هو بمنزلة عطف التفسير لقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد بقوله:( فَاسْتَقِمْ ) إلخ الأمر بإظهار الثبات على العبوديّة و لزوم القيام بحقّها، ثمّ نهى عن تعدّي هذا الطور و الاستكبار عن الخضوع لله و الخروج بذلك عن زيّ العبوديّة فقيل:( وَ لا تَطْغَوْا ) كما فعل ذلك الاُمم الماضيّة، و لم يكونوا مبتلين إلّا بالإفراط دون التفريط و الاستكبار دون التذلّل.

و قوله:( وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) عطف على الضمير المستكنّ في( اسْتَقِمْ ) أي استقم أنت و من تاب معك أي استقيموا جميعاً و إنّما أخرج النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من بينهم و أفرده بالذكر معهم تشريفاً لمقام النبوّة، و على ذلك تجري سنّته تعالى في كلامه كقوله تعالى:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٢٨٥ و قوله:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الّذينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم: ٨.

على أنّ الأمر الّذي تقيّد به قوله:( فَاسْتَقِمْ ) أعني قوله:( كَما أُمِرْتَ ) يختصّ بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و لا يشاركه فيه غيره فإنّ ما ذكر من مثل قوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) إلخ خاصّ به فلو قيل: فاستقيموا لم يصحّ تقييده بالأمر السابق.

و المراد بمن تاب مع النبيّ المؤمنون الّذين رجعوا إلى الله بالإيمان و إطلاق التوبة على أصل الإيمان - و هو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى:( وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) المؤمن: ٧ إلى غير ذلك.

و قوله:( وَ لا تَطْغَوْا ) أي لا تتجاوزوا حدّكم الّذي خطّته لكم الفطرة و الخلقة و هو العبوديّة لله وحده كما تجاوزه الّذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك و ساقهم إلى الهلكة، و الظاهر أنّ الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز

٥١

حدّه، ثمّ أستعير لهذا الأمر المعنويّ الّذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر و هو الفساد.

و قوله:( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) تعليل لمضمون ما تقدّمه، و معنى الآية اثبت على دين التوحيد و الزم طريق العبوديّة من غير تزلزل و تذبذب، و ليثبت الّذين آمنوا معك، و لا تتعدّوا الحدّ الّذي حدّ لكم لأنّ الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.

و في الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحسّ فيها بشي‏ء من آثار الرحمة و أمارات الملاطفة و قد تقدّمها من الآيات ما يتضمّن من حديث مؤاخذة الاُمم الماضية و القرون الخالية بأعمالهم و استغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس و تطير القلوب.

غير ما في قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) من أفراد النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالذكر و إخراجه من بين المؤمنين تشريفاً لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقّه فإنّ تخصيصه قبلاً بالذكر يوجب توجّه هول الخطاب و روع التكليم من مقام العزّة و الكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجّه إلى جميع الاُمّة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) إسراء: ٧٥.

و لذلك ذكر أكثر المفسّرين ‏أنّ قوله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): (شيّبتني سورة هود) ناظر إلى هذه الآية، و سيوافيك الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) قال في الصحاح،: ركن إليه كنصر، ركوناً: مال و سكن، و الركن بالضمّ الجانب الأقوى. و الأمر العظيم و العزّ و المنعة انتهى و عن لسان العرب، مثله، و عن المصباح، أنّ الركون هو الاعتماد على الشي‏ء.

و قال الراغب:، ركن الشي‏ء جانبه الّذي يسكن إليه، و يستعار للقوّة، قال تعالى:( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ ) و ركنت إلى فلان أركن

٥٢

بالفتح و الصحيح أن يقال: ركن يركن - كنصر - و ركن يركن - كعلم - قال تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) و ناقة مركنة الضرع له أركان تعظّمه و المركن الإجّانة، و أركان العبادات جوانبها الّتي عليها مبناها، و بتركها بطلانها. انتهى و هذا قريب ممّا ذكره في المصباح.

و الحقّ أنّه الاعتماد على الشي‏ء عن ميل إليه لا مجرّد الاعتماد فحسب و لذلك عدّي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللّغة تفسير له بالأعمّ من معناه على ما هو دأبهم.

فالركون إلى الّذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إمّا في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه الّتي يضرّهم إفشاؤها و إمّا في حياة دينيّة كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة اُمور المجتمع الدينيّ بولاية الاُمور العامّة أو المودّة الّتي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيويّة.

و بالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينيّة من الّذين ظلموا بنوع من الاعتماد و الاتّكاء يخرج الدين أو الحياة الدينيّة عن الاستقلال في التأثير و يغيّرهما عن الوجهة الخالصة، و لازم ذلك السلوك إلى الحقّ من طريق الباطل أو إحياء حقّ بإحياء باطل و بالآخرة إماتة الحقّ لإحيائه.

و الدليل على هذا الّذي ذكرنا أنّه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الّذي هو من تتمّة الخطاب في الآية السابقة بين النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و بين المؤمنين من اُمّته، و الشئون الّتي له و لاُمّته هي المعارف الدينيّة و الأخلاق و السنن الإسلاميّة في تبليغها و حفظها و إجرائها و الحياة الاجتماعيّة بما يطابقها، و ولاية اُمور المجتمع الإسلاميّ، و انتحال الفرد بالدين و استنانه بسنّة الحياة الدينيّة فليس للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و لا لاُمّته أن يركنوا في شي‏ء من ذلك إلى الّذين ظلموا.

على أنّ من المعلوم أنّ هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة الّتي أخذهم الله بظلمهم و هما متفرّعتان عليها ناظرتان إليها، و لم يكن ظلم

٥٣

هؤلاء الاُمم الهالكة في شركهم بالله تعالى و عبادة الأصنام فحسب بل كان ممّا ذمّه الله من فعالهم اتّباع الظالمين و الفساد في الأرض بعد إصلاحها و هو الاستنان بالسنن الظالمة الّتي يقيمها الولاة الجائرون، و يستنّ بها الناس و هم بذلك ظالمون.

و من المعلوم أيضاً من السياق أنّ الآيتين مترتّبتان في غرضهما فالاُولى تنهى عن أن يكونوا من اُولئك الّذين ظلموا، و الثانية تنهى أن يقتربوا منهم و يميلوا إليهم و يعتمدوا(١) في حقّهم على باطلهم فقوله:( لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) نهي عن الميل إليهم و الاعتماد عليهم و البناء على باطلهم في أمر أصل الدين و الحياة الدينيّة جميعاً.

و وقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرّعة على ما تقدّم من القصص المذكورة يفيد أنّ المراد بالّذين ظلموا في الآية ليس من تحقّق منه الظلم تحقّقاً مّا و إلّا لعمّ جميع الناس إلّا أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذ معنى، و ليس المراد بالّذين ظلموا الظالمين أي المتلبّسين بهذا الوصف المستمرّين في ظلمهم فإنّ لإفادة الفعل الدالّ على مجرّد التحقّق معنى الصفة الدالّة على التلبّس و الاستمرار أسباباً لا يوجد في المقام منها شي‏ء و لا دلالة لشي‏ء على شي‏ء جزافاً.

بل المراد بالّذين ظلموا اُناس حالهم في الظلم حال اُولئك الّذين قصّهم الله في الآيات السابقة من الاُمم الهالكة، و كان الشأن في قصّتهم أنّه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهيّة المتوجّهة إليهم ثمّ قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردّها ثمّ عبّر عمّن قبلها بالّذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمّن ردّها بالّذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الّذينَ ظَلَمُوا ) و قوله:( وَ أَخَذَتِ الّذينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) و قوله:( وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) و قوله:( أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) و قوله:( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) إلى غير ذلك.

____________________

(١) أي أن يتوسّلوا في إجراء الحقّ بين أنفسهم بالوسيلة الباطلة الّتي عند أعداء الدين من الظالمين.

٥٤

فقد عبّر سبحانه عن ردّهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهيّة و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدالّ على مجرّد التحقّق و الوقوع، و أمّا في الخارج من مقام القياس و النسبة فإنّ التعبير بالصفة كقوله:( وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) إلى غير ذلك و هو كثير.

و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردّاً أن يكتفي بمجرّد الوقوع و التحقّق، و يبيّن أنّهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتّصاف و الاستمرار بالتلبّس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتّبعوا أمر فرعون أنّهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتّباع أمر فرعون، و معنى نجّينا الّذين آمنوا نجّينا الّذين اتّسموا بسمة الإيمان و تعلّموا بعلامته.

فكان التعبير بالماضي كافياً في إفادة أصل الاتّسام المذكور و إن كان ممّا يلزمه الاتّصاف، و بعبارة اُخرى الّذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكنّ العناية إنّما تعلّقت بحسب المقام بتحقّق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، و لذا ترى أنّه كلّما خرج الكلام عن مقام القياس و النسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله:( بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و قوله:( وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ) فافهم ذلك.

و من هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله:( الّذينَ ظَلَمُوا ) حيث أخذه بعضهم دالّا على مجرّد تحقّق ظلم مّا، و آخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره: فسّر الزمخشريّ( الّذينَ ظَلَمُوا ) بقوله: أي إلى الّذين وجد منهم الظلم و لم يقل: إلى الظالمين، و حكى أنّ الموفّق صلّى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلمّا أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى.

و معنى هذا أنّ الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيراً إلى من وقع منه ظلم قليل أيّ ظلم كان، و هذا غلط أيضاً و إنّما المراد بالّذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الّذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين

٥٥

ليردّوهم عنه فهم كالّذين كفروا في الآيات الكثيرة الّتي يراد بها فريق الكافرين لا كلّ فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي و حسبك منه قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦، و المخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) .

و قد عبّر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالّذين ظلموا كما عبّر عن أقوام الرسل الأوّلين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات ٣٧، ٦٧، ٩٤، و عبّر عنهم فيها بالظالمين أيضاً كقوله:( وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف و التعبير بالّذي و صلته فإنّهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد - انتهى.

أمّا قول صاحب الكشّاف: (إنّ المراد بالّذين ظلموا) الّذين وجد منهم الظلم و لم يقل:( إلى الظالمين ) فهو كذلك لكنّه لا ينفعه فإنّ التعبير بالفعل في ما قرّرناه من المقام و إن كان لا يفيد أزيد من تحقّق المعنى الحدثيّ و وقوعه لكنّه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى:( فَأَمَّا مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏ وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏ ) النازعات: ٤١ حيث عبّر بالفعل و هو منطبق على معنى الصفة.

و أمّا قول صاحب المنار: (إنّما المراد بالّذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الّذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه) فتحكّم محض، و أيّ دليل يدلّ على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب و قد ذكرهم الله أخيراً في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغياً، و قد نهى الله عن ولايتهم و شدّد فيه حتى قال:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) المائدة: ٥١، و قال في ولاية مطلق الكافرين،( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ ) آل عمران: ٢٨.

و أيّ مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الاُمّة و فيهم من هو أشقى من جبابرة عاد و ثمود و أطغى من فرعون و هامان و قارون.

٥٦

و مجرّد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش و مشركي مكّة و حواليها لا يوجب تخصيصاً في اللّفظ فإنّ خصوص المورد لا يخصّص عموم اللّفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كلّ من اتّسم بسمة الظلم، أي من كان مشركاً أو موحّداً مسلماً أو من أهل الكتاب.

و أمّا قوله: إنّ المراد بقوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) المعنى الوصفيّ و إن كان فعلاً أي الكافرون لا كلّ فرد من الناس وقع من كفر في الماضي. ففيه أنّا بيّنا في الكلام على تلك الآية و في مواضع اُخرى تقدّمت في الكتاب أنّ الآية خاصّة بالكفّار من صناديد قريش الّذين شاقّوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في بادئ أمره حتّى كفاه الله إيّاهم و أفناهم ببدر و غيره، و أنّهم المسمّون بالّذين كفروا. و ليست الآية عامّة، و لو كانت الآية عامّة و كان المراد بالّذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتّى من كفّار مكّة بعد نزول هذه الآية.

و لو قيل: إنّ المراد بهم الّذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئاً إذ لا معنى لقولنا: إنّ الكافرين الّذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصّة غير عامّة، و كون المراد بالّذين كفروا طائفة خاصّة بأعيانهم.

و قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ( الّذينَ آمَنُوا ) أيضاً فيما لا دليل في المورد يدلّ على خلافه اسم تشريفيّ لمن آمن بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في أوّل دعوته الحقّة، و بهم تختصّ خطابات( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) في القرآن و إن شاركهم غيرهم في الأحكام.

و أمّا قوله في آخر كلامه: و قد عبّر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالّذين ظلموا كما عبّر عن أقوام الرسل الأوّلين في قصصهم من هذه السورة به و عبّر عنهم فيها بالظالمين أيضاً فلا فرق بين التعبيرين إلخ و محصّله أنّ التعبير عنهم تارة بالّذين ظلموا و تارة بالظالمين دليل على أنّ المراد بالكلمتين واحد.

ففيه أنّه خفي عليه وجه العناية الكلاميّة الّذي تقدّمت الإشارة إليه و اتّحاد

٥٧

مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلّقة بهما.

فالمحصّل من مضمون الآية نهي النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و اُمّته عن الركون إلى من اتّسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم و يعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينيّة فهذا هو المراد بقوله:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) .

و قوله:( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مسّ النار، و قد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مسّ النار و عاقبة نفس الظلم النار، و هذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم و التلبس بالظلم نفسه.

و قوله:( وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) في موضع الحال من مفعول( فَتَمَسَّكُمُ ) أي تمسّكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء و هو يوم القيامة الّذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله. أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، و المراد بقوله:( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) نفي الشفاعة على الأوّل و الخذلان الإلهيّ على الثاني.

و التعبير بثمّ في قوله:( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة و الخذلان كأنّه قيل: تمسّكم النار و ليس لكم إلّا الله فتدعونه فلا يجيبكم و تستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران و الخيبة و الخذلان.

و قد تحصّل ممّا تقدّم من الأبحاث في الآية اُمور:

الأوّل: أنّ المنهيّ عنه في الآية إنّما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينيّة كالسكوت في بيان حقائق الدين عن اُمور يضرّهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الاُمور العامّة أو إجراء الاُمور الدينيّة بأيدهم و قوّتهم و أشباه ذلك.

و أمّا الركون و الاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع و شرى و الثقة بهم و ائتمانهم في بعض الاُمور فإنّ ذلك كلّه غير مشمول للنهي الّذي في الآية لأنّها ليست بركون في دين أو حياة دينيّة، و قد وثق النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عند ما خرج من مكّة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق و ائتمنه ليوافيه

٥٨

بها في الغار بعد ثلاثة أيّام و كان يعامل هو و كذا المسلمون بمرأى و مسمع منه الكفّار و المشركين.

الثاني: أنّ الركون المنهيّ عنه في الآية أخصّ من الولاية المنهيّ عنها في آيات اُخرى كثيرة فإنّ الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثّر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أمّا الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينيّة على ظلمهم فهو أخصّ من الولاية مورداً أي إنّ كلّ مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلّيّ، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعمّ ممّا يكون بالفعل.

و يظهر من جمع من المفسّرين أنّ الركون المنهيّ عنه في الآية هو الولاية المنهيّ عنها في آيات اُخر.

قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشريّ قوله: إنّ النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم و الانقطاع إليهم و مصاحبتهم و مجالستهم و زيارتهم و مداهنتهم و الرضا بأعمالهم، و التشبّه بهم و التزييّ بزيّهم، و مدّ العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و تأمّل قوله:( وَ لا تَرْكَنُوا ) فإنّ الركون هو الميل اليسير، و قوله:( إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) أي إلى الّذين وجد منهم الظلم، و لم يقل: إلى الظالمين. انتهى.

أقول: كلّ ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الّذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، و قد يكون من لوازم الركون الحقيرة و لكن لا يصحّ أن يجعل شي‏ء منه تفسيرا للآية مراداً منها، و المخاطب الأوّل بها رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و السابقون الأوّلون إلى التوبة من الشرك و الإيمان معه، و لم يكن أحد منهم مظنّة للانقطاع بظلمة المشركين، و الانحطاط في هواهم، و الرضا بأعمالهم. إلى آخر ما أطنب فيه.

و قد ناقض فيه نفسه أوّلا حيث اعترف بكون بعض الاُمور المذكورة من لوازم الركون لكنّه استحقرها و نفى شمول الآية لها، و المعصية كلّها عظيمة لا

٥٩

يستهان بها غير أنّ أكثر المفسّرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.

و أفسد من ذلك قوله: إنّ المخاطب الأوّل بهذا النهي رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و السابقون الأوّلون و لم يكونوا مظنّة للانقطاع إلى ظلمة المشركين و الانحطاط في هواهم و الرضا بأعمالهم إلخ فإنّ فيه أوّلا: أنّ الخطاب خطاب واحد موجّه إليه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و إلى اُمّته، و لا أوّل فيه و لا ثاني، و تقدّم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين ممّا ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.

و ثانياً: أنّ عدم كون المخاطب مظنّة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه و خاصّة النواهي الصادرة عن مقام التشريع و إنّما يمنع عن تأكيده و الإلحاح عليه و قد نهى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عمّا هو أعظم من الركون إلى الّذين ظلموا كالشرك بالله و عن ترك تبليغ بعض أوامره و نواهيه، قال تعالى:( وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الّذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الزمر: ٦٥، و قال:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) المائدة: ٦٧، و قال:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَ اتَّبِعْ ما يُوحى‏ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الأحزاب: ٢ و لا يظنّ به (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يشرك بربّه ألبتّة، و لا أن لا يبلّغ ما اُنزل إليه من ربّه أو يطيع الكافرين و المنافقين أو لا يتّبع ما يوحى إليه من ربّه إلى غير ذلك من النواهي.

و كذا السابقون الأوّلون نهوا عن اُمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله:( وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) نزلت في أهل بدر و فيهم السابقون الأوّلون و قد وصف بعضهم بقوله:( الّذينَ ظَلَمُوا ) و هو أشدّ لحناً من قوله:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا ) ، و كعدّة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر و اُحد و حنين، و النواهي الموجّهة إلى نساء النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فكلّ ذلك

٦٠