الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91113 / تحميل: 6603
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ولا بأس به و إن كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن إباء قوله:( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.

و كذا لا يرد على الوجهين ما اُورد أنّ رجوع ضمير( نَسْلُكُهُ ) إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.

وجه عدم الورود: أنّه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده أنّهم كانوا متلبّسين بالأجرام قبل فعل السلوك بهم ثمّ فعل بهم ذلك فينطبق على الإضلال الإلهيّ مجازاة و لا مانع منه، و إنّما الممنوع هو الإضلال الابتدائيّ و لا دليل عليه في الآية بل الدليل على خلافه، و الآية من قبيل قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦. و قد تقدّم تفصيل القول فيه.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ المراد بسنّة الأوّلين السنّة الّتي سنّها الأوّلون لا السنّة الّتي سنّها الله في الأوّلين فالسنّة سنّتهم دون سنّة الله فيهم - كما ذكره بعض المفسّرين - فهو الأنسب لمقام ذمّهم و تعزيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذكر ردّهم و استهزائهم لرسلهم.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إنّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) إلخ، العروج في السماء الصعود إليها و التسكير الغشاوة.

و المراد بفتح باب من السماء عليهم إيجاد طريق يتيسّر لهم به الدخول في العالم العلويّ الّذي هو مأوى الملائكة و ليس كما يظنّ سقفاً جرمانيّاً له باب ذو مصراعين يفتح و يغلق، و قد قال تعالى:( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) القمر: ١١.

و قد اختار سبحانه من بين الخوارق الّتي يظنّ أنّها ترفع عنهم الشبهة و تزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء و عروجهم فيه لأنّه كان يعظم في أعينهم أكثر من غيره، و لذلك لما اقترحوا عليه اُموراً من الخوارق العظيمة ذكروا الرقيّ في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقّي كما حكاه الله عنهم بقوله:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً - إلى أن قال -أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: ٩٣ فالرقيّ في

١٤١

السماء و التصرّف في اُمورها كتنزيل كتاب مقروّ منها أي نفوذ البشر في العالم العلويّ و تمكّنه فيه و منه أعجب الخوارق عندهم.

على أنّ السماء مأوى الملائكة الكرام و محلّ صدور الأحكام و الأوامر الإلهيّة و فيها ألواح التقادير و منها مجاري الاُمور و منبع الوحي و إليها صعود كتب الأعمال، فعروج الإنسان فيها يوجب اطّلاعه على مجاري الاُمور و أسباب الخوارق و حقائق الوحي و النبوّة و الدعوة و السعادة و الشقاوة و بالجملة يوجب إشرافه على كلّ حقيقة، و خاصّة إذا كان عروجاً مستمرّاً لا مرّة و دفعة كما يشير إليه قوله تعالى:( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) حيث عبّر بقوله:( فَظَلُّوا ) و لم يقل: فعرجوا فيه.

فالفتح و العروج بهذا النعت يطلعهم على اُصول هذه الدعوة الحقّة و أعراقها لكنّهم لما في قلوبهم من الفساد و في نفوسهم من قذارة الريبة و الشبهة المستحكمة يخطّؤون أبصارهم فيما يشاهدون بل يتّهمون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سحرهم فهم مسحورون من قبله.

فالمعنى: و لو فتحنا عليهم بابا من السماء و يسّرنا لهم الدخول في عالمها فداموا يعرجون فيه عروجاً بعد عروج حتّى يتكرّر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب و ملكوت الأشياء لقالوا إنّما غشيت أبصارنا فشاهدت اُموراً لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون.

١٤٢

( سورة الحجر الآيات ١٦ - ٢٥)

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ( ١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ( ١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ( ١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ( ١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ( ٢٠) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ( ٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ( ٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ( ٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ( ٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ  إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ( ٢٥)

( بيان)

لمّا ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة و اقتراحهم آية اُخرى و هي الإتيان بالملائكة و أجاب عنه أنّه ممتنع و ملازم لفنائهم عدل إلى عدّ عدّة من آيات السماء و الأرض الدالّة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون و تتمّ الحجّة بها على المجرمين، و قد ضمّن سبحانه فيها طرفاً عالياً من المعارف الحقيقيّة و الأسرار الإلهيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) إلى آخر الآيات الثلاث البروج جمع برج و هو القصر سمّيت بها منازل الشمس و القمر من السماء بحسب الحسّ تشبيها لها بالقصور الّتي ينزلها الملوك.

١٤٣

و الضمير في قوله:( وَ زَيَّنَّاها ) للسماء كما في قوله:( وَ حَفِظْناها ) و تزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوّها من البهجة و الجمال الّذي يولّه الألباب بنجومها الزاهرة و كواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها و تنوّع لمعاتها و قد كرّر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله:( وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ) حم السجدة: ١٢ و قوله:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كلّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى‏ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كلّ جانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إلّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) الصافّات: ١٠.

و استراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرّونه فيما بينهم، و استراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطّلعوا على بعض ما يحدّث به الملائكة فيما بينهم كما يدلّ عليه ما تقدّم آنفاً من آيات سورة الصافّات.

و الشهاب هو الشعلة الخارجة من النار و يطلق على ما يشاهد في الجوّ من أجرام مضيئة كأنّ الواحد منها كوكب ينقضّ دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيراً سريعاً ثمّ لا يلبث دون أن ينطفئ.

فظاهر معنى الآيات:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ ) - و هي جهة العلو - بروجاً و قصوراً هي منازل الشمس و القمر و زيّنّاها أي السماء للناظرين بزينة النجوم و الكواكب وَ حَفِظْناها أي السماء من كلّ شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطّلع على ما تحتويه من الملكوت إلّا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدّث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلّقة بمستقبل الحوادث و غيرها فإنّه يتبعه شهاب مبين.

و سنتكلّم إن شاء الله في الشهب و معنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافّات.

قوله تعالى: ( وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ ) مدّ الأرض بسطها طولاً و عرضاً و بذلك صلحت للزرع و السكنى و لو

١٤٤

اُغشيت جبالاً شاهقة مضرّسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.

و الرواسي صفة محذوفة الموصوف و التقدير و ألقينا فيها جبالا رواسي و هو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنّها تمنع الأرض من الميدان كما قال:( وَ أَلْقى‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) النحل: ١٥.

و الموزون من الوزن و هو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثمّ عمّم لكلّ تقدير لكلّ ما يمكن أن يتقدّر بوجه كتقدير الطول بالشبر و الذراع و نحو ذلك و تقدير الحجم و تقدير الحرارة و النور و القدرة و غيرها، و في كلامه تعالى:( وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) الأنبياء: ٤٧ و هو توزين الأعمال و لا يتّصف بثقل و خفّة من نوع ما للأجسام الأرضيّة منهما.

و ربّما يكنّى به عن كون الشي‏ء بحيث لا يزيد و لا ينقص عمّا يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال: كلامه موزون و قامته موزونة و أفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد و لا تنقص ممّا يقتضيه الطبع أو الحكمة.

و بالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أنّ المراد به إخراج كلّ ما يوزن من المعدنيّات كالذهب و الفضّة و سائر الفلزّات، و قال بعضهم: إنّه إنبات النباتات على ما لكلّ نوع منها من النظام البديع الموزون، و قيل: إنّه خلق كلّ أمر مقدر معلوم.

و الّذي يجب التنبّه له التعبير بقوله:( مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ ) دون أن يقال: من كلّ نبات موزون فهو يشمل غير النبات ممّا يظهر و ينمو في الأرض كما أنّه يشمل النبات لمكان قوله:( وَ أَنْبَتْنا ) دون أن يقال: أخرجنا أو خلقنا و قد جيي‏ء بمن و ظاهرها التبعيض فالمراد - و الله أعلم - إنبات كلّ أمر موزون ذي ثقل مادّيّ يمكن أن يزيد و ينقص من الأجسام النباتيّة و الأرضيّة، و لا مانع على هذا من أخذ الموزون بكلّ من معنييه الحقيقيّ و الكنائيّ.

و المعنى: و الأرض بسطناها و طرحنا فيها جبالاً ثابتة لتسكّنها من الميد و أنبتنا فيها من كلّ شي‏ء موزون - ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب - مقدارا تقتضيه الحكمة.

١٤٥

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) المعايش جمع معيشة و هي ما به يعيش الحيوان و يديم حياته من المأكول و المشروب و غيرهما و يأتي مصدراً كالعيش و المعاش.

و قوله:( وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) معطوف على الضمير المجرور في( لَكُمْ ) على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيّون و يونس و الأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ، و أمّا على قول غيرهم فربّما يعطف على معايش و التقدير و جعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد و الحيوان الأهليّ، و ربّما جعل( مَنْ ) مبتدأ محذوف الخبر و التقدير: و من لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش و هذا كلّه تكلّف ظاهر.

و كيف كان، المراد بمن العبيد و الدوابّ - على ما قيل - اُتي بلفظة من و هي لاُولي العقل تغليبا هذا، و ليس من البعيد أن يكون المراد به كلّ ما عدا الإنسان من الحيوان و النبات و غيرهما فإنّها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء و من دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصّة بالعقلاء على غيرهم إذا اُضيف إليها شي‏ء من الآثار المختصّة بهم كقوله تعالى في الأصنام:( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) الأنبياء: ٦٣ و قوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) الشعراء: ٧٧ إلى غير ذلك من الآيات المتعرّضة لحال الأصنام الّتي كانوا يعبدونها و لا يستقيم للمعبود إلّا أن يكون عاقلاً، و كذا قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: ١١ و غير ذلك.

و المعنى: و جعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها ممّا تدام به الحياة و لغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الخزائن جمع خزانة و هي مكان خزن المال و حفظه و ادّخاره، و القدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشي‏ء و كمّيّته المتعيّنة.

و لما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الّذي يعيش به الإنسان و

١٤٦

الحيوان كان المراد بالشي‏ء الموصوف في الآية النبات و ما يتبعه من الحبوب و الثمرات فالمراد بخزانته الّتي عند الله و هو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الّذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب و الأثمار و يعيش بذلك الإنسان و الحيوان هذا ملخّص ما ذكره جمع من المفسّرين.

و لا يخفى عليك ما فيه من التكلّف فتخصيص ما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) من العموم و حصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شكّ و المورد لا يخصّص و أردى منه تسمية المطر خزائن النبات و ليس إلّا سبباً من أسبابه و جزء من أجزاء كثيرة يتكوّن النبات بتركّبها الخاصّ، على أنّ المطر إنّما تتكوّن حينما ينزل فكيف يسمّى خزانة و ليس بموجود و لا أنّ الّذي هو خزانته موجود فيه.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بكون خزائن كلّ شي‏ء عندالله سبحانه شمول قدرته المطلقة له.

فله تعالى من كلّ نوع من أنواع الأشياء كالإنسان و الفرس و النخلة و غير ذلك من الأعيان و صفاتها و آثارها و أفعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عدداً لا يخرج منها دائماً من التقدير و الفرض إلى التحقّق و الفعليّة إلّا قدر معلوم و عدد معيّن محدود.

و على هذا فالمراد من كلّ شي‏ء نوعه لا شخصه كالإنسان مثلاً لا كزيد و عمرو، و المراد من القدر المعلوم الكمّيّة المعيّنة من الأفراد و المراد من وجود خزائنه و وجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقّق فيرجع إلى نوع من التشبيه و المجاز.

و أنت خبير بأنّ فيه تخصيصا للشي‏ء من غير مخصّص، و فيه قصر للقدر في العدد من غير دليل، و القدر في اللغة قريب المعنى من الحدّ و هو المفهوم من سياق قوله تعالى:( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ) الطلاق: ٣ و قوله:( وَ كلّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) الرعد: ٨ و قوله:( إِنَّا كلّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) القمر: ٤٩ و قوله:( وَ خَلَقَ كلّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) الفرقان: ٢ إلى غير ذلك.

١٤٧

و فيه إرجاع الكلام إلى معنى مجازيّ استعاريّ من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.

و ذكر بعض معاصريّ المفسّرين وجهاً آخر و هو أنّ المراد بالخزائن العناصر المختلفة الّتي تتألّف منها الأرزاق و غيرها و قد أعدّ الله منها في عالمنا المشهود كمّيّة عظيمة لا تنفد بعروض التركيب و الأسباب الكلّية الّتي تعمل في تركّب المركّبات كالضوء و الحرارة و الرياح الدائمة المنظّمة و غيرها الّتي تتكوّن منها الأشياء ممّا يحتاج إليه الإنسان في إدامة حياته و غيره.

فكلّ من هذه الأشياء مدّخرة بأجزائها و القوى الفعّالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره و من جهة ما يعود إليه من الأجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركّبات بموت أو فساد و رجوعها إلى عناصرها الأوّليّة كالنبات يفسد و الحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارّها و يتّسع بذلك المكان لكينونة نبات و حيوان آخر يخلفان سلفهما.

فالضوء و خاصّة ضوء الشمس الّذي يعمل الليل و النهار و الفصول الأربعة و يربّي النبات و الحيوان و سائر المركّبات و يسوقها إلى غاياتها و مقاصدها من خزائن الله تعالى و الرياح الّتي تلقّح النبات و تسوق السحب و تنقل الأهوية من مكان إلى مكان و تدفع فاسد الهواء و تجري السفن خزانة اُخرى، و الماء النازل من السماء الّذي تحتاج إليه المركّبات ذوات الحياة في كينونتها و بقائها خزانة اُخرى، و كذلك العناصر البسيطة الّتي تتركّب منها المركّبات كلّ منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدّة منها الأشياء المركّبة، و لا ينزل قطّ إلّا عدد معلوم من كلّ نوع من غير أن تنفد به الخزائن.

و على هذا فمراد الآية بالشي‏ء هو نوعه لا شخصه كما تقدّم في الوجه الأوّل و المراد بخزائنه مجموع ما في الكون من اُصوله و عناصره و أسبابه العامّة المادّيّة و مجموع الشي‏ء موجود في مجموع خزائنه لا في كلّ واحد منها و المراد بنزوله

١٤٨

بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كلّ حين من غير أن يستوفي عدد جميع ما في خزائنه.

و هذا وجه حسن في نفسه تؤيّده الأبحاث العلميّة عن كينونة هذه الحوادث و تصدّقه آيات كثيرة متفرّقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية:( وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ) و قوله:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كلّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) الأنبياء: ٣٠ و قوله:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) إبراهيم: ٣٣ و قوله:( وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) البقرة: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات.

لكنّ الآية و هي من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه أخواتها و كيف يحمل عليه قوله:( وَ خَلَقَ كلّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) ؟ الفرقان: ٢ و قوله:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) الأعلى: ٣ و قوله:( وَ كلّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) الرعد: ٨ و قوله:( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) النمل: ٥٧ و قوله:( مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) عبس: ١٩ و قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.

على أنّه يرد عليه بعض ما اُورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم( شَيْ‏ءٍ ) من غير مخصّص و غير ذلك.

و الّذي يعطيه التدبّر في الآية و ما يناظرها من الآيات الكريمة أنّها من غرر كلامه تعالى تبيّن ما هو أدقّ مسلكاً و أبعد غورا ممّا فسّروها به و هو ظهور الأشياء بالقدر و الأصل الّذي لها قبل إحاطته بها و اشتماله عليها.

و ذلك أنّ ظاهر قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفي مع تأكيده بمن، كلّ ما يصدق عليه أنّه شي‏ء من دون أن يخرج منه إلّا ما يخرجه نفس السياق و هو ما تدلّ عليه لفظة( نا ) و( عند ) و( خزائن ) و ما عدا ذلك ممّا يرى و لا يرى مشمول للعامّ.

فشخص زيد مثلاً و هو فرد إنسانيّ من الشي‏ء و نوع من الإنسان أيضاً الموجود

١٤٩

في الخارج بأفراده من الشي‏ء و الآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلاً له خزائن عند الله؟.

و الّذي يسهل الأمر فيه أنّه تعالى يعدّ هذا الشي‏ء المذكور نازلا من عنده و النزول يستدعي علواً و سفلا و رفعة و خفضة و سماء و أرضا مثلاً و لم ينزل زيد المخلوق مثلاً من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بإنزاله إلّا خلقه لكنّه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها، و نظير الآية قوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦ و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد: ٢٥.

ثمّ قوله:( وَ ما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) يقرن النزول و هو الخلقة بالقدر قرناً لازماً غير جائز الانفكاك لمكان الحصر، و الباء إمّا للسببيّة أو الآلة أو المصاحبة و المآل واحد فكينونة زيد و ظهوره بالوجود إنّما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة، كيف؟ و هو تعالى يقول:( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤ و لو لم يكن محدوداً لم يكن محاطاً له تعالى فمن المحال أن يحاط بما لا حدّ له و لا نهاية.

و هذا القدر هو الّذي بسببه يتعيّن الشي‏ء و يتميّز من غيره ففي زيد مثلاً شي‏ء به يتميّز من عمرو و غيره من أفراد الإنسان و يتميّز من الفرس و البقر و الأرض و السماء و يجوز لنا به أن نقول: ليس هو بعمرو و لا بالفرس و البقر و الأرض و السماء و لو لا هذا الحدّ لكان هو هي و ارتفع التميّز.

و كذلك ما عنده من القوى و الآثار و الأعمال محدودة مقدّرة فليس إبصاره مثلاً إبصاراً مطلقاً في كلّ حال و في كلّ زمان و في كلّ مكان و لكلّ شي‏ء و بكلّ عضو مثلاً بل إبصار في حال و زمان و مكان خاصّ و لشي‏ء خاصّ و بعضو خاصّ و على شرائط خاصّة، و لو كان إبصاراً مطلقاً لأحاط بكلّ إبصار خاصّ و كان الجميع له و نظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده و توابعه فافهم ذلك.

و من هنا يظهر أنّ القدر خصوصيّة وجود الشي‏ء و كيفيّة خلقته كما يستفاد أيضاً من قوله تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: ٣ و قوله:( الَّذِي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٢٥ فإنّ الآية الاُولى رتّبت الهداية و هي

١٥٠

الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشي‏ء و تسويته و تقديره، و الآية الثانية رتّبتها على إعطائه ما يختصّ به من الخلق، و لازم ذلك - على ما يعطيه سياق الآيتين - كون قدر الشي‏ء خصوصيّة خلقه غير الخارجة عنه.

ثمّ إنّه تعالى وصف قدر كلّ شي‏ء بأنّه معلوم إذ قال:( وَ ما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) و يفيد بحسب سياق الكلام أنّ هذا القدر معلوم له حينما يتنزّل الشي‏ء و لما يتمّ نزوله و يظهر وجوده فهو معلوم القدر معيّنة قبل إيجاده، و إليه يؤل معنى قوله:( وَ كلّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) الرعد: ٨ فإنّ ظاهر الآية أنّ كلّ شي‏ء بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك:( عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) في معنا قوله ههنا( بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) و نظير ذلك قوله في موضع آخر:( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ) الطلاق: ٣ أي قدراً لا يتجاوزه معيّنا غير مبهم معلوماً غير مجهول و بالجملة للقدر تقدّم على الشي‏ء بحسب العلم و المشيّة و إن كان مقارناً له غير منفكّ عنه في وجوده.

ثمّ إنّه تعالى أثبت بقوله:( عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ ) إلخ، للشي‏ء عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة و استقراره فيها خزائن، و جعل القدر متأخّراً عنها ملازماً لنزوله فالشي‏ء و هو في هذه الخزائن غير مقدّر بقدر و لا محدود بحدّ و هو مع ذلك هو.

و قد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الّذي يلحق الشي‏ء و بين كونها خزائن فوق الواحدة و الاثنتين، و من المعلوم أنّ العدد لا يلحق إلّا الشي‏ء المحدود و أنّ هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميّزة بعضها من بعض كانت واحدة البتّة.

و من هنا يتبيّن أنّ هذه الخزائن بعضها فوق بعض و كلّ ما هو عال منها غير محدود بحدّ ما هو دان غير مقدّر بقدره و مجموعها غير محدود بالحدّ الّذي يلحق الشي‏ء و هو في هذه النشأة، و لا يبعد أن يكون التعبير بالتنزيل الدالّ على نوع من التدريج في قوله:( وَ ما نُنَزِّلُهُ ) إشارة إلى كونه يطوي في نزوله مرحلة بعد مرحلة و كلّما ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتّى إذا وقع في الأخيرة أحاط به القدر من كلّ جانب قال تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ

١٥١

لَمْ يَكُنْ شيئاً مَذْكُوراً ) الدهر: ١ فقد كان الإنسان و لكنّه لم يكن شيئاً مذكوراً.

و هذه الخزائن جميعاً فوق عالمنا المشهود لأنّه تعالى وصفها بأنّها عنده و قد أخبرنا بقوله:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) أنّ ما عنده ثابت لا يزول و لا يتغيّر عمّا هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت اُمور ثابتة غير زائلة و لا متغيّرة، و الأشياء في هذه النشأة المادّيّة المحسوسة متغيّرة فانية لا ثابتة و لا باقية فهذه الخزائن الإلهيّة فوق عالمنا المشهود.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و هو و إن كان لا يخلو من دقّة و غموض يعضل على بادئ الفهم لكنّك لو أمعنت في التدبّر و بذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك و وجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى و على من لم يتيسّر له قبوله أن يعتمد الوجه الثالث المتقدّم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدّمة و الله وليّ الهداية و سنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقلّ يختصّ به إن شاء الله في موضع يناسبه.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال: لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح - بفتح اللام - و هو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر، و قد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات أنّ حكم الزوجيّة جار في عامّة النبات و أنّ فيه ذكوريّة و اُنوثيّة و أنّ الرياح في مهبّها تحمل الذرّات من نطفة الذكور فتلقح بها الإناث، و هو قوله تعالى:( وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ) .

و قوله:( فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ) إشارة إلى المطر النازل من السحاب و قد تسلّم الأبحاث العلميّة الحديثة أنّ الماء الموجود في الكرة الأرضيّة من الأمطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء أنّه كرة ناقصة محيطة بكرة الأرض إحاطة ناقصة و هو عنصر من العناصر الأربعة.

و هذه الآية الّتي تثبت بشطرها الأوّل:( وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ) مسألة

١٥٢

الزوجيّة و اللقاح في النبات، و بشطرها الثاني:( فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ) أنّ المياه الموجودة المدّخرة في الأرض تنتهي إلى الأمطار، و قوله تعالى السابق:( وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ ) الظاهر في أنّ للوزن دخلاً خاصّاً في الإنبات و الإنماء من نقود العلم الّتي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلميّة و هي تتلو المعجزة أو هي هي.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ ) الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كلّ التدبير إليه، و قد كان ما عدّه من النعم كالسماء ببروجها و الأرض برواسيها، و إنبات كلّ شي‏ء موزون و جعل المعايش و إرسال اللواقح و إنزال الماء من السماء إنّما يتمّ نظاماً مبنيّاً على الحكمة و العلم إذا انضمّ إليه الحياة و الموت و الحشر، و كان ممّا ربّما يظنّ أنّ بعض الحياة و الموت ليس إليه تعالى و لذا أكّد الكلام و أتى بالحصر دفعا لذلك.

ثمّ جاء بقوله:( وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ ) أي الباقون بعد إماتتكم المتصرّفون فيما خوّلناكموه من أمتعة الحياة كأنّه تعالى يقول إلينا تدبير أمركم و نحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم، و نميتكم و نرثكم فنحن بعدكم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) لما كانت الآيات السابقة الّتي تعدّ النعم الإلهيّة و تصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيّته تعالى في ربوبيّته، و كان لا ينفع الخلق و النظم من غير انضمام علمه تعالى و خاصّة بمن يحييه و يميته عقّبها بهذه الآية الدالّة على علمه بمن استقدّم منهم بالوجود و من استأخر أي المتقدّمين من الناس و المتأخّرين على ما يفيده السياق.

و قيل: المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير، و قيل: المستقدمون في صفوف الحرب، و قيل: المستقدمون إلى الصفّ الأوّل في صلاة الجماعة و المستأخرون خلافهم، و هي أقوال رديّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الربّ.

١٥٣

و اُورد عليه أنّه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلّم الثبوت و النزاع إنّما هو في الفاعل، و هاهنا ليس كذلك فإنّ الخصم لا يسلّم الحشر من أصله هذا.

و قد ذهب على هذا المعترض أنّ الآية حوّلت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفاتا فقيل:( وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) و لم يقل إنّ ربّكم هو يحشركم، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلّم للحشر.

و بذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلّم مع الغير إلى الغيبة، و في مورد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغيبة إلى الخطاب و في مورد الناس بالعكس.

و قد ختمت الآية بقوله:( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) لأنّ الحشر يتوقّف على الحكمة المقتضية لحساب الأعمال و مجازاة المحسن بإحسانه و المسي‏ء بإساءته، و على العلم حتّى لا يغادر منهم أحد.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) قال: قال: منازل الشمس و القمر.

و فيه في قوله تعالى:( إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) قال: قال: لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء و تجسّ حتّى ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في المعاني، عن البرقي عن أبيه عن جدّه عن البزنطيّ عن أبان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلمّا ولد عيسىعليه‌السلام حجب عن ثلاث سماوات و كان يخترق أربع سماوات فلمّا ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجب عن السبع كلّها و رميت الشياطين بالنجوم. الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال جرير بن عبدالله: حدّثني يا رسول الله عن السماء الدنيا و الأرض السفلى، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا السماء الدنيا فإنّ الله خلقها من دخان ثمّ رفعها و جعل

١٥٤

فيها سراجاً و قمراً منيراً و زيّنها بمصابيح النجوم و جعلها رجوما للشياطين و حفظها من كلّ شيطان رجيم.

أقول: و سيأتي إن شاء الله ما يتبيّن به معنى هذه الأحاديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) قال: لكلّ ضرب من الحيوان قدّرنا شيئاً مقدراً.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ ) فإنّ الله أنبت في الجبال الذهب و الفضّة و الجوهر و الصفر و النحاس و الحديد و الرصاص و الكحل و الزرنيخ و أشباه ذلك لا تباع إلّا وزنا.

أقول: ينبغي أن يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه و سنده من الوهن.

و في روضة الواعظين، لابن الفارسيّ روي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّهعليه‌السلام أنّه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البرّ و البحر. قال: و هذا تأويل قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) الحديث.

و في المعاني، بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: قال أبوعبدالله الصّادقعليه‌السلام : لما صعد موسىعليه‌السلام الطور فنادى ربّه عزّوجلّ قال: ربّ أرني خزائنك. قال: يا موسى إنّما خزائني إذا أردت شيئاً أن أقول له: كن فيكون.

و في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و ابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئاً قال له: كن فكان.

أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة تؤيّد ما قدّمناه في تقرير معنى الآية، و المراد بقول كن كلمة الإيجاد الّذي هو وجود الأشياء. و هو ممّا يؤيّد عموم الشي‏ء في الآية، و كذا كان يفهمه الصحابة و أهل عصر النزول كما يؤيّده‏ ما رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن معاوية أنّه قال: أ لستم تعلمون أنّ كتاب الله حقّ؟ قالوا: بلى. قال: فاقرؤا هذه الآية( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ

١٥٥

إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) أ لستم تؤمنون بهذا و تعلمون أنّه حقّ؟ قالوا: بلى. قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف و قال: يا معاوية و الله ما نلومك على ما في خزائن الله و لكن إنّما نلومك على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك و أغلقت عليه بابك فسكت معاوية.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الحاكم عن مروان بن الحكم قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله:( وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتقدّمينَ مِنْكُمْ ) الآية.

أقول: و روي فيه، أيضاً عن عدّة عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس قال: كانت امرأة تصلّي خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدّم حتّى يكون في الصف الأوّل لئلّا يراها و يستأخر بعضهم حتّى يكون في الصفّ المؤخّر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله:( وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

و الآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ و لا من جهة السياق الّذي وقعت هي فيه. و هو ظاهر.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبدالملك عن مقاتل بن سليمان في قوله:( وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) الآية قال: بلغنا أنّه في القتال. قال معتمر فحدّثت أبي فقال: لقد نزلت هذه الآية قبل أن يفرض القتال.

أقول: يعني أنّها مكّيّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: هم المؤمنون من هذه الاُمّة.

و في تفسير البرهان، عن الشيباني في نهج البيان، عن الصادق جعفر بن محمّد: أنّ المستقدمين أصحاب الحسنات، و المستأخرين أصحاب السيّئات.

١٥٦

( سورة الحجر الآيات ٢٦ - ٤٨)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ( ٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ( ٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ( ٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( ٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ( ٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ( ٣١) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ( ٣٢) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ( ٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ( ٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ( ٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ( ٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ( ٣٧) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ( ٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( ٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( ٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ( ٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ( ٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ( ٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ( ٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ( ٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ( ٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ( ٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ( ٤٨)

١٥٧

( بيان)

هذه هي الطائفة الثالثة من الآيات الموردة إثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفّار بالكتاب و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اقتراحهم عليه آية اُخرى غير القرآن، و قد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الإنسان و الجانّ و أمره الملائكة و إبليس أن يسجدوا له و سجودهم و إباء إبليس و هو من الجنّ و رجمه و إغواءه بني آدم، و ما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتّقين و شقاء الغاوين.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال الراغب في المفردات: أصل الصلصال تردّد الصوت من الشي‏ء اليابس و منه قيل: صلّ المسمار و سمّي الطين الجافّ صلصالا، قال تعالى:( مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) ( مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) و الصلصلة بقيّة ماء سمّيت بذلك لحكاية صوت تحرّكه في المزادة و قيل: الصلصال المنتن من الطين من قولهم: صلّ اللحم.

و قال: و الحمأة و الحمأ طين أسود منتن، و قال: و قوله:( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قيل: متغيّر و قوله: لم يتسنّه معناه لم يتغيّر و الهاء للاستراحة. انتهى.

و قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) إلخ المراد به بدء خلقة الإنسان بدليل قوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) الم السجدة: ٨ فهو إخبار عن خلقة النوع و ظهوره في الأرض فإنّ خلق أوّل من خلق منهم و منه خلق الباقي خلق الجميع.

قال في مجمع البيان: و أصل آدم كان من تراب و ذلك قوله:( خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) ثمّ جعل التراب طيناً و ذلك قوله:( وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ثمّ ترك ذلك الطين حتّى تغيّر و استرخى و ذلك قوله:( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ثمّ ترك حتّى جفّ و ذلك قوله:( مِنْ صَلْصالٍ ) فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) قال الراغب: السموم الريح الحارّة تؤثّر تأثير السمّ. انتهى. و أصل الجنّ الستر و هو معنى سار

١٥٨

في جميع ما اشتقّ منه كالجنّ و المجنّة و الجنّة و الجنين و الجنان بالفتح و جنّ عليه الليل و غير ذلك.

و الجنّ طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسّنا ذات شعور و إرادة تكرّر في القرآن الكريم ذكرهم و نسب إليهم أعمال عجيبة و حركات سريعة كما في قصص سليمانعليه‌السلام و هم مكلّفون و يعيشون و يموتون و يحشرون تدلّ على ذلك كلّه آيات كثيرة متفرّقة في كلامه تعالى.

و أمّا الجانّ فهل هو الجنّ بعينه أو هو أبوالجنّ كما أنّ آدمعليه‌السلام أبوالبشر كما عن ابن عبّاس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجانّ نسل إبليس من الجنّ أو هو نوع من الجنّ كما ذكره الراغب؟ أقوال مختلفة لا دليل على أكثرها.

و الّذي يهدي إليه التدبّر في كلامه تعالى أنّه قابل في هاتين الآيتين الإنسان بالجانّ فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما، و نظير ذلك قوله:( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) الرحمن: ١٥.

و لا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على أنّ إبليس كان جانّا و إلّا لغي قوله:( وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ) إلخ، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في إبليس:( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠ فأفاد أنّ هذا الجانّ المذكور هو الجنّ نفسه أو هو نوع من أنواع الجنّ ثمّ ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجانّ من أصله و لم يذكر إلّا الجنّ حتّى في موارد يعمّ الكلام فيها إبليس و قبيله كقوله تعالى:( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ ) الأنعام: ١١٢ و قوله:( وَ حقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) حم السجدة: ٢٥ و قوله:( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ - إلى أن قال -يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا ) الرحمن: ٣٣.

و ظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الإنسان و الجانّ تارة و بين الإنس و الجنّ اُخرى أنّ الجنّ و الجانّ واحد و إن اختلف التعبير.

١٥٩

و ظاهر المقابلة بين قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) إلخ، و قوله:( وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ) إلخ أنّ خلق الجانّ من نار السموم المراد به الخلق الابتدائيّ و بدء ظهور النوع كخلق الإنسان من صلصال، و هل كان استمرار الخلقة في أفراد الجانّ المستتبع لبقاء النوع على سنّة الخلق الأوّل من نار السموم بخلاف الإنسان حيث بدئ خلقه من تراب ثمّ استمرّ بالنطفة؟ كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهراً غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرّيّة إلى إبليس كما قال:( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) الكهف: ٥٠ و نسبة الموت إليهم كما في قوله:( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) حم السجدة: ٢٥ و المألوف من نوع فيه ذرّيّة و موت هو التناسل و الكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟.

و قوله:( خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ) مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الإنسان و القرينة هي المقابلة بين الخلقين.

و عدّ مبدء خلق الجانّ في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمن من عدّه مارجاً من نار أي لهيباً مختلطاً بدخان فإنّ الآيتين تلخّصان أنّ مبدء خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار.

فمعنى الآيتين: اُقسم لقد بدأنا خلق النوع الإنسانيّ من طين قد جفّ بعد أن كان سائلاً متغيّراً منتناً و نوع الجانّ بدأنا خلقه من ريح حارّة حادّة اشتعلت فصارت ناراً.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: البشرة ظاهر الجلد و الأدمة باطنه كذا قال عامّة الاُدباء - إلى أن قال - و عبّر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات الّتي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثنّى فقال تعالى:( أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ ) و خصّ في القرآن في كلّ موضع اعتبر من الإنسان جثّته و ظاهره بلفظ البشر نحو:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ) انتهى موضع الحاجة.

١٦٠

و قوله:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) بإضمار فعل و التقدير: و اذكر إذ قال ربّك، و في الكلام التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و كأنّ العناية فيه مثل العناية الّتي مرّت في قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) فإنّ هذه الآيات أيضاً تكشف عن نبإ ينتهي إلى الحشر و السعادة و الشقاوة الخالدتين.

على أنّ التكلّم مع الغير في السابق( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا ) ( خَلَقْناهُ ) من قبيل تكلّم العظماء عنهم و عن خدمهم و أعوانهم تعظيما أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في الأمر و هذه العناية ممّا لا يستقيم في مثل المقام الّذي يخاطب فيه الملائكة في إخبارهم بإرادته خلق آدمعليه‌السلام و أمرهم بالسجود له إذا سوّاه و نفخ فيه من روحه فافهم ذلك و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) التسوية جعل الشي‏ء مستويا قيّما على أمره بحيث يكون كلّ جزء منه على ما ينبغي أن يكون عليه فتسوية الإنسان أن يكون كلّ عضو من أعضائه في موضع الّذي ينبغي أن يكون فيه و على الحال الّتي ينبغي أن يكون عليها.

و لا يبعد أن يستفاد من قوله:( إِنِّي خالِقٌ - فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) أنّ خلق بدن الإنسان الأوّل كان على سبيل التدريج الزمانيّ فكان أوّلاً الخلق و هو جمع الأجزاء ثمّ التسوية و هو تنظيم الأجزاء و وضع كلّ جزء في موضعه الّذي يليق به و على الحال الّتي تليق به ثمّ النفخ و لا ينافيه ما في قوله تعالى:( خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩ فإنّ قوله:( ثُمَّ قالَ لَهُ ) إلخ ناظر إلى كينونة الرّوح و هو النفس الإنسانيّة دون البدن كما عبّر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤.

و قوله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) النفخ إدخال الهواء في داخل الأجسام بفم أو غيره و يكنّى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شي‏ء، و يعني به في الآية إيجاده تعالى الروح الإنسانيّ بما له من الرابطة و التعلّق بالبدن، و ليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ جَعَلْناهُ

١٦١

نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤ و قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١.

فالآية الاُولى - كما ترى - تبيّن أنّ الروح الإنسانيّ هو البدن منشأ خلقاً آخر و البدن على حاله من غير أن يزاد فيه شي‏ء، و الآية الثانية تبيّن أنّ الروح عند الموت مأخوذ من البدن و البدن على حاله من غير أن ينقص منه شي‏ء.

فالروح أمر موجود في نفسه له نوع اتّحاد بالبدن بتعلّقه به و له استقلال عن البدن إذا انقطع تعلّقه به و فارقه و قد تقدّم بعض ما يتعلّق من الكلام بهذا المقام في تفسير قوله تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ ) البقرة: ١٥٤ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و نرجو أن نستوفي هذا البحث في ذيل قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الآية ٨٥ من سورة إسراء إن شاء الله.

و إضافة الروح إليه تعالى في قوله:( مِنْ رُوحِي ) للتكرمة و التشريف من الإضافة اللاميّة المفيدة للملك، و قوله:( فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) أي اسجدوا، و لا يبعد أن يفهم منه أن خرّوا على الأرض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل.

و معنى الآية فإذا عدّلت تركيبه و أتممت صنع بدنه و أوجدت الروح الكريم المنسوب إليّ الّذي أربط بينه و بين بدنه فقعوا و خرّوا على الأرض ساجدين له.

قوله تعالى: ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلّا إِبْلِيسَ أَبى‏ أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده، و المراد أنّ الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد و قد استثنى من ذلك إبليس و لم يكن منهم لقوله تعالى:( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف: ٥٠ و أمّا قول من قال: إنّ طائفة من الملائكة كانوا يسمّون الجنّ و كان إبليس منهم أو أنّ الجنّ بمعنى الستر فيعمّ الملائكة و غيرهم فممّا لا يصغي إليه، و قد تقدّم في تفسير سورة الأعراف كلام

١٦٢

في معنى شمول الأمر بالسجود لإبليس مع عدم كونه من الملائكة و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) ( ما لَكَ ) مبتدء و خبر أي ما الّذي هو كائن لك؟ و قوله:( أَلَّا تَكُونَ ) من قبيل نزع الخافض و التقدير في أن لا تكون مع الساجدين و هم الملائكة، و محصّل المعنى: ما بالك لم تسجد؟.

قوله تعالى: ( قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) في التعبير بقوله:( لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ ) دون أن يقول: لا أسجد أو لست أسجد دلالة على أنّ الإباء عن السجدة مقتضى ذاته و كان هو المترقّب منه لو اطّلع على جوهره فتفيد الآية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر:( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ص: ٧٦ بالتصريح.

و قد تقدّم كلام في معنى السجود لآدم و أمر الملائكة و إبليس بذلك و ائتمارهم و تمرّده عنه، نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة و الأعراف من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم و هو الطرد و شاع استعماله في الطرد بالحجارة و الحصاة، و اللعن هو الطرد و الإبعاد من الرحمة.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) إلخ بمنزلة البيان لقوله:( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) فإنّ الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الإلهيّة و بالجملة من مقام القرب و هو مستوى الرحمة الخاصّة الإلهيّة فينطبق على الإبعاد من الرحمة و هو اللعن.

و قد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على إبليس في موضع آخر إلى نفسه فقال:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) ص: ٥٨ و قيّدها في الآيتين جميعاً بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) .

١٦٣

أمّا جعل مطلق اللعنة عليه في قوله:( عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) فلأنّ اللعن يلحق المعصية و ما من معصية إلّا و لإبليس فيه صنع بالإغواء و الوسوسة فهو الأصل الّذي يرجع إليه كلّ معصية و ما يلحقها من لعن حتّى في عين ما يعود إلى أشخاص العصاة من اللعن و الوبال، و تذكّر في ذلك ما تقدّم في ذيل قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الأنفال: ٣٧ في الجزء التاسع من الكتاب.

على أنّه لعنه الله أوّل فاتح فتح باب معصية الله و عصاه في أمره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.

و أمّا جعل لعنته خاصّة عليه في قوله:( عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) فلأنّ الإبعاد من الرحمة بالحقّيقة إنّما يؤثّر أثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك أحد من رحمته إعطاء و منعا إلّا بإذنه فإليه يعود حقيقة الإعطاء و المنع.

على أنّ اللعن من غيره تعالى بالحقّيقة دعاء عليه بالإبعاد من الرحمة و أمّا نفس الإبعاد الّذي هو نتيجة الدعاء فهو من صنعه القائم به تعالى و حقيقته المبالغة في منع الرحمة.

و قال في المجمع: و قال بعض المحقّقين: إنّما قال سبحانه هنا:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) بالألف و اللّام، و قال في سورة ص:( لَعْنَتِي ) بالإضافة لأنّ هناك يقول:( لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) مضافا، فقال:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) على المطابقة، و قال هنا:( ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) و ساق الآية على اللّام في قوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) و قوله:( وَ الْجَانَّ ) فأتى باللام أيضاً في قوله:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) انتهى و قال أيضاً في الآية بيان أنّه لا يؤمن قطّ.

و أمّا تقييد اللعنة بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) فلأنّ اللعنة هي عنوان الإثم و الوبال العائد إلى النفس من المعصية و المعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل، و إن شئت فقل: هذه الدار دار كتابة الأعمال و حفظها و يوم القيامة دار الحساب و الجزاء.

١٦٤

و أمّا قول القائل: إنّ تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيّاً به مرفوعاً فيه و فيما بعده فممّا يدفعه ظاهر الآيات المبيّنة للعذاب يوم القيامة.

و يؤيّد ذلك التعبير في الآية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنّه ملعون قبل يوم القيامة و مجزّي به فيه، و لو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين.

و ربّما قيل في دفع إشكال الغاية إنّ ذلك أبعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) الآية، و هو كما ترى و قد عرفت معنى الآية المقيس عليها في تفسير سورة هود.

و ربّما قيل: إنّ المراد باللعنة في الآية لعن الخلائق و ذلك منقطع بمجيي‏ء يوم الدين دون لعنه تعالى و إبعاده له من رحمته فإنّه متّصل إلى الأبد.

و كأنّ هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الآية: ٧٨.

قوله تعالى: ( قالَ ربّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) الإنظار هو الإمهال و قد صدّر كلامه بقوله:( رَبِّ ) و هو يخاصمه و قد عصاه و استكبر عليه تعالى لأنّه في مقام الدعاء لا مفرّ له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الإلهيّة المطلقة و هو الالتجاء إليه بربوبيّته له ليستجيب له و هو مغضوب عليه.

و قد صدّر مسألته بفاء التفريع في قوله:( فَأَنْظِرْنِي ) و ذكر فيه بعثة عامّة البشر من غير أن يخصّ بالذكر آدم أباهم الّذي ابتلي بالرجم و اللعن من أجل الإباء عن السجود له و ذلك كلّه مبنيّ على ما تقدّم في تفسير آيات القصّة في سورة الأعراف أنّ المأمور به كان هو السجود لعامّة البشر و كان آدمعليه‌السلام كالقنبلة المنصوبة للسجود يمثّل به النوع الإنسانيّ.

و توضيحه أنّه قد تقدّم في قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إِبْلِيسَ ) الأعراف: ١١ أنّهم إنّما اُمروا بالسجدة لنوع الإنسان لا لشخص آدمعليه‌السلام و لم يكن هذه السجدة تشريفاً اجتماعيّاً

١٦٥

من غير غاية حقيقيّة بل كانت خضوعاً بحسب الخلقة فهم بحسب ما اُريد من خلقتهم خاضعون للإنسان بحسب ما اُريد من كمال خلقته، أي إنّهم مسخّرون لأجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي إنّ للإنسان منزلة من القرب و مرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك.

فسجودهم جميعاً له دليل أنّهم جميعاً مسخّرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لأجل فوزه و فلاحه كملائكة الحياة و ملائكة الموت و ملائكة الأرزاق و ملائكة الوحي و المعقّبات و الحفظة و الكتبة و غيرهم ممّن تذكرهم متفرّقات الآيات القرآنيّة فالملائكة أسباب إلهيّة و أعوان للإنسان في سبيل سعادته و كماله.

و من هنا يظهر للمتدبّر الفطن أنّ إباء إبليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الإنسان و العمل في سبيل سعادته و إعانته على كمال المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى:( ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) و أظهر الخصومة لنوع الإنسان و البراءة منهم ما حيّوا و عاشوا أو خالداً مؤبّداً.

و يؤيّده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين و هو مدّة مكث النوع الإنسانيّ في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك و لما يدّع إبليس أنّه سيغويهم و لم يقل بعد:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) مشعرٌ بأنّ إباءه عن السجدة نوع خصومة و عداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد و يعيش من ذرّيّته.

فكأنّه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) أنّ له شأناً مع النوع الإنسانيّ إلى يوم القيامة و أنّ لشقائهم و فساد أعمالهم ارتباطاً به من حيث امتنع عن السجود و لذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرّعاً ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال:( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) و لم يقل: ربّ أنظرني إلى يوم يبعثون و لم يقل: أنظرني إلى يوم يموت آدم أو أنظرني ما دام حيّا يعيش بل ذكر آدم و بنيه جميعاً و طلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرّعاً ذلك على

١٦٦

اللعنة إلى يوم الدين فلمّا اُجيب إلى ما سأل أبدى ما في كمون ذاته و قال:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

قوله تعالى: ( قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) جواب منه سبحانه لإبليس و فيه إجابة و ردّ أمّا الإجابة فبالنسبة إلى أصل الإنظار الّذي سأله و أمّا الردّ فبالنسبة إلى القيد و هو أن يكون الإنظار إلى يوم يبعثون فإنّ من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الآيتين أنّ يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بإنظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره و لا محالة هو قبل يوم البعث.

و بذلك يظهر فساد قول من قال: إنّه لعنه الله اُجيب إلى ما سأل و اليومان في الآيتين واحد و من الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصّة:( قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) الآية: ١٥ من غير أن يقيّد بشي‏ء.

أمّا فساد دعواه اتّحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر ممّا تقدّم و أمّا فساد الاستدلال بإطلاق آية الأعراف فلأنّها تتقيّد بما في هذه السورة و سورة ص من التقييد بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) و هذا كثير شائع في كلامه تعالى و القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض.

و ظاهر يوم الوقت المعلوم أنّه وقت تعيّن في العلم الإلهيّ نظير قوله:( وَ ما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: ٤١ فهو معلوم عندالله قطعاً و أمّا أنّه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ، و قول بعضهم: أنّه سبحانه أبهم اليوم و لم يبيّن فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لأنّ في بيانه إغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فإبهام اللفظ بالنسبة إلينا غير إبهام ما اُلقي إلى إبليس من القول بالنسبة إليه على أنّ إغراء إبليس بالمعصية و هو الأصل لكلّ معصية مفروضة لا يخلو عن إشكال فافهمه.

على أنّ قول إبليس ثانياً:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) شاهد على أنّه سيبقى إلى آخر ما يعيش الإنسان في الدنيا ممّن يمكنه إغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى:( إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أنّه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز له إغواؤهم.

١٦٧

و نسب إلى ابن عبّاس و مال إليه الجمهور: أنّ اليوم هو آخر أيّام التكليف و هو النفخة الاُولى يوم يموت الخلائق و كأنّه مبنيّ على أنّ إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية، و هو مدّة عمر الإنسان في الدنيا، و ينتهي ذلك إلى النفخة الاُولى الّتي بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الّذي أنظره الله إليه، و بينه و بين النفخة الثانية الّتي فيها يبعثون أربعمأة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات، و هي ما به التفاوت بين ما سأله إبليس و بين ما أجاب إليه الله سبحانه.

و هذا وجه حسن لو لا ما فيه من قولهم: إنّ إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية فإنّها مقدّمة لا بيّنة و لا مبيّنة و ذلك أنّ تعويل القوم في ذلك على أنّ المستفاد من الآيات و الأخبار كون كلّ كفر و فسوق موجود في النوع الإنسانيّ مستنداً إلى إغواء إبليس و وسوسته كما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يس: ٦٠ و قوله:( وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحقّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) إلخ إلى غير ذلك من الآيات. و مقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقياً، و التكليف باق ما بقي الإنسان و هو المطلوب.

و فيه أنّ كون المعصية الإنسانيّة مستندة بالجملة إلى إغواء إبليس مستفادة من الآيات و الروايات لا غبار عليه لكنّه إنّما يقتضي بقاء إبليس ما دامت المعصية و الغواية باقية لا بقاءه ما دام التكليف باقياً، و لا دليل على الملازمة بين المعصية و التكليف وجوداً.

بل الحجّة قائمة من العقل و النقل على أنّ غاية الإنسان النوعيّة و هي السعادة ستعمّ النوع و يتخلّص المجتمع الإنسانيّ إلى الخير و الصلاح و لا يعبد على الأرض يومئذ إلّا الله سبحانه، و ينطوي وقتئذ بساط الكفر و الفسوق، و يصفو العيش و يرتفع أمراض القلوب و وساوس الصدور، و قد تقدّم تفصيل ذلك في مباحث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

١٦٨

قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٤١ و قال:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥.

و من ذلك يظهر أنّ الّذي استندوا إليه من الحجّة إنّما يدلّ على كون يوم الوقت المعلوم الّذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنسانيّ فينقطع دابر الفساد و لا يعبد يومئذ إلّا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.

قوله تعالى: ( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الباء في قوله:( بِما أَغْوَيْتَنِي ) للسببيّة و( بِما ) مصدريّة أي أتسبّب بإغوائك إيّاي إلى التزيين لهم و اُلقي إليهم ما استقرّ فيّ من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) القصص: ٦٣.

و قول بعضهم: إنّ الباء للقسم أي اُقسم بإغوائك لاُزيّننّ من أردإ القول فلم يعهد في كتاب و لا سنّة أن يقسم بمثل الإغواء و الإضلال و ليس فيه شي‏ء مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.

و قد نسب لعنه الله في قوله:( بِما أَغْوَيْتَنِي ) إلى الله سبحانه أنّه أغواه و لم يردّه الله سبحانه إليه و لا أجاب عنه و ليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة و لم يسجد لآدمعليه‌السلام و الدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه و بين معصية الإنسان لربّه حتّى يكون معصيته سبب معصيتهم و يتسبّب هو بها إلى إغوائهم.

و إنّما يريد به ما يفيده قوله تعالى:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) من استقرار اللعنة المطلقة فيه و هي الإبعاد من الرحمة و الإضلال عن طريق السعادة و هي إغواء له أثر الغواية الّتي أبداها من نفسه و أتى بها من عنده فيكون من إضلاله تعالى مجازاة لا إضلالاً ابتدائياً و هو جائز غير ممتنع عليه تعالى، و لذلك لم يردّه كما قال تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ و قد بيّنا ذلك في ذيل الآية و مواضع اُخرى من هذا الكتاب.

١٦٩

و عند هذا يستقيم معنى السببيّة أعني إغواؤه الناس بسبب الإغواء الّذي مسّه و استقرّ فيه فإنّ البعد من الرحمة و البون من السعادة لما كان لازماً لنفسه بلزوم اللعنة الإلهيّة له كان كلّما اقترب من قلب إنسان بالوسوسة و التسويل أو استولى على نفس من النفوس و هو بعيد من الرحمة و السعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلّط عليه، و هو إغواؤه بإلقاء أثر الغواية الّتي عنده إليه و هو ظاهر.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية و محصّله أنّ المراد بالإغواء ليس هو الإضلال الابتدائيّ بل الإضلال على سبيل المجازاة الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) الآية.

و أمّا القوم فكالمسلّم عندهم أنّ قوله:( بِما أَغْوَيْتَنِي ) لو كان بمعناه الظاهر و هو الإضلال لكان هو الإضلال الابتدائيّ و كان ناظراً إلى إبائه و امتناعه عن السجدة و لذا استشكلوا الآية و اختلفوا في تفسير الإغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشرّ إليه تعالى و صدوره منه جوازاً و امتناعاً.

فقال بعضهم و هم أهل الجبر: إنّ إسناد الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه لذلك يدلّ على أنّ الشرّ كالخير من الله تعالى، و المعنى ربّ بما أضللتني بالامتناع عن السجدة - فهو منك - أقسم لاُضلّنّهم أجمعين.

و قال آخرون و هم غيرهم: إنّه لا يجوز استناد الشرّ و المعصية و كلّ قبيح إليه تعالى و وجّهوا الآية بوجوه:

أحدها: أنّ الإغواء في الآية بمعنى التخييب و المعنى ربّ بما خيّبتني من رحمتك لاُخيّبنّهم بالدعوة إلى معصيتك.

الثاني: أنّ المراد بالإغواء الإضلال عن طريق الجنّة و المعنى بما أضللتني عن طريق جنّتك لما صدر منّي من معصيتك لاُضلّنّهم بالدعوة.

الثالث: أنّ المراد بقوله:( بِما أَغْوَيْتَنِي ) بما كلّفتني أمراً ضللت عنده بالمعصية و هو السجود فسمّى ذلك إضلالاً منه له توسّعاً و أنت بالتأمّل فيما قدّمناه تعرف أنّ الآية في غنى عن هذا البحث و ما اُبدئ فيه من الوجوه.

١٧٠

و نظير هذا البحث بحثهم عن الإنظار الواقع في قوله:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) من جهة أنّه مفض إلى الإغواء القبيح و ترجيح للمرجوح على الراجح.

فقال المجوّزون: إنّ الآية تدلّ على أنّ الحسن و القبح اللّذين يعلّل بهما العقل أفعالنا لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله أن يثيب من يشاء و يعذّب من يشاء من غير جهة مرجحّة حتّى مع رجحان الخلاف، قالوا: و من زعم أنّ حكيماً يحصر قوماً في دار و يرسل فيها النار العظيمة و الأفاعي القاتلة الكثيرة و لم يرد أذى أحد من اُولئك القوم بالإحراق و اللسع فقد خرج عن الفطرة الإنسانيّة فإذن من حكم الفطرة أنّ الله تعالى أراد بإنظار إبليس إضلال بعض الناس.

و المانعون يوجّهون الإنظار بأنّه تعالى كان يعلم من إبليس و أتباعه أنّهم يموتون على الكفر و الفسوق و يصيرون إلى النار أنظر إبليس أو لم ينظر على أنّه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتّقين. على أنّه يقول:( وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) و لو كان الإغواء من الله لأنكره عليه إلى غير ذلك ممّا أوردوه من الوجوه.

و ليت شعري ما الّذي أغفلهم عن آيات الامتحان و الابتلاء على كثرتها كقوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الأنفال: ٣٧ و قوله:( وَ لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) آل عمران: ١٥٤ و غيرهما من الآيات الدالّة على أنّ نظام السعادة و الشقاء و الثواب و العقاب مبنيّ على أساس الامتحان و الابتلاء، و الإنسان واقع بين الخير و الشرّ و السعادة و الشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.

فلو لا أن يكون هناك داع إلى الخير و هم الملائكة الكرام و إن شئت فقل: هو الله، و داع إلى الشرّ و هم إبليس و قبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى:( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا ) البقرة: ٢٦٨.

و لئن أيّد الله إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيّده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا و لم يقل سبحانه له: إنّك منظر بل قال:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ) فأثبت منظرين غيره و جعله بعضهم.

١٧١

و لئن أيّده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر و الفسوق للإنسان أيّد الإنسان بأن هداه إلى الحقّ و زيّن الإيمان في قلبه و فطرة على التوحيد، و عرّفه الفجور و التقوى، و جعل له نوراً يمشي به في الناس إن آمن بربّه إلى غير ذلك من الأيادي، قال:( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس: ٣٥ و قال:( وَ لكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات: ٧ و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الروم: ٣٠ و قال:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨ و قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢( و قال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن: ٥١ و التكلّم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.

فالإنسان خلق هو في نفسه أعزل ليس معه شي‏ء من السعادة و الشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين: سبيل الخير و الطاعة و هو سبيل الملائكة ليس لهم إلّا الطاعة، و سبيل الشرّ و المعصية و هو سبيل إبليس و جنوده و ليس معهم إلّا المخالفة و المعصية، فإلى أيّ السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه و رافقه أصحابه و زيّنوا له ما عندهم و هدوه إلى ما ينتهي إليه سبيلهم و هو الجنّة أو النار و السعادة أو الشقاء.

فقد بان ممّا تقدّم أنّ إنظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح و لا إبطالاً لقانون العلّيّة بل ليتيسّر به و بما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من أمر الامتحان و الابتلاء فلا محلّ للاستشكال.

و قوله:( لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أي لاُزيّننّ لهم الباطل أو لاُزيّننّ لهم المعاصي على ما قيل و المعنى الأوّل أجمع و المفعول محذوف على أيّ حال، و الظاهر أنّ المفعول معرض عنه و الفعل مستعمل استعمال اللازم، و الغرض بيان أصل التزيين كناية عن الغرور يقال: زيّن له كذا و كذا أي حمله عليه غروراً، و ضمير( لَهُمْ ) لآدم و ذرّيّته على ما يدلّ عليه السياق، و المراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة الأرضيّة و هي الحياة الدنيا و هو السبب القريب للإغواء فيكون عطف قوله:( وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) عليه من عطف المسبّب على السبب المترتّب عليه.

١٧٢

و الآية تشعر بل تدلّ على ما قدّمناه في تفسير آيات جنّة آدم في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ معصية آدم بالأكل من الشجرة المنهيّة عن وسوسة إبليس لم تكن معصية لأمر مولويّ بل مخالفة لأمر إرشاديّ لا يوجب نقضا في عصمته فإنّه يعرّف الأرض في الآية ظرفاً لتزيينه و إغوائه فما كان غروره لآدم و زوجته في الجنّة إلّا ليخرجهما منها و ينزّلهما إلى الأرض فيتناسلاً فيها فيغويهما و بنيهما عن الحقّ و يضلّهم عن الصراط قال تعالى:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجنّة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) الأعراف: ٢٧.

و قوله:( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) استثنى من عموم الإغواء طائفة خاصّة من البشر و هم المخلصون - بفتح اللّام على القراءة المشهورة - و السياق يشهد أنّهم الّذين اُخلصوا لله و ما أخلصهم إلّا الله سبحانه، و قد قدّمنا في الكلام على الإخلاص في تفسير سورة يوسف أنّ المخلصين هم الّذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة و لا في قلوبهم محلّ فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله و تزييناته عاد ذكراً لله مقرّبا إليه.

و من هنا يترجّح أنّ الاستثناء إنّما هو من الإغواء فقط لا منه و من التزيين بمعنى أنّه لعنه الله يزيّن للكلّ لكن لا يغوي إلّا غير المخلصين.

و يستفاد من استثناء العباد أوّلاً ثمّ تفسيره بالمخلصين أنّ حقّ العبوديّة إنّما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي أن لا يملكه إلّا هو و يرجع إلى أن لا يرى الإنسان لنفسه ملكاً و أنّه لا يملك نفسه و لا شيئاً من صفات نفسه و آثارها و أعمالها و أنّ الملك - بكسر الميم و ضمّها - لله وحده.

قوله تعالى: ( قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ) ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق أنّه كناية على أنّ الأمر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أنّ كون طريق السفينة على البحر يقضي على راكبيها بأن لا مفرّ لهم ممّا يستدعيه العبور على الماء من العدّة و الوسيلة و كذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيّأ به لعبور قلله الشاهقة و مسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو أنّه

١٧٣

أمر متوقّف من كلّ جهة إلى حكمه و قضائه تعالى فإنّه الله الّذي منه يبدء كلّ شي‏ء و إليه ينتهي فلا يتحقّق أمر إلّا و هو ربّه القيّوم عليه.

و ظاهر السياق أيضاً أنّ الإشارة بقوله:( هذا صِراطٌ ) إلخ إلى قول إبليس:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) لما أظهر بقوله هذا أنّه سينتقم منهم و يبسط سلطته بالتزيين و الإغواء عليهم جميعاً فلا يخلص منهم إلّا القليل كأنّه يشير إلى أنّه سيستقلّ بما عزم عليه و يعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم و استخلافهم و استعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧.

فمعنى الآية أنّ ما ذكرت من أنّك ستغويهم أجمعين و استثنيت منهم من استثنيت و أظهرت نسبته إلى قوّتك و مشيّتك زاعما فيه أنّك مستقلّ به، أمر لا يملكه إلّا أنا و لا يحكم فيه غيري و لا يصدر إلّا عن قضائي فإن أغويت فبإذني أغويت و إن منعت فبمشيّتي منعت فليس إليك من الأمر شي‏ء و لا من الملك إلّا ما ملّكتك و لا من القدرة إلّا ما أقدرتك، و الّذي أقضيه لك من السلطان أنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلّا من اتّبعك إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) هذا هو القضاء الّذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الإغواء و ذكر أنّه له وحده ليس لغيره فيه صنع و لا نصيب.

و محصّله أنّ آدم و بنيه كلّهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال:( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) و لم يجعل سبحانه له عليهم - أي على العباد - سلطاناً حتّى يستقلّ بأمرهم فيغويهم و إنّما جعل له السلطان على طائفة منهم و هم الّذين اتّبعوه من الغاوين و ولّوه أمرهم و ألقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الّذين له عليهم سلطان.

فإذا أمعنت في الآية وجدتها تردّ على إبليس قوله:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) من ثلاث جهات أصليّة:

١٧٤

إحداها: أنّه حصر عباده في المخلصين منهم و نفى عنهم سلطان نفسه و عمّم سلطانه على الباقين و الله سبحانه عمّم عباده على الجميع و قصر سلطان إبليس على طائفة منهم و هم الّذين اتّبعوه من الغاوين و نفى سلطانه على الباقين.

و الثانية: أنّه لعنه الله ادّعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) في سياق المخاصمة و التقريع بالانتقام و الله سبحانه يردّ عليه بأنّه منه مزعمة باطلة و إنّما هو عن قضاء من الله و سلطان بتسليطه و إنّما ملّكه إغواء من اتّبعه و كان غاويا في نفسه و بسوء اختياره.

فلم يأت إبليس بشي‏ء من نفسه و لم يفسد أمراً على ربّه لا في إغوائه أهل الغواية فإنّه بقضاء من الله سبحانه أن يستقرّ لأهل الغواية غيّهم بسببه - و قد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله:( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ) - و لا في استثنائه المخلصين فإنّه أيضاً بقضاء من الله نافذ فلا حكم إلّا لله.

و هذا الّذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الّذين هم في أنفسهم غاوون و تخليص المخلصين و هم مخلصون في أنفسهم من كيده كلّ ذلك بقضاء من الله، مبنيّ على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآنيّ المفاد بأمثال قوله تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إلّا لِلَّهِ ) يوسف: ٦٧ و قوله:( وَ هُوَ اللهُ لا إِلهَ إلّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ ) القصص: ٧٠ و قوله:( الحقّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠ و قوله:( وَ يُحِقُّ اللهُ الحقّ بِكَلِماتِهِ ) يونس: ٨٢ و غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ كلّ حكم إيجابيّ أو سلبيّ فهو مملوك لله نافذ بقضائه.

و من هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله:( إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) من المسامحة فإنّهم قالوا: إنّه إذا قبل من إبليس و اتّبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغيّ و ظاهره أنّه سلطان قهريّ يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه و لا بجعل من الله سبحانه.

وجه الفساد: أنّ فيه أخذ الاستقلال و الحول الذاتيّ من إبليس و إعطاؤه ذوات الأشياء و لو كان إبليس لا يملك شيئاً من عند نفسه و بغير إذن ربّه فالأشياء

١٧٥

و الاُمور أيضاً لا تملك لنفسها شيئاً و لا حكماً حتّى الضروريّات و لوازم الذوات إلّا بإذن من الله و تمليك فافهمه.

و الثالثة: أنّ سلطانه على إغواء من يغويه و إن كان بجعل و تسليط من الله سبحانه إلّا أنّه ليس بتسليط على الإغواء و الإضلال الابتدائيّ غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم و في أنفسهم.

و الدليل على ذلك قوله تعالى:( إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) فإبليس إنّما يغوي من اتّبعه بغوايته أي إنّ الإنسان يتّبعه بغوايته أوّلاً فيغويه هو ثانياً فهناك غواية بعدها إغواء و الغواية إجرام من الإنسان و الإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.

و لو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائياً من إبليس لمن لا يستحقّ ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: ٢٢. فاللوم على الإنسان المجرم و هو مسؤل عن معصيته دون إبليس.

نعم إبليس ملوم على ما يتلبّس به من الفعل بسوء اختياره و هو الإغواء الّذي سلّطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما اُمر به فالإغواء هو الّذي استقرّت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ و قال تعالى و هو أوضح ما يؤيّد جميع ما قدّمناه:( كُتِبَ عَلَيْهِ أنّه مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏ عَذابِ السَّعِيرِ ) الحجّ: ٤.

و قد تحصّل ممّا تقدّم أنّ المراد بقوله:( عِبادِي ) عامّة الإنسان، و أنّ الاستثناء في قوله:( مَنِ اتَّبَعَكَ ) متّصل لا منقطع، و أنّ( مَنِ ) في قوله:( مِنَ الْغاوِينَ ) بيانيّة، و أنّ الكلام مبنيّ على ردّ قول إبليس، و أنّ الآية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدي المستثنى و المستثنى منه و غير ذلك.

١٧٦

و من ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم: إنّ المراد بعبادي هم الّذين استثناهم إبليس و عبّر عنهم بقوله:( عِبادَكَ مِنْهُمُ ) فيكون الاستثناء منقطعاً و الكلام مسوقاً لتقرير قول إبليس إنّ له سلطاناً على من يغويه و أنّ المخلصين لا سبيل له إليهم و المعنى أنّ المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنّك مسلّط على من اتّبعك من الغاوين.

و أنت تعلم بالتأمّل فيما تقدّم أنّ هذا هدم لأساس السياق و ما يعطيه مقام المخاصمة و تحقّ نسبته إلى ساحة العزّة و الكبرياء و تنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريراً أو اعترافاً فهو يقول: ساُغويهم إلّا المخلصين، و الله سبحانه يقول: لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم!.

و ربّما فسّر بعضهم قوله:( عِبادِي ) بجميع البشر و أخذ مع ذلك الاستثناء منقطعاً و لعلّ ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الأفراد فلا يقال: له علىّ مائة إلّا تسعة و تسعون مثلاً و من المعلوم أنّ الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.

و فيه أنّ ذلك إنّما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد و أمّا إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الأفراد، و للإنسان عدّة أصناف: المخلصون و من دونهم من المؤمنين و المستضعفون و الّذين اتّبعوا إبليس من الغاوين، و قد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه و بقي الباقون و هم أصناف.

و منهم من جعل الاستثناء منقطعاً حذراً من ثبوت سلطان إبليس حتّى على الغاوين زعما منه أنّه ينافي إطلاق السلطنة الإلهيّة أو عدله تعالى و معنى الآية على هذا، أنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتّبعك من الغاوين ألقى إليك زمام نفسه و جعل لك على نفسه سلطاناً و ليس ذلك من نفسك حتّى تعجز الله في خلقه و لا من الله حتّى ينافي عدله تعالى.

و فيه: أنّ له سلطاناً على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله و لا ينافي ذلك

١٧٧

عدله في خلقه فإنّه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائيّ، و لا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى و كونه باتّباع الغاوين له باختيارهم فكلّ ذلك ممّا قد تبيّن فيما قدّمناه.

على أنّ قوله تعالى فيه:( كُتِبَ عَلَيْهِ أنّه مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحجّ: ٤ و قوله:( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ يدلّان صريحاً على ثبوت سلطانه و أنّه بجعل من الله سبحانه و قضاء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الظاهر أنّ( موعد ) اسم مكان و المراد بكون جهنّم موعدهم كونه محلّ إنجاز ما وعدهم الله من العذاب.

و هذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته و رجوع الأمر كلّه إليه كأنّه تعالى يقول له: ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك و لم تعجزنا بل نحن سلّطناك عليهم لاتّباعهم لك على أنّا سنجازيهم بعذاب جهنّم.

و لكون الكلام مسوقاً لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم و لم يذكر معهم إبليس و لا جزاءه بخلاف قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥ و قوله:( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: ٦٣ لأنّ المقام غير المقام.

قوله تعالى: ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) لم يبيّن سبحانه في شي‏ء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أ هي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات و دركات تختلف في نوع العذاب و شدّته؟ و كثيراً ما يسمّى في الاُمور المختلفة الأنواع كلّ نوع باباً كما يقال: أبواب الخير و أبواب الشرّ و أبواب الرحمة، قال تعالى:( فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كلّ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ٤٤ و ربّما سمّي أسباب الشي‏ء و طرق الوصول إليه أبواباً كأبواب الرزق لأنواع المكاسب و المعاملات.

و ليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرّقات آيات النار كقوله تعالى:( وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها - إلى

١٧٨

أن قال -قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) الزمر: ٧٢( و قوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) النساء: ١٤٥ إلى غير ذلك من الآيات.

و يؤيّده قوله:( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) فإنّ ظاهره أنّ نفس الجزء مقسوم موزّع على الباب، و هذا إنّما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل و أمّا تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعيّن المفروز من غيره فوهنه ظاهر.

و على هذا فكون جهنّم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعدّ فيها متنوّعاً إلى سبعة أنواع ثمّ انقسام كلّ نوع أقساماً حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، و ذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام، و كذا انقسام الطرق المؤدّية و الأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام، و بذلك يتأيّد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) أي إنّهم مستقرّون في جنّات و عيون يقال لهم: ادخلوها بسلام لا يوصف و لا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كلّ شرّ و ضرّ.

لمّا ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتّبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حقّ المتّقين من الجنّة، و قد ورد تفسير التقوى في كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالورع عن محارم الله، و قد تكرّر في كلامه تعالى بشراهم بالجنّة فيكون المتّقون أعمّ من المخلصين.

و ما قيل: إنّه لا شبهة في أنّ السياق يدلّ على أنّ المتّقين هم المخلصون السابق ذكرهم، و أنّ المطلق يحمل على الفرد الكامل.

فيه أنّ ذلك مبنيّ على كون المراد بالعباد في قوله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) هم المخلصين حتّى يختصّ السياق بالكلام فيهم، و قد تقدّم أنّ المراد بالعباد عامّة أفراد الإنسان خرج منه الغاوون بالاستثناء و بقي الباقون، و قد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار و هو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممّن أوجب له الجنّة و الأمر في المستضعفين مرجأ و في العصاة من أهل الكبائر الّذين يموتون بغير توبة

١٧٩

منوط بالشفاعة فيبقى أهل التقوى من المؤمنين و هم أعمّ من المخلصين فقضي فيهم بالجنّة.

و أمّا حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ و إنّما يحمل على الفرد المتعارف و تفصيل المسألة في فنّ الاُصول.

و ذكر الإمام الرازيّ في تفسيره أنّ المراد بالمتّقين في الآية الّذين اتّقوا الشرك و نقله عن جمهور الصحابة و التابعين و أسنده إلى الخبر.

قال: و هذا هو الحقّ الصحيح و الّذي يدلّ عليه أنّ المتّقي هو الآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متّقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، و الّذي يقرّر ذلك أنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإنّ الفرد مشتمل على الماهيّة بالضرورة و كلّ آت بالتقوى يجب أن يكون متّقيا فالآتي بفرد يجب كونه متّقيا، و لهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار. فظاهر الآية يقتضي حصول الجنّات و العيون لكلّ من اتّقى عن ذنب واحد، إلّا أنّ الاُمّة مجمعة على أنّ التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.

و أيضاً هذه الآية وردت عقيب قول إبليس:( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) عقيب قوله تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأنّ تخصيص العامّ لما كان خلاف الظاهر فكلّما كان التخصيص أقلّ كان أوفق بمقتضى الأصل و الظاهر.

فثبت أنّ الحكم المذكور يتناول جميع القائلين: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله و لو كانوا من أهل المعصية، و هذا تقرير بيّن و كلام ظاهر، انتهى.

و مقتضى كلامه شمول الآية لمن اتّقى الشرك و لو اقترف جميع الكبائر الموبقة الّتي نصّ الكتاب العزيز باستحقاق النار بإتيانها و ترك جميع الواجبات الّتي نصّ على تركها بمثله، و المستأنس بكلامه تعالى المتدبّر في آياته لا يرتاب في أنّ القرآن لا يسمّي مثل هذا متّقيا و لا يعدّه من المتّقين، و قد أكثر القرآن ذكر

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409