الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85540 / تحميل: 6679
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و في ذلك دلالة مّا على أنّ لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعيّنها بالاستناد إلى الوحي و كونها عربيّة دخلا في ضبط أسرار الآيات و حقائق المعارف، و لو أنّه اُوحى إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بمعناه و كان اللفظ الحاكي له لفظه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) كما في الأحاديث القدسيّة مثلاً أو ترجم إلى لغة اُخرى خفي بعض أسرار آياته البيّنات عن عقول الناس و لم تنله أيدي تعقّلهم و فهمهم.

و عنايته تعالى فيما أوحى من كتابه باللفظ ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه كيف؟ و قد قسّمه إلى المحكمات و المتشابهات و جعل المحكمات اُمّ الكتاب ترجع إليها المتشابهات قال تعالى:( هُوَ الّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) آل عمران: ٧ و قال تعالى أيضاً:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) النحل ١٠٣.

قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: القصّ تتّبع الأثر يقال: قصصت أثره، و القصص الأثر قال: فارتدّا على آثارهما قصصا، و قالت لاُخته قصّيه. قال: و القصص الأخبار المتتّبعة قال تعالى:( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ. فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ، وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) . انتهى فالقصص هو القصّة و أحسن القصص أحسن القصّة و الحديث، و ربّما قيل: إنّه مصدر بمعنى الاقتصاص.

فإن كان اسم مصدر فقصّة يوسف (عليه السلام) أحسن قصّة لأنّها تصف إخلاص التوحيد في العبوديّة، و تمثّل ولاية الله سبحانه لعبده و أنّه يربّيه بسلوكه في صراط الحبّ و رفعه من حضيض الذلّة إلى أوج العزّة، و أخذه من غيابة جبّ الإسارة و مربط الرقيّة و سجن النكال و النقمة إلى عرش العزّة و سرير المملكة. و إن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصّته بالطريق الّذي اقتصّ سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنّه اقتصاص لقصّة الحبّ و الغرام بأعفّ ما يكون و أستر ما يمكن.

و المعنى - و الله أعلم - نحن نقصّ عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك و إنّك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصّة من الغافلين عنها.

٨١

( سورة يوسف الآيات ٤ - ٦)

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ( ٤) قَالَ يَابُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ( ٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى‏ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمّهَا عَلَى‏ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٦)

( بيان‏)

تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف و قصّها على أبيه يعقوب (عليه السلام) فعبّرها أبوه له و نهاه أن يقصّها على إخوته، و هذه الرؤيا بشرى بشّر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادّة روحيّة لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية و القرب من ربّه، و هي بمنزلة المدخل في قصّته (عليه السلام).

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنّى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة و الرأفة و الشفقة كما يدلّ عليه ما في الآية التالية:( قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ ) إلخ.

و قوله:( رَأَيْتُ ) و( رَأَيْتُهُمْ ) من الرؤيا و هي ما يشاهده النائم في نومته أو الّذي خمدت حواسّه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، و يشهد به قوله في الآية التالية:( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ ) و قوله في آخر القصّة:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ ) .

٨٢

و تكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله( رَأَيْتُ ) و قوله:( لِي ساجِدِينَ ) و من فائدة التكرير الدلالة على أنّه إنّما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى. على أنّ ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب و الشمس و القمر مشاهدة أمر صوريّ و مشاهدة سجدتهم و خضوعهم و تعظيمهم له مشاهدة أمر معنويّ.

و قد عبّر عن الكواكب و النيّرين في قوله:( رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) بما يختصّ باُولى العقل - ضمير الجمع المذكّر و جمع المذكّر السالم - للدلالة على أنّ سجدتهم كانت عن علم و إرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.

و قد افتتح سبحانه قصّته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا الّتي أراها له و هي بشرى له تمثّل له ما سيناله من الولاية الإلهيّة و يخصّ به من اجتباء الله إيّاه و تعليمه تأويل الأحاديث و إتمام نعمته عليه، و من هناك تبتدئ التربية الإلهيّة له لأنّ الّذي بشّر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحوّل من حال إلى حال، و لا ينتقل من شأن إلى شأن، و لا يواجه نائبة، و لا يلقى مصيبة، إلّا و هو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطّن نفسه على الصبر عليها.

و هذه هي الحكمة في أنّ الله سبحانه يخصّ أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب و منزلة الزلفى كما في قوله:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ - إلى أن قال -هُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) يونس: ٦٤.

قوله تعالى: ( قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ذكر في المفردات: أنّ الكيد ضرب من الاحتيال، و قد يكون مذموما و ممدوحا و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر. انتهى. و قد ذكروا أنّ الكيد يتعدّى بنفسه و باللّام.

و الآية تدلّ على أنّ يعقوب لمّا سمع ما قصّة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدلّ عليه أنّ يوسف (عليه السلام) سيتولّى الله أمره و يرفع قدره، يسنده على أريكة

٨٣

الملك و عرش العزّة، و يخصّه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) و خاف من إخوته عليه و هم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - و هي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) و زوجه و أحد عشر من ولده غير يوسف، و ظاهرة الدلالة على أنّهم جميعا سيخضعون و يسجدون ليوسف - حملهم الكبر و الأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيداً ليحولوا بينه و بين ما تبشّره به رؤياه.

و لذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدلّ عليه قوله:( يا بُنَيَّ ) بلفظ التصغير، و نهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبّرها له و ينبّئه بما تدلّ عليه رؤياه من الكرامة الإلهيّة المقضيّة في حقّه، و لم يقدّم النهي على البشارة إلّا لفرط حبّه له و شدّة اهتمامه به و اعتنائه بشأنه، و ما كان يتفرّس من إخوته أنّهم يحسدونه و أنّهم امتلؤوا منه بغضا و حنقا.

و الدليل على بلوغ حسدهم و ظهور حنقهم و بغضهم قوله:( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) فلم يقل: إنّي أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرّع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم و أكّد تحقّق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال:( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) ثمّ أكّد ذلك بقوله ثانياً في مقام التعليل:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي إنّ لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيّد ما عندهم من السبب الّذي هو الحسد و يثيره و يهيّجه ليؤثّر أثره السيّئ و هو الشيطان الّذي هو عدوّ للإنسان مبين لا خلّة بينه و بينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته و تسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة و السعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه و آخرته فيفسد ما بين الوالد و ولده و ينزع بين الشقيق و شقيقه و يفرّق بين الصديق و صديقه ليضلّهم عن الصراط.

فكأنّ المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليه السلام) يا بنيّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّهم يحسدونك و يغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ و إغراء من الشيطان و قد تمكّن من قلوبهم و لا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين.

٨٤

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية و هي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، و منه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) القصص: ٥٧ ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشي‏ء و حفظها من التفرّق و التشتّت، و فيه سلوك و حركة من الجابي نحو المجبيّ فاجتباه الله سبحانه عبداً من عباده هو أن يقصده برحمته و يخصّه بمزيد كرامته فيجمع شمله و يحفظه من التفرّق في السبل المتفرّقة الشيطانيّة المفرّقة للإنسان و يركّبه صراطه المستقيم و هو أن يتولّى أمره و يخصّه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) الآية ٢٤ من السورة.

و قوله:( وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الّذي تتعقّبه، و هو الحقيقة الّتي تتمثّل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه و مشاعره كما تمثّل سجدة أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و خرورها أمامه ساجدة له، و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) الآية: آل عمران: ٧ في الجزء الثالث من الكتاب.

و الأحاديث جمع الحديث و ربّما اُريد به الرؤى لأنّها من حديث النفس فإنّ نفس الإنسان تصوّر له الاُمور في المنام كما يصوّر المحدث لسماعه الاُمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله و منه يظهر ما في قول بعضهم: إنّ الرؤى سمّيت أحاديث باعتبار حكايتها و التحديث بها و هو كما ترى.

و كذا ما قيل: إنّها سمّيت أحاديث لأنّها من حديث الملك إن كانت صادقة و من حديث الشيطان إن كانت كاذبة. انتهى، و فيه أنّها ربّما لم تستند إلى ملك و لا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجيّة عارضة لنائم تأخذه حمّى أو سخونة اتّفاقيّة فتحكيها نفسه في صورة حمّام يستحمّ فيه أو حرّ قيظ و نحوهما

٨٥

أو يتسلّط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء و نزول الثلج و نحوهما.

و ردّه بعضهم بأنّه يخالف الواقع فإنّ رؤيا يوسف ليس فيها حديث و كذا رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر انتهى. و قد اشتبه عليه معنى الحديث و ظنّ أنّ المراد بقولهم: إنّ الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، و ليس كذلك بل المراد أنّ المنام يصوّر له القصّة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أنّ المتكلّم اللّافظ يصوّر ذلك بصورة لفظيّة يستدلّ بها السامع على الأصل المراد و هذا كما يقال لمن يقصد أمرا و يعزم على فعل أو ترك أنّه حدّثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي إنّه يصوّره فأراد فعله أو تركه كأنّ نفسه حدّثته بأنّه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، و بالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنّها من قبيل تصوّر الاُمور للنائم كما يتصوّر الأنباء و القصص بالتحديث اللفظيّ فهي حديث إمّا ملكيّ أو شيطانيّ أو نفسيّ كما تقدّم لكنّ الحقّ أنّها من أحاديث النفس بالمباشرة، و سيجي‏ء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. هذا.

لكنّ الظاهر المتحصّل من قصّته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أنّ الأحاديث الّتي علّمه الله تعالى تأويلها أعمّ من أحاديث الرؤيا، و إنّما هي الأحاديث أعني الحوادث و الوقائع الّتي تتصوّر للإنسان أعمّ من أن تتصوّر له في يقظة أو منام فإنّ بين الحوادث و الاُصول الّتي تنشأ هي منها و الغايات الّتي تنتهي إليها اتّصالاً لا يسع إنكاره، و بذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث و الحقائق الّتي تنتهي هي إليها.

و يؤيّده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، و تأويل يوسف لرؤيا نفسه و رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا عزيز مصر و فيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله:( قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) الآية ٣٧ من

٨٦

السورة، و كذا قوله:( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الآية ١٥ من السورة و سيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) قال الراغب في المفردات: النعمة (بالكسر فالسكون) الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة الّتي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة (بالفتح فالسكون) التنعّم و بناؤها بناء المرّة من الفعل كالضربة و الشتمة، و النعمة للجنس تقال للقليل و الكثير.

قال: و الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، و لا يقال إلّا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنّه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى:( أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ( وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) و النعماء بإزاء الضرّاء.

قال: و النعيم النعمة الكثيرة قال تعالى:( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) و قال تعالى:( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، و تنعّم تناول ما فيه النعمة و طيب العيش، يقال: نعّمه تنعيما فتنعّم أي لين عيش و خصب قال تعالى:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) و طعام ناعم و جارية ناعمة انتهى.

ففي الكلمة - كما ترى - شي‏ء من معنى اللين و الطيب و الملاءمة فكأنّها مأخوذة من النعومة و هي الأصل في معناها، و قد اختصّ استعمالها بالإنسان لأنّ له عقلا يدرك به النافع من الضارّ فيستطيب النافع و يستلئمه و يتنعّم به بخلاف غيره الّذي لا يميّز ما ينفعه ممّا يضرّه، كما أنّ المال و الأولاد و غيرهما ممّا يعدّ نعمة يكون نعمة لواحد و نقمة لآخر و نعمة للإنسان في حال و نقمة في اُخرى.

و لذا كان القرآن الكريم لا يعدّ هذه العطايا الإلهيّة كالمال و الجاه و الأزواج و الأولاد و غير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلّا إذا وقعت في طريق السعادة و منصبغة بصبغة الولاية الإلهيّة تقرّب الإنسان إلى الله زلفى، و أمّا إذا وقعت في طريق الشقاء و تحت ولاية الشيطان فإنّما هي نقمة و ليست بنعمة، و الآيات في ذلك كثيرة.

٨٧

نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه و فضل و رحمة لأنّه خير يفيض الخير و لا يريد في موهبته شرّا و لا سوءً، و هو رؤف رحيم غفور ودود، قال تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ) إبراهيم: ٣٤ و الخطاب في الآية لعامّة الناس، و قال تعالى:( وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) المزّمّل: ١١، و قال تعالى:( ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الزمر: ٤٩ فهذه و أمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنّها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧.

و بالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب الّتي يتسبّب بها في استبقاء الحياة و التوصّل إلى السعادة نعما إلهيّة بالنسبة إليه، و إن كان في ولاية الشيطان تبدّلت الجميع نقما و هي جميعاً من الله سبحانه نعم و إن كانت مكفوراً بها.

ثمّ إنّ وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن اُوتي مالا و سلب الأمن و السلام فلا يتمكّن من أن يتمتّع به كما يريده و متى و أينما يريده، و إذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصّل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.

فقوله:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) يريد أنّ الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنّه يتمّ ذلك في حقّك و في حقّ آل يعقوب و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.

و قد جعل يوسف (عليه السلام) أصلاً و آل يعقوب معطوفا عليه إذ قال:( عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) كما يدلّ عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجوداً له و رأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجّداً له.

و قد ذكر الله تعالى ممّا أتمّ به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنّه آتاه الحكم و النبوّة و الملك و العزّة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين و علّمه من تأويل الأحاديث، و ممّا أتمّ به النعمة على آل يعقوب أنّه أقرّ عين يعقوب بابنه يوسف

٨٨

(عليهما السلام)، و جاء به و بأهله جميعاً من البدو و رزقهم الحضارة بنزول مصر.

و قوله:( كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) أي نظير ما أتمّ النعمة من قبل على إبراهيم و إسحاق و هما أبواك فإنّه آتاهما خير الدنيا و الآخرة فقوله:( مِنْ قَبْلُ ) متعلّق بقوله:( أَتَمَّها ) و ربّما احتمل كونه ظرفاً مستقرّاً وصفاً لقوله:( أَبَوَيْكَ ) و التقدير كما أتمّها على أبويك الكائنين من قبل.

و( إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) بدل أو عطف بيان لقوله( أَبَوَيْكَ ) و فائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرّة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمّها الله على إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف (عليه السلام) و سائر آل يعقوب.

و معنى الآية: و كما رأيت في رؤياك يخلصك ربّك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، و يعلّمك من تأويل الأحاديث و هو ما يؤل إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة و يتمّ نعمته هذه و هي الولاية الإلهيّة بالنزول في مصر و اجتماع الأهل و الملك و العزّة عليك و على أبويك و إخوتك و إنّما يفعل ربّك بك ذلك لأنّه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقّونه فهو عليم بحالك و ما يستحقّونه من غضبه.

و التدبّر في الآية الكريمة يعطي:

أوّلاً: أنّ يعقوب أيضاً كان من المخلصين و قد علّمه الله من تأويل الأحاديث فإنّه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف و ما كان ليخبر عن خرص و تخمين دون أن يعلّمه الله ذلك.

على أنّ الله بعد ما حكى عنه لبنيه:( يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) إلخ قال في حقّه:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

على أنّه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنّه قال:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) فأخبر أنّه من تأويل الحديث و قد علّمه ذلك ربّه ثمّ علّل التعليم بقوله:( إِنِّي

٨٩

تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ فأخبر أنّه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب نقيّ الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا و لذلك علّمه ربّه فيما علّمه تأويل الأحاديث، و الاشتراك في العلّة - كما ترى - يعطي أنّ آباءه الكرام إبراهيم و إسحاق و يعقوب كهو مخلصون لله معلّمون من تأويل الأحاديث.

و يؤيّده قوله تعالى في موضع آخر:( وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦ و يعطي أنّ العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.

و ثانياً: أنّ جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا و هو سجدة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا له و ذلك أنّ سجدتهم له و فيهم يعقوب الّذي هو من المخلصين و لا يسجد إلّا لله وحده تكشف عن أنّهم إنّما سجدوا أمام يوسف لله و لم يأخذوا يوسف إلّا قبلة كالكعبة الّتي يسجد إليها و لا يقصد بذلك إلّا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف و لا له إلّا الله تعالى، و هذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربّه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شي‏ء كما يومئ إليه يوسف بقوله:( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قد تقدّم آنفاً أنّ العلم بتأويل الأحاديث متفرّع على الإخلاص.

و من هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه:( وَ كَذلِكَ - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها -يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ - أي يخلصك لنفسه -وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

و كذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا و هي أجرام سماويّة رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدلّ على أنّهم سترتفع مكانتهم و يعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانيّة السعيدة، و هي الحياة الدينيّة العامرة للدنيا و الآخرة و يمتازون في ذلك من غيرهم.

و من هنا مضى يعقوب في حديثه و قال:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ - أي وحدك

٩٠

متميّزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك -وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ - أي عليّ و على زوجي و ولدي جميعا كما رأيتنا مجتمعين متقاربي الصور-كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

و ثالثاً: أنّ المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة و ضمّ الدنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف (عليه السلام) من بينهم لأنّ النعمة و هي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، و حيث نسبت إلى الجميع يأخذ كلّ منهم نصيبه منها.

على أنّ من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) الجاثية: ١٦ و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوّة مختصّ ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيّبات.

و رابعاً: أنّ يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب و لذلك جعله يعقوب أصلاً في الحديث و عطف عليه غيره حتّى ميّزه من بين آله و أفرده بالذكر حيث قال:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) .

و لذلك أيضاً نسب هذه العناية و الرحمة إلى ربّه حيث قال مرّة بعد مرّة:( رَبُّكَ ) و لم يقل:( يجتبيك الله ) و لا( إنّ الله عليم حكيم ) فهذا كلّه يشهد بأنّه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، و أمّا أبواه إبراهيم و إسحاق فإنّ التعبير بما يشعر بالتنظير:( كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنّه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و إخوته. فأمّا الشمس فاُمّ

٩١

يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أمّا أحد عشر كوكبا فإخوته، فلمّا دخلوا عليه سجدوا شكراً لله وحده حين نظروا إليه، و كان ذلك السجود لله.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا ) قال: إخوته( و الشمس ) قال: اُمّه( و القمر ) قال: أبوه، و لاُمّه راحيل ثلث الحسن.

أقول: و الروايتان - كما ترى - تفسّران الشمس باُمّه و القمر بأبيه و لا تخلوان من ضعف، و ربّما روي أنّ الّتي دخلت عليه بمصر هي خالته دون اُمّه فقد ماتت اُمّه قبل ذلك، و كذلك وردت في التوراة.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقر (عليه السلام) كان له أحد عشر أخا، و كان له من اُمّه أخ واحد يسمّى بنيامين. قال: فرأى يوسف هذه الرؤيا و له تسع سنين فقصّها على أبيه فقال:( يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ ) الآية.

أقول: و في بعض الروايات أنّه كان يومئذ ابن سبع سنين و في التوراة أنّه كان ابن ستّ عشر سنة. و هو بعيد.

و في قصّة الرؤيا روايات اُخرى سيجي‏ء بعضها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

٩٢

( سورة يوسف الآيات ٧ - ٢١)

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ( ٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلَى‏ أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مّبِينٍ( ٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ( ٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ( ١٠) قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَى‏ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ( ١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ١٢) قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخَاسِرُونَ( ١٤) فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ وَأَوَحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ( ١٦) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ( ١٧) وَجَاءُوا عَلَى‏ قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى‏ مَا تَصِفُونَ( ١٨) وَجَاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى‏ دَلْوَهُ

٩٣

قَالَ يَابُشْرَى‏ هذَا غُلامٌ وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ( ١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ( ٢٠) وَقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى‏ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتّخِدَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى‏ أَمْرِهِ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٢١)

( بيان‏)

شروع في القصّة بعد ذكر البشارة الّتي هي كالمقدّمة الملوّحة إلى إجمال الغاية الّتي تنتهي إليها القصّة، و الآيات تتضمّن الفصل الأوّل من فصول القصّة و فيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليه السلام) و خروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، و قد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، و أخرجته السيّارة منها، و باعه إخوته من السيّارة، و هم حملوه إلى مصر و باعوه من العزيز فبقي عنده.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) شروع في القصّة و فيه التنبيه على أنّ القصّة مشتملة على آيات إلهيّة دالّة على توحيد الله سبحانه، و أنّه هو الوليّ يلي اُمور عباده المخلصين حتّى يرفعهم إلى عرش العزّة، و يثبّتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره و يستنتج منها ما يريد لا ما هو اللّائح الظاهر منها.

فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم و كادوه و ألقوه في قعر بئر ثمّ شروه من السيّارة عبداً يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب

٩٤

اللائح منه الهلاك. و أن يذلّلوه فأعزّه الله بعين سبب التذليل، و وضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع و الخفض، و أن يحوّلوا حبّ أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، و ذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطّخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الّذي جاء به إليه البشير و ألقاه على وجهه.

و لم يزل يوسف (عليه السلام) كلّما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه و جعل فيه ظهور كرامته و جمال نفسه، و كلّما سير به في مسير أو ركّب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزيّة هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة و منقبة شريفة ظاهرة، و إلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرّف نفسه لإخوته و يقول:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية ٩١ من السورة، و يقول لأبيه بحضرة من إخوته:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) ثمّ تأخذه الجذبة الإلهيّة فيقبل بكلّيّة نفسه الوالهة إلى ربّه و يعرض عن غيره فيقول:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) الآية ١٠١ من السورة.

و في قوله تعالى:( لِلسَّائِلِينَ ) دلالة على أنّه كان هناك جماعة سألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن القصّة أو عمّا يرجع بوجه إلى القصّة فاُنزلت في هذه السورة.

قوله تعالى: ( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ذكر في المجمع، أنّ العصبة هي الجماعة الّتي يتعصّب بعضها لبعض، و يقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، و قيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، و لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط و النفر. انتهى.

و قوله:( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا ) القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف و أخاه الّذي ذكروه معه، و كانت عدّتهم عشرة و هم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب و إدارة مواشيه و أمواله كما يدلّ عليه قولهم:

٩٥

( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) .

و قولهم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ ) بنسبته إلى يوسف مع أنّهم جميعا أبناء ليعقوب و إخوة فيما بينهم يشعر بأنّ يوسف و أخاه هذا كانا أخوين لاُمّ واحدة و أخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، الروايات تذكر أنّ اسم أخي يوسف هذا( بنيامين ) ، و السياق يشهد أنّهما كانا صغيرين لا يقومان بشي‏ء من أمر بيت يعقوب و تدبير مواشيه و أمواله.

و قولهم:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوّة بعض، و هو حال عن الجملة السابقة يدلّ على حسدهم و حنقهم لهما و غيظهم على أبيهم يعقوب في حبّه لهما أكثر منهم، و هو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

و قولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قضاء منهم على أبيهم بالضلال و يعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة و فساد السيرة دون الضلال في الدين:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم أنّهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصّب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيويّة و إصلاح معاشه و دفع كلّ مكروه يواجهه، و يوسف و أخوه طفلان صغيران لا يقويان من اُمور الحياة على شي‏ء، و ليس كلّ منهما إلّا كلّاً عليه و عليهم، و إذا كان كذلك كان توغّل أبيهم في حبّهما و اشتغاله بكلّيّته بهما دونهم و إقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوّجة غير مرضيّة فإنّ حكمة الحياة تستدعي أن يهتمّ الإنسان بكلّ من أسبابه و وسائله على قدر ما له من التأثير، و قصر الإنسان اهتمامه على من هو كلّ عليه و لا يغني عنه طائلا، و الإعراض عمّن بيده مفاتيح حياته و أزمّة معاشه ليس إلّا ضلالاً من صراط الاستقامة و اعوجاجا في التدبير، و أمّا الضلال في الدين فله أسباب اُخر كالكفر بالله و آياته و مخالفة أوامره و نواهيه.

و أمّا ثانياً: فلأنّهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوّة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم:( وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) و قولهم أخيراً:( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ

٩٦

لَنا ذُنُوبَنا ) الآية ٩٧ من السورة و قولهم ليوسف أخيراً:( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا ) و غير ذلك، و لو أرادوا بقولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.

و هم مع ذلك كانوا يحبّون أباهم و يعظّمونه و يوقرونه، و إنّما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حبّ أبيهم كما قالوا:( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) فهم - كما يدلّ عليه هذا السياق - كانوا يحبّونه و يحبّون أن يخلص لهم حبّه، و لو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدءوا بأبيهم دون أخيهم و أن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتّى يخلو لهم الجوّ و يصفو لهم الأمر ثمّ الشأن في يوسف عليهم أهون.

و لقد جبّهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم:( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) الآية ٩٥ من السورة، و من المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حبّ يوسف و المبالغة في أمره بما لا ينبغي.

و يظهر من الآية و ما يرتبط بها من الآيات أنّه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو و كان له اثنا عشر ابنا و هم أولاد علّة، و كان عشرة منهم كبارا هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة يدور عليهم رحى حياته و يدبّر بأيديهم اُمور أمواله و مواشيه، و كان اثنان منهم صغيرين أخوين لاُمّ واحدة في حجر أبيهما و هما يوسف و أخوه لاُمّه و أبيه، و كان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبّهما حبّاً شديداً لما يتفرّس في ناصيتهما من آثار الكمال و التقوى لا لهوى نفسانيّ فيهما كيف؟ و هو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) - ص: ٤٦ و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

فكان هذا الحبّ و الإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما و يؤجّج نائرة الأضغان منهم عليهما و يعقوب (عليه السلام) يتفرّس ذلك و يبالغ في حبّهما و خاصّة في حبّ يوسف و كان يخافهم عليه و لا يرضى بخلوتهم به و لا يأمنهم عليه و ذلك يزيد في حسدهم

٩٧

و غيظهم فصار يتفرّس من وجوههم الشرّ و المكر كما مرّت استفادته من قوله:( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) حتى رأى يوسف الرؤيا و قصّها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه و ازداد حبّه له و وجده فيه، و أوصاه أن يكتم رؤياه و لا يخبر إخوته بها لعلّه يأمن بذلك كيدهم لكنّ التقدير غلب تدبيره.

فاجتمع الكبار من بني يعقوب و تذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم و ما يصنعه بيوسف و أخيه حيث يشتغل بهما عنهم و يؤثرهما عليهم و هما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل و هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة أركان حياته و أياديه الفعّالة في دفع كلّ رزيّة عادية و جلب منافع المعيشة و إدارة الأموال و المواشي، و ليس من حسن السيرة و استقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القويّة على قوّتهم فذمّوا سيرة أبيهم و حكموا بأنّه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.

و لم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتّى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعيّة كما توفّرت بذلك شواهد الآيات و قد تقدّمت الإشارة إليها.

و بذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية:

منها: ما ذكره بعضهم أنّ هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل و المساواة جهل مبين و خطأ كبير لعلّ سببه اتّهامهم إيّاه بإفراطه في حبّ اُمّهما من قبل فيكون مثاره الأوّل اختلاف الاُمّهات بتعدّد الزوجات و لا سيّما الإماء منهنّ(١) و هو الّذي أضلّهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم و كانا أصغر أولاده.

____________________

(١) إشارة إلى ما في التوراة أن يعقوب كان له من الأولاد اثنا عشر ولدا ذكرا و هم راوبين و شمعون و لاوى و يهوذا و يساكر و زبولون و هؤلاء من ليئة بنت خاله، و يوسف و بنيامين من راحيل بنت خاله الأخرى. و دان و نفتالى من جارية راحيل، و جاد و أشير من زلفة جارية ليئة.

٩٨

قال: و من فوائد القصّة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد و تربيتهم على المحبّة و العدل، و إنّقاء وقوع التحاسد و التباغض بينهم و منه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعدّه المفضول إهانة له و محاباة لأخيه بالهوى، و قد نهى عنه النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) مطلقا، و منه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضّل الله تعالى بالمواهب الفطريّة كمكارم الأخلاق و التقوى و العلم و الذكاء.

و ما كان يعقوب بالّذي يخفى عليه هذا و ما نهى يوسف عن قصّ رؤياه عليهم إلّا من علمه بما يجب فيه، و لكن ما يفعل الإنسان بغريزته و قلبه و روحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلّا. انتهى.

أمّا قوله: إنّ منشأ حسدهم و بغيهم اختلاف الاُمّهات و خاصّة الإماء منهنّ إلخ ففيه: أنّ استدعاء اختلاف الاُمّهات اختلاف الأولاد و إن كان ممّا لا يسوغ إنكاره، و وجود ذلك في المورد محتمل، لكنّ السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، و لو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به و لم يقنعوا به.

و أمّا قوله:( و هو الّذي أضلّهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم ) و مفاده أنّ محبّة يعقوب ليوسف إنّما كانت رقّة و ترحّما غريزيّاً منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.

ففيه: أنّ هذا النوع من الحبّ المشوب بالرقّة و الترحّم ممّا يسلّمه الكبار للصغار و ينقطعون عن مزاحمتهم و معارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم و ضعفائهم و اعترضوا بأنّ ذلك خلاف التعديل و التسوية فاُجيبوا بأنّهم صغار ضعفاء يجب أن يرقّ لهم و يرحموا و يعانوا حتّى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا و انقطعوا عن الاعتراض و أقنعهم ذلك.

فلو كانت صورة حبّ يعقوب ليوسف و أخيه صورة الرقّة و الرأفة و الرحمة

٩٩

لهما لصغرهما و هي الّتي يعهدها كلّ من العصبة في نفسه و يذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها و لم يذمّوا أباهم عليها و لكان قولهم:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) دليلا عليهم يدلّ على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدلّ على ضلال أبيهم في زيادة حبّه لهما.

على أنّهم قالوا لأبيهم حينما كلّموا أباهم في أمر يوسف:( ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) و من المعلوم أنّ إكرامه ليوسف و ضمّه إليه و مراقبته له و عدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبّة بالرقة و الرحمة له و لصغره و ضعفه.

و أمّا قوله: و ما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال و معناه أنّ هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأنّ ذلك خلاف العدل و الإنصاف و أنّه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثمّ تعذيره بأنّ مخالفة هوى القلب و علقة الروح ممّا لا يستطيعه الإنسان.

ففيه أنّه إفساد للاُصول المسلّمة العقليّة و النقليّة الّتي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء و العلماء بالله من الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و ما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أنّ الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلّق بها و محق الرذائل النفسانيّة الّتي أصلها و أساسها اتّباع هوى النفس و إيثار مرضاة الله سبحانه على كلّ مرضاة و بغية، و هذا أمر نرجوه من كلّ من ارتاض بالرياضات الخلقيّة من أهل التقوى و الورع فما الظنّ بالأنبياء ثمّ بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم.

و ليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الاُمور فما معنى هذه الأوامر و النواهي الجمّة في الدين المتعلّقة بها؟ و هل هي إلّا مجازفة صريحة.

على أنّ فيما ذكره إزراءً لمقامات أنبياء الله و أوليائه و حطّا لمواقفهم العبوديّة إلى درجة المتوسّطين من الناس اُسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربّهم، و قد عرّف سبحانه الأنبياءه بمثل قوله:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأنعام:

١٠٠

٨٧ و قال في يعقوب و أبويه إبراهيم و إسحاق (عليه السلام):( وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: ٧٣، و قال فيهم أيضاً:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦.

فأخبر أنّه هداهم إلى مستقيم صراطه و لم يقيّد ذلك بقيد، و أنّه اجتباهم و جمعهم و أخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك. فلا يبتغون إلّا ما يريده من الحقّ و لا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، و قد كرّر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان و استثنى المخلصين:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

فالحقّ أنّ يعقوب إنّما كان يحبّ يوسف و أخاه في الله سبحانه لما كان يتفرّس منهما التقوى و الكمال و من يوسف خاصّة ما كانت تدلّ عليه رؤياه أنّ الله سيجتبيه و يعلّمه من تأويل الأحاديث و يتمّ نعمته عليه و على آل يعقوب، و لم يكن حبّه هوى ألبتّة.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ مرادهم من قولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ضلاله في الدين، و قد عرفت أنّ سياق الآيات الكريمة يدفعه.

و يقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء و إنّما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته و العدول في أمرهم عن العدل و الاستقامة، و إذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية و الظلم في أخيهم و أبيهم. أجابوا عنه بأنّ ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوّة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوّة و ربّما اُجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغاراً مراهقين و من الجائز صدور أمثال هذه الاُمور عن الأطفال المراهقين. و هذه أوهام مدفوعة، و ليس قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) النساء: ١٦٣ الظاهر في نبوّة الأسباط صريحاً في إخوة يوسف.

١٠١

و الحقّ أنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف و أذنبوا بما ظلموا يوسف الصدّيق ثمّ تابوا إلى ربّهم و أصلحوا و قد استغفر لهم يعقوب و يوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) الآية: ٩٨ من السورة بعد قولهم:( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ) و عن يوسف قوله:( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الآية: ٩٢ من السورة بعد اعترافهم له بقولهم:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) .

و منها: قول بعضهم: إنّ إخوة يوسف إنّما حسدوه بعد ما قصّ عليهم رؤياه و قد كان يعقوب نهاه أن يقصّ رؤياه على إخوته و الحقّ أنّ الرؤيا إنّما أوجبت زيادة حسدهم و قد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) تتمّة قول إخوة يوسف و الآية تتضمّن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الّذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطّة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله:( وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ) الآية ١٠٢ من السورة.

و قد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث:( قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ - إلى قوله -إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

فأوردوا أوّلا ذكر مصيبتهم في يوسف و أخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما و جذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها و لا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، و هذه محنة حالّة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيّتهم و خيبة مسعاهم و ذلّتهم بعد العزّة و ضعفهم بعد القوّة، و هو انحراف من يعقوب في سيرته و طريقته.

ثمّ تذاكروا ثانياً في طريق التخلّص من الرزيّة بطرح كلّ منهم ما هيّأه من الخطّة و يراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، و آخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه و اللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه

١٠٢

و يمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم و ينبسط حبّه و حبائه فيهم.

ثمّ اتّفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني و هو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيّارة و يذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره و يعفى أثره.

فقوله تعالى:( اقْتُلُوا يُوسُفَ ) حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، و في ذكرهم يوسف وحده - و قد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف و أخاه معا:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا ) - دليل على أنّه كان مخصوصا بمزيد حبّ يعقوب و بلوغ عنايته و اهتمامه و إن كان أخوه أيضاً محبوّاً بالحبّ و الإكرام من بينهم و كيف لا؟ و يوسف هو الّذي رأى الرؤيا و بشّر بأخصّ العنايات الإلهيّة و الكرامات الغيبيّة، و قد كان أكبرهما و الخطر المتوجّه من قبله إليهم أقرب ممّا من قبل أخيه، و لعلّ في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حبّ يعقوب لاُمّهما الموجب لحبّه بالطبع لهما و تهييج حسد الإخوة و غيظهم و حقدهم بالنسبة إليهما.

و قوله:( أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضا ) حكاية رأيهم الثاني فيه، و المعنى صيّروه أو غرّبوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره و يستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء و نظير ذلك.

و الدليل عليه تنكير( أرض ) و لفظ الطرح الّذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أو الأثاث الّذي يستغني عنه و لا ينتفع به للإعراض عنه.

و في نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أنّ مجموع الرأيين كان هو المرضيّ عند أكثر الإخوة حتّى قال قائل منهم:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) إلخ.

و قوله:( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) أي افعلوا به أحد الأمرين حتّى يخلو لكم وجه أبيكم و هو كناية عن خلوص حبّه لهم بارتفاع المانع الّذي يجلب الحبّ و العطف إلى نفسه كأنّهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم و اختصّ حبّه بهم و انحصر إقباله عليهم.

١٠٣

و قوله:( وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) أي و تكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - و المال واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.

و في هذا دليل على أنّهم كانوا يرونه ذنبا، و إثما، و كانوا يحترمون أمر الدين و يقدّسونه لكن غلبهم الحسد و سوّلت لهم أنفسهم اقتراف الذنب و ارتكاب المظلمة و آمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكّنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهيّة و هو أن يقترفوا الذنب ثمّ يتوبوا.

و هذا من الجهل فإنّ التوبة الّتي شأنها هذا الشأن غير مقبولة ألبتّة فإنّ من يوطّن نفسه من قبل على المعصية ثمّ التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله و الخضوع لمقامه حقيقة بل إنّما يقصد المكر بربّه في دفع ما أوعده من العذاب و العقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطّن عليه نفسه أوّلاً: أن يذنب فيتوب فهي في الحقيقة تتمّة ما رامه أوّلا من نوع المعصية و هو الذنب الّذي تعقّبه توبة و ليست رجوعا إلى ربّه بالندم على ما فعل. و قد تقدّم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) الآية: النساء: ١٧ في الجزء الرابع من الكتاب.

و قيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا و انتظام الاُمور فيها و المعنى و تكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.

قوله تعالى: ( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) الجبّ هو البئر الّتي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، و إن بني بها سمّيت البئر طويّا، و الغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الّذي يغيب ما فيه من الأنظار و غيابة الجبّ قعره الّذي لا يرى لما فيه من الظلمة.

و قد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الّذي يشير إليه قوله:( أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضا ) إلّا أنّه قيّده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدّي

١٠٤

إلى هلاكه كأن يلقى في بئر و يترك فيها حتّى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمّن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبّب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكاً لذي رحم، و هو أن يلقى في بعض الآبار الّتي على طريق المارّة حتّى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه و يسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره و تقطع خبره، و السياق يشهد بأنّهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر ردّ منهم بالنسبة إليه و قد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.

و اختلف المفسّرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنّه كان أحد إخوته لقوله تعالى:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ) فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، و قيل: هو يهوذا، و قد كان أسنّهم و أعقلهم، و قيل: هو لاوى، و لا يهمّنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتّب فائدة هامّة عليه.

و ذكر بعضهم أنّ تعريف الجبّ باللّام يدلّ على أنّه كان جبّاً معهوداً فيما بينهم. و هو حسن لو لم يكن اللّام للجنس، و قد اختلفوا أيضاً في أنّ هذا الجبّ أين كان هو؟ على أقوال مختلفة لا يترتّب على شي‏ء منها فائدة طائلة.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) أصل( لا تَأْمَنَّا ) لا تأمننا ثمّ اُدغم بالإدغام الكبير.

و الآية تدلّ على أنّ الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجبّ، و أجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف و يفعلوا به ما عزموا عليه و قد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف و لا يخلّيه و إيّاهم فكان من الواجب قبلا أن يزكّوا أنفسهم عند أبيهم و يجلّوا قلبه من كدر الشبهة و الارتياب حتّى يتمكّنوا من أخذه و الذهاب به. و لذلك جاءوا أباهم و خاطبوه بقولهم:( يا أَبانا - و فيه إثارة للعطف و الرحمة و إيثار للمودّة -ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) أي و الحال أنّا لا نريد به إلّا الخير و لا نبتغي إلّا ما يرضيه و يسرّه.

ثمّ سألوه ما يريدونه و هو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الّذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم و غنمهم ليرتع و يلعب هناك، و هم حافظون له فقالوا:( أَرْسِلْهُ مَعَنا ) إلخ.

١٠٥

قوله تعالى: ( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الرتع هو توسّع الحيوان في الرعي و الإنسان في التنزّه و أكل الفواكه و نحو ذلك.

و قولهم:( أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ ) اقتراح لمسئولهم كما تقدّمت الإشارة إليه و قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أكّدوه بوجوه التأكيد: إنّ و اللّام و الجملة الاسميّة على وزان قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) كما يدلّ أنّ كلّ واحدة من الجملتين تتضمّن نوعاً من التطييب لنفس أبيهم كأنّهم قالوا: ما لك لا تأمّنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيّانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنّا له لناصحون و إن كنت تخاف عليه غيرنا ممّا يصيبه أو يقصده بسوء كأن يدهمه المكروه و نحن مساهلون في حفظه و مستهينون في كلاءته فإنّا له لحافظون.

فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعيّ: ذكروا أوّلا أنّه في أمن من ناحيتهم دائماً ثمّ سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثمّ ذكروا أنّهم حافظون له ما دام عندهم، و بذلك يظهر أنّ قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) تأمين له دائميّ من ناحية أنفسهم، و قولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) تأمين له موقت من غيرهم.

قوله تعالى: ( قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) هذا ما ذكر أبوهم جواباً لما سألوه، و لم ينف عن نفسه أنّه لا يأمنهم عليه و إنّما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانيّة لو ذهبوا به فقال و قد أكّد كلامه:( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ) و قد كشف عن المانع أنّه نفسه الّتي يحزنها ذهابهم به و لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم و لئلّا يهيّج ذلك عنادهم و لجاجهم و هو من لطائف النكت.

و اعتذر إليهم في ذلك بقوله:( وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) و هو عذر موجّه فإنّ الصحاري ذوات المراتع الّتي تأوي إليها المواشي و ترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها و تكمن فيها للافتراس و الاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم و يغفلوا عنه فيأكله الذئب.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ) تجاهلوا

١٠٦

لأبيهم كأنّهم لم يفقهوا إلّا أنّه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردّوه ردّ منكر مستغرب، و ذكروا لتطييب نفسه أنّهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس و شدّة، و أقسموا بالله إنّ أكل الذئب إيّاه و هم عصبة يقضي بخسرانهم و لن يكونوا خاسرين ألبتّة، و إنّما أقسموا - كما يدلّ عليه لام القسم - ليطيّبوا نفسه و يذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، و هذا شائع في الكلام، و في الكلام وعد ضمنيّ منهم له أنّهم لن يغفلوا، لكنّهم لم يلبثوا يوماً حتّى كذّبوا أنفسهم فيما أقسموا له و أخلفوه ما وعدوه إذ قالوا:( يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) الآية.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصّل إليه بالفكرة نحو فأَجمعوا أَمركم و شركاءكم. قال: و يقال: أجمع المسلمون على كذا اتّفقت آراؤهم عليه. انتهى.

و في المجمع: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجبّ أي قعر البئر و اتّفقت دواعيهم عليه فإنّ من دعاه داع واحد إلى الشي‏ء لا يقال فيه إنّه أجمع عليه فكأنّه مأخوذ من اجتماع الدواعي. انتهى.

و الآية تشعر بأنّهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول و أرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجبّ.

و جواب لمّا محذوف للدلالة على فجاعة الأمر و فظاعته، و هي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلّم يصف أمراً فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب و لا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه و الأحوال الّتي تؤدّي إليه فيجري في وصفه حتّى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثمّ وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدلّ بذلك على أنّ صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلّم أن يصرّح به و لا يطيق السامع أن يسمعه.

١٠٧

فكأنّ الّذي يصف القصّة - عزّ اسمه - لمّا قال:( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) سكت مليّا و أمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى و أسفا لأنّ السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبيّ ابن الأنبياء و لم يأت بجرم يستحقّ به شيئاً ممّا ارتكبوه فيه و هم إخوته و هم يعلمون مبلغ حبّ أبيه النبيّ الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصدّيق بأيدي إخوته، و يثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، و يزيّن بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربّوا في حجر النبوّة و نشئوا في بيت الأنبياء.

و لمّا حصل الغرض بالسكوت عن جواب لمّا جرى سبحانه في ذيل القصّة فقال:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الضمير ليوسف و ظاهر الوحي أنّه من وحي النبوّة، و المراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إيّاه في غيابة الجبّ، و كذا الظاهر أنّ جملة( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله:( وَ أَوْحَيْنا ) إلخ و متعلّق( لا يَشْعُرُونَ ) هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي و هم لا يشعرون بما أوحينا إليه.

و المعنى - و الله أعلم - و أوحينا إلى يوسف اُقسم لتخبرنّهم بحقيقة أمرهم هذا و تأويل ما فعلوا بك فإنّهم يرونه نفيا لشخصك و إنساء لاسمك و إطفاء لنورك و تذليلا لك و حطّا لقدرك و هو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزّة و عرش المملكة و إحياء لذكرك و إتمام لنورك و رفع لقدرك و هم لا يشعرون بهذه الحقيقة و ستنبّؤهم بذلك و هو قوله لهم و قد اتّكى على أريكة العزّة و هم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم:( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) إذ قال:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ - إلى أن قال -أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) إلخ.

انظر إلى موضع قوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ) فإنّه إشارة إلى أنّ هذا الّذي

١٠٨

تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، و قوله:( إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فإنّه يحاذي من هذه الآية الّتي نحن فيها قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

و قيل: في معنى الآية وجوه اُخر:

منها: أنّك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، و هو الّذي أخبرهم به في مصر و هم لا يعرفونه ثمّ عرّفهم نفسه.

و منها: أنّ المراد بإنبائه إيّاهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعّد من أساء إليه فيقول: لاُنبّئنّك و لاُعرّفنّك.

و منها: قول بعضهم كما روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بإنبائه إيّاهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم و هم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظنّ فقال: إنّ هذا الجام يخبرني أنّكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجبّ و بعتموه بثمن بخس.

و هذه وجوه لا تخلو من سخافة و الوجه ما قدّمناه، و قد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى:( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) المائدة: ١٠٥ و قوله:( وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) المائدة: ١٤ و قوله:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) المجادلة: ٦ إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.

و منها: قول بعضهم: إنّ المعنى و أوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك و هم لا يشعرون بهذا الوحي. و هذا الوجه غير بعيد لكنّ الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد و لا حاجة إليه ظاهرا.

و منها: قول بعضهم: إنّ معنى الآية لتخبرنّهم برقيّ حياتك و عزّتك و ملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم و يذلّهم لك و يجعل رؤياك حقّا و هم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.

و عمدة الفرق بين هذا القول و ما قدّمناه من الوجه أنّ في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلاميّ إلى الإنباء بالحال الخارجيّ و الوضع العينيّ، و لا

١٠٩

موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله:( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ) العشاء آخر النهار، و قيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، و إنّما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدّقهم فيما يقولون و لا يكذّبهم.

قوله تعالى: ( قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل السبق التقدّم في السير نحو( فَالسَّابِقاتِ سَبْقا ) و الاستباق التسابق و قال:( إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) ( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) انتهى، و قال الزمخشريّ في الكشّاف: نستبق أي نتسابق، و الافتعال و التفاعل يشتركان كالانتضال و التناضل و الارتماء و الترامي و غير ذلك، و المعنى نتسابق في العدو أو في الرمي. انتهى.

و قال صاحب المنار في تفسيره: إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلّف كلّ منّا أن يسبق غيره فالاستباق تكلّف السبق و هو الغرض من المسابقة و التسابق بصيغتي المشاركة الّتي يقصد بها الغلب. و قد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، و منه( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، و قوله الآتي في هذه السورة( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتّباعه إرجاعه، و صيغة المشاركة لا تؤدّي هذا المعنى، و لم يفطن الزمخشريّ علّامة اللغة و من تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.

أقول: و الّذي مثل به من قوله تعالى:( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) من موارد الغلب فإنّ من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات و المثوبات و القربات و أن يتقدّم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق و كذا قوله تعالى:( وَ اسْتَبَقَا الْبابَ ) فإنّ المراد به قطعا أنّ كلّا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه و هذه لتمنعه من الفتح و هو معنى التسابق فالحقّ أنّ معنيي الاستباق و التسابق متّحدان صدقا على المورد،

١١٠

و في الصحاح: سابقته فسبقته سبقا و استبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى، و في لسان العرب: سابقته فسبقته، و استبقنا في العدو، أي تسابقنا. انتهى.

و لعلّ الوجه في تصادق استبق و تسابق أنّ نفس السبق معنى إضافيّ في نفسه، وزنة (افتعل) تفيد تأكّد معنى (فعل) و إمعان الفاعل في فعله و أخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب و اكتسب و حمل و احتمل و صبر و اصطبر و قرب و اقترب و خفي و اختفى و جهد و اجتهد و نظائرها، و طروّ هذه الخصوصيّة على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخصّ السبق لنفسه و لا يتمّ إلّا مع تسابق في المورد.

و قوله:( بِمُؤْمِنٍ لَنا ) أي بمصدّق لقولنا، و الإيمان يتعدّى باللّام كما يتعدّى بالباء قال تعالى:( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) العنكبوت: ٢٦.

و المعنى - أنّهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنّا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي - و لعلّه كان في عدو - فإنّ ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم و متاعهم و كان عنده يوسف على ما ذكروا - و تركنا يوسف عند رحلنا و متاعنا فأكله الذئب، و من خيبتنا و مسكنتنا أنّك لست بمصدّق لنا فيما نقوله و نخبر به و لو كنّا صادقين فيه.

و قولهم:( وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ ) كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدّت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أنّ كلامه غير موجّه عند من يعتذر إليه و عذره غير مسموع و هو يعلم بذلك لكنّه مع ذلك مضطرّ أن يخبر بالحقّ و يكشف عن الصدق و إن كان غير مصدّق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.

قوله تعالى: ( وَ جاؤُا عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) الكذب بالفتح فالكسر مصدر اُريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بيّن الكذب.

و في الآية إشعار بأنّ القميص و عليه دم - و قد نكّر الدم للدلالة على هوان دلالته و ضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإنّ من

١١١

افترسته السباع و أكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزّق. و هذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب و لا الاُحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه و تناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع و أحوال خارجيّة تحفّ به و تنادي بالصدق و تكشف القناع عن قبيح سريرته و باطنه و إن حسنت صورته.

( كلام في أنّ الكذب لا يفلح)

من المجرّب أنّ الكذب لا يدوم على اعتباره و أنّ الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذّبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادّعاه، و الوجه فيه أنّ الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب و إضافات غير متغيّرة و لا متبدّلة فلكلّ حادث من الحوادث الخارجيّة الواقعة لوازم و ملزومات متناسبة لا ينفكّ بعضها من بعض، و لها جميعا فيما بينها أحكام و آثار يتّصل بعضها ببعض، و لو اختلّ واحد منها لاختلّ الجميع و سلامة الواحد تدلّ على سلامة السلسلة. و هذا قانون كلّيّ غير قابل لورود الاستثناء عليه.

فلو انتقل مثلاً جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأوّل و يبتعد منه و يغيب عنه و عن كلّ ما يلازمه و يتّصل به و يخلو عنه المكان الأوّل و يشغل به الثاني و أن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، و لو اختلّ واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأوّل اختلّت جميع اللوازم المحتفّة به.

و ليس في وسع الإنسان و لا أيّ سبب مفروض إذا ستر شيئاً من الحقائق الكونيّة بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات و الملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالّها الواقعيّة أو يحرّفها عن مجراها الكونيّة فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الاُخرى و إلّا فالثالثة و هكذا.

و من هنا كانت الدولة للحقّ و إن كانت للباطل جولة، و كانت القيمة للصدق و إن تعلّقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ )

١١٢

الزمر: ٣ و قال:( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) المؤمن: ٢٨. و قال:( إِنَّ الّذينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) النحل: ١١٦ و قال:( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ق: ٥ و ذلك أنّهم لمّا عدّوا الحقّ كذبا بنوا على الباطل و اعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختلّ يناقض بعض أجزائه بعضا و يدفع طرف منه طرفا.

قوله تعالى: ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) هذا جواب يعقوب و قد فوجئ بنعي ابنه و حبيبه يوسف دخلوا عليه و ليس معهم يوسف و هم يبكون يخبرونه أنّ يوسف قد أكله الذئب و هذا قميصه الملطّخ بالدم، و قد كان يعلم بمبلغ حسدهم له و هم قد انتزعوه من يده بإلحاح و إصرار و جاؤا بقميصه و عليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه و أخبروا به.

فأضرب عن قولهم:( إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ) إلخ بقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) و التسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، و أبهم الأمر و لم يعيّنه ثمّ أخبر أنّه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم و ينتقم منهم لنفسه انتقاما و إنّما يكظم ما هجم نفسه كظما.

فقوله:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف و بيان أنّه على علم من أنّ فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنّما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) إلى آخر الآية.

و قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) مدح للصبر و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب و التقدير: سأصبر على ما أصابني فإنّ الصبر جميل و تنكير الصبر و حذف صفته و إبهامها للإشارة إلى فخامة أمره و عظم شأنه أو مرارة طعمه و صعوبة تحمّله.

و قد فرّع قوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) على ما تقدّم للإشعار بأنّ الأسباب الّتي أحاطت به و أفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلّا أن يسلك سبيل الصبر، و ذلك أنّه (عليه السلام) فقد أحبّ الناس إليه يوسف و هو ذا يذكر له أنّه صار

١١٣

اُكلة للذئب و هذا قميصه ملطخا بالدم و هو يرى أنّهم كاذبون فيما يخبرونه به، و يرى أنّ لهم صنعا في افتقاده و مكرا في أمره و لا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف و التجسّس ممّا آل إليه أمره و أين هو؟ و ما حاله؟ فإنّما أعوانه على أمثال هذه النوائب و أعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنّما هم أبناؤه و هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة و وقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ و بما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلّا الصبر.

غير أنّ الصبر ليس هو أن يتحمّل الإنسان ما حملّه من الرزيّة و ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة الّتي تطؤها الأقدام و تلعب بها الأيدي فإنّ الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه و جهّزه بما يقدم به على النوائب و الرزايا ما استطاع، و لا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهيّة بل الصبر هو الاستقامة في القلب و حفظ النظام النفساني الّذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانيّة من الاختلال، و ضبط الجمعيّة الداخليّة من التفرّق و التلاشي و نسيان التدبير و اختباط الفكر و فساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، و غيرهم المنهزمون عند أوّل هجمة ثمّ لا يلوون على شي‏ء.

و من هنا يعلم أنّ الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة و كسر سورتها إلّا أنّه ليس تمام السبب في إعادة العافية و إرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصّن به الإنسان لدفع العدوّ المهاجم، و أمّا عود نعمة الأمن و السلامة و حرّيّة الحياة فربّما احتاج إلى سبب آخر يجرّ إليه الفوز و الظفر، و هذا السبب في ملّة التوحيد هو الله عزّ سلطانه فعلى الإنسان الموحّد إذا نابته نائبة و نزلت عليه مصيبة أن يتحصّن أوّلا بالصبر حتّى لا يختلّ ما في داخله من النظام العبوديّ و لا يتلاشى معسكر قواه و مشاعره ثمّ يتوكّل على ربّه الّذي هو فوق كلّ سبب راجيا أن يدفع عنه الشرّ و يوجّه أمره إلى غاية صلاح حاله، و الله سبحانه غالب على أمره، و قد تقدّم شي‏ء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى:( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ٤٥ في الجزء الأوّل من الكتاب.

١١٤

و لهذا كلّه لمّا قال يعقوب (عليه السلام)( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) عقّبه بقوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) فتمّم كلمة الصبر بكلمة التوكّل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) الآية ٨٣ من السورة.

فقوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) - و هو من أعجب الكلام - بيان لتوكّله على ربّه يقول: إنّي أعلم أنّ لكم في الأمر مكرا و أنّ يوسف لم يأكله ذئب لكنّي لا أركن في كشف كذبكم و الحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة الّتي لا تغني طائلا بغير إذن من الله و لا أتشحّط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر و اُوكّل ربّي أن يظهر على ما تصفون أنّ يوسف قد قضى نحبه و صار اُكلة لذئب.

فظهر أنّ قوله:( وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ ) دعاء في موقف التوكّل و معناه: اللّهمّ إنّي توكّلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بنيّ هؤلاء، و الكلمة مبنيّة على توحيد الفعل فإنّها مسوقة سوق الحصر و معناها أنّ الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنّه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقّا إلّا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) ، و لتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر و لم يقل: و الله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه و ذكر اسم ربّه و أنّ الأمر منوط بحكمه الحقّ و هو من كمال توحيده و هو مستغرق في وجده و أسفه و حزنه ليوسف غير أنّه ما كان يحبّ يوسف و لا يتولّه فيه و لا يجد لفقده إلّا لله و في الله.

قوله تعالى: ( وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ) قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره. انتهى، و قال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، و أدليتها إذا أخرجتها. انتهى، و قيل بالعكس، و قال: الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.

و قوله:( قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ ) إيراده بالفصل مع أنّه متفرّع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنّه كان أمرا غير مترقّب الوقوع فإنّ الّذي يترقّب

١١٥

وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم و لذا قال:( قالَ يا بُشْرى) و نداء البشرى كنداء الأسف و الويل و نظائرهما للدلالة على حضوره و جلاء ظهوره.

و قوله:( وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ) مفاده ذمّ عملهم و الإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و يمكن أن يكون المراد به أنّ ذلك إنّما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الّذي قدّر له فإنّه لو لم يخرج من الجبّ و لم يسرّ بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما اُوتيه من الملك و العزّة.

و معنى الآية: و جاءت جماعة مارّة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجبّ ثمّ لمّا أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - و قد تعلّق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع و التجارة و الحال أنّ الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أنّ ذلك كان بعلمه تعالى و كان يسيّر يوسف هذا المسير ليستقرّ في مستقرّ العزّة و الملك و النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) الثمن البخس هو الناقص عن حقّ القيمة، و دراهم معدودة أي قليلة و الوجه فيه - على ما قيل - أنّهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها و لا يعدّون إلّا القليلة منها و المراد بالدراهم النقود الفضّيّة الدائرة بينهم يومئذ، و الشراء هو البيع، و الزهد هو الرغبة عن الشي‏ء أو هو كناية عن الاتّقاء.

و الظاهر من السياق أنّ ضميري الجمع في قوله:( وَ شَرَوْهُ ) ( وَ كانُوا ) للسيّارة و المعنى أنّ السيّارة الّذين أخرجوه من الجبّ و أسرّوه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص و هي دراهم معدودة قليلة و كانوا يتّقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.

و معظم المفسّرين على أنّ الضميرين لإخوة يوسف و المعنى أنّهم باعوا يوسف من السيّارة بعد أن ادّعوا أنّه غلام لهم سقط في البئر و هم إنّما حضروا هناك لإخراجه من الجبّ فباعوه من السيّارة و كانوا يتّقون ظهور الحال.

١١٦

أو أنّ أوّل الضميرين للإخوة و الثاني للسيّارة و المعنى أنّ الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة و كانت السيّارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد و الرغبة لئلّا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أنّ الأمر لا يخلو من مكر و أنّ الغلام ليس فيه سيماء العبيد.

و سياق الآيات لا يساعد على شي‏ء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيّارة و لم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتّى يعود ضمير( وَ شَرَوْهُ ) و( كانُوا ) أو أحدهما إليهم على أنّ ظاهر قوله في الآية التالية:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) أنّه اشتراه متحقّق بهذا الشراء.

و أمّا ما ورد في الروايات (أنّ إخوة يوسف حضروا هناك و أخذوا يوسف منهم بدعوى أنّه عبدهم سقط في البئر ثمّ باعوه منهم بثمن بخس) فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات و لا أنّه يدفع الروايات.

و ربّما قيل: إنّ الشراء في الآية بمعنى الاشتراء و هو مسموع و هو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) السياق يدلّ على أنّ السيّارة حملوا يوسف معهم إلى مصر و عرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر و أدخله في بيته.

و قد أعجبت الآيات في ذكر هذا الّذي اشتراه و تعريفه فذكر فيها أوّلا بمثل قوله تعالى:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) فأنبأت أنّه كان رجلا من أهل مصر، و ثانياً بمثل قوله:( وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ ) فعرّفته بأنّه كان سيّداً مصموداً إليه، و ثالثاً بمثل قوله:( وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ) فأوضحت أنّه كان عزيزا في مصر يسلّم له أهل المدينة العزّة و المناعة، ثمّ أشارت إلى أنّه كان له سجن و هو من شؤون مصدريّة الاُمور و الرئاسة بين الناس، و علم بذلك أنّ يوسف كان ابتيع أوّل يوم لعزيز مصر ملكها و دخل

١١٧

بيت العزّة.

و بالجملة لم يعرّف الرجل كلّ مرّة في كلامه تعالى إلّا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصّة، و لم يكن لأوّل مرّة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنّه كان رجلا من أهل مصر و بها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) .

و كيف كان، الآية تنبئ على إيجازها بأنّ السيّارة حملوا يوسف معهم و أدخلوه مصر و شروه من بعض أهلها فأدخله بيته و وصّاه امرأته قائلا:( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

و العادة الجارية تقضي أن لا يهتمّ السادة و الموالي بأمر أرقّائهم دون أن يتفرّسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة و الرشد، و يشاهد في سيماه الخير و السعادة، و على الخصوص الملوك و السلاطين و الرؤساء الّذين كان يدخل كلّ حين في بلاطاتهم عشرات و مآت من أحسن أفراد الغلمان و الجواري فما كانوا ليتولّعوا في كلّ من اقتنوه و لا ليتولّهوا كلّ من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه و رجاء الانتفاع به أو اتّخاذه ولدا معنى عميق و على الأخصّ من جهة أنّه أمر بذلك امرأته و سيّدة بيته و ليس من المعهود أن تباشر الملكات و العزيزات جزئيّات الاُمور و سفاسفها و لا أن تتصدّى السيّدات المنيعة مكانا، اُمور العبيد و الغلمان.

نعم إنّ يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يولّه الألباب، و كان قد اُوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، و هذه صفات لا تنمو في الإنسان إلّا و أعراقها ناجمة فيه أيّام صباوته و آثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.

فهذه هي الّتي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - و هو طفل صغير - حتّى تمنّى أن ينشأ يوسف عنده في خاصّة بيته فيكون من أخصّ الناس به ينتفع به في اُموره الهامّة و مقاصده العالية أو يدخل في اُرومته و يكون ولداً له و لامرأته بالتبنّي فيعود وارثاً لبيته.

١١٨

و من هنا يمكن أن يستظهر أنّ العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته و لذلك ترجّى أن يتبنّى هو و زوجته يوسف.

فقوله:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ ) أي العزيز( لِامْرَأَتِهِ ) و هي العزيزة( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) أي تصدّي بنفسك أمره و اجعلي له مقاما كريما عندك( عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا ) في مقاصدنا العالية و اُمورنا الهامّة( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) بالتبنّي.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال في المفردات: المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشي‏ء قال و يقال: مكّنته و مكّنت له فتمكّن، قال تعالى:( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ) ( وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) ( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ ) ( وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، و لكثرته في الكلام اُجرى مجرى فعال فقيل: تمكّن و تمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقرّ الشي‏ء من الأرض، و الإمكان و التمكين الإقرار و التقرير في المحلّ، و ربّما يطلق المكان المكانة لمستقرّ الشي‏ء من الاُمور المعنويّة كالمكانة في العلم و عند الناس و يقال: أمكنته من الشي‏ء فتمكّن منه أي أقدرته فقدر عليه و هو من قبيل الكناية.

و لعلّ المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتّع من مزايا الحياة و التوسّع فيها بعد ما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض و يتغرّب عن أرضه و مستقرّ أبيه.

و قد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصّته مرّتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجبّ و تسيير السيّارة إيّاه إلى مصر و بيعه من العزيز و هو قوله في هذه الآية( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) و ثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز و انتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) الآية ٥٦ من السورة و العناية في

١١٩

الموضعين واحدة.

و قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجبّ و بيعه و استقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الّذي حصل له من دخوله في بيت العزيز و استقراره فيه على أهناء عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشي‏ء بنفسه ليدلّ به على غزارة الأوصاف المذكورة له و ليس من القسم المذموم من تشبيه الشي‏ء بنفسه كقوله:

كأنّنا و الماء من حولنا

قوم جلوس حولهم ماء

بل المراد أنّ ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الّذي وصفناه و أخبرنا عنه فهو يتضمّن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمّنه ما حدّثناه فهو تلطّف في البيان بجعل الشي‏ء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه و أهميّتها و تعلّق النفس بها كما هو شأن التشبيه.

و من هذا الباب قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: ١١ و قوله تعالى:( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) الصافّات: ٦١ و المراد أنّ كلّ ما اتّصف من الصفات بما اتّصف به الله سبحانه لا يشبهه و لا يماثله شي‏ء، و أن كلّ ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنّة و ماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.

و إن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلّيّ ببعض أفراده ليدلّ به على أنّ سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكلّ ببعض أجزائه للدلالة على أنّ الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصّة خروجه من الجبّ و دخوله مصر و استقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإنّ إخوته حسدوه و حرّموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجبّ و سلبوه نعمة التمتّع في وطنه في البادية و باعوه من السيّارة ليغرّبوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسّل به إلى

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431