الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87217 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة إبراهيم مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية)

( سورة إبراهيم الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ الر  كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ( ١) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ( ٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا  أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ( ٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ  فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( ٥)

( بيان)

السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث إنّه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط الله سبحانه الّذي هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب و غنيّ غير محتاج إلى الناس و جميل في فعله منعم

٢

عليهم، و إذا كان المنعم غالبا غنيّا حميد الأفعال كان على المنعم عليهم أن يجيبوا دعوته و يلبّوا نداءه حتّى يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم، و أن يخافوا سخطه و شديد عذابه فإنّه قويّ غير محتاج إلى أحد، له أن يستغني عنهم فيذهب بهم و يأتي بآخرين كما فعل بالّذين كفروا بنعمته من الاُمم الماضين فإنّ آيات السماوات و الأرض ناطقة بأنّ النعمة كلّها له و هو ربّ العزّة و وليّ الحمد لا ربّ سواه.

و بهذا تختتم السورة إذ يقول عزّ من قائل:( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

و لعلّ ما ذكرنا هو مراد من قال: إنّ السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب يشير إلى قوله تعالى:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) .

و السورة مكّيّة على ما يدلّ عليه سياق آياتها، و نسب إلى ابن عبّاس و الحسن و قتادة: أنّها مكّيّة إلّا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ ) و سيأتي أنّ الآيتين غير صريحتين و لا ظاهرتين في ذلك.

قوله تعالى: ( الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدإ محذوف على ما يعطيه السياق و قيل غير ذلك.

و قوله:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) ظاهر السياق عموم الناس لا خصوص قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ، و كلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله:( لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) الفرقان: ١ و قوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩، و قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: ١٥٨ و الآيات الصريحة في دعوة اليهود و عامّة أهل الكتاب، و عملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوتهم و قبول إيمان من آمن منهم كعبدالله بن سلام و سلمان و بلال و صهيب و غيرهم تؤيّد ذلك.

٣

على أنّ آخر السورة:( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ ) الآية، و قد قوبل به أوّلها يؤيّد أنّ المراد بالناس أعمّ من المؤمنين الّذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل.

و قد نسب الإخراج من الظلمات إلى النور إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه أحد الأسباب الظاهريّة لذلك و إليه ينتهي إيمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة و لا، ينافيه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) القصص: ٥٦ فإنّ الآية إنّما تنفي أصالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهداية و استقلاله فيها من غير أن تنفي عنه مطلق الهداية حتّى ما يكون على نحو الوساطة و بإذن من الله، و الدليل عليه قوله تعالى:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و لذلك قيّد سبحانه قوله( لِتُخْرِجَ ) بقوله( بِإِذْنِ ربّهم ) .

و المراد بالظلمات و النور و الضلال و الهدى و قد تكرّر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نوراً و عدّ الضلال ظلمة و جمع الظلمات دون النور لأنّ الهدى من الحقّ و الحقّ واحد لا تغاير بين أجزائه و مصاديقه و لا كثرة بخلاف الضلال فإنّه من اتّباع الهوى و الأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها و لا اتّحاد لأبعاضها و مصاديقها قال تعالى:( وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣.

و اللّام في قوله:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) إلخ، لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، و ليس بلام المعاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلّهم مؤمنين، و المعلوم خلافه.

و أمّا ما اعترض عليه بعضهم أنّ التربية الإلهيّة بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و إيصالهم إلى السعادة و الكمال مشروطة بالتهيّؤ و الاستعداد مع كون الفيض عامّا فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.

ففيه أنّه اعتراف بأنّ كون اللّام للعاقبة خلاف ظاهر الآية، فإنّ الّذي ذكره لا يتمّ إلّا بتقييد( النَّاسَ ) بالمستعدين، لكنّ الّذي يجب أن يعلم أنّ هذا الغرض

٤

غرض تشريعيّ معناه أنّ للحكم غاية مقصودة و هي المصلحة الّتي يستعقبها، فإنّ الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم و يهديهم إلى الإيمان و العمل الصالح ليسعدهم بذلك و يدخلهم الجنّة، و يرسل الرسل و ينزّل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، و يريد بما يوجّهه إليهم من الأمر و النهي أن يطهّرهم و يذهب عنهم رجز الشيطان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لا موجب لإيرادها و كذا الروايات و لعلّها تزهو الاُلوف.

و قد قال سبحانه:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف: ٣ و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) الآية: ٤ من السورة، فبيّن أنّ ما نعقله من كتابه و يظهر لنا من بيان رسوله حجّة لا مناص عنه، و نحن لا نعقل من قوله مثلاً:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ) إبراهيم: ١٠، إلّا أنّ المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيّد لعبده أو أيّ متبوع لتابعه: ائتني بماء لأشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته إلّا أنّ الشرب و الأكل و ستر العورة أغراض لأوامرها، فللّه سبحانه فيما ينزّله من الأحكام و الشرائع أغراض و غايات مقصودة.

نعم بيّن سبحانه أنّ ساحته منزّهة عن الفقر و الحاجة مبرّأة عن النقص و الشين إذ قال:( إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) العنكبوت: ٦، و قال:( وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) الأنعام: ١٣٣ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَ الله هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥ فأفاد أنّه في غنى عن كلّ شي‏ء لا ينتفع بشي‏ء من هذه الأغراض و ليست أفعاله تعالى بالعبث و الجزاف حتّى تخلو عن الغرض، كيف؟ و قد وصف نفسه بالحكمة و الحكيم لا يعبث و لا يجازف، و نصّ على انتفاء العبث من فعله:( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) المؤمنون: ١١٥ و الأمر و النهي اللّذان يتمّ بهما الكمال في العالم الإنسانيّ يعودان بالآخرة إلى ما يتمّ به الخلقة.

فللّه سبحانه في خلقه و أمره أغراض، و إن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنّه سبحانه لا يتأثّر عن أغراضه و بعبارة اُخرى

٥

الحكم و المصالح لا تؤثّر فيه تعالى كما أنّ مصلحة الفعل تؤثّر فينا فيبعثنا تعقّلها نحو الفعل و نرجّح الفعل على الترك، فإنّه سبحانه هو القاهر غير المقهور و الغالب غير المغلوب، يملك كلّ شي‏ء و لا يملكه شي‏ء، و يحكم على كلّ شي‏ء و لا يحكم عليه شي‏ء، و لم يكن له شريك في الملك و لا وليّ من الذلّ، فلا يكون تعالى محكوماً بعقل بل هو الّذي يهدي العقل إلى ما يعقله، و لا تضطرّه مصلحة إلى فعل و لا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.

فالغرض و المصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى أنّ فعله يتوقّف على المصلحة لكنّها لا تحكم في ذاته تعالى و لا تضطرّه إلى الفعل، فكما أنّه تعالى إذا خلق شيئاً و قال له: كن فكان كزيد مثلاً انتزع العقل من العين الخارجيّة نفسها أنّها إيجاد من الله تعالى و وجود لزيد و حكم بأنّ وجوده يتوقّف على إيجاده، كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا أنّه فعله و أنّه ذو مصلحة مقصودة ثمّ يحكم بأنّ تحقّق الفعل يتوقّف على كونه ذا مصلحة.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على الحكم و المصالح متوقّفة على الأغراض و المتحصّل من ذلك أنّ له تعالى في أفعاله أغراضاً لكنّها راجعة إلى خلقه دونه.

و ملخّصه أنّ غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين: أحدهما أنّه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله و غاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور و الإرادة من الإنسان و سائر الحيوان، و ثانيهما أنّ المصلحة و المفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره.

و أمّا النزاع المعروف بين الأشاعرة و المعتزلة في أنّ أفعال الله معلّلة بالأغراض أم لا؟ بمعنى أنّه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعيّة في فعله بحيث إنّ المصلحة ترجّح له الفعل على الترك و لولاها لم يكن له ليفعل؟ أو أنّه لا غاية له في فعله و إنّما يفعل بإرادة جزافيّة من غير غرض؟

فذلك ممّا لا يهدي إلى شي‏ء من طرفيه النظر المستوفى و الحقّ خلاف القولين

٦

جميعاً، و هو أمر بين الأمرين كما أشرنا إليه و لعلّنا نوفّق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقلّ في المسألة نستوفي فيه النظر العقليّ و النقليّ فيها إن شاء الله تعالى.

و في قوله:( بِإِذْنِ ربّهم ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه التخلّص إلى ذكر صفة الربوبيّة و تسجيل أنّه تعالى هو ربّ هؤلاء المشركين الّذين اتّخذوا له أنداداً فإنّ وجه الكلام في الحقّيقة إليهم و إن كان المخاطب به هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دونهم و لتكون هذه التسمية و هي في مفتتح الكلام مبدءً لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبيّة.

قوله تعالى: ( إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) العزّة تقابل الذلّة، قال الراغب: العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعزّة فإنّ الْعزّة لِلَّهِ جَمِيعاً ) و تعزّز اللحم اشتدّ و عزّ كأنّه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، انتهى موضع الحاجة.

فعزّة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله و الوصول إليه و منه عزيز القوم و هو الّذي يقهر و لا يقهر لأنّه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون أن يمنع قبل الوصول إليه و يقهر، و منه العزيز لما قلّ وجوده لصعوبة نيله، و منه العزيز بمعنى الشاقّ لأنّ الّذي يشقّ على الإنسان يصعب حصوله، قال تعالى:( عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ) التوبة: ١٢٨ و منه قوله:( وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) ص: ٢٣ أي غلبني على ما فسّر به.

و الله سبحانه عزيز لأنّه الذات الّذي لا يقهره شي‏ء من جهة و هو يقهر كلّ شي‏ء من كلّ جهة و لذلك انحصرت العزّة فيه تعالى فلا توجد عند غيره إلّا باكتساب منه و بإذنه قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعزّة فإنّ الْعزّة لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: ١٣٩ و قال( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعزّة فَلِلَّهِ الْعزّة جَمِيعاً ) فاطر: ١٠.

و الحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد و هو الثناء على الجميل الاختياريّ،

٧

و إذ كان كلّ جمال ينتهي إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ربّ الْعالَمِينَ ) سورة الحمد: ٢ و من غريب القول ما عن الإمام الرازيّ على ما سننقله: أنّ الحميد معناه العالم الغنيّ.

و قوله:( إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) بدل من قوله:( إِلَى النُّورِ ) يبين به ما يوصل إليه الكتاب الّذي أنزله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بياناً بعد بيان فنبّه أوّلاً بأنّه نور يميّز الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و السعادة من الشقاوة، و ثانياً بأنّه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه و ينتهي بهم جميعاً إلى الله العزيز الحميد.

و الوجه في ذكر الصفتين الكريمتين:( الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) أنّهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجّه إليهم فإنّ عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم أنّ الله أنعم عليهم بربوبيّته كلّ نعمة عظيمة، ثمّ عزم عليهم من طريق رسله أن يشكروه و لا يكفروه و وعد رسله أنّهم إن آمنوا أدخلهم الجنّة، و إن كفروا انتقم منهم و أوردهم مورد الشقاء و العذاب، فليخافوا ربّهم و ليحذروا مخالفة أمره و كفران نعمته لأنّ له كلّ العزّة لا نمنع عن حلول سخطه بهم و نزول عذابه عليهم شي‏ء، حميد لا يذمّ في إثابته المؤمنين، و لا في تعذيب الكافرين، كما لا يذمّ فيما بسط عليهم من نعمه الّتي لا تحصى.

فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث: توحّده تعالى بالربوبيّة و عزّته و كونه حميداً في أفعاله فليخف من عزّته المطلقة، و ليشكر و ليوثق بما وعد و ليتذكّر من آيات ربوبيّته.

و في روح المعاني عن أبي حيان: النكتة في ذلك أنّه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب و إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزّة المتضمّنة للقدرة و الغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الّذي لا يقدر عليه سواه، و صفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. قال: و وجه التقديم و التأخير على هذا ظاهر انتهى.

و هو أجنبيّ عن سياق آيات السورة البتّة و لعلّه مأخوذ من قوله تعالى في

٨

وصف القرآن:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ لكنّ المقام غير المقام.

و عن الإمام في تفسيره: إنّما قدّم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأنّ الصحيح أنّ أوّل العلم بالله تعالى العلم بكونه قادراً ثمّ بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثمّ بعد ذلك العلم بكونه غنيّاً عن الحاجات و العزيز هو القادر، و الحميد هو العالم الغنيّ فلمّا كان العلم بكونه قادراً متقدّماً على العلم بكونه عالما بالكلّ غنيّاً عنه لا جرم قدّم ذكر العزيز على ذكر الحميد. انتهى، و هو مجازفة عجيبة.

و قريب منه في المجازفة قول بعضهم: قدّم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبيّة كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية فإنّ العزّة - كما تقدّم - من الصفات السلبيّة بخلاف الحمد.

و ربّما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر أنّه للترغيب في سلوك هذا الصراط لأنّه صراط العزيز الحميد فيعزّ سالكه و يحمد سابله، انتهى. و هو وجه الأحرى به أن يجعل من الفوائد المتفرّعة دون السبب الموجب، و الوجه ما قدّمناه.

و أمّا قوله( الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) فبيان للعزيز الحميد، و المراد بما في السماوات و الأرض كلّ ما في الكون فيشمل نفس السماوات و الأرض كما يشمل ما فيهما، فهو تعالى يملك كلّ شي‏ء من كلّ جهة بحقيقة معنى الملك.

و فيه إشارة إلى الحجّة في كونه تعالى عزيزاً حميداً، فإنّه تعالى و إن كان هو الّذي يحقّ الحقّ بكلماته و هو الّذي ينجح كلّ حجّة في دلالتها، لكنّه جاري عباده في كلامه على ما فطرهم عليه، و ذلك أنّه تعالى لما ملك كلّ خلق و أمر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكلّ قهر و غلبة فلا قهر إلّا منه و لا غلبة إلّا له فهو تعالى عزيز و له أن يتصرّف في ما يشاء بما يشاء و لا يكون تصرّفه إلّا محموداً غير مذموم لأنّ التصرّف إنّما يكون مذموماً إذا كان المتصرّف لا يملكه إمّا عقلاً أو شرعاً أو عرفاً، و أيّ تصرّف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنّه يملكه، فهو تعالى حميد محمود الأفعال.

٩

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) بيان لما تقتضيه صفة العزّة من القهر لمن يردّ دعوته و يكفر بنعمته.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) إلخ، قال الراغب في المفردات: و قوله عزّوجلّ:( إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) أي إن آثروه عليه، و حقيقة الاستحباب أن يتحرّى الإنسان في الشي‏ء أن يحبّه، و اقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار، و على هذا قوله تعالى:( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏ ) ، انتهى.

و معنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا و ترك الآخرة رأسا، و يقابله اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى أخذ الآخرة غاية للسعي و جعل الدنيا مقدّمة لها يتوسّل بها إليها، و أمّا اختيار الآخرة و ترك الدنيا من أصلها فإنّه مضافا إلى عدم إمكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة، و ينجرّ إلى تركها بالآخرة، فالحياة الدنيا حياة منقطعة و الحياة الآخرة حياة دائمة يتوسّل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب، فمن اختار الآخرة و أثبتها لزمه إثبات الدنيا لمكان مقدّميّتها، و من اختار الدنيا و جعلها غاية لزمه نفي الآخرة من أصلها لأنّها لو ثبتت ثبتت غاية و إذ لم يجعل غاية انتفت، فليس بين يدي الإنسان إلّا خصلتان: اختيار الآخرة على الدنيا بجعل الآخرة غاية و إثبات الدنيا معها للمقدّميّة، و اختيار الدنيا على الآخرة بجعل الدنيا غاية و نفي الآخرة من أصلها.

و إيضاح المقام أنّ الإنسان لا بغية له إلّا سعادة حياته و حبّه لها فطريّ، و قد أوضحنا ذلك في مواضع متفرّقة فيما تقدّم، و الّذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة أنّها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلّل الموت إلى حياتين: الحياة الدنيا المؤجّلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت، و هي تتفرّع في سعادتها و شقائها على الحياة الدنيا و ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيويّة من حسنة أو سيّئة، و لا مفرّ للإنسان من هذه الأعمال لما عنده من حبّ الحياة الفطري.

و هذه الأعمال أعني السنّة الّتي يستنّ بها الإنسان في حياته الدنيا الكاسبة له

١٠

التقوى أو الفجور و الحسنة أو السيّئة هي الّتي تسمّى في كتاب الله ديناً و سبيلاً، فلا مفرّ للإنسان من سنّة حسنة أو سيّئة و دين حقّ أو باطل.

و لما كان من سنّة الله سبحانه الجارية أن يهدي كلّ نوع من الأنواع إلى سعادته و كماله و من كمال الإنسان و سعادته أن يعيش عيشة اجتماعيّة و يستن بسنة حيويّة، شرع الله سبحانه له ديناً مبنيّاً على فطرته الّتي فطر عليها و هو سبيل الله الّذي يسلكه و دينه الّذي يتديّن به، فإنّ جرى على ما شرعته له الربوبيّة و هدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله و ابتغاه مستقيماً، و إن اتّبع الهوى و صدّ نفسه عن سبيل الله و اشتغل بما يزيّنه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجاً منحرفاً.

أمّا أنّه يبتغي سبيل الله فإنّ الله هو الّذي فطره على طلب السبيل و ابتغاء الصراط و لا يهدي البتّة إلّا إلى ما يرتضيه و هو سبيل نفسه، و أمّا أنّه منحرف ذو عوج فلأنّه لا يهدي إلى الحقّ و ما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال؟ و الآيات القرآنية الدالّة على هذا الّذي قدّمناه متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

إذا عرفت هذا لاح لك أنّ قوله في تفسير الكافرين:( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) مفاده أنّهم يتعلّقون تمام التعلّق بالحياة الدنيا و يعرضون عن الآخرة بنفيها، و هو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد و النبوّة.

و قوله:( وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) مفاده أنّهم يكفّون أنفسهم عن الاستنان بسنّة الله و التديّن بدينه أو يصدّون و يصرفون الناس عن الإيمان بالله و اليوم الآخر و التشرّع بشريعته عناداً منهم للحقّ، و يطلبون سنّة الله عوجاً و منحرفة بالاستنان بغيرها من سنّة اجتماعيّة أيّاً مّا كانت ثمّ سجّل عليهم الضلال بقوله سبحانه:( ذلِكَ هو الضلال البَعيد ) .

و يظهر بما تقدّم فساد قول بعضهم إنّ المراد بقوله:( يَبْغُونَها عِوَجاً ) يبغون لها عوجاً أي يطلبون لها زيغاً و اعوجاجاً حتّى يعيبوها به و يصدّوا الناس عنها بسببه.

و قول بعضهم: المعنى يطلبون أن يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به.

و قول بعضهم: المعنى يطلبون لأهلها أن يعوجوا و ينحرفوا بالردّ فهو المراد

١١

بطلبهم الدين منحرفاً، و انحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه و فساد هذه الأقوال ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إلى آخر الآية. اللسان هو اللغة، قال تعالى:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥.

و الضمير في( قَوْمِهِ ) عائد إلى( رَسُولٍ ) و في( لَهُمْ ) إلى( قَوْمِهِ ) و المحصّل ما أرسلنا من رسول إلّا بلسان قوم ذلك الرسول ليبيّن لقومه، و من الخطأ إرجاع ضمير قومه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفيد أنّ الله سبحانه كان يوحي إلى جميع الرسل بالعربيّة لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير( لَهُمْ ) إلى( قَوْمِهِ ) فيفيد أنّ الله أنزل التوراة لموسى مثلاً بالعربيّة ليبيّن للعرب كما في الكشّاف.

و المراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الّذين كان يعيش فيهم و يخالطهم و يعاشرهم و ليس المراد به الإرسال بلسان القوم الّذين هو منهم نسبا لأنّه سبحانه يصرّح بمهاجرة لوطعليه‌السلام من كلدة و هم سريانية اللسان إلى المؤتفكات، و هم عبرانيّون و سمّاهم قومه و أرسله إليهم ثمّ أنجاه و أهله إلّا امرأته و هي منهم و أهلكهم قال تعالى:( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى‏ رَبِّي ) العنكبوت: ٢٦ و في مواضع من كلامه تعالى( قَوْمِ لُوطٍ ) .

و أمّا من اُرسل إلى أزيد من اُمّة و هم اُولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنّهم كانوا يدعون أقواماً من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيمعليه‌السلام عرب الحجاز إلى الحجّ، و دعوة موسىعليه‌السلام فرعون و قومه إلى الإيمان و عموم دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد اشتمل القرآن على دعوة اليهود و النصارى و غيرهم و قبول إيمان من آمن منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كذا ما يستفاد من عموم دعوة نوحعليه‌السلام . و على هذا فالمراد بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) - و الله أعلم - إنّ الله لم يبن إرسال الرسل و الدعوة الدينيّة على أساس معجز خارق للعادة الجارية و لا فوّض إلى رسله من الأمر شيئاً بل أرسلهم باللسان العاديّ الّذي كانوا يكالمون قومهم و يحاورونهم به ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا البيان، و

١٢

أمّا ما وراء ذلك من الهداية و الإضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول و لا غيره.

فتعود الآية كالبيان و الإيضاح لقوله تعالى قبل:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) و أنّ معنى إخراجك الناس من الظلمات إلى النور أن تبيّن لهم ما أنزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤.

و أمّا قوله:( فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فإشارة إلى ما أومأنا إليه أنّ أمر الهدى و الضلال إلى الله لا يتحقّق شي‏ء منهما إلّا عن مشيّة منه تعالى غير أنّه سبحانه أخبرنا أنّ هذه المشيّة منه ليست جزافيّة غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتّبع الحقّ و لم يعانده هداه الله، و من جاحده و اتّبع هواه أضلّه الله فهو إضلال مجازاة غير الإضلال الابتدائيّ المذموم.

و قد قدّم سبحانه الإضلال على الهداية إذ قال:( فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) لأنّ ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أنّ الكلام مبنيّ على عزّته المطلقة فكان من الواجب أن يبيّن أنّ ضلال من يضلّ عن السبيل كهدى من اهتدى إليها إنّما هو بمشيّة منه تعالى و لم يغلب في إرادته و لم يزاحم في ملكه حتّى لا يخيّل إلى كلّ مغفّل من الناس أنّ الله يصف نفسه بالعزّة المطلقة و أنّه غالب غير مغلوب و قاهر غير مقهور ثمّ يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته و يأمرهم و ينهاهم فيعصون و لا يطيعون و هل هذا إلّا غلبة منهم و قهر و هو مغلوب مقهور؟.

فكأنّه تعالى أجاب عن ذلك بأنّ معنى دعوته تعالى أن يرسل رسولا بلسان قومه فيبيّن لهم ما يسعدهم ممّا يشقيهم و أمّا ضلال من ضلّ من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشيّة من الله و إذنه، و حاشاه أن يقهر في سلطانه أو يتصرّف في ملكه أحد بغير إذنه.

فضلال من ضلّ منهم دليل عزّته فضلاً أن يكون ناقضاً لها كما أنّ هدى من اهتدى كذلك، و لذلك ذيّل الكلام بقوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فهو سبحانه عزيز

١٣

لا يغلبه و لا يضرّه ضلال من ضلّ منهم، و لا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا و عبثا بل عن نظام متقن دائميّ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إلى آخر الآية، إذ كان الكلام في السورة مبنيّا على الإنذار و التذكير بعزّة الله سبحانه ناسب أن يذكر إرسال موسى بالآيات لهداية قومه فإنّ قصّة رسالته من أوضح مصاديق ظهور العزّة الإلهيّة من بين الرسل و قد قال تعالى فيه:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ ) المؤمن: ٢٣ و قال حاكيا عنهعليه‌السلام :( وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى الله إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) الدخان: ١٩.

فوزان الآية أعني قوله:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) ، من قوله:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) وزان التنظير بداعي التأييد و تطييب النفس كما في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النبيّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) النساء، ١٦.

و أمّا ما ذكر بعضهم أنّ الآية شروع في تفصيل ما اُجمل في قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) فبعيد كلّ البعد. و نظيره في البعد قول بعضهم: إنّ المراد بالآيات الّتي اُرسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات الّتي اُرسلعليه‌السلام بها كالثعبان و اليد البيضاء و غيرهما.

على أنّ الله سبحانه و تعالى لم يعدّ في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى و لا ذكر أنّه أرسله بها قطّ و إنّما ذكر أنّه أنزلها عليه و آتاه إيّاها.

و لم يقيّد قوله:( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ) إلخ بالإذن كما قيّد به قوله للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) إلخ لأنّ قوله ههنا:( أَخْرِجْ قَوْمَكَ ) أمر يتضمّن معنى الإذن بخلاف قوله هناك:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) .

و قوله:( وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ) لا شكّ أنّ المراد بها أيّام خاصّة، و نسبة أيام خاصّة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيّام و كلّ الأشياء له تعالى ليست إلّا لظهور أمره تعالى فيها ظهوراً لا يبقى معه لغيره ظهور، فهي الأزمنة و الظروف الّتي

١٤

ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى و آيات وحدانيّته و سلطنته كيوم الموت الّذي يظهر فيه سلطان الآخرة و تسقط فيه الأسباب الدنيويّة عن التأثير، و يوم القيامة الّذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئاً و الأمر يومئذ لله، و كالأيّام الّتي أهلك الله فيها قوم نوح و عاد و ثمود فإنّ هذه و أمثالها أيّام ظهر فيها الغلبة و القهر الإلهيّان و أنّ العزّة لله جميعاً.

و يمكن أن يكون منها أيّام ظهرت فيها النعم الإلهيّة ظهوراً ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوحعليه‌السلام و أصحابه من السفينة بسلام من الله و بركات و يوم إنجاء إبراهيم من النار و غيرهما فإنّها أيضاً كسوابقها لا نسبة لها في الحقّيقة إلى غيره تعالى فهي أيّام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيّام إلى الاُمم و الأقوام و منه أيّام العرب كيوم ذي قار و يوم فجار و يوم بغاث و غير ذلك.

و تخصيص بعضهم الأيّام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزّته تعالى، و من مقتضى صفة عزّته الإنعام على العباد و الأخذ الشديد إن كفروا بنعمته.

ثمّ تممّ الكلام بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي كثير الصبر عند الضرّاء و كثير الشكر على النعماء.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يبعث الله نبيّا إلّا بلسان قومه‏.

و فيه، أخرج النسائيّ و عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ) قال: بنعم الله و آلائه.

١٥

أقول: و هو بيان بعض المصاديق، و روى ما في معناه الطبرسيّ و العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام .

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبدالله بن عبّاس و جابر بن عبدالله في حديث طويل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّام الله نعماؤه و بلاؤه و هو مثلاته سبحانه.

و في تفسير القمّيّ، قال: قال أيّام الله ثلاثة: يوم القائم و يوم الموت و يوم القيامة.

أقول: المراد بيان أيّامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيّامه.

و في المعاني، بإسناده عن مثنّى الحنّاط عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: أيّام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم و يوم الكرّة و يوم القيامة.

أقول: و هي كسابقتها و اختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية.

١٦

( سورة إبراهيم الآيات ٦ - ١٨)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ( ٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ  وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( ٧) وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ( ٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ  وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ  لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ  جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( ٩) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ  وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ( ١١) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا  وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا  وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ( ١٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا  فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ( ١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ  ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ( ١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ١٥) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ( ١٦)

١٧

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ  وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( ١٧ ) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ  أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ  لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ  ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( ١٨ )

( بيان)

الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله و نقمه في أيّامه و ظاهر سياق الآيات أنّها من كلام موسىعليه‌السلام غير قوله تعالى:( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) الآية فهي حكاية قول موسى يذكّر فيها قومه ببعض أيّام الله سبحانه على ما يقتضيه عزّته المطلقة من إنزال النعم و النقم، و وضع كلّ في موضعه الّذي يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ) إلى آخر الآية، السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشي‏ء فهو لفظ لمعنى يتركّب من الذهاب و الابتغاء فكأنّه في الآية بمعنى إذاقة العذاب، و الاستحياء استبقاء الحياة.

و المعنى و اذكر أيّها الرسول لزيادة التثبّت في أنّ الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه و هم بنو إسرائيل: اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون و خاصّة من القبط و الحال أنّهم مستمرّون على إذاقتكم سوء العذاب و يكثرون ذبح الذكور من أولادكم و على استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق، و في ذلكم بلاء و محنة من ربّكم عظيم.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) قال في المجمع التأذّن الاعلام يقال: آذن و تأذّن و مثله أوعد و توعّد. انتهى.

١٨

و قوله:( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) إلخ معطوف على قوله:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ ) و موقع الآية التالية:( وَ قالَ مُوسى‏ ) إلخ، من هذه الآية كموقع قوله:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) إلخ، من قوله:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إلخ، فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.

و ذكر بعضهم أنّه داخل في مقول موسى و ليس بكلام مبتدء و عليه فهو معطوف على قوله:( نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ) و التقدير: اذكروا نعمة الله عليكم و اذكروا إذ تأذّن ربّكم إلخ، و فيه أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم و إذ تأذّن ربّكم إلخ، لما فيه من رعاية حكم الترتيب.

و قيل: إنّه معطوف على قوله:( إِذْ أَنْجاكُمْ ) و المعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربّكم، فإنّ هذا التأذّن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب و الترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا و الآخرة.

و فيه أنّ هذا التأذّن ليس إلّا نعمة للشاكرين منهم خاصّة و أمّا غيرهم فهو نقمة عليهم و خسارة فنظمه في سلك ما تقدّمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.

فالظاهر أنّه كلام مبتدء و قد بيّن تعالى هذه الحقّيقة أعني كون الشكر - الّذي حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكّر إنعام المنعم و يظهر إحسانه و يؤل في مورده تعالى إلى الإيمان به و التقوى - موجباً لمزيد النعمة و الكفر لشديد العذاب، في مواضع من كلامه، و قد حكى عن نوح فيما ناجى ربّه و دعا على قومه:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ) الخ: نوح: ١٢.

و من لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية - كما ذكره بعضهم - اشتمالها على التصريح بالوعد و التعريض في الوعيد حيث قال:( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) و قال:( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) و لم يقل: لأعذّبنّكم و ذلك من دأب الكرام في وعدهم و وعيدهم غالبا.

و الآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد و الوعيد بالدنيا و لا

١٩

بالآخرة، و تأثير الإيمان و الكفر و التقوى و الفسق في شؤون الحياة الدنيا و الآخرة معاً معلوم من القرآن.

و قد استدلّ بالآية على وجوب شكر المنعم، و الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على أزيد من أنّ الكافر على خطر من كفره فإنّ الله سبحانه لم يصرّح بفعليّة العذاب على كلّ كفر إذ قال:( وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) و لم يقل: لأعذّبنّكم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ مُوسى‏ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإنّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذّن به من الزيادة على الشكر و العذاب على الكفر على ما تقتضيه العزّة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسىعليه‌السلام ما يجري مجرى التنظير فقال:( وَ قالَ مُوسى‏ ) و الكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.

و أمّا أنّ الله غنيّ و إن كفر من في الأرض جميعاً فإنّه غنيّ بالذات عن كلّ شي‏ء فلا ينتفع بشكر و لا يتضرّر بكفر، و إنّما يعود النفع و الضرر إلى الإنسان فيما أتى به، و أمّا أنّه حميد فلأنّ الحمد هو إظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال و الحسن و فعله تعالى حسن جميل من كلّ جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه و إخفاؤه، فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.

على أنّ كلّ شي‏ء يحمده بتمام وجوده حتّى الكافر بنعمته كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الإسراء: ٤٤ فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه، و له كلّ الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ ) إلى آخر الآية. من كلام موسىعليه‌السلام يذكّر قومه من أيّام الله في الاُمم الماضين ممّن فنيت أشخاصهم و خمدت أنفاسهم و عفت آثارهم و انقطعت أخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلاً إلّا الله كقوم نوح و عاد و ثمود و الّذين من بعدهم.

و من هنا يعلم أوّلاً: أنّ المراد بالنبإ، في قوله:( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماويّة خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأنّ الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقّبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعيّ إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفّار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.

و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحقّ و تميط الباطل - لأنزلهم بالحقّ الفاصل المميّز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصّل ما ذكره بعضهم.

و قيل: المراد بالحقّ في الآية الموت و المعنى ما نزّل الملائكة على الناس إلّا مصاحبا للحقّ الّذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) الآية.

و قيل: المراد بالحقّ الرسالة أي ما نزّل الملائكة إلّا بالوحي و الرسالة و كأنّه مأخوذ من نحو قوله:( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحقّ ) النساء: ١٧٠( و قولهفَقَدْ كَذَّبُوا بِالحقّ لَمَّا جاءَهُمْ ) الأنعام: ٥.

فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعاً لا تخلو من شي‏ء و هو أنّ شيئاً منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ ) فنزول الملائكة لا يختصّ بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختصّ بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحقّ يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقرّرة آنفاً.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية باستمداد من التدبّر في آيات اُخر أنّ ظرف الحياة المادّيّة أعني هذه النشأة الدنيويّة ظرف يختلط فيه الحقّ و الباطل من غير أن يتمحّض الحقّ في الظهور بجميع خواصّه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَ الْباطِلَ ) الرعد: ١٧، و قد تقدّم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شي‏ء من الحقّ إلّا و هو يحتمل شيئاً من اللبس و الشكّ كما يصدّقه

١٠١

استقراء الموارد الّتي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلّا مع إمكان التباس الحقّ بالباطل و اختلاط الخير و الشرّ بنحو حتّى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدلّ على الخير و الشرّ بآثارهما و أماراتهما ثمّ يختار ما يستحقّه من السعادة و الشقاوة.

و أمّا عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنّما هو عالم الحقّ غير مشوب بشي‏ء من الباطل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

فمقتضى الآيات و ما في معناها أنّهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانيّة منزّهة عن النّقص و الشين لا تحتمل الشرّ و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادّيّ المبنيّ على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعاً، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.

و سيأتي أيضاً أنّ الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحقّ ما دام متوغّلاً في هذا العالم المادّيّ متورّطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلّا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحقّ و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و هذا هو العالم الّذي يسمّى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.

فتبيّن أنّ ظهور عالم الملائكة للناس المتوغّلين في عالم المادّة متوقّف على تبدّل الظرف و الانتقال من الدّنيا إلى الآخرة و هو الموت اللّهمّ إلّا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهّرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهليّة مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياءعليهم‌السلام .

و لعلّ ما قدّمناه هو المراد بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا

١٠٢

إِذاً مُنْظَرِينَ ) ، فإنّهم إنّما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصليّة حتّى يصدّقوا و هذا الحال لا تتمهّد لهم إلّا بالموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ إلى أن قال يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣.

و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدّقة للنبوّة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلّدنا الملك النبوّة و الرّسالة كان لازمه أن نصوّره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفاً يحتمل اللبس فإنّ الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهيّ و لا امتحان إلّا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصّل إلى الرسالة بما يضطرّ العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كلّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.

و المعنى - على هذا و الله أعلم - أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتّى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، و ليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إيّاه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكراً لله مبيّناً لحقائق معارفه.

١٠٣

فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكراً لله سبحانه فهو ذكر حيّ خالد.

و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللّام في الذكر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربّما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً لأنّ كلّا منهما ذكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.

و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الّذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ و دوران الحكم مداره.

و سنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن رفاعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنّة إلّا مسلم فيومئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثمّ قال:( ذرهم يأكلوا و يتمتّعوا و يلههم الأمل) أي شغلهم( فسوف يعلمون) .

أقول: و روى العيّاشيّ، عن عبدالله بن عطاء المكّيّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في تفسير الآية مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن

١٠٤

جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ناسا من اُمّتي يعذّبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثمّ يعيّرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحّد إلّا أخرجه الله تعالى من النار. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن أبي موسى الأشعريّ و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنّة عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أصحاب الكبائر من موحّدي الاُمم كلّها الّذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنّم لا تزرق أعينهم، و لا تسودّ وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلّون بالسلاسل، و لا يجرّعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرّم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود.

فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهراً ثمّ يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثمّ يخرج منها، و أطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.

فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضباً لم يغضبه لشي‏ء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنّة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثمّ يدخلون الجنّة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنّميّون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنّة ما شاء الله أن يمكثوا.

ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكاً فيمحوه ثمّ

١٠٥

يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمّرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنّة بنعيمهم و لذّاتهم، و ذلك قوله:( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.

و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرس عوداً بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإنّ هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك.

أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المجمع، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى، و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.

( كلام في أنّ القرآن مصون عن التحريف في فصول)

( الفصل ١- الاستدال علي نفي التحريف بالقرآن)

من ضروريّات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء قبل أربعة عشر قرناً - تقريباً - و ادّعى النبوّة و انتهض للدّعوة و آمن به اُمّة من العرب و غيرهم، و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه متضمّن لجمل المعارف و كلّيّات الشريعة الّتي كان يدعو إليها، و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته، و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الّذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في

١٠٦

الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه اُمور لا يرتاب في شي‏ء منها إلّا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.

و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شي‏ء يسير كالجملة أو الآية(١) أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أمّا جلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يضع و لم يفقد.

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شي‏ء منها أو يفوته و يفقد.

فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شي‏ء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود و القلوب.

و نجده يتحدّى بقوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلّا و يرفعه آية اُخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.

و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة كما في قوله:

__________________________________________________

(١) كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام أن قوله تعالى: ( إنّك ميّت و إنّهم ميّتون ) من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إنّ النبيّ مات فقرأها على عمر فصرفه.

١٠٧

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) إسراء: ٨٨ و قوله:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: ١٤ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الّذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخلقيّة من غير أن نعثر فيها على شي‏ء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شي‏ء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الّذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.

و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اُممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.

و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.

و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملّة الّتي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.

و من أجمع الأوصاف الّتي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذكر لله فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤل إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار.

١٠٨

ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الّذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر.

و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات الّتي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى‏ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاً و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.

و كقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكراً لله سبحانه بوجه.

و من سخيف القول إرجاع ضمير( لَهُ ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مدفوع بالسياق و إنّما كان المشركون يستهزؤن بالنبيّ لأجل القرآن الّذي كان يدّعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) و قد مرّ تفسير الآية.

فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما اُنزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.

و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة لو كان تغيّر في شي‏ء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الّذي بأيدينا واجداً

١٠٩

لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته فالّذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعينه فلو فرض سقوط شي‏ء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شي‏ء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النوريّة و الذكريّة و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.

( الفصل ٢- الاستدلال عليه بالحديث)

و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.

و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) الحديث فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به.

و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.

على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحقّ من الباطل و من المعلوم أنّ الدسّ و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الاُمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.

١١٠

و كذا الأخبار الّتي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتّى في الموارد الّتي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهمعليهم‌السلام كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.

و كذا الروايات الواردة عن أميرالمؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّتهعليهم‌السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عندالله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّعليه‌السلام من المصحف و لم يشركوهعليه‌السلام في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب‏ قولهمعليهم‌السلام لشيعتهم:( اقرؤا كما قرأ النّاس) .

و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألّفه عليّعليه‌السلام في شي‏ء فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات الّتي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً و لا في الأوصاف الّتي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.

فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الّذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.

( الفصل ٣- كلام مثبتي التحريف و جوابه)

ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل السنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.

و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.

١١١

أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الّذي اُلّف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الّذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ و مسلم و سنن أبي داود و النسائيّ و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.

و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبدالله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف اُبيّ بن كعب المصحف العثمانيّ و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة الّتي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الّذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.(١)

و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجي‏ء روايته.

و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبدالله بن مسعود و اُبيّ ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة و غير الاختلافات القرائيّة الشاذّة الّتي رويت عن الصحابة و التابعين فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.

الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.

الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة: أنّ عليّاعليه‌السلام اعتزل الناس بعد رحلة

__________________________________________________

(١) ذكره ابن طاووس في سعد السعود.

١١٢

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يرتد إلّا للصّلاة حتّى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن‏ الّذي أنزله الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كانعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتّفق عليه: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ.

الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الاُمّة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة، بالقذّة و قد حرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الاُمّة فيحرّفوا كتاب ربّهم و هو القرآن الكريم.

ففي صحيح البخاريّ، عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و اُمّهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟

و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ - كما مرّ - و أبي هريرة و عبدالله بن عمر، و ابن عبّاس و حذيفة و عبدالله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شدّاد بن أوس و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.

و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير القمّيّ، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لتركبنّ سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة لا تخطؤن طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.

و الجواب عن استدلالهم بإجماع الاُمّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة

١١٣

بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.

بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع و ذلك أنّ الّذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات الّتي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الّذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون.

و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم، هذا في المحصّل من الإجماع و هو الّذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول، و أمّا المنقول منه الّذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.

فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على خطإ أو ضلال) و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.

فحجية الإجماع بالجملة متوقّفة على صحّة النبوّة و ذلك ظاهر، و صحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشي‏ء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.

١١٤

و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.

و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اُريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.

و الجواب عن الوجه الأوّل الّذي اُقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الّذي تمسّك فيه بالأخبار:

أما أوّلاً فبأنّ التمسّك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الّذي تقدّم آنفاً.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تاريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ فإنّ انسراب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجّيّة في خبر لا يؤمن فيه الدسّ و الوضع.

و مع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة:

أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرّفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأوّل: في قول الله:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ - فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب -وَ قُلْ لَهُمْ

١١٥

فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) .

و ما في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا - عمّا اُمرتم به -فإنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.

و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات الّتي تذكر هذه الآية هكذا:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ - في عليّ -) و الآية نازلة في حقّهعليه‌السلام ، و ما روي: أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا:( إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ - بنو تميم -أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) فظنّ أنّ في الآية سقطا.

و يلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله:( وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا - آل محمّد حقّهم -) و ما ورد من قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ - في ولاية عليّ و الأئمّة من بعده -فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) و هي كثيرة جدّاً.

و يلحق بها أيضاً ما اُتبع فيه القراءة بشي‏ء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال:( قلت‏ ظ) كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالّتي وردت في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) ففي بعضها أنّ الآية هكذا:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء) و في بعضها:( و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل) .

و هذا الاختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيّده ما ورد في بعضها من قولهعليه‌السلام : لا يجوز وصفهم بأنّهم

١١٦

أذلّة و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على‏ ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة و هي في بعضها: إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة. و في بعضها: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذّة» و في بعضها آخرها:( نكالا من الله و الله عليم حكيم) و في بعضها:( نَكالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

و كآية الكرسيّ على التنزيل الّتي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:( اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً( مَنْ ذَا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ - إلى قوله -وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و الحمد لله ربّ العالمين.

و في بعضها - إلى قوله -( هُمْ فِيها خالِدُونَ ) و الحمد لله ربّ العالمين، و في بعضها هكذا:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ - و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم -) إلخ. و في بعضها:( عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام ربّ العرش العظيم) و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم.

و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتّفاقها في أصل التحريف. مردود بأنّ ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.

و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الاُمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الّذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الّذي يأوي إليه و يتحصّن به المعارف

١١٧

الدينيّة و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن لفسد بذلك أمر النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.

و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إنّ رجلا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أنّ القرآن الّذي جاء به كان معجزاً دالّاً على نبوّته، و الإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجيّته أو لأنّه يكشف مثلاً عن قول أئمّة أهل بيته؟.

و بالجملة احتمال الدسّ - و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن - يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتّى ما كان منها صحيح الأسناد فإنّ صحّة السند و عدالّة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اُصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.

و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشي‏ء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللّتين رويتا بعدّة من طرق أهل السنّة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك و سورة الحفد هي:( بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد و لك نصلّي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق) .

و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاُسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها

١١٨

حتّى تشاهد صدق ما ادّعيناه و تقضي أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.

و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قوله:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) الآيتان حتّى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الّذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الاُولى الّتي أقمناها لنفي التحريف.

كيف لا؟ و القرآن الّذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اُصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الّذي وصفه الله بها.

و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مجازفة بيّنة نعم يجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك و هي قائمة كما قدّمنا، و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ فلا.

و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعهعليه‌السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شي‏ء من الحقّائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شي‏ء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنهعليه‌السلام في موارد شتّى و لم ينقل عنهعليه‌السلام فيما

١١٩

روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و جبّههم على إسقاطها أو تحريفها.

و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرّزاً عن شقّ العصا فإنّما كان يتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.

و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات الّتي يرون سقوطها و ربّما ادّعوا أنّها تبلغ الاُلوف كانت جميعاً في الولاية أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلّمه و بلوغ اجتهاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نصّ على ذلك القرآن قال تعالى:( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢ و قال:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله:( وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) و قوله:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.

أو أنّ هذه الآيات - و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السنّة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.

فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدّة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتّى أبطلها الله بإمحاء

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409