الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91916 / تحميل: 6635
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة إبراهيم مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية)

( سورة إبراهيم الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ الر  كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ( ١) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ( ٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا  أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ( ٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ  فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( ٥)

( بيان)

السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث إنّه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط الله سبحانه الّذي هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب و غنيّ غير محتاج إلى الناس و جميل في فعله منعم

٢

عليهم، و إذا كان المنعم غالبا غنيّا حميد الأفعال كان على المنعم عليهم أن يجيبوا دعوته و يلبّوا نداءه حتّى يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم، و أن يخافوا سخطه و شديد عذابه فإنّه قويّ غير محتاج إلى أحد، له أن يستغني عنهم فيذهب بهم و يأتي بآخرين كما فعل بالّذين كفروا بنعمته من الاُمم الماضين فإنّ آيات السماوات و الأرض ناطقة بأنّ النعمة كلّها له و هو ربّ العزّة و وليّ الحمد لا ربّ سواه.

و بهذا تختتم السورة إذ يقول عزّ من قائل:( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

و لعلّ ما ذكرنا هو مراد من قال: إنّ السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب يشير إلى قوله تعالى:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) .

و السورة مكّيّة على ما يدلّ عليه سياق آياتها، و نسب إلى ابن عبّاس و الحسن و قتادة: أنّها مكّيّة إلّا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ ) و سيأتي أنّ الآيتين غير صريحتين و لا ظاهرتين في ذلك.

قوله تعالى: ( الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدإ محذوف على ما يعطيه السياق و قيل غير ذلك.

و قوله:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) ظاهر السياق عموم الناس لا خصوص قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ، و كلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله:( لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) الفرقان: ١ و قوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩، و قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: ١٥٨ و الآيات الصريحة في دعوة اليهود و عامّة أهل الكتاب، و عملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوتهم و قبول إيمان من آمن منهم كعبدالله بن سلام و سلمان و بلال و صهيب و غيرهم تؤيّد ذلك.

٣

على أنّ آخر السورة:( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ ) الآية، و قد قوبل به أوّلها يؤيّد أنّ المراد بالناس أعمّ من المؤمنين الّذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل.

و قد نسب الإخراج من الظلمات إلى النور إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه أحد الأسباب الظاهريّة لذلك و إليه ينتهي إيمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة و لا، ينافيه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) القصص: ٥٦ فإنّ الآية إنّما تنفي أصالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهداية و استقلاله فيها من غير أن تنفي عنه مطلق الهداية حتّى ما يكون على نحو الوساطة و بإذن من الله، و الدليل عليه قوله تعالى:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و لذلك قيّد سبحانه قوله( لِتُخْرِجَ ) بقوله( بِإِذْنِ ربّهم ) .

و المراد بالظلمات و النور و الضلال و الهدى و قد تكرّر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نوراً و عدّ الضلال ظلمة و جمع الظلمات دون النور لأنّ الهدى من الحقّ و الحقّ واحد لا تغاير بين أجزائه و مصاديقه و لا كثرة بخلاف الضلال فإنّه من اتّباع الهوى و الأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها و لا اتّحاد لأبعاضها و مصاديقها قال تعالى:( وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣.

و اللّام في قوله:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) إلخ، لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، و ليس بلام المعاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلّهم مؤمنين، و المعلوم خلافه.

و أمّا ما اعترض عليه بعضهم أنّ التربية الإلهيّة بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و إيصالهم إلى السعادة و الكمال مشروطة بالتهيّؤ و الاستعداد مع كون الفيض عامّا فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.

ففيه أنّه اعتراف بأنّ كون اللّام للعاقبة خلاف ظاهر الآية، فإنّ الّذي ذكره لا يتمّ إلّا بتقييد( النَّاسَ ) بالمستعدين، لكنّ الّذي يجب أن يعلم أنّ هذا الغرض

٤

غرض تشريعيّ معناه أنّ للحكم غاية مقصودة و هي المصلحة الّتي يستعقبها، فإنّ الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم و يهديهم إلى الإيمان و العمل الصالح ليسعدهم بذلك و يدخلهم الجنّة، و يرسل الرسل و ينزّل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، و يريد بما يوجّهه إليهم من الأمر و النهي أن يطهّرهم و يذهب عنهم رجز الشيطان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لا موجب لإيرادها و كذا الروايات و لعلّها تزهو الاُلوف.

و قد قال سبحانه:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف: ٣ و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) الآية: ٤ من السورة، فبيّن أنّ ما نعقله من كتابه و يظهر لنا من بيان رسوله حجّة لا مناص عنه، و نحن لا نعقل من قوله مثلاً:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ) إبراهيم: ١٠، إلّا أنّ المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيّد لعبده أو أيّ متبوع لتابعه: ائتني بماء لأشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته إلّا أنّ الشرب و الأكل و ستر العورة أغراض لأوامرها، فللّه سبحانه فيما ينزّله من الأحكام و الشرائع أغراض و غايات مقصودة.

نعم بيّن سبحانه أنّ ساحته منزّهة عن الفقر و الحاجة مبرّأة عن النقص و الشين إذ قال:( إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) العنكبوت: ٦، و قال:( وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) الأنعام: ١٣٣ و قال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَ الله هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥ فأفاد أنّه في غنى عن كلّ شي‏ء لا ينتفع بشي‏ء من هذه الأغراض و ليست أفعاله تعالى بالعبث و الجزاف حتّى تخلو عن الغرض، كيف؟ و قد وصف نفسه بالحكمة و الحكيم لا يعبث و لا يجازف، و نصّ على انتفاء العبث من فعله:( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) المؤمنون: ١١٥ و الأمر و النهي اللّذان يتمّ بهما الكمال في العالم الإنسانيّ يعودان بالآخرة إلى ما يتمّ به الخلقة.

فللّه سبحانه في خلقه و أمره أغراض، و إن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنّه سبحانه لا يتأثّر عن أغراضه و بعبارة اُخرى

٥

الحكم و المصالح لا تؤثّر فيه تعالى كما أنّ مصلحة الفعل تؤثّر فينا فيبعثنا تعقّلها نحو الفعل و نرجّح الفعل على الترك، فإنّه سبحانه هو القاهر غير المقهور و الغالب غير المغلوب، يملك كلّ شي‏ء و لا يملكه شي‏ء، و يحكم على كلّ شي‏ء و لا يحكم عليه شي‏ء، و لم يكن له شريك في الملك و لا وليّ من الذلّ، فلا يكون تعالى محكوماً بعقل بل هو الّذي يهدي العقل إلى ما يعقله، و لا تضطرّه مصلحة إلى فعل و لا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.

فالغرض و المصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى أنّ فعله يتوقّف على المصلحة لكنّها لا تحكم في ذاته تعالى و لا تضطرّه إلى الفعل، فكما أنّه تعالى إذا خلق شيئاً و قال له: كن فكان كزيد مثلاً انتزع العقل من العين الخارجيّة نفسها أنّها إيجاد من الله تعالى و وجود لزيد و حكم بأنّ وجوده يتوقّف على إيجاده، كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا أنّه فعله و أنّه ذو مصلحة مقصودة ثمّ يحكم بأنّ تحقّق الفعل يتوقّف على كونه ذا مصلحة.

فهذا هو الّذي يعطيه التدبّر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على الحكم و المصالح متوقّفة على الأغراض و المتحصّل من ذلك أنّ له تعالى في أفعاله أغراضاً لكنّها راجعة إلى خلقه دونه.

و ملخّصه أنّ غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين: أحدهما أنّه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله و غاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور و الإرادة من الإنسان و سائر الحيوان، و ثانيهما أنّ المصلحة و المفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره.

و أمّا النزاع المعروف بين الأشاعرة و المعتزلة في أنّ أفعال الله معلّلة بالأغراض أم لا؟ بمعنى أنّه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعيّة في فعله بحيث إنّ المصلحة ترجّح له الفعل على الترك و لولاها لم يكن له ليفعل؟ أو أنّه لا غاية له في فعله و إنّما يفعل بإرادة جزافيّة من غير غرض؟

فذلك ممّا لا يهدي إلى شي‏ء من طرفيه النظر المستوفى و الحقّ خلاف القولين

٦

جميعاً، و هو أمر بين الأمرين كما أشرنا إليه و لعلّنا نوفّق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقلّ في المسألة نستوفي فيه النظر العقليّ و النقليّ فيها إن شاء الله تعالى.

و في قوله:( بِإِذْنِ ربّهم ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه التخلّص إلى ذكر صفة الربوبيّة و تسجيل أنّه تعالى هو ربّ هؤلاء المشركين الّذين اتّخذوا له أنداداً فإنّ وجه الكلام في الحقّيقة إليهم و إن كان المخاطب به هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دونهم و لتكون هذه التسمية و هي في مفتتح الكلام مبدءً لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبيّة.

قوله تعالى: ( إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) العزّة تقابل الذلّة، قال الراغب: العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعزّة فإنّ الْعزّة لِلَّهِ جَمِيعاً ) و تعزّز اللحم اشتدّ و عزّ كأنّه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، انتهى موضع الحاجة.

فعزّة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله و الوصول إليه و منه عزيز القوم و هو الّذي يقهر و لا يقهر لأنّه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون أن يمنع قبل الوصول إليه و يقهر، و منه العزيز لما قلّ وجوده لصعوبة نيله، و منه العزيز بمعنى الشاقّ لأنّ الّذي يشقّ على الإنسان يصعب حصوله، قال تعالى:( عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ) التوبة: ١٢٨ و منه قوله:( وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) ص: ٢٣ أي غلبني على ما فسّر به.

و الله سبحانه عزيز لأنّه الذات الّذي لا يقهره شي‏ء من جهة و هو يقهر كلّ شي‏ء من كلّ جهة و لذلك انحصرت العزّة فيه تعالى فلا توجد عند غيره إلّا باكتساب منه و بإذنه قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعزّة فإنّ الْعزّة لِلَّهِ جَمِيعاً ) النساء: ١٣٩ و قال( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعزّة فَلِلَّهِ الْعزّة جَمِيعاً ) فاطر: ١٠.

و الحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد و هو الثناء على الجميل الاختياريّ،

٧

و إذ كان كلّ جمال ينتهي إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ربّ الْعالَمِينَ ) سورة الحمد: ٢ و من غريب القول ما عن الإمام الرازيّ على ما سننقله: أنّ الحميد معناه العالم الغنيّ.

و قوله:( إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) بدل من قوله:( إِلَى النُّورِ ) يبين به ما يوصل إليه الكتاب الّذي أنزله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بياناً بعد بيان فنبّه أوّلاً بأنّه نور يميّز الحقّ من الباطل و الخير من الشرّ و السعادة من الشقاوة، و ثانياً بأنّه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه و ينتهي بهم جميعاً إلى الله العزيز الحميد.

و الوجه في ذكر الصفتين الكريمتين:( الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) أنّهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجّه إليهم فإنّ عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم أنّ الله أنعم عليهم بربوبيّته كلّ نعمة عظيمة، ثمّ عزم عليهم من طريق رسله أن يشكروه و لا يكفروه و وعد رسله أنّهم إن آمنوا أدخلهم الجنّة، و إن كفروا انتقم منهم و أوردهم مورد الشقاء و العذاب، فليخافوا ربّهم و ليحذروا مخالفة أمره و كفران نعمته لأنّ له كلّ العزّة لا نمنع عن حلول سخطه بهم و نزول عذابه عليهم شي‏ء، حميد لا يذمّ في إثابته المؤمنين، و لا في تعذيب الكافرين، كما لا يذمّ فيما بسط عليهم من نعمه الّتي لا تحصى.

فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث: توحّده تعالى بالربوبيّة و عزّته و كونه حميداً في أفعاله فليخف من عزّته المطلقة، و ليشكر و ليوثق بما وعد و ليتذكّر من آيات ربوبيّته.

و في روح المعاني عن أبي حيان: النكتة في ذلك أنّه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب و إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزّة المتضمّنة للقدرة و الغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الّذي لا يقدر عليه سواه، و صفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. قال: و وجه التقديم و التأخير على هذا ظاهر انتهى.

و هو أجنبيّ عن سياق آيات السورة البتّة و لعلّه مأخوذ من قوله تعالى في

٨

وصف القرآن:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢ لكنّ المقام غير المقام.

و عن الإمام في تفسيره: إنّما قدّم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأنّ الصحيح أنّ أوّل العلم بالله تعالى العلم بكونه قادراً ثمّ بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثمّ بعد ذلك العلم بكونه غنيّاً عن الحاجات و العزيز هو القادر، و الحميد هو العالم الغنيّ فلمّا كان العلم بكونه قادراً متقدّماً على العلم بكونه عالما بالكلّ غنيّاً عنه لا جرم قدّم ذكر العزيز على ذكر الحميد. انتهى، و هو مجازفة عجيبة.

و قريب منه في المجازفة قول بعضهم: قدّم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبيّة كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية فإنّ العزّة - كما تقدّم - من الصفات السلبيّة بخلاف الحمد.

و ربّما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر أنّه للترغيب في سلوك هذا الصراط لأنّه صراط العزيز الحميد فيعزّ سالكه و يحمد سابله، انتهى. و هو وجه الأحرى به أن يجعل من الفوائد المتفرّعة دون السبب الموجب، و الوجه ما قدّمناه.

و أمّا قوله( الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) فبيان للعزيز الحميد، و المراد بما في السماوات و الأرض كلّ ما في الكون فيشمل نفس السماوات و الأرض كما يشمل ما فيهما، فهو تعالى يملك كلّ شي‏ء من كلّ جهة بحقيقة معنى الملك.

و فيه إشارة إلى الحجّة في كونه تعالى عزيزاً حميداً، فإنّه تعالى و إن كان هو الّذي يحقّ الحقّ بكلماته و هو الّذي ينجح كلّ حجّة في دلالتها، لكنّه جاري عباده في كلامه على ما فطرهم عليه، و ذلك أنّه تعالى لما ملك كلّ خلق و أمر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكلّ قهر و غلبة فلا قهر إلّا منه و لا غلبة إلّا له فهو تعالى عزيز و له أن يتصرّف في ما يشاء بما يشاء و لا يكون تصرّفه إلّا محموداً غير مذموم لأنّ التصرّف إنّما يكون مذموماً إذا كان المتصرّف لا يملكه إمّا عقلاً أو شرعاً أو عرفاً، و أيّ تصرّف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنّه يملكه، فهو تعالى حميد محمود الأفعال.

٩

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) بيان لما تقتضيه صفة العزّة من القهر لمن يردّ دعوته و يكفر بنعمته.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) إلخ، قال الراغب في المفردات: و قوله عزّوجلّ:( إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ) أي إن آثروه عليه، و حقيقة الاستحباب أن يتحرّى الإنسان في الشي‏ء أن يحبّه، و اقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار، و على هذا قوله تعالى:( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏ ) ، انتهى.

و معنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا و ترك الآخرة رأسا، و يقابله اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى أخذ الآخرة غاية للسعي و جعل الدنيا مقدّمة لها يتوسّل بها إليها، و أمّا اختيار الآخرة و ترك الدنيا من أصلها فإنّه مضافا إلى عدم إمكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة، و ينجرّ إلى تركها بالآخرة، فالحياة الدنيا حياة منقطعة و الحياة الآخرة حياة دائمة يتوسّل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب، فمن اختار الآخرة و أثبتها لزمه إثبات الدنيا لمكان مقدّميّتها، و من اختار الدنيا و جعلها غاية لزمه نفي الآخرة من أصلها لأنّها لو ثبتت ثبتت غاية و إذ لم يجعل غاية انتفت، فليس بين يدي الإنسان إلّا خصلتان: اختيار الآخرة على الدنيا بجعل الآخرة غاية و إثبات الدنيا معها للمقدّميّة، و اختيار الدنيا على الآخرة بجعل الدنيا غاية و نفي الآخرة من أصلها.

و إيضاح المقام أنّ الإنسان لا بغية له إلّا سعادة حياته و حبّه لها فطريّ، و قد أوضحنا ذلك في مواضع متفرّقة فيما تقدّم، و الّذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة أنّها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلّل الموت إلى حياتين: الحياة الدنيا المؤجّلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت، و هي تتفرّع في سعادتها و شقائها على الحياة الدنيا و ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيويّة من حسنة أو سيّئة، و لا مفرّ للإنسان من هذه الأعمال لما عنده من حبّ الحياة الفطري.

و هذه الأعمال أعني السنّة الّتي يستنّ بها الإنسان في حياته الدنيا الكاسبة له

١٠

التقوى أو الفجور و الحسنة أو السيّئة هي الّتي تسمّى في كتاب الله ديناً و سبيلاً، فلا مفرّ للإنسان من سنّة حسنة أو سيّئة و دين حقّ أو باطل.

و لما كان من سنّة الله سبحانه الجارية أن يهدي كلّ نوع من الأنواع إلى سعادته و كماله و من كمال الإنسان و سعادته أن يعيش عيشة اجتماعيّة و يستن بسنة حيويّة، شرع الله سبحانه له ديناً مبنيّاً على فطرته الّتي فطر عليها و هو سبيل الله الّذي يسلكه و دينه الّذي يتديّن به، فإنّ جرى على ما شرعته له الربوبيّة و هدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله و ابتغاه مستقيماً، و إن اتّبع الهوى و صدّ نفسه عن سبيل الله و اشتغل بما يزيّنه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجاً منحرفاً.

أمّا أنّه يبتغي سبيل الله فإنّ الله هو الّذي فطره على طلب السبيل و ابتغاء الصراط و لا يهدي البتّة إلّا إلى ما يرتضيه و هو سبيل نفسه، و أمّا أنّه منحرف ذو عوج فلأنّه لا يهدي إلى الحقّ و ما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال؟ و الآيات القرآنية الدالّة على هذا الّذي قدّمناه متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

إذا عرفت هذا لاح لك أنّ قوله في تفسير الكافرين:( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ) مفاده أنّهم يتعلّقون تمام التعلّق بالحياة الدنيا و يعرضون عن الآخرة بنفيها، و هو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد و النبوّة.

و قوله:( وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) مفاده أنّهم يكفّون أنفسهم عن الاستنان بسنّة الله و التديّن بدينه أو يصدّون و يصرفون الناس عن الإيمان بالله و اليوم الآخر و التشرّع بشريعته عناداً منهم للحقّ، و يطلبون سنّة الله عوجاً و منحرفة بالاستنان بغيرها من سنّة اجتماعيّة أيّاً مّا كانت ثمّ سجّل عليهم الضلال بقوله سبحانه:( ذلِكَ هو الضلال البَعيد ) .

و يظهر بما تقدّم فساد قول بعضهم إنّ المراد بقوله:( يَبْغُونَها عِوَجاً ) يبغون لها عوجاً أي يطلبون لها زيغاً و اعوجاجاً حتّى يعيبوها به و يصدّوا الناس عنها بسببه.

و قول بعضهم: المعنى يطلبون أن يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به.

و قول بعضهم: المعنى يطلبون لأهلها أن يعوجوا و ينحرفوا بالردّ فهو المراد

١١

بطلبهم الدين منحرفاً، و انحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه و فساد هذه الأقوال ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إلى آخر الآية. اللسان هو اللغة، قال تعالى:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥.

و الضمير في( قَوْمِهِ ) عائد إلى( رَسُولٍ ) و في( لَهُمْ ) إلى( قَوْمِهِ ) و المحصّل ما أرسلنا من رسول إلّا بلسان قوم ذلك الرسول ليبيّن لقومه، و من الخطأ إرجاع ضمير قومه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفيد أنّ الله سبحانه كان يوحي إلى جميع الرسل بالعربيّة لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير( لَهُمْ ) إلى( قَوْمِهِ ) فيفيد أنّ الله أنزل التوراة لموسى مثلاً بالعربيّة ليبيّن للعرب كما في الكشّاف.

و المراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الّذين كان يعيش فيهم و يخالطهم و يعاشرهم و ليس المراد به الإرسال بلسان القوم الّذين هو منهم نسبا لأنّه سبحانه يصرّح بمهاجرة لوطعليه‌السلام من كلدة و هم سريانية اللسان إلى المؤتفكات، و هم عبرانيّون و سمّاهم قومه و أرسله إليهم ثمّ أنجاه و أهله إلّا امرأته و هي منهم و أهلكهم قال تعالى:( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى‏ رَبِّي ) العنكبوت: ٢٦ و في مواضع من كلامه تعالى( قَوْمِ لُوطٍ ) .

و أمّا من اُرسل إلى أزيد من اُمّة و هم اُولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنّهم كانوا يدعون أقواماً من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيمعليه‌السلام عرب الحجاز إلى الحجّ، و دعوة موسىعليه‌السلام فرعون و قومه إلى الإيمان و عموم دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد اشتمل القرآن على دعوة اليهود و النصارى و غيرهم و قبول إيمان من آمن منهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كذا ما يستفاد من عموم دعوة نوحعليه‌السلام . و على هذا فالمراد بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) - و الله أعلم - إنّ الله لم يبن إرسال الرسل و الدعوة الدينيّة على أساس معجز خارق للعادة الجارية و لا فوّض إلى رسله من الأمر شيئاً بل أرسلهم باللسان العاديّ الّذي كانوا يكالمون قومهم و يحاورونهم به ليبيّنوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلّا البيان، و

١٢

أمّا ما وراء ذلك من الهداية و الإضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول و لا غيره.

فتعود الآية كالبيان و الإيضاح لقوله تعالى قبل:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) و أنّ معنى إخراجك الناس من الظلمات إلى النور أن تبيّن لهم ما أنزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤.

و أمّا قوله:( فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فإشارة إلى ما أومأنا إليه أنّ أمر الهدى و الضلال إلى الله لا يتحقّق شي‏ء منهما إلّا عن مشيّة منه تعالى غير أنّه سبحانه أخبرنا أنّ هذه المشيّة منه ليست جزافيّة غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتّبع الحقّ و لم يعانده هداه الله، و من جاحده و اتّبع هواه أضلّه الله فهو إضلال مجازاة غير الإضلال الابتدائيّ المذموم.

و قد قدّم سبحانه الإضلال على الهداية إذ قال:( فَيُضِلُّ الله مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) لأنّ ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أنّ الكلام مبنيّ على عزّته المطلقة فكان من الواجب أن يبيّن أنّ ضلال من يضلّ عن السبيل كهدى من اهتدى إليها إنّما هو بمشيّة منه تعالى و لم يغلب في إرادته و لم يزاحم في ملكه حتّى لا يخيّل إلى كلّ مغفّل من الناس أنّ الله يصف نفسه بالعزّة المطلقة و أنّه غالب غير مغلوب و قاهر غير مقهور ثمّ يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته و يأمرهم و ينهاهم فيعصون و لا يطيعون و هل هذا إلّا غلبة منهم و قهر و هو مغلوب مقهور؟.

فكأنّه تعالى أجاب عن ذلك بأنّ معنى دعوته تعالى أن يرسل رسولا بلسان قومه فيبيّن لهم ما يسعدهم ممّا يشقيهم و أمّا ضلال من ضلّ من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشيّة من الله و إذنه، و حاشاه أن يقهر في سلطانه أو يتصرّف في ملكه أحد بغير إذنه.

فضلال من ضلّ منهم دليل عزّته فضلاً أن يكون ناقضاً لها كما أنّ هدى من اهتدى كذلك، و لذلك ذيّل الكلام بقوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فهو سبحانه عزيز

١٣

لا يغلبه و لا يضرّه ضلال من ضلّ منهم، و لا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا و عبثا بل عن نظام متقن دائميّ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إلى آخر الآية، إذ كان الكلام في السورة مبنيّا على الإنذار و التذكير بعزّة الله سبحانه ناسب أن يذكر إرسال موسى بالآيات لهداية قومه فإنّ قصّة رسالته من أوضح مصاديق ظهور العزّة الإلهيّة من بين الرسل و قد قال تعالى فيه:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ ) المؤمن: ٢٣ و قال حاكيا عنهعليه‌السلام :( وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى الله إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) الدخان: ١٩.

فوزان الآية أعني قوله:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) ، من قوله:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ ربّهم ) وزان التنظير بداعي التأييد و تطييب النفس كما في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النبيّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) النساء، ١٦.

و أمّا ما ذكر بعضهم أنّ الآية شروع في تفصيل ما اُجمل في قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) فبعيد كلّ البعد. و نظيره في البعد قول بعضهم: إنّ المراد بالآيات الّتي اُرسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات الّتي اُرسلعليه‌السلام بها كالثعبان و اليد البيضاء و غيرهما.

على أنّ الله سبحانه و تعالى لم يعدّ في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى و لا ذكر أنّه أرسله بها قطّ و إنّما ذكر أنّه أنزلها عليه و آتاه إيّاها.

و لم يقيّد قوله:( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ ) إلخ بالإذن كما قيّد به قوله للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) إلخ لأنّ قوله ههنا:( أَخْرِجْ قَوْمَكَ ) أمر يتضمّن معنى الإذن بخلاف قوله هناك:( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) .

و قوله:( وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ) لا شكّ أنّ المراد بها أيّام خاصّة، و نسبة أيام خاصّة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيّام و كلّ الأشياء له تعالى ليست إلّا لظهور أمره تعالى فيها ظهوراً لا يبقى معه لغيره ظهور، فهي الأزمنة و الظروف الّتي

١٤

ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى و آيات وحدانيّته و سلطنته كيوم الموت الّذي يظهر فيه سلطان الآخرة و تسقط فيه الأسباب الدنيويّة عن التأثير، و يوم القيامة الّذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئاً و الأمر يومئذ لله، و كالأيّام الّتي أهلك الله فيها قوم نوح و عاد و ثمود فإنّ هذه و أمثالها أيّام ظهر فيها الغلبة و القهر الإلهيّان و أنّ العزّة لله جميعاً.

و يمكن أن يكون منها أيّام ظهرت فيها النعم الإلهيّة ظهوراً ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوحعليه‌السلام و أصحابه من السفينة بسلام من الله و بركات و يوم إنجاء إبراهيم من النار و غيرهما فإنّها أيضاً كسوابقها لا نسبة لها في الحقّيقة إلى غيره تعالى فهي أيّام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيّام إلى الاُمم و الأقوام و منه أيّام العرب كيوم ذي قار و يوم فجار و يوم بغاث و غير ذلك.

و تخصيص بعضهم الأيّام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزّته تعالى، و من مقتضى صفة عزّته الإنعام على العباد و الأخذ الشديد إن كفروا بنعمته.

ثمّ تممّ الكلام بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي كثير الصبر عند الضرّاء و كثير الشكر على النعماء.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يبعث الله نبيّا إلّا بلسان قومه‏.

و فيه، أخرج النسائيّ و عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ) قال: بنعم الله و آلائه.

١٥

أقول: و هو بيان بعض المصاديق، و روى ما في معناه الطبرسيّ و العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام .

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبدالله بن عبّاس و جابر بن عبدالله في حديث طويل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّام الله نعماؤه و بلاؤه و هو مثلاته سبحانه.

و في تفسير القمّيّ، قال: قال أيّام الله ثلاثة: يوم القائم و يوم الموت و يوم القيامة.

أقول: المراد بيان أيّامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيّامه.

و في المعاني، بإسناده عن مثنّى الحنّاط عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: أيّام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم و يوم الكرّة و يوم القيامة.

أقول: و هي كسابقتها و اختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيّد ما قدّمناه في بيان الآية.

١٦

( سورة إبراهيم الآيات ٦ - ١٨)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ  وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ( ٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ  وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( ٧) وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ( ٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ  وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ  لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ  جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( ٩) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ( ١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ  وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ( ١١) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا  وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا  وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ( ١٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا  فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ( ١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ  ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ( ١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ١٥) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ( ١٦)

١٧

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ  وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( ١٧ ) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ  أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ  لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ  ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ( ١٨ )

( بيان)

الآيات تشتمل على ذكر نبذة من نعم الله و نقمه في أيّامه و ظاهر سياق الآيات أنّها من كلام موسىعليه‌السلام غير قوله تعالى:( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) الآية فهي حكاية قول موسى يذكّر فيها قومه ببعض أيّام الله سبحانه على ما يقتضيه عزّته المطلقة من إنزال النعم و النقم، و وضع كلّ في موضعه الّذي يليق به حسب ما اقتضته حكمته البالغة.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ) إلى آخر الآية، السوم على ما ذكره الراغب بمعنى الذهاب في ابتغاء الشي‏ء فهو لفظ لمعنى يتركّب من الذهاب و الابتغاء فكأنّه في الآية بمعنى إذاقة العذاب، و الاستحياء استبقاء الحياة.

و المعنى و اذكر أيّها الرسول لزيادة التثبّت في أنّ الله عزيز حميد إذ قال موسى لقومه و هم بنو إسرائيل: اذكروا نعمة الله عليكم يوم أنجاكم من آل فرعون و خاصّة من القبط و الحال أنّهم مستمرّون على إذاقتكم سوء العذاب و يكثرون ذبح الذكور من أولادكم و على استبقاء حياة نسائكم للاسترقاق، و في ذلكم بلاء و محنة من ربّكم عظيم.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) قال في المجمع التأذّن الاعلام يقال: آذن و تأذّن و مثله أوعد و توعّد. انتهى.

١٨

و قوله:( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) إلخ معطوف على قوله:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ ) و موقع الآية التالية:( وَ قالَ مُوسى‏ ) إلخ، من هذه الآية كموقع قوله:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) إلخ، من قوله:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إلخ، فافهم ذلك فهو الأنسب بسياق كلامه تعالى.

و ذكر بعضهم أنّه داخل في مقول موسى و ليس بكلام مبتدء و عليه فهو معطوف على قوله:( نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ) و التقدير: اذكروا نعمة الله عليكم و اذكروا إذ تأذّن ربّكم إلخ، و فيه أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: اذكروا إذ أنجاكم فأنعم عليكم و إذ تأذّن ربّكم إلخ، لما فيه من رعاية حكم الترتيب.

و قيل: إنّه معطوف على قوله:( إِذْ أَنْجاكُمْ ) و المعنى اذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربّكم، فإنّ هذا التأذّن نفسه نعمة لما فيه من الترغيب و الترهيب الباعثين إلى نيل خير الدنيا و الآخرة.

و فيه أنّ هذا التأذّن ليس إلّا نعمة للشاكرين منهم خاصّة و أمّا غيرهم فهو نقمة عليهم و خسارة فنظمه في سلك ما تقدّمه من غير تقييد أو استثناء ليس على ما ينبغي.

فالظاهر أنّه كلام مبتدء و قد بيّن تعالى هذه الحقّيقة أعني كون الشكر - الّذي حقيقته استعمال النعمة بنحو يذكّر إنعام المنعم و يظهر إحسانه و يؤل في مورده تعالى إلى الإيمان به و التقوى - موجباً لمزيد النعمة و الكفر لشديد العذاب، في مواضع من كلامه، و قد حكى عن نوح فيما ناجى ربّه و دعا على قومه:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ ) الخ: نوح: ١٢.

و من لطيف كرمه تعالى اللائح من الآية - كما ذكره بعضهم - اشتمالها على التصريح بالوعد و التعريض في الوعيد حيث قال:( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) و قال:( إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) و لم يقل: لأعذّبنّكم و ذلك من دأب الكرام في وعدهم و وعيدهم غالبا.

و الآية مطلقة لا دليل على اختصاص ما فيها من الوعد و الوعيد بالدنيا و لا

١٩

بالآخرة، و تأثير الإيمان و الكفر و التقوى و الفسق في شؤون الحياة الدنيا و الآخرة معاً معلوم من القرآن.

و قد استدلّ بالآية على وجوب شكر المنعم، و الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على أزيد من أنّ الكافر على خطر من كفره فإنّ الله سبحانه لم يصرّح بفعليّة العذاب على كلّ كفر إذ قال:( وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) و لم يقل: لأعذّبنّكم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ مُوسى‏ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإنّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) لما أمر تعالى بشكر نعمه بذكر ما تأذّن به من الزيادة على الشكر و العذاب على الكفر على ما تقتضيه العزّة المطلقة ذكر في تأييده من كلام موسىعليه‌السلام ما يجري مجرى التنظير فقال:( وَ قالَ مُوسى‏ ) و الكلام جار على هذا النمط إلى تمام عشر آيات.

و أمّا أنّ الله غنيّ و إن كفر من في الأرض جميعاً فإنّه غنيّ بالذات عن كلّ شي‏ء فلا ينتفع بشكر و لا يتضرّر بكفر، و إنّما يعود النفع و الضرر إلى الإنسان فيما أتى به، و أمّا أنّه حميد فلأنّ الحمد هو إظهار الحامد بلسانه ما لفعل المحمود من الجمال و الحسن و فعله تعالى حسن جميل من كلّ جهة فهو جميل ظاهر الجمال يمتنع خفاؤه و إخفاؤه، فهو تعالى محمود سواء حمده حامد باللسان أو لم يحمد.

على أنّ كلّ شي‏ء يحمده بتمام وجوده حتّى الكافر بنعمته كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الإسراء: ٤٤ فهو تعالى محمود سواء حمده الناس بألسنتهم أو لم يحمدوه، و له كلّ الحمد سواء قصد به هو أو قصد به غيره.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ ) إلى آخر الآية. من كلام موسىعليه‌السلام يذكّر قومه من أيّام الله في الاُمم الماضين ممّن فنيت أشخاصهم و خمدت أنفاسهم و عفت آثارهم و انقطعت أخبارهم فلا يعلمهم بحقيقة حالهم تفصيلاً إلّا الله كقوم نوح و عاد و ثمود و الّذين من بعدهم.

و من هنا يعلم أوّلاً: أنّ المراد بالنبإ، في قوله:( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الاعتكاف ، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم ، كما جاءت في الآيات (229 و 230) من سورة البقرة ، والآية (10) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق ، وفي الآية (4) من سورة المجادلة بعد بيان كفارة «الظهار».

وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين منع من تجاوزها ، ولهذا وصفت بكونها «حدود الله»(1) .

ثمّ بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) ، وهو بذلك يشير إلى النّتيجة الأخروية للالتزام بحدود الله واحترامها ، ثمّ يصف هذه النتيجة الأخروية بقوله :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية ، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ) .

على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار ، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإنكار لآيات الله ، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يستبعد هذا المعنى إذا لا حظنا أن «حدود» جمع ، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإلهية ، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإلهية لا يؤمن بالله عادة ، وإلّا فإنّه يحترم ولو بعضها ـ على الأقل.

إنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قال تعالى :( خالِدِينَ فِيها ) بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد

__________________

(1) لقد مرّ حول «حدود الله» وتفسيره بحث أكثر تفصيلا في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

١٤١

حيث قال( خالِداً فِيها ) .

إنّ هذا التفاوت في التعبير ـ في الآيتين المتلاحقتين ـ شاهد واضح على أن لأهل الجنّة اجتماعات (أو بعبارة أخرى أنّ هناك حالة اجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة ، ينعم بها ساكنوها وأصحابها ، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفا عن هذا ، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه ـ لما فيه من العذاب ـ بحيث لا يلتفت إلى غيره ، ولا يفكر فيه ، بل هو مهتم بنفسه ، يعمل لوحده،وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف ، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل ، في هذه الدنيا أيضا ، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم ، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.

ميزات قانون الإرث الإسلامي :

في قانون الإرث عموما ، وفي نظام الإرث الإسلامي خاصّة مزايا نشير إلى قسم منها في ما يلي :

1 ـ في نظام الإرث الإسلامي ، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإرث ، فليس في الإسلام ما كان متعارفا (أو لا يزال) عند العرب الجاهليين ، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك ، بل يشمل نظام الإرث الإسلامي كل من يمتّ إلى المتوفى بوشيجة القربى.

2 ـ يلبي هذا النظام الحاجات الإنسانية الفطرية والمشروعة ، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره امتدادا لوجوده وشخصيته ، ولهذا يكون سهم الأبناء ـ حسب هذا النظام ـ أكثر من سهام غيرهم ، في حين تكون سهام الآباء والأمهات وغيرهم من

١٤٢

الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاما وأنصبة محترمة وجديرة بالاهتمام أيضا.

3 ـ إنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة ، وتشغيل عجلة الإقتصاد.

وذلك لأنّ الإنسان إذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إلى من يحبّهم ويودّهم ، فإنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه ، ومهما كانت ظروفه وملابساته ، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقا.

وقد أشرنا في ما مضى ـ كيف أنّ إلغاء قانون الإرث والتوارث في بعض البلاد،وتأميم أموال الموتى ، وحيازتها من قبل الدولة أدى إلى آثار سيئة في المجال الاقتصادي ، وظهر في صورة ركود اقتصادي مخيف دفع بالدولة إلى إعادة النظر في إلغاء قانون الإرث وحذفه.

4 ـ إنّ قانون الإرث الإسلامي يمنع من تراكم الثّروة ، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة ـ بعد كلّ جيل ـ بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة ، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة ، كما يساعد على التوزيع العادل لها.

هذا والجدير بالاهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة ، والتي ترافق غالبا سلسلة من المضاعفات والآلام الاجتماعية السيئة ، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته ، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.

5 ـ إنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإرث الإسلامي لم تنظم على أساس الارتباط والانتساب إلى المتوفى برابطة النسب خاصّة ، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة،فإذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإناث ، أو يرث الأب ـ في بعض الموارد ـ أكثر من الأمّ ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسئولية مالية أكبر في النظام الإسلامي ، ولأنّ عليهم أن

١٤٣

يتحملوا الإنفاق على زوجاتهم وعوائلهم ، ولهذا لا بدّ أن يسهم لهم ـ في الإرث ـ أكثر من الإناث.

ما هو العول ، وما هو التعصيب؟ :

في كتاب الإرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان «العول» ، والآخر تحت عنوان «التعصيب» وهما حالتان تعرضان لمسألة الإرث عند ما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحيانا ، أو أكثر أحيانا أخرى.

وللمثال نقول : إذا ترك الميت أختين من جانب الأب والأمّ ، وزوجا ، ورثت الأختان ثلثي المال وورث الزوج النصف ، فيكون المجموع 6 أي بزيادة 6 على مجموع المال،وهنا يطرح السؤال التالي وهو : ننقص هذا السدس الزائد 6 من جميع الورثة ـ حسب سهامهم ـ وبصورة عادلة ، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟

المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إلى إدخال النقص على جميع الورثة ، وسمّى الفقهاء هذا القسم عولا ، لأن العول يعني في اللغة الارتفاع والزيادة.

ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة : إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع ، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه(1) ، وهكذا يكون العمل في الموارد الاخرى ، وفي الحقيقة ينزل الورثة ـ هنا ـ منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعا وبصورة كاملة ، فهنا يدخل النقص

__________________

(1) فتكون طريقة الحساب هنا هي أنّنا يجب أن ننقص 6 / 1 من سهم الأختين الذي هو 6 / 4 وسهم الزوج الذي هو 6 / 3 بمقدار أسهمهم أي نقسم 6 / 1 على 7 أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار 4 ، ومن الزوج بمقدار 3 ، وذلك طبقا لقانون «الإسهام بالنسبة» المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار 42 / 4 ومن سهم الزوج بمقدار 42 / 3.

١٤٤

على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهبا آخر ، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين ، لا على جميع الورثة.

فهم في المثال الحاضر ، مثلا يدخلون النقص على الأختين ، ويقولون كما جاء في حديث شريف : «إن الذي أحصى رمل عالج ـ أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض ـ ليعلم أن السهام لا تعول» أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إلى الكسر ، فلا بدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانونا ، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأمّ ، ومن ليس سهم كذلك كالأختين والبنتين ، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائما على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والاضطراب ، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج ، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول ، وإنّما يدخل النقص على سهم الأختين فقط (فلا حظ ذلك بدقّة).

وقد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال ـ فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.

فمثلا إذا توفي رجلا وخلف بنتا واحدة وأمّا ، فإن سهم الأم هو 6/1 وسهم البنت هو 6/3 فيكون مجموع الأسهم هو 6/4 أي يفصل 6/2 من المال ، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إلى إعطاء هذا الفاضل من التركة إلى عصبة الميت(1) وهم رجال الطبقة الثانية من الإرث (كالأخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين

__________________

(1) العصبة هم الرجال الذين ينتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخوة.

١٤٥

المذكورين أي بنسبة 1 و 3 ، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إلى الطبقة اللاحقة ، هذا مضافا إلى أن إعطاء الفاضل من التركة إلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائدا في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإرث.

هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة ، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعا للحاجة ، وأما التفصيل فموكول إلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.

* * *

١٤٦

الآيتان

( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) )

التّفسير

تعني لفظة «الفاحشة» حسب اللّغة : العمل أو القول القبيح جدّا ـ كما أسلفنا ـ ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد ، وقد وردت هذه اللفظة في (13) موردا من القرآن الكريم، وقد استعملت تارة في «الزّنا» وأخرى في «اللواط» وتارة في الأفعال الشديدة القبح على العموم.

والآية الأولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير كما فهم أكثر المفسرين ـ إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول :( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) .

وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة ـ مضافا إلى القرينة

١٤٧

المذكورة في الآية اللاحقة ـ التعبير بـ «من نسائكم» أي زوجاتكم ، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) فإذن لا بدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت ، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد ، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبدا) من ذلك السجن إذا كن على قيد الحياة طبعا ، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر ، وليس الخلاص من السجن إلّا بسبب إلغاء الحكم السابق ، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه ، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد ـ مهما كان ـ سببا لنجاة هذه السجينات ، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتما كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد. (فلا حظ بدقّة هذه النقطة).

وأمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد ، يجعل وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن ، فهو احتمال مردود ، لأنّ لفظة «لهنّ سبيلا» لا تتلاءم أبدا مع مسألة الأعدام ، فعبارة «لهنّ» تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبيلا لنجاتهنّ ، والحكم الذي قرّره الله في الإسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعا،وإن لم ترد في القرآن الكريم

١٤٨

أية إشارة إليها).

من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط ، لأنّ النسخ إنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك ، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني ، أي أنّه حكم مؤقت محدود ، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة ، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح ، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلا حظ ذلك بدقّة وعناية).

ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى ناحية مهمّة ، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في «البيوت» من صالحهن من بعض الجهات ، لأنّه أفضل ـ بكثير ـ من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة ، هذا مضافا إلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثرا سيئا وعميقا في إفساد المجتمع ، إذ أنّ هذه المراكز تتحول ـ شيئا فشيئا ـ إلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها ـ من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل ـ تجاربهم في الجريمة.

ثمّ أنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إذ يقول :( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا».

والآية وإن كانت لا تذكر قيد «عدم الإحصان» ، صراحة ، إلّا أنّها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة ، أستفيد منها إنها واردة في حق الزنا عن غير إحصان، وإنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير

١٤٩

المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة ، وبالتالي حيث أن الآية السابقة اختصّت ـ بالقرينة التي ذكرت ـ بالزانية المحصنة استنتجنا أنّ هذه الآية تبيّن حكم الزنا عن غير إحصان.

كما أنّ هناك نقطة واضحة أيضا ، وهي أنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية ، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حدّ الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيرا وتوضيحا لهذه الآية وتعيينا للحكم الوارد فيها ، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخا أيضا.

ففي تفسير العياشي روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما».

وعلى هذا يكون المراد من «اللذان» ـ وإن كان للإشارة إلى مثنى مذكر ـ هو الرجل والمرأة أي من باب التغلب.

هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية واردا في مجال «اللواط» واعتبروا الحكم في الآية السابقة واردا في مجال «المساحقة» ، ولكن رجوع الضمير في «يأتيانها» إلى «الفاحشة» في الآية السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر،ولهذا فإن اعتبار أنّ هذه الآية واردة في شأن اللوط ، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر ، (وإن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إلى الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حدّ الزنا وحكمه.

هذا مضافا إلى أننا نعلم أنّ عقوبة «اللواط» في الإسلام هو القتل والإعدام وليست الإيذاء والجلد ، وليس ثمّة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في الآية الحاضرة.

ثمّ إنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل

١٥٠

هؤلاء العصاة ، فيقول :( فَإِنْ تابا ، وَأَصْلَحا ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .

وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل هؤلاء العصاة،فإن على المجتمع الإسلامي أن يحتضن هؤلاء إذا تابوا ورجعوا إلى الطهر والصواب وأصلحوا،ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجّة الفساد والانحراف.

هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضا ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة ، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة ، فإذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإلهية يسقطان بسبب التوبة والإنابة ، فإنّ من الأولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم ، وهذا بنفسه جار في من نفذ فيه الحدّ الشرعي ثمّ تاب بعد ذلك ، فإنّه يجب أن تشمله مغفرة المسلمين وعفوهم.

العقوبات الإسلامية السهل الممتنع :

قد يتساءل البعض أحيانا : لما ذا قرر الإسلام عقوبات صارمة ، وأحكاما جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا : لما ذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إحصان ، ثمّ قرّر الحكم القتل والإعدام في شأنهما في ما بعد ، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإسلام موقفا أكثر تسامحا ولينا تجاه هذه الأفعال ، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟

غير أنّ العقوبات الإسلامية وإن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة ، إلّا أنّ إثبات الجريمة في الإسلام في المقام ليس سهلا ، أيضا فقد عين الإسلام وحدد لإثبات الجريمة شروطا لا تثبت ـ في الأغلب ـ إلّا إذا وقعت الجريمة علنا.

١٥١

فمثلا : تصعيد عدد الشهود في الزنا إلى الأربعة ـ كما في الآية الحاضرة ـ من الأمور الصعبة جدّا بحيث لا يثبت بها إلّا من كان مجرما جسورا جدّا ، ولا شك أن مثل هؤلاء لا بدّ أن ينالوا عقابا ثقيلا وقاسيا ليعتبر بهم الآخرون ، فتطهر بذلك البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة ، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها ، وعدم الاكتفاء بالقرائن ، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إثبات الجريمة أصعب جدّا.

وبهذا الطريق جعل الإسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين ، وهو احتمال مهما كان ضعيفا من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص ، وكبح جماحهم ، وأمّا الدقّة في كيفية إثبات هذه الجريمة ، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة ، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد ، وفي الحقيقة أراد الإسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفرادا كثيرين لعقوبة الإعدام من جانب آخر.

ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإسلامي في تعيين العقوبة وطريق إثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيرا ونجاحا في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون ، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأسلوب «السهل الممتنع».

* * *

١٥٢

الآيتان

( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) )

التّفسير

شرائط قبول التوبة :

في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إذا تابوا وأصلحوا ، ثمّ عقب ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) مشيرا بذلك إلى قبول التوبة من جانب الله أيضا.

وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) .

وهنا يجب أن نرى ما ذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية ، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟

١٥٣

إنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة ، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز ، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان ، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية ، إلّا أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة ، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره ، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.

وأمّا إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة ، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء ، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر ، ولهذا لا تقبل التوبة منه ، إلّا أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.

وفي الحقيقة إنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجادعليه‌السلام في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي».

ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول :( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) .

هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه ، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة ، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت.

ولعل استعمال لفظة «قريب» إنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.

ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية ، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا ، ويندموا على ما فعلوه

١٥٤

بسرعة ، ويتوبوا إلى الله ، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب ، ولا يمكن هذا إلّا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها ، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية ، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية ، وتعشعش في خلايا قلبه ، فالتوبة الكاملة ـ إذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت،ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.

صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا ، إلّا أنّها ليست التوبة الكاملة ، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إشارة إلى هذا المعنى ، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم ، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد ، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقا.

ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول :( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثمّ يقول تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته.

وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة ، لأن الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار ، فيرى ما لم يكن يراه من قبل ، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر ، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا ، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة

١٥٥

محسوسة ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة ، ويفرّ منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.

ومن المسلم أن التكليف الإلهي والإختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات ، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب ، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.

ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة ، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول :( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (1) .

كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إنّ العصاة يندمون عند ما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة ، ولكن لات حين مندم ، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت ، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة ، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة ، ولا مفخرة ولا تكاملا ، ولهذا لا يكون أي تأثير.

على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة ، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه ، وبعبارة أخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.

هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم ، وهم من يتوبون عند ما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.

__________________

(1) يونس ، 90 ـ 91.

١٥٦

وأمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا ، إذ يقول سبحانه :( وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) .

ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم(1) .

وهنا يطرح سؤال وهو : متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟

احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر ، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد ، بل توبة الله ، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.

ولكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمرا آخر وتقول : إن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

وتوضيح ذلك : إنّنا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال «الموافاة على الإيمان» بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا ، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية(2) . وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.

وخلاصة القول إنّ قبول التوبة مشروط بأمرين.

الأوّل : أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.

والثّاني : أن يموت وهو مؤمن.

ثمّ أنّه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته ، إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة ، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.

والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية

__________________

(1) آل عمران ـ 91 ، البقرة ، 161 ، البقرة ، 217 ، محمّد ـ 34.

(2) البقرة ، 217.

١٥٧

الحاضرة بالموت حال الكفر ، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية :( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط اخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.

* * *

١٥٨

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) )

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : «نزلت في الرجل يحبس المرأة ـ من دون أن يعاملوها كالزّوجة ـ عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها» ، أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

وروي عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم بمهور كبيرة ثمّ يحبسونهن من دون حاجة إليهن ، ولا يطلقونهن لغلاء المهر وثقله ، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.

وقد روى جماعة من المفسرين سببا آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه الآية ، بل يناسب الآية (22) من هذه السورة ، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك الآية بإذن الله تعالى.

١٥٩

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة أيضا :

قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي ، وفي هذه الآية بالذات أشير إلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها ، وتلك هي :

1 ـ لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال ، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات ، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن ، فقالت الآية الحاضرة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

2 ـ لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضا أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ،ويقبلن بالطلاق ، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظا ، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها :( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) أي من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها ، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها ، وتهبه له ويطلقها عند ذلك،وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة ، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.

هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا ، أو كل

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409