الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

الغدير في الكتاب والسنة والأدب12%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 461

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 461 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128110 / تحميل: 6594
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ألجزء الخامس

بقية شعراء الغدير في القرن

السادس وشعراءه في القرن السابع

وهم اثنى عشر شاعراً

والله المستعان

وفي هذا الجزء من أهمِّ الأبحاث العلميَّة الدينيَّة

مالا غنى عنه لكلِّ دينيّ إبتغى الحقّ وارتاد الحقيقة

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

أحمدك أللهمَّ يا من تجلّيت للقلوب بالعظمة، واحتجبت عن الأبصار بالعزَّة، واقتدرت على الأشياء بالقدرة، فلا الأبصار تثبت لرؤيتك، ولا الأوهام تبلغ كنه عظمتك، ولا العقول تدرك غاية قدرتك.

حمداً لك يا سبحان! على ما مننت به علينا من النعم الجسيمة وأسبغتها، وتفضَّلت بالآلاء الجمَّة، وألحمت ما أسديت، وأجبت ما سُئلت، وهي كما تقول: وآتاكم من كلِّ ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها.

حمداً لك يا متعال! على ما طهَّرتنا به من دنس الكفر ودرن الشِّرك، وأوضحت به لنا سبل الهداية، ومناسك الوصول إليك، من بعث أفضل رسلك وأعظم سفراءك، وخاتم أنبياءكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابك العزيز، لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.

حمداً لك يا ذا الجلال! على ما أتممت به نعمك، وأكملت به دين نبيِّك من ولاية أمير المؤمنين أخي رسولك، وأبي ذريَّته، وسيِّد عترته، وخليفته من بعده، وأنزلت فيها القرآن وقلت: أليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا.

حمداً لك يا عزيز! على ما وفَّقتنا له من إتِّباع نبي ِّ ك المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليفتيه في اُمَّته، كتابك الكريم وعترته أهل بيته الذين فرضت علينا طاعتهم، وأمرتنا بمودَّتهم وجعلتها أجر الرسالة الخاتمة وسمَّيتها بالحسنة وقلت: ومَنْ يقترف حسنةً نزد له فيها حُسناً إنَّ الله غفورٌ شكورٌ.

ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريَّتي إنّي تبت إليك وإنّي من المسلمين.

الأميني

٢

بقّية شعراء الغدير

في القرن السّادس

٥٣

ألسيد محمد الاقساسي

ألمتوفّى ح ٥٧٥

وحقِّ عليٍّ خير مَن وطأ الثرى

وأفخر مَن بعد النبيِّ قد افتخرْ

خليفته حقّاً ووارث علمه

به شرّفت عدنان وافتخرت مضرْ

ومن قام في يوم « الغدير » بعضده

نبيُّ الهدى حقّاً فسائل به عمرْ

ومن كسر الأصنام لم يخش عارها

وقد طال ما صلّى لها عصبةٌ اُخرْ

وصهر رسول الله في ابنته التي

على فضلها قد أنزل الآي سورْ

أليِّة عبد حقِّ من لا يرى له

سوى حبِّه يوم القيامة مدَّخرْ

لأحزنني يوم الوداع وسرَّني

قدومك بالجلّى من الأمن والظفرْ

عارض الشاعر بهذه الأبيات بيتين لبعض العامَّة وهما:

وحقِّ إبي بكر الذي هو خير مَن

على الأرض بعد المصطفى سيِّد البشرْ

لقد أحدث التَّوديع عند وداعنا

لواعجه بين الجوانح تستعرْ(١)

( ألشاعر )

محمَّد بن علي بن فخر الدين أبي الحسين حمزة بن كمال الشرف أبي الحسن محمَّد ابن أبي القاسم الحسن الأديب إبن أبي جعفر محمَّد بن علي الزاهد إبن محمَّد الأصغر الأقساسي إبن يحيى بن الحسين ذي العبرة إبن زيد الشهيد بن الإمام عليِّ بن الحسين عليهما السَّلام.

( آل الأقساسي ) من أرفع البيوت العلويَّة لها أغصانٌ باسقةٌ موصولةٌ بالدوح

____________________

١ - الطليعة في شعراء الشيعة ٢ مخطوط.

٣

النبويِّ اليافع، بزغت بهم العراق عصوراً متطاولة، وإن كان منبعث غرسهم الزّاكي الكوفة من قرية كبيرة أو كورة يقال لها: أقساس مالك(١) وهم بين عالمٍ مُتبحِّر، و مُحدِّثٍ ثقة، ولغويٍّ متضلّع، وشاعرٍ متأنِّق، وأميرٍ ظافرٍ، ونقيب فاضلٍ وأوَّل من عرف بهذه النسبة السيِّد محمَّد الأصغر إبن يحيي. وأولاده تتشعَّب عدّة شعب منهم:

بنو جوذاب وهم: أولاد عليِّ محمَّد الأصغر. و

بنو الموضح أولاد أحمد بن محمّد الأصغر. و

بنو قرَّة العين أولاد أحمد بن عليِّ الزاهد بن محمَّد الأصغر. و

بنو صعوة أولاد أحمد بن محمَّد بن عليِّ الزاهد بن محمَّد الأصغر. ومن بني صعوة طاهر بن أحمد ذكره السمعاني في « الأنساب » فقال: طاهر بن أحمد بن محمَّد بن علي الأقساسي كان يُلقَّب بصعوة، وكان ديِّناً ثقةً يروي عن أبي الحسن بن محمَّد بن سليمان العربي العدوي عن حراش عن أنس بن مالك.

والأقساسيّون هم سلسلة المترجم. جدّه الأعلى أبو القاسم الحسن الأقساسي المعروف بالأديب إبن أبي جعفر محمَّد ترجمه إبن عساكر في « تاريخ الشام » ٤ ص ٢٤٧ فقال: إنَّه قدم دمشق وكان أديباً شاعراً دخل دمشق في المحرَّم سنة ٣٤٧ ونزل في الحرمين وكان شيخاً مهيباً نبيلاً حسن الوجه والشيبة، بصيراً بالشعر واللغة يقول الشعر، من أجود آل أبي طالب حظّاً، وأحسنهم خلقاً، وكان يُعرف بالأقساسي نسبة إلى موضوع نحو الكوفة.

وقال إبن الفوطي كما في المحكَي عن مجمع آدابه: سافر الكثير وكان قد تأدَّب وكتب مليحاً وله جماعةٌ من الأصحاب قرأت بخطِّه إلى إبن نباتة السعدي:

إنَّ العراق ولا أغشّك ثُلّةٌ

قد نام راعيها فأين الذيبُ

بنيانها الخراب وأهلها

سوط العذاب عليهمُ مصبوبُ

ملكوا وسامهم الدنيَّة معشرٌ

لا العقل راضهمُ ولا التهذيبُ

____________________

١ - معجم البلدان ١ ص ٣١٢: منسوبة الى مالك بن عبد هند بن نجم « بضم الاول وفتح الثاني » بن منعة بن برجان « الى آخر النسب » والقس: تتبع الشى وطلبه، وجمعه: أقساس فيجوز أن يكون مالك تطلب هذا الموضوع وتتبع عمارته فسمى بذلك.

٤

كلُّ الفضائل عندهم مهجورةٌ

والحرُّ فيهم كالسّماح غريبُ

وكمال الدين الشرف أبو الحسن(١) محمَّد بن أبي القاسم الحسن المذكور ولّاه الشريف علم الهدى [ المترجم في شعراء القرن الخامس ] نقابة الكوفة وإمارة الحاجِّ فحجَّ بالناس مراراً وتوفّي سنة ٤١٥ كما في كتب التاريخ(٢) ورثاه الشريف المرتضى بقوله(٣) :

عرفتُ ويا ليتني ما عرفت

فمرُّ الحياة لمن قد عرفْ

فها أنا ذا طول هذا الزَّمان

بين الجوى تارةً والأسفْ

فمن راحلٍ لا أياب له

وماضٍ وليس له من خلفْ

فلا الدَّهر يمتعني بالمقيم

ولا هو يرجع لي من سلفْ

أرونيَ إن كنتمُ تقدرون

من ليس يكرع كأس التلفْ؟

ومن ليس رهناً لداعي الحمام

إذا ما دعا باسمه أو هتفْ؟

وما الدَّهر إلّا الغرور الخدوع

فماذا الغرام به والكلفْ؟

وما هو إلّا كلمح البروق

وإلّا هبوبٌ خريفٌ عصفْ

ولم أر يوماً وإن ساءني

كيوم حمام « كمال الشرفْ »

كأنِّيَ بعد فراق له

وقطع لأسباب تلك الألفْ

أخو سفرٍ شاسعٍ ما لهُ

من الزّاد إلّا بقايا لطف

وعوَّضني بالرُّقاد السّهاد

وأبدلني بالضياء السّرفْ

فراقٌ وما بعده ملتقى

وصدٌّ وليس له منعطفْ

وعاتبت فيك صروف الزمان

ومن عاتب الدهر لم ينتصفْ

وقد خطف الموت كلَّ الرجال

ومثلك من بيننا ما خطفْ

وما كنتَ إلّا أبيّ الجنان

على الضيم محتمياً بالأنفْ

____________________

١ - كناه العلم الحجة السيد ابن طاووس في كتاب « اليقين » بأبي يعلى.

٢ - منتظم ابن الجوزي ٨ ص ١٩، كامل ابن الاثير ٩ ص ١٢٧، تاريخ ابن كثير ١٢ ص ١٨، مجالس المؤمنين ص ٢١١.

٣ - توجد القصيدة في ديوان الشريف المرتضى المخطوط. وذكر منها أبياتا ابن الجوزي في المنتظم ٨ ص ٢٠.

٥

خليّاً من العار صفر الأزار

مدى الدَّهر من دنس أو نطفْ

واُذري الدُّموع ويا قلّما

يردّ الفوائت دمعٌ ذرفْ

ومن أين ترنو إليك العيون

وأنت ببوغائها في سخفْ؟

فبن ما مللت وكم بائن

مضى موسعاً من قلى أو شنفْ

وسقِّي ضريحك بين القبور

من البرّ ما شئته واللطفْ

ولا زال من جانبيه النسيم

يعاوده والرياض الأنفْ

وصيّرك الله من قاطني

الجنان وسكّان تلك الغرفْ

تجاور آباءك الطاهرين

ويتَّبع السالفين الخلفْ

قال ابن الأثير في « الكامل » ٩ ص ١٢١: حجَّ بالناس أبو الحسن الأقساسي سنة ٤١٢ فلمّا بلغوا فيد حصرهم العرب فبذل لهم الناصحي(١) [ أبو محمَّد قاضي القضاة ] خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا، وصمَّموا العزم على أخذ الحاجِّ وكان مقدّمهم رجلا يُقال له حمار بن عُدي [بضمّ العين ] من بني نبهان فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه وجال جولة يرهب بها، وكان من سمرقند شابُّ يوصف بجودة الرمي، فرماه بسهم فقتله وتفرَّق أصحابه وسلم الحاجّ فحجّوا وعادوا سالمين.

وقال في ص ١٢٧: في هذه السنة « يعني ٤١٥ » عاد الحجّاج من مكّة إلى العراق على الشّام لصعوبة الطريق المعتاد، وكانوا لما وصلوا إلى مكّة بذل لهم الظاهر العلوي صاحب مصر أموالاً جليلة، وخلعاً نفيسةً، وتكلّف شيئاً كثيراً وأعطى لكلّ رجل في الصحبة جملةً من المال ليظهر لأهل خراسان ذلك، وكان على تسيير الحاجِّ الشريف أبو الحسن الأقساسي، وعلى حجّاج خراسان « حسنك » نايب يمين الدولة إبن سبكتكين فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله وعبر [ حسنك ] دجلة وسارْ إلى خراسان، وتهدَّد القادر بالله إبن الأقساسي فمرض ومات ورثاه المرتضى وغيره.

لكمال الشرف شرح قصيدة السَّلامي(٢) التي أوَّلها:

____________________

١ - من بيوتات نيسابور العلمية تنتمى الى ناصح بن طلحة بن جعفر بن يحيى، ذكر السمعانى جمعا من رجالها في « الانساب » فى حرف النون.

٢ - محمد بن عبد الله المخزومى من أولاد الوليد بن المغيرة كان من مقدمي شعراء العراق ولد ٣٣٦ وتوفى ٣٩٣، ترجمه الثعالبى، وابن الجوزى فى المنتظم، وابن خلكان فى تاريخه.

٦

سلامٌ على زمزم والصفا

...........................

ينقل عنه سيّدنا الحجّة السيّد ابن طاوس في كتاب « اليقين » في الباب الخامس والخمسين بعد المائة، والباب الذي بعده.

م - وقال إبن الجوزي في « المنتظم » ٨ ص ١٩: ولأبي الحسن الأقساسي شعرٌ مليحٌ ومنه قوله في غلام اسمه بدر:

يا بدر وجهك بدرُ

وغنج عينيك سحرُ

وماء خدَّيك وردٌ

وماء ثغرك خمرُ

اُمرت عنك بصبرٍ

وليس لي عنك صبرُ

تأمرني بالتسلّي

ما لي من الشوق أمرُ]

وجدُّ المترجم فخر الدّين أبو الحسين حمزة بن كمال الشرف محمَّد ذكره النَّسابة العمري في « المجدي » وقال: هو نقيب الكوفة كان صديقي ذا فضلٍ وحلمٍ ورياسة ومواساة.

ولفخر الدين هذا أخٌ يُسمّى أبو محمّد يحيى ذكره السمعاني في « الأنساب » وقال: كان ثقةً نبيلاً سمع أبا عبد الله محمّد بن عبد الله القاضي الجعفري، روى لنا عنه أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي(١) وأبو الفضل محمّد بن عمر الأرموي(٢) ببغداد وأبو البركات عمر بن إبراهيم الحسني(٣) بالكوفة، وكانت ولادته في شوّال سنة خمس وتسعين وثلثمائة وتوف ّ ي سنة نيف وسبعين وأربعمائة.وذكره الحموي في معجم البلدان ج ١ ص ٣١٢.

وأمّا شاعرنا المعنيُّ بالترجمة فذكره إبن الأثير في كامله ١١ ص ١٧٤ وقال: وفيها [ يعني سنة ٥٧٥ ] توفّي محمّد بن علي بن حمزة الأقساسي نقيب العلويّين بالكوفة وكان ينشد كثيرا:

رُبَّ قوم في خلائقهم

غَررٌ قد صيّروا غُررا

____________________

١ - كان مكثراً من الحديث عالى الرواية ولد بدمشق ٤٥٤ وتوفى ٥٣٦.

٢ - الارموى من اهل « ارمية » احدى بلاد آذربايجان سكن بغداد وتخرجها عليه كثير من اعلامها، ولد ٤٥٧ وتوفى ٥٤٧.

٣ - مفتى الكوفة كان مشاركا فى العلوم ولد سنة ٤٤٢ وتوفى ٥٣٩ وصلى عليه ثلاثون ألفاً. حسيني النسب من ذرية زيد الشهيد.

٧

ستَرَ المال القبيح لهم

سترى إن زال ما سترا

وله أخوه علم الدين أبو محمّد الحسن النقيب الطاهر إبن عليّ بن حمزة وُلِدَ في الكوفة ونشأ بها توفّي ٥٩٣، ذكره إبن كثير في « البداية والنهاية » ١٣ ص ١٦ فقال: كان شاعراً مطبقاً، إمتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة، قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضئ وابنه الناصر فوّلاه [ الناصر ] النقابة، وكان شيخاً مهيباً جاوز الثمانين، وقد أورد له إبن الساعي قصائد كثيرة منها:

إصبر على كيد الزَّما

ن فما يدوم على طريقه

سبق القضاء فكن به

راضٍ ولا تطلب حقيقة

كم قد تغلّب مرَّة

وأراك من سعة وضيقه

ما زال في أولاده

يجري على هذه الطريقة

وترجمه سيّدنا القاضي المرعشي في [ مجالس المؤمنين ] ص ٢١١، وقال: الميرزا في [ رياض العلماء ] كان من أجلّة السادات والشرفاء والعلماء والاُدباء والشعراء بالكوفة، يروي عنه الشيخ عليّ بن عليّ بن نما وهو من مشايخ أصحابنا.

ولعلم الدين مقرّظاً كتاب « الإفصاح عن شرح معاني الصحاح »(١) كما في « تجارب السلف » لابن سنجر ص ٣١٠ قوله:

ملكٌ ملكه الفصاحة حتّى

ماله في اقتنائها من ملاحِ

وأبان البيان حتّى لقد

أخرس بالنطق كلَّ ذي إفصاحِ

وجلا كلِّ غامضٍ من معانٍ

حملتها لنا متون الصّحاحِ

في كتابٍ وحقّه ما رعاهُ

قبله ذو هدىً ولا إصلاحِ

وخلف علم الدين ولده قطب الدين أبا عبد الله الحسين نقيب نقباء العلويِّين في بغداد، وكان عالماً شاعراً مطَّلعاً على السير والتواريخ قلّد النقابة بعد عزل قوام الدين « أبي علي الحسن بن معد المتوفّى ٦٣٦ » عن النقابة سنة ٦٢٤.

____________________

١ - تأليف عون الدين يحيى بن هبيرة المتوفى ٥٥٥ وهو يشتمل على تسعة عشر كتاباً. راجع تاريخ ابن خلكان ٢ ص ٣٩٤.

٨

وفي الحوادث الجامعة ص ٢٢٠: توفّي فيها « يعني سنة ٦٤٥ » النقيب قطب الدين أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن علي المعروف بابن الأقساسي العلوي ببغداد، وكان أديباً فاضلاً يقول شعراً جيِّداً، بدرت منه كلمة في أيّام الخليفة الناصر على وجه التصحيف وهي: - أردنا خليفة جديد - فبلغت الناصر فقال: لا يكفي حلقة لكن حلقتين، وأمر بتقييده وحمله إلى الكوفة فحُمِلَ وسُجِنَ فيها فلم يزل محبوساً إلى أن استخلف الظاهر « سنة ٦٢٣ » فأمر باطلاقه، فلمّا استخلف المستنصر بالله « ٦٢٤ » رفق عليه فقرَّبه وأدناه ورتَّبه نقيباً وجعله من ندمائه، وكان ظريفاً خليعاً طيِّب الفكاهة حاضر الجواب.

وصل الملك الناصر ناصر الدّين داود بن عيسى في المحرَّم سنة ٦٣٣ إلى بغداد واجتاز بالحلَّة السيفيّة وبها الأمير شرف الدّين علي، ثمَّ توجَّه منها إلى بغداد فخرج إلى لقائه النقيب الطاهر قطب الدّين أبو عبد الله الحسين إبن الأقساسي، وفي سلخ ربيع الأوَّل من السنة المذكورة وصل الأمير ركن الدّين إسماعيل صاحب الموصل إلى بغداد وخرج إلى لقائه النقيب الحسين بن الأقساسي وخادمان من خدم الخليفة.

قصد الخليفة المستنصر بالله سنة ٦٣٤ مشهد الامام موسى بن جعفر عليهما السَّلام في ثالث رجب فلمّا عاد أبرز ثلاثة آلاف دينار إلى أبي عبد الله بن الحسين الأقساسي نقيب الطالبيِّين وأمره أن يفرِّقها على العلويِّين المقيمين في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسين وموسى بن جعفر عليهم السَّلام(١) .

حضر في سنة ٦٣٧(٢) ألأمير سليمان بن نظام الملك متولّي المدرسة النظاميّة مجلس أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بباب بدر، فتاب وتواجد وخرق ثيابه و كشف رأسه، وقام وأشهد الواعظ والجماعة على انَّه قد أعتق جميع ما يملكه من رقيق، ووقف أملاكه، وخرج ما يملكه، فكتب إليه النقيب الطاهر أبو عبد الله الحسين إبن الأقساسي أبياتاً طويلةَ يقول فيها(٣) :

يا ابن نظام الملك يا خير مَن

تاب ومَن لاقى به الزهدُ

____________________

١ - الحوادث الجامعة ٧٧ - ٧٩ ملخصا:

٢ - الحوادث الجامعة ص ٩٥.

٣ - الحوادث الجامعة ص ١٢٤.

٩

يا ابن وزير الدولتين الذي

يروح للمجد كما يغدو

يا بن الذي أنشأ من ماله

مدرسة طالعها سعدُ

قد سرَّني زهدك عن كلِّ ما

يرغب فيه الحرُّ والعبدُ

بان لك الحقُّ وأبصرت ما

أعيننا عن مثله رُمدُ

وقلت للدنيا: إليك ارجعي

ما عن نزوعي عنك لي بُدُّ

ما لذَّلي بعدك حتى استوى

في فيّ منك الصّاب والشهدُ

شيمتك الغدر كما شيمتي

حسن الوفاء المحض والودُّ

إلى أن قال:

لا يقصد الناس إلى دورهم

لكن إلى منزلك القصدُ

وخدمة الناس لها حرمة

وكان ما تفعله يبدو

والناس قد كانوا رقوداً وقد

أيقظتهم فانتبه الضدُّ

وقسّمت فيك ظنون الورى

وكلّهم للقول يعتدُّ

فبعضهم قال: يدوم الفتى

وبعضهم قد قال: يرتدُّ

وقد أتى تشرين وهو الذي

إليه عين العيش تمتدُّ

ما يسكن البيت وقد جاءه

إلّا مريضٌ مسَّه الجهدُ

وكلّ ما يفعله حيلة

منه ونصب ما له حدُّ

فقلت: لا والله ما رأيه

هذا ولا فيكم له ندُّ

وإنَّما هذا سليمان قد

صفا له في زهده الوردُ

مثل سليمان الذي أعرضت

يوماً عليه الضمّر الجردُ

فعاف أن يدخلها قلبه

والهزل لا يشبهه الجدُّ

ويقول فيها:

ليهنك الرشد إلى كلِّ ما

يضلُّ عنه الجاهل الوغدُ(١)

أسقطت من جيش أبي مرَّة

وأكثر الناس له جندُ

وقمت لِلَّه بما يرتجى

بمثله الجنَّة والخلدُ

____________________

١ - أبو مرة كنية لابليس.

١٠

فاصبر فما يدرك غايات ما

يطلب إلّا الحازم الجلدُ

وفي سنة ٦٤٣(١) تقدَّم الخليفة [ المستعصم أبو أحمد عبد الله ] بارسال طيور من الحمام إلى أربع جهات لتصنيف أربعة أصناف منها مشهد حذيفة بن اليمان بالمداين، ومشهد العسكري بسرَّ من رأى، ومشهد غني بالكوفة، والقادسيَّة، ونفذ مع كلِّ عدَّة من الطيور عدلان ووكيلاً، وكُتب بذلك سجلُّ شهد فيه العدول على القاضي بثبوته عنده، وسمِّيت هذه الأصناف باليمانيّات. والعسكريّات. والغنويّات. و القادسيّات. ونظم النقيب الطاهر قطب الدين الحسين بن الأقساسي في ذلك أبياتاً و عرضها على الخليفة أوَّلها:

خليفة الله يا من سيف عزمته

موكّلٌ بصروف الدَّهر يصرفها

ويقول فيها:

إنَّ الحمام التي صنَّفتها شرفت

على الحمام التي من قبل نعرفها

والقادسيّات أطيارٌ مقدَّسةٌ

إذ أنت يا مالك الدنيا مصنِّفها

وبعدها غنويّاتٌ تنال بها

غنى الحياة وما يهوي مؤلِّفها

والعسكريّات أطيارٌ مشرَّفةٌ

وليس غيرك في الدنيا يشرِّفها

ثمَّ الحمام اليمانيّات ما جعلت

إلّا سيوفاً على الأعداء ترهفها

لا زلت مستعصماً بالله في نعمٍ

يهدي لمجدك أسناها وألطفها

ثمَّ سأل أن يقبض منها من يد الخليفة فأجاب سؤاله وأحضره بين يديه وقبضه فلمّا عاد إلى داره نظم أبياتاً أوَّلها:

إمام الهدى أوليتني منك أنعماً

رددن عليَّ العيش فينان أخضرا

وأحضرتني في حضرة القدس ناظراً

إلى خير خلق الله نفساً وعنصراً

وعلّيت قدري بالحمام وقبضها

مناولة من كفِّ أبلج أزهرا

رفعت بها ذكري وأعليت منصبي

فحزت بها عزّاً ومجداً على الورى

حمامٌ إذا خفت الحمام ذكرتها

فصرت بذاك الذكر منها معمّرا

ويقول في آخرها:

____________________

١ - الحوادث الجامعة ٢٠٣.

١١

قضى الله أن يبقى إماماً معظَّماً

مدى الدهر ما لاح الصَّباح وأسفرا

فدم يا أمير المؤمنين مخلّداً

على الملك منصور الجيوش مظفّرا

في المحرَّم من سنة ٦٣٠(١) قلّد العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الدين بن المنصوري الخطيب نقابة نقباء العبّاسيّين والصَّلاة والخطابة، وخلع عليه قميص أطلس بطراز مذهَّباً ودرّاعة خاراً أسود، وعمامة ثوب خاراً أسود مذهَّب بغير ذوابة، وطيلسان قصب كحلي، وسيف محلّى بالذهب، وامتطى فرساً بمركب ذهباً وقرئ بعض عهده في دار الوزارة وسلّم إليه، وركب في جماعة إلى دار أنعم عليه بسكناها في المطبق من دار الخلافة وأنعم عليه بخمسمائة دينار، وهو من أعيان عدول مدينة السَّلام وأفاضل أرباب الطريقة المتكلّمين بلسان أهل الحقيقة، كان يصحب الفقراء دائماً ويأخذ نفسه بالرّياضة والسّياحة والصوم الدّائم والتخشّن والتباعد من العالم، وكان الموفّق عبد الغافر ابن الفوطي من جملة تلامذته فعمل فيه أبياتاً طويلة، ولما انتهى حالها إلى الديوان أنكر ذلك عليه ووكّل به أيّاماً ولم يخرج إلّا بشفاعته وأوَّل الأبيات:

ناديتُ شيخي من شدَّة الحربِ

وشيخنا في الحرير والذهبِ

في دسته جالساً ببسملةٍ

بين يديه مَن قام في أدبِ

وركبة منه كنت أعهده

يذمّ أربابها على الرُّتبِ

وكان أبناؤها لديه على

سخطٍ من الله شامل الغضبِ

أصاب في الرأي من دعاك لها

وأنت لما أجبت لم تسبِ

أوَّل صوت دعاك عن عرض

لبّيته مقبلاً على السببِ

ويقول فيها:

قد كنتَ ذاك الّذي تظنُّ به

لو لم تكن مسرعاً إلى الرُّتبِ

شيخي أين الّذي يُعلّمنا الز

هد ويعتدُّه من القربِ؟

أين الّذي لم يزلْ يُسلِّكنا

إلى خروج عن كلِّ مكتسبِ؟

أين الّذي لم يزلْ يعرِّفنا

فضل التمري بالجوع والتّعب؟

ومنها:

____________________

١ - الحوادث الجامعة ص ٣٨.

١٢

أين الَّذي لم يزلْ يُرغِّبنا

في الصّوف لبساًله وفي الجشبِ؟

وأين من غرَّنا بزخرفةٍ

متى اعتقدناه زاهد العربِ؟

وأين ذاك التجريد يشعرنا

إنَّ سواه في السعي لم يخبِ؟

وأين من لم يزل يذمُّ لنا

الدنيا وقول المحال والكذبِ؟

وأين من لم يزل بأدمعه

يخدعنا باكياً على الخشبِ؟

وأين من كان في مواعظه

يصول زجراً عن كلِّ مجتنبِ؟

ويقطع القول لا يتمّمه

منغلباً بالسّماع والطربِ؟

ويقسم الغمر انَّه رجلٌ

ليس له في الوجود من أربِ

لو كانت الأرض كلّها ذهباً

أعرض عنها إعراض مكتئبِ

أسفر ذاك الناموس مختيلاً

عن راغبٍ في التراث مُستلبِ

وكان ذاك الصراخ يزعجنا

شكوى فقير على الدنا وصبِ

شيخي بعد الذمّ الصريح لما

أبيته جئته على طلبِ

نسيتَ ما قلته على ورعٍ

عنّي لما اكتسبت بالدأبِ

ويلٌ له إن يمت بخدمته

يمتْ كفوراً وليس بالعجبِ

ما كان مال السلطان مكتسباً

لمسلم سالمٍ من العطبِ(١)

فكتب النقيب قطب الدين الحسين بن الأقساسي إلى النقيب مجد الدين المذكور أبياتاً كالمعتذر عنه والمسلّي له يقول في أوّلها:

إنَّ صاحب النبيّ كلّهمُ

غير عليّ وآله النّجبِ

مالوا إلى الملك بعد زهدهمُ

واضطربوا بعده على الرتبِ

وكلّهم كان زاهداً ورعاً

مشجِّعاً في الكلام والخطبِ

فأخذ عليه مآخذ فيما يرجع إلى ذكر الصحابة والتابعين وتصدّى له جماعة وعملوا قصايد في الردّ عليه، وبالغوا في التشنيع عليه، حتّى انَّ قوماً استفتوا عليه الفقهاء ونسبوه إلى أنَّه طعن في الصحابة والتابعين ونسبهم إلى قلّة الدين فأفتاهم الفقهاء بموجب ما صدرت به الفتيا.

____________________

١ - بعد هذا البيت أربعة عشر بيتاً ضربنا عنها صفحاً.

١٣

وقال ابن أبي الحديد في شرح « نهج البلاغة » ج ٢ ص ٤٥: سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عمّا ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه [ ج ١ ص ١٣٨ ] إنَّ قوماً يقولون: إنَّ هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغريِّ هو قبر المغيرة بن شعبة؟! فقال: غلطوا في ذلك قبر المغيرة وقبر زياد بالثويَّة من أرض الكوفة ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا وأنشدني قول الشاعر يرثي زياداً وقد ذكره أبو تمام في الحماسة.

صلّى الإ~له على قبر وطهَّره

عند الثويَّة يسفي فوقه المورُ(١)

زفت اليه قريش نعش سيِّدها

فالحلم والجود فيه اليوم مقبورُ

أبا المغيرة والدنيا مفجِّعة

وانَّ من غرَّه الدنيا لمغرورُ إلخ

وسألت قطب الدين نقيب الطالبيِّين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال: صدق من أخبرك، نحن وأهلها كافَّة نعرف مقابر ثقيف إلى الثويَّة وهي إلى اليوم معروفةٌ وقبر المغيرة فيها إلّا أنَّها لا تعرف قد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها فطمست واختلط بعضها ببعض، ثمَّ قال: إن شئت أن تتحقَّق أنَّ قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب « الأغاني » لأبي الفرج علي بن الحسين، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة وأنَّه مدفونٌ في مقابر ثقيف، ويكفيك قول أبي الفرج فإنَّه الناقد البصير والطبيب الخبير فتصفَّحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب.

توجد ترجمة قطب الدين الأقساسي في تاريخ إبن كثير ١٣ ص ١٧٣، قد أثنى عليه وقال: أورد له إبن السّاعي أشعاراً كثيرة رحمه الله.

أفرد العلّامة سيّدنا المرعشي في [ مجالس المؤمنين ] ص ٢١٢ ترجمة باسم عزِّ الدين بن الأقساسي وقال: إنَّه من أشراف الكوفة ونقبائها، كان فاضلاً أديباً، له في قرض الشعر يدٌ غير قصيرة، روي أنَّ الخليفة المستنصر العباسي خرج يوماً إلى زيارة قبر سلمان الفارسي سلام الله عليه ومعه السيّد المذكور إبن الأقساسي فقال له الخليفة في الطريق: إنَّ من الأكاذيب ما يرويه غلاة الشيعة من محبيء علي بن أبي طالبعليه‌السلام

____________________

١ - المور: التراب تثيره الريح.

١٤

من المدينة إلى المداين لما توفي سلمان وتغسيله إيّاه ومراجعته في ليلته إلى المدينة فأجابه ابن الأقساسي بالبديهة بقوله:

أنكرتَ ليلة إذ صار الوصيُّ إلى

أرض المداين لما أن لها طلبا

وغسَّل الطّهر سلماناً وعاد إلى

عراص يثرب والاصباح ما وجبا

وقلتَ: ذلك من قول الغلاة وما

ذنب الغلاة إذا لم يوردوا كذبا؟

فآصف قبل ردِّ الطرف من سبأ

بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا

فأنت في آصف لم تغل فيه بلى

في ( حيدر ) أنا غال انَّ ذا عجبا

إن كان أحمد خير المرسلين؟ فذا

خير الوصيِّين أو كلّ الحديث هبا

هذه الأبيات ذكرها العلّامة السماوي في [ الطليعة ] ونسبها إلى شاعرنا في الغدير السيِّد محمد الأقساسي، وحسب انَّه هو صاحب المستنصر، ذاهلاً عن تاريخي ولادة المستنصر ووفاة السيّد صاحب الغديريَّة فإنّ السيِّد توفّي كما مرَّ سنة ٥٧٥، والخليفة المستنصر ولد سنة ٥٨٩ بعد وفاة السيّد بأربعة عشر سنة واستخلف في سنة ٦٢٤.

وجعل العلّامة السيّد الأمين في « اعيان الشيعة » في الجزء الحادي والعشرين ص ٢٣٣ ترجمة تحت عنوان أبي محمّد عزّ الدين الحسن بن حمزة الأقساسي وذكر القصَّة والأبيات له ولم يعلم هو من أين نقله، والحسن بن حمزة يكون عمّ شاعرنا فيتقدَّم على المستنصر بأكثر من صاحب الغديريَّة.

وذكر إبن شهر اشوب في « المناقب » ١ ص ٤٤٩ هذه الأبيات بتغيير يسير و زيادة ونسبها إلى أبي الفضل التميمي(١) وإليك لفظها.

سمعت منّي يسيراً من عجائبه

وكلُّ أمر ( عليٍّ ) لم يزل عجبا

أدريت في ليلة سار الوصيُّ إلى

أرض المداين لما أن لها طلبا

فألحد الطّهر ( سلماناً ) وعاد إلى

عراص يثرب والاصباح ما قربا

كآصف قبل ردِّ الطرف من سبأ

بعرش بلقيس وافى تخرق الحجبا

فكيف في آصف لم تغل أنت؟ بلى

بحيدر أنا غالٍ أورد الكذبا

إن كان أحمد خير المرسلين؟ فذا

خير الوصيِّين أو كلُّ الحديث هبا

____________________

١ - أحد شعراء أهل البيت.

١٥

وقلت ما قلت من قول الغلاة فما

ذنب الغلاة إذا قالوا الذي وجبا؟

فرواية إبن شهر اشوب هذه الأبيات تثبت عدم كونها من نظم السيِّد قطب الدين الأقساسي ايضاً إذ ابن شهر اشوب توفي سنة ٥٨٨ قبل ولادة المستنصر بسنة، وقبل وفاة السيِّد القطب بسبع وخمسين سنة، ولعلّها لأبي الفضل التميمي أو لغيره من أسلاف آل الأقساسي الأوّلين، وأنشدها قطب الدين للمستنصر.

لفت نظر

يبلغني من وراء حجب البغضاء والإحن تكذيب هذه المكرمة الباهرة لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وعزوها إلى الغلوّ مستنداً إلى إحالة طيّ هذه المسافة البعيدة في هذا الوقت اليسير، ولو عقل المسكين انَّ هاتيك الإحالة على فرضها عاديَّة لا عقليَّة، وإلّا لما صحَّ حديث المعراج [ ولم يكن إلّا جسمانيّاً ] المتواتر المعدود من ضروريّات الدين.

ولا صحَّت قصَّة آصف بن برخيا المحكيَّة في القرآن الكريم، ولما تمكّن عفريتٌ من الجنّ من أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه، ولم يرده سليمان ولا الذكر الحكيم، غير أنَّ سليمان أراد ذلك بأسرع منه، وشمول القدرة الإ~لهيَّة على التسيير الحثيث والبطئ شرع سواء، كما أنَّها بالنسبة إلى كليَّة الاُمور الصعبة والسهلة كذلك، فقد يكرَّم الله الوليّ المقرَّب بأقداره على أشياء لم يقدر عليه من هو دونه، وقد خلق الله النّاس أطواراً، فتراهم متفاوتين في القُدَر، فيقوى هذا على ما لا يقوى عليه ذاك، وليس لقدرة الله سبحانه حدُّ محدود، ومن هنا وهناك اختلفت عاديّات الموجودات في شؤونها وأطوارها، فالمسافة التي يطويها الفارس في أمد محدود، غير ما يطويه الراجل، وللسيّارات البخاريّة عدوٌ مُربٍ على الجميع، وإنَّك تستصغر ذلك العدو إذا قسته بالطائرات الجويَّة لأنَّك تجدها تطوي في خمس ساعات مثلاً ما تطويه الناس في خمسة أشهر.

وهذه طيَّارة مستكشفة بريحيَّة ١٩ تحرّكت من باريك في صباح ٢٤ ابريل سنة ١٩٢٤ فوصل في المساء إلى بخارست بعد أن قطع ١٢٥٠ ميلاً في ١١ ساعة، وفي اليوم التالي أضاف إليها ٧٧٠ ميلاً اُخرى، ولم تمض عليه خمسة أيّام حتّى كان قد وصل إلى الهند، وقطع مسافة قدرها ٣٧٣٠ ميلاً، وقد وصلت سرعة الطيّارات إلى ما فوق

_١_

١٦

١٥٠ ميلاً في الساعة الواحدة، وتحارب البعض منها في ارتفاع بلغ ٢٢٠٠٠ قدماً(١)

ومن الممكن أن يكشف لنا العلم في مستقبله ما هو أسرع سيراً من هاتيك كلّها.

إذن فأيّ وازع من أن يكون من عاديّات الوليّ مهما أراد التمكّن من أمثال هذا السير؟! وما ذلك على الله بعزيز. على أنَّا لا نساوي مولانا أمير المؤمنين ومَن جرى مجراه من أئمَّة الهدى عليهم السَّلام بغيرهم من أفراد الرعيّة، ولا بأحدٍ من أولياء الله المقرّبين ولا بأحد من حملة العلم والمكتشفين، فنجوِّز فيهم صدور المعجز متى اقتضته المصلحة، بل: هو من واجب مقامهم.

وإن تعجبْ فعجبٌ أنَّ فئتاً ممَّن ران على قلوبهم ما كانوا يعملون تحاول دحض هذه المكرمة في مولانا أمير المؤمنين وهم يخضعون لمثلها في غيره ممَّن هو دونه من دون أيّ غمز ونكير.

١ - روى الحافظ إبن عساكر في تاريخه ٤ ص ٣٣ عن السرّي بن يحيى قال: كان حبيب بن محمَّد العجمي البصري يُرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات.

٢ - قال الحافظ إبن كثير في تاريخه ١٣ ص ٩٤: ذكروا انَّ الشيخ عبد الله اليونيني المتوفّى ٦١٧ كان يحجُّ في بعض السنين في الهواء، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهَّاد وصالحي العباد ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء وأوَّل من يذكر عنه هذا: حبيب العجمي، وكان من أصحاب الحسن البصري ثمَّ من بعده من الصّالحين.

٣ - كان أحمد بن محمَّد أبو بكر الغسّاني الصيداوي المتوفّى ٣٧١ ينام بعد ما صلّى العصر إلى ما قبل صلاة المغرب، فجاءه رجلٌ ذات يوم يزوره بعد العصر فغفل فتحدّث معه وترك عادة النوم فلمَّا انصرف سأله الخادم عنه فقال: هذا عريف الأبدال يزورني في السنة مرة. قال: فلم أزل أرصده إلى مثل ذلك الوقت حتّى جاء الرَّجل فوقفت حتّى فرغ من حديثه ثمّ سأله الشيخ أين تريد؟ فقال: أزور أبا محمّد الضرير في مغار، قال الخادم: فسألته أن يأخذني معه فقال: بسم الله، فمضيت معه فخرجنا حتّى صرنا عند قناطر الماء فأذَّن المؤذِّن المغرب قال: ثمَّ أخذ بيدي وقال: قل: بسم الله، قال:

____________________

١ - بسائط الطيران ص ٨٢، ١١٨.

١٧

فمشينا دون العشر خطأ فإذا نحن عند المغارة وهي مسير إلى ما بعد الظهر قال: فسلّمنا على الشيخ وصلّينا عنده وتحدّثنا عنده فلمّا ذهب ثلث الليل قال لي: تحبُّ أن تجلس ههنا أو ترجع إلى بيتك؟ فقلتُ: أرجع فأخذ بيدي وسمّى ببسم الله ومشينا نحو العشر خطأ فإذا نحن على باب صيدا فتكلَّم بشئ فانفتح الباب ودخلت ثمَّ عاد الباب.

[ تاريخ إبن عساكر ١ ص ٤٤٣ ]

٤ - كان ببغداد رجلٌ من التجّار قال: إنّي صلّيت يوماً الجمعة وخرجت فرأيت بشر الحافي يخرج من المسجد مسرعاً فقلت في نفسي: انظر إلى هذا الرَّجل الموصوف بالزهد لا يستقرُّ في المسجد ثمَّ إنَّني اتبعته فرأيته تقدَّم إلى الخبّاز واشترى بدرهم خبزاً فقلت: انظر إلى الرَّجل يشتري خبزاً، ثم اشترى شواء بدرهم فازددت عليه غيظاً، ثمَّ تقدَّم إلى الحلوائى فاشترى فالوذجاً فقلت: والله لا أتركه حتى يجلس ويأكل ثمّ إنه خرج إلى الصَّحراء فقلت: إنّه يريد الخضرة، فما زال يمشي إلى العصر وأنا أمشي خلفه، فدخل قرية وفي القرية مسجدٌ وفيه رجلٌ مريض فجلس عند رأسه وجعل يلقّمه فقمت لأنظر في القرية وبقيت ساعة ثمّ رجعت فقلت للعليل: اين بشر؟ فقال: ذهب إلى بغداد، فقلت: كم بيني وبين بغداد؟ قال: أربعون فرسخاً، فقلت. إنّا لِلَّه و إنّا إليه راجعون، أيش عملت في نفسي؟ وليس معي ما أكتري ولا أقدر على المشي، فقال لي: اجلس حتى يرجع فجلست إلى الجمعة القابلة فجاء بشر في ذلك الوقت ومعه شئ فأعطاه إلى المريض فأكله فقال له العليل: يا أبا نصر هذا الرَّجل صحبك من بغداد وبقي عندي منذ الجمعة فردّه إلى موضعه، فنظر إليَّ كالمغضب وقال: لِمَ صحبتني؟ فقلت: أخطأت، فقال: قم فامش فمشيت معه إلى قرب المغرب فلمّا قربنا قال: أين محلّتك من بغداد؟ فقلت: في موضع كذا قال: إذهب ولا تعد. [ تاريخ ابن عساكر ٣ ص ٢٣٦ ].

٥ - قال الشيخ الجليل أبو الحسن علي: كنت يوماً جالساً عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد [ الرفاعي المتوفّى ٥٨٧ ] رضي الله عنه وليس فيها غيره وسمعت عنده حسّاً فنظرت فإذا عنده رجلٌ ما رأيته قبل فتحدَّثا طويلاً ثمّ خرج الرجل من كوَّة في حائط الخلوةِ ومرَّ في الهوى كالبرق الخاطف فدخلت على خالي وقلت له: من الرَّجل؟ فقال: أوَ رأيته؟ قلت: نعم، قال: هو الرَّجل الذي يحفظ الله به قطر البحر المحيط، وهو أحد

١٨

الأربعة الخواصّ، إلّا أنّه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم، فقلت له: يا سيِّدي ما سبب هجره؟ قال: إنّه مقيمٌ بجزيرة في البحر المحيط، ومنذ ثلاث ليالي أمطرت جزيرته حتّى سالت أوديتها، فخطر في نفسه: لو كان هذا المطر في العمران. ثمّ استغفر الله تعالى، فهجر بسبب اعتراضه، فقلت له: أعلمته؟ قال: لا إنِّي استحييت منه، فقلت له لو أذنتَ لي لأعلمته، فقال: أوَ تفعل ذلك؟ قلت: نعم، فقال: رنق فرنقت ثمّ سمعت صوتاً: يا عليُّ ارفع رأسك. فرفعت راسي من رنقي فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط فتحيَّرت في أمري وقمت أمشي فيها فإذا ذلك الرَّجل فسلّمت عليه وأخبرته، فقال ناشدتك الله إلّا فعلت ما أقول لك، قلت: نعم. قال. ضع خرقتي في عنقي واسحبني على وجهي وناد عليّ: هذا جزاء من تعرَّض على الله سبحانه. قال فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه وإذا هاتف يقول: يا علي دعه فقد ضجَّت عليه ملائكة السَّماء باكية عليه وسائلةً فيه وقد رضي الله عنه. قال: فأغمي عليَّ ساعة ثمّ سرى عنّي وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت.[ مرآة الجنان ٣ ص ٤١١ ].

٦ - حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال: سافرت مرّة من اليمن في البحر المالح فلمّا توسَّطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كلّ جانب وانكسرت بنا السفينة فنجوت على لوح منها فألقاني إلى جزيرة فطفت فيها فلم أر فيها أحداً وإذا هي كثيرة الخيرات رأيت فيها مسجداً فدخلته، فإذا فيه أربعة نفر فسلّمت عليهم، فردّوا عليَّ السَّلام، وسألوني عن قصَّتي فأخبرتهم، وجلست عندهم بقيَّة يومي ذلك، فرأيت من توجّههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيما، فلمّا كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني، فقاموا يبادرون إلى السَّلام عليه، فتقدَّم وصلّى بهم العشاء، ثمّ استرسلوا في الصَّلاة إلى طلوع الفجر، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إ~لهي لا أجد لي في سواك مطمعاً [ إلى آخر الدعاء ] ثمّ قال: بكى بكاءً شديداً، ورأيت الأنوار قد حفّت بهم، وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر ثمّ خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول:

سير المحب إلى المحبوب إعجالُ

والقلب فيه من الأحوال بلبالُ

أطوي المحانة من قفر على قدم

إليك يدفعني سهلٌ وأجبالُ

١٩

فقال لي اولئك النفر: اتبع الشيخ فتبعته وكانت الأرض برّها وبحرها و سهلها وجبلها يطوى تحت أقدامنا طيّاً كنت أسمعه كلّما خطا خطوة يقول: يا ربّ حيوة كن لحيوة.وإذا نحن بحرّان في أسرع وقت، فوافينا الناس يصلّون بها صلاة الصبح.

[ مرآة الجنان ٣ ص ٤٢١ ]

٧ - ذكر محمّد بن علي الحبّاك خادم الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفّى ٩١١: إنَّ الشيخ قال له يوماً وقت القيلولة وهو عند زاوية الشيخ عبد الله الجيوشي بمصر بالقرافة: أتريد أن تصلّي العصر بمكّة بشرط أن تكتم ذلك عليَّ حتى أموت؟ قال: فقلت نعم.قال: فأخذ بيدي وقال: غمِّض عينيك فغمضتها فرحل بي نحو سبع وعشرين خطوة ثمَّ قال لي: افتح عينيك فإذا نحن بباب المعلّاة فزرنا اُمّنا خديجة، والفضل بن عياض، و سفيان بن عيينة، وغيرهم ودخلت الحرم فطفنا وشربنا من ماء زمزم، وجلسنا خلف المقام حتّى صلّينا العصر، وطفنا وشربنا من ماء زمزم ثمّ قال لي: يا فلان ليس العجب من طيّ الأرض لنا وإنّما العجب من كون أحد من أهل مصر المجاورين لم يعرفنا.ثمّ قال لي: إن شئت تمضي معي وإن شئت تقيم حتى يأتي الحاجّ؟! قال: فقلت أذهب مع سيِّدي.فمشينا إلى باب المعلّاة وقال لي: غمِّض عينيك فغمضتها فهرول بي سبع خطوات ثمّ قال لي: افتح عينك فإذا نحن بالقرب من الجيوشي فنزلنا إلى سيِّدي عمر بن الفارض.

[ شذرات الذهب ٨ ص ٥٠ ]

٨ - ذكر السخاوي في طبقاته: انَّ الشيخ معالي سأل الشيخ سلطان بن محمود البعلبكي المتوفّى ٦٤١ فقال: يا سيّدي كم مرَّة رحت إلى مكّة في ليلة؟ قال: ثلاث عشرة مرَّة، قلت: قال الشيخ عبد الله اليونيني: لو أراد أن لا يصلِّي فريضة إلّا في مكّة لفعل.

[ شذرات الذهب ٥ ص ٢١١ ]

٩ - ذكر الحافظ إبن الجوزي في « صفة الصفوة » ٤ ص ٢٢٨ عن سهل بن عبد الله قال: لقد رأيت رجلاً يقال له: مالك بن القاسم جبليّ وقد جاء ويده غمرة فقلت له: إنّك قريب عهد بالأكل؟ فقال لي استغفر الله فإنَّني منذ أسبوع لم آكل، ولكن: أطعمت والدتي وأسرعت لألحق صلاة الفجر وبينه وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ. فهل أنت مؤمن بذلك؟ فقلت: نعم. فقال: ألحمد لله الذي أراني مؤمناً موقناً.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1) .

5 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (2) .

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث إن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها، فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6 - قوله تعالى: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ) (3) .

7 - قوله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (4) .

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) (5) .

9 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________________

(1) الحج: 62.

(2) الجن: 20.

(3) آل عمران: 126.

(4) آل عمران: 160.

(5) يونس: 18.

٢٤١

زُلْفَى ) (1) .

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزَّ وجل، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى، وهو ما ابتُلى به مشركو العرب؛ إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة؛ وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمَن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شي‏ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه؛ ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________________

(1) الزمر: 3.

(2) الزمر: 65.

(3) الأنعام: 88.

٢٤٢

تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير اللَّه عزَّ وجل، منها:

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1) ، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (2) .

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير اللَّه عزَّ وجلَّ وأسمائه الحسنى؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الإلهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي‏ء علامته).

(قال أبو العبَّاس: الاسم وسمة توضع على الشي‏ء يُعرف به، قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى) (3) .

____________________

(1) الأعراف: 180.

(2) الإسراء: 110.

(3) لسان العرب، ج14، ص 403 - 401.

٢٤٣

إذن اسم الشي‏ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزَّ وجلَّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله. فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة، والخَلق والرِّزق والتدبير والربوبية والحُكم والعَدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحَكَم والعدَْل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها، بل مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزَّ وجل.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً للَّه عزَّ وجلَّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي‏ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّا الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّا أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد؛ وهو الدلالة على الشي‏ء والعلامّية والمرآتية له.

٢٤٤

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) (1) .

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) (2) .

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزَّ وجل، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق اسماً من أسماء اللَّه تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر لِمَا أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية، كلّما كانت آييَّة ذلك المخلوق واسميَّته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) .

2 - قوله تعالى: ( وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص 61 - 62.

(2) لسان العرب، ج12، ص522.

(3) المؤمنون: 50.

٢٤٥

آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

3 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) .

4 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (3) .

5 - قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) (4) .

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم عليها‌السلام أنها آية، وعلى عيسى عليه‌السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6 - قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (5) .

7 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (6) .

8 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) الأنبياء: 91.

(2) آل عمران: 45.

(3) النساء: 171.

(4) آل عمران: 38 - 39.

(5) البقرة: 31.

(6) البقرة: 37.

٢٤٦

إ ِمَامًا ) (1) .

9 - ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزَّ وجلَّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالى، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى اللَّه تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن؛ ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكُّمهم وتديُّنهم بالإلحاد عن اسمائه، وتنصُّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالى، ولابدّ من عدم الإلحاد فيها والإعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى اللَّه تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس؛ وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________________

(1 ) البقرة: 124.

(2) الأنعام: 115.

(3) الأعراف: 180.

٢٤٧

الوجيهة عند اللَّه عزَّ وجلَّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الإلحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى اللَّه عزَّ وجل؛ لأنه ليس بجسم، وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالى، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزَّ وجلَّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف مَن أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة اللَّه تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ إذ حباهم اللَّه عزَّ وجلَّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم‌السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضَّل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( 1 ) ، حيث

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٤٨

جاء التعبير فيها بـ ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ ( هؤُلآءِ ) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالى، فهم عباد ليس على اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلى غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى - وهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام - إلى اللَّه عزَّ وجل، والباء في قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال:

(ياهشام، اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟) قال: قلت: زدني، قال: (للَّه تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى، لكان كل اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره. ياهشام، الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت ياهشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتَّخذين مع اللَّه عزَّ وجلَّ غيره؟) قلت: نعم، فقال: (نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام)

٢٤٩

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (1) .

فبيّن عليه‌السلام أن الاسم غير المسمَّى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية، لكان كل اسم إلهاً ولتكثَّرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى اللَّه بها، فلا يُدعى اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى اللَّه. ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الاسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن مَن له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالى، فيكون اسماً وآية وكلمة للَّه تعالى.

نعم، بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً؛ وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالى وآية من

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص521، وأصول الكافي، ج1، ص89، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ح2.

(2) سورة الأعراف: 180.

٢٥٠

آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون اسماً وعلامة. وأمَّا إذا نُظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر، وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال، بل ينظر بها؛ وذلك لِمَا بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالإلحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يُقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته، وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزَّ وجل، نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزَّ وجلَّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ - بمعونة الروايات الواردة فيها - على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى للَّه عزَّ وجلَّ هم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (إن اللَّه تبارك وتعالى كان ولا شي‏ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم اسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الأعلى وسمّى

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٥١

أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه اسماً، فلمّا خلقهم، جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلمَّا نظروا إليهم، عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (1) فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم(صلوات اللَّه وسلامه عليه) نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم، هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسماً من أسمائي، قال: ياربّ، فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّا بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم، أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) (2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة للَّه؛ إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه) (3) .

2 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________________

(1) الصافات: 165 - 166.

(2) البقرة: 31 - 32 - 33.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص56، وكمال الدين وتمام النعمة، ص14، والهداية الكبرى للخصيبي، ص428 (واللفظ للأوَّل).

٢٥٢

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى عليه‌السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) (1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة، وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى عليه‌السلام .

وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها باسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، ممَّا يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض؛ لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) .

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن أوَّل وأسمى الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه.

ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزَّل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه خصيصة اختصّ هو عليه‌السلام بها. كما لم يُشرك اللَّه تعالى في طهارة

____________________

(1) سورة الأنعام: 115.

(2) سورة البقرة: 33.

٢٥٣

النبي وعصمته ونمط حُجِّيَّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنَّه أشرك أهل بيته؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، كما في آية التطهير والمباهلة ومسِّ الكتاب من المطهَّرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فدعا اللَّه عزَّ وجلَّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: يا ربّ؛ لأنك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عبَّاس قال: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________________

(1) المستدرك، ج2، ص615.

٢٥٤

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب عليه) (1) . ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه‌السلام أنه ذكر أن اللَّه عزَّ وجلَّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: (اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوَّاب الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم) (2) .

3 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (3) .

فالكلمة أُطلقت على عيسى عليه‌السلام ، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه‌السلام ، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيِّين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيته عليهم‌السلام .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (4)

فلا شك أن إبراهيم عليه‌السلام كلمة وآية من آيات اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل من عيسى عليه‌السلام ، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزَّ وجلَّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمَّا ثبت في الامتحان، فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________________

(1) شواهد التنزيل، ج1، ص101.

(2) الدر المنثور، ج1، ص60.

(3) النساء: 171.

(4) البقرة: 124.

٢٥٥

تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم عليهم‌السلام .

والكلمات - كما جاء في الروايات - هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند اللَّه عزَّ وجلَّ بالكلمات، كما أن آدم فُضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير عليهم‌السلام .

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزَّ وجل.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، قال: سألته عن قول اللَّه عزَّ وجل: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ما هذه الكلمات؟

قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم) (1) .

5 - قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم‌السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التَّامَّات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج اللَّه فيما

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص358.

(2) الأنعام: 115.

٢٥٦

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 - وهو ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (1) . الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس؛ حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالى. وذلك عندما قال: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل، وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي. ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل، وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ، فهذه الآية المباركة تقول: إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس - لا

____________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 12.

(3) سورة فاطر: 10.

٢٥٧

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ. والربط بين ترك الآية والإعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزَّ وجلَّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه، فلا زلفى إلّا بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى اللَّه عزَّ وجل: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية. وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم‌السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّا اللَّه، فمَن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

____________________

(1) سورة الأعراف: 180.

٢٥٨

إذن؛ مَن لا يُذعِن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) .

2 - وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (1) ، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (2) ، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة.

3 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ(عنه) دون التعبير بـ(عليه) من دلالة على الإعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________________

(1) الأعراف: 9.

(2) الأعراف: 11 - 13.

(3) الأعراف: 36.

٢٥٩

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسُّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكِر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلّا بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّا بالطاعة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً، والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى اللَّه عزَّ وجل، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث إن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________________

(1) المائدة: 35.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461