الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87234 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

المتّقين و بشّرهم بالجنّة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسّر التقوى في الحديث كما تقدّم.

ثمّ إنّ مجرّد صحّة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمّى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصّة في الأوصاف الّتي تحتمل البقاء و الاستمرار إلّا من استقرّ فيه الوصف، و لو صحّ ما ذكره في المتّقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالّين و قد أوعدهم الله النار، و أدّى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إنّ هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرّة و المرّتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتّقي بالمرّة و المرّتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.

ثمّ الّذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إنّ هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ ذلك لا ينفعه شيئاً، و كقوله: إنّ زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنّما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظيّ و قد عرفت أنّ هناك آيات جمّة صالحة للتقييد.

و كقوله: إنّ ذلك خلاف الظاهر. و كأنّه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أنّ ظهور المطلق إنّما هو حجّة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.

فالحقّ أنّ الآية إنّما تشمل الّذين استقرّت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فاُولئك هم المقضيّ عليهم بالسعادة و الجنّة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنّة أنّ أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلّا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنّة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتّقين على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إلى آخر الآيتين. الغلّ الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد ممّا يبعث

١٨١

الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب هو التعب و العيّ الوارد من خارج.

يصف تعالى في الآيتين حال المتّقين في سعادتهم بدخول الجنّة، اختصّ بالذكر هذه الاُمور من بين نعم الجنّة على كثرتها فإنّ العناية باقتضاء من المقام متعلّقة ببيان أنّهم في سلام و أمن ممّا ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنّهم في أمن من قبل أنفسهم لأنّ الله نزع ما في صدورهم من غلّ فلا يهمّ الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى و أنّهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسّهم نصب أصلاً و أنّهم في أمن و سلام من ناحية ربّهم فما هم من الجنّة بمخرجين أبداً فلهم السعادة و الكرامة من كلّ جهة، و لا يغشاهم و لا يمسّهم شقاء و وهن من جهة أصلاً لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربّهم.

( كلام في الأقضية الصادرة في بدء خلقة الإنسان‏)

الأقضية الّتي صدرت عن مصدر العزّة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة:

الأوّل و الثاني قوله لإبليس:( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر: ٣٥ و يمكن إرجاعهما إلى واحد.

الثالث قوله سبحانه له:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الحجر: ٣٨.

الرابع و الخامس و السادس قوله له:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٤٣.

السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦.

١٨٢

التاسع و العاشر قوله لهم:( اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و هناك أقضية فرعيّة مترتّبة على هذه الأقضية الأصليّة يعثر عليها المتدبّر الباحث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الآية قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: خلق خلقاً و خلق روحاً ثمّ أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالّتي نقصت من الله شيئاً هي من قدرته تبارك و تعالى.

و فيه، و في رواية سماعة عنهعليه‌السلام : خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.

أقول: أي هي قدرته الفعليّة منبعثة عن قدرته الذاتيّة صادرة منها كما يدلّ عليه الخبر السابق.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضّله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عمّا يروون: أنّ الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال:( بَيْتِيَ ) ( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمّن معارف

١٨٣

جمّة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الاُولى و الثانية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفيّ بحذف الإسناد عن وهب - و اللفظ للثاني - عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن إبليس و قوله:( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنّه يوم يبعث الله فيه الناس و لكنّ الله عزّوجلّ أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن محمّد بن يونس عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( فَأَنْظِرْنِي - إلى قوله -إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) قال: يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصخرة الّتي في بيت المقدس.

أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار اُخرى من طرق أهل البيتعليهم‌السلام .

و من الممكن أن تكون الرواية الاُولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقيّة، و يمكن أن توجّه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدّم في الكلام على الرجعة في الجزء الأوّل من الكتاب و غيره أنّ الروايات الواردة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسّرها بظهور المهديّعليه‌السلام تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة اُخرى لكون هذه الأيّام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدّة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: أ رأيت قول الله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) ؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنّك

١٨٤

لا تملك أن تدخلهم جنّة و لا ناراً.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الآية، قال: قال: يدخل في كلّ باب أهل مذهب، و للجنّة ثمانية أبواب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد في الزهد عن خطّاب بن عبدالله قال: قال عليّ: أ تدرون كيف أبواب جهنّم؟ قلنا: كنحو هذه الأبواب. قال: لا، ولكنّها هكذا و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده.

و فيه، أخرج ابن المبارك و هنّاد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في البعث من طرق عن عليّ قال: أبواب جهنّم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث حتّى يملأ كلّها.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكّوا في الله، و جزء غفلوا عن الله.

أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أنّ الكلام غير مسوق للحصر.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لجهنّم باب لا يدخل منه إلّا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي.

أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.

و فيه، أخرج أحمد و ابن حبّان و الطبريّ و ابن مردويه و البيهقيّ في البعث عن عتبة بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: للجنّة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض.

أقول: و الروايات - كما ترى - تؤيّد من قدّمناه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) الآية، قال: قال العداوة.

١٨٥

و في تفسير البرهان، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال عليّ بن أبي طالب: يا رسول الله أيّما أنا أحبّ إليك أم فاطمة؟ قال: فاطمة أحبّ إلي منك و أنت أعزّ علي منها، و كأنّي بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إنّ عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنّة إخواناً على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.

و فيه، عن ابن المغازليّ في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّي مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثمّ قال لعليّ: أنت أخي ثمّ تلا هذه الآية:( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض.

أقول: و رواه أيضاً عن أحمد في مسنده مرفوعاً إلى زيد بن أوفى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الرواية مبسوطة.

و في الروايتين تفسير قوله تعالى:( عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أنّ التقابل في الآية كناية عن عدم تتبّع أحدهم عورات إخوانه و زلّاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غلّ و هو معنى لطيف.

و ما قرأه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآية إنّما هو من باب الجري و الانطباق لا أنّ الآية نازلة في أهل البيتعليهم‌السلام فسياق الآيات لا يلائمه البتّة.

و نظيرها ما روي عن عليّعليه‌السلام : أنّ الآية نزلت فينا أهل بدر، و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر، و في رواية اُخرى عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر و علي‏ّ، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و الزبير و طلحة، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و عثمان و طلحة و الزبير، و في رواية اُخرى عن ابن عباس: أنّها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ و

١٨٦

طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبدالله بن مسعود.

و الروايات - على ما بها من الاختلاف - تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقصّ ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثمّ قضى ما قضى، و لا تعلّق لذلك بأشخاص بخصوصيّتهم هذا.

١٨٧

( سورة الحجر الآيات ٤٩ - ٨٤)

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٤٩ ) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ( ٥٠ ) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( ٥١ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ( ٥٢ ) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٥٣ ) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( ٥٤ ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ( ٥٥ ) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ( ٥٦ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٥٧ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٥٨ ) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥٩ ) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا  إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ( ٦١ ) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٦٢ ) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ( ٦٣ ) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٦٤ ) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ( ٦٥ ) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( ٦٦ ) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٦٧ ) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ( ٦٨ ) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ ( ٦٩ ) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٧٠ ) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ( ٧١ ) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٢ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( ٧٣ ) فَجَعَلْنَا

١٨٨

عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ( ٧٤) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ( ٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ( ٧٦) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ( ٧٧) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ( ٧٨) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ( ٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ( ٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ( ٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ( ٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ( ٨٣) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ٨٤)

( بيان)

بعد ما تكلّم سبحانه حول استهزائهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما أنزل إليه من الكتاب و اقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة و هم ليسوا بمؤمنين و إن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير و الإنذار و هو ما في قوله:( نَبِّئْ عِبادِي ) إلى آخر الآيتين ثمّ أوضحه و أيّده بقصّة جامعة للجهتين متضمّنة للأمرين معا و هي قصّة ضيف إبراهيم و فيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة و عذاب قوم لوط بأشدّ أنواع العذاب.

ثمّ أيّده تعالى بإشارة إجماليّة إلى تعذيب أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب و أصحاب الحجر و هم ثمود قوم صالحعليهما‌السلام .

قوله تعالى: ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) المراد بقوله:( عِبادِي ) على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم: أنّ المراد بهم المتّقون السابق ذكرهم أو المخلصون.

و تأكيد الجملتين بالإسميّة و إنّ و ضمير الفصل و اللام في الخبر يدلّ على أنّ الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة و الرحمة و ألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدّر بقدر و لا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلّا و يمكن أن يفرض

١٨٩

لها مانع يمنع من إرسالها أو مقدّر يقدّرها و يحدّها، لكنّه سبحانه يحكم لا معقّب لحكمه و لا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته و رحمته شي‏ء و لا يحدّهما أمر إلّا أن يشاء ذلك هو جلّ و عزّ، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه و رحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلّا أن يخافه تعالى نفسه كما قال:( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ ) الزمر: ٥٤.

و ليس لأحد أن يحقّر عذابه أو يؤمّل عجزه أو يأمن مكره و الله غالب على أمره و لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

قوله تعالى: ( وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) الضيف معروف و يطلق على المفرد و الجمع و ربّما يجمع على أضياف و ضيوف و ضيفان لكنّ الأفصح - كما قيل - أن لا يثنّى و لا يجمع لكونه مصدراً في الأصل.

و المراد بالضيف الملائكة المكرمون الّذين اُرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد و لهلاك قوم لوط سمّاهم ضيفا لأنّهم دخلوا عليه في صورة الضيف.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ضمير الجمع في( دَخَلُوا ) و( فَقالُوا ) في الموضعين للملائكة فقولهم:( سَلاماً ) تحيّة و تقديره نسلّم عليك سلاما و قول إبراهيمعليه‌السلام :( إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) أي خائفون و الوجل: الخوف.

و إنّما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقرّ بهم المجلس و قدّم إليهم عجلاً حنيذا فلم يأكلوا منه فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصّة مذكورة على نحو التلخيص.

و قولهم:( لا تَوْجَلْ ) تسكين لوجله و تأمين له و تطييب لنفسه بأنّهم رسل ربّه و قد دخلوا عليه ليبشّروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاماً و عليماً، و لعلّ المراد كونه عليماً بتعليم الله و وحيه فيقرب من قوله في موضع آخر:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) الصافات: ١١٢.

١٩٠

قوله تعالى: ( قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تلقّى إبراهيمعليه‌السلام البشرى و هو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه و قد أيأسته العادة الجارية عن الولد و إن كان يجلّ أن يقنط من رحمة الله و نفوذ قدرته، و لذا تعجّب من قولهم و استفهمهم كيف يبشّرونه بالولد و حاله هذه الحال؟ و زوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.

فقوله:( أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) الكبر كناية عن الشيخوخة و مسّه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه و إذهاب قواه، و المعنى إنّي لأتعجبّ من بشارتكم إيّاي و الحال أنّي شيخ هرم فني شبابي و فقدت قوى بدني، و العادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.

و قوله:( فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تفريع على قوله:( مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) و هو استفهام عمّا بشّروه به كأنّه يشكّ في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الّذي تبشّرون به؟ فإنّ الّذي يدلّ عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، و هذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا اُخبر بما يستبعده أو لا يصدّقه: ما تقول؟ و ما تريد؟ و ما ذا تصنع؟.

قوله تعالى: ( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالحقّ - إلى قوله -إلّا الضَّالُّونَ ) الباء في( بِالحقّ ) للمصاحبة أي إنّ بشارتنا ملازمة للحقّ غير منفكّة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله و هذا، جواب للملائكة و قد قابلهم إبراهيمعليه‌السلام على نحو التكنية فقال:( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلّا الضَّالُّونَ ) و الاستفهام إنكاريّ أي إنّ القنوط من رحمة الله ممّا يختصّ بالضالّين و لست أنا بضالّ فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) الخطب الأمر الجليل و الشأن العظيم، و في خطابهم بالمرسلين دلالة على أنّهم ذكروا له ذلك قبلاً، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ - إلى قوله -لَمِنَ الْغابِرِينَ ) قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضيّ من هو معه قال تعالى:( إِلَّا عَجُوزاً فِي

١٩١

الْغابِرِينَ ) يعني فيمن طال أعمارهم، و قيل: فيمن بقي و لم يسر مع لوط، و قيل: فيمن بقي بعد في العذاب، و في آخر:( إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) و في آخر:( قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) - إلى أن قال - و الغبار ما يبقى من التراب المثار و جعل على بناء الدخان و العثار و نحوهما من البقايا. انتهى و لعلّه من هنا ما ربّما يسمّى الماضي و المستقبل معا غابرا أمّا الماضي فبعناية أنّه بقي فيما مضى و لم يتعدّ إلى الزمان الحاضر و أمّا المستقبل فبعناية أنّه باق لم يفن بعد كالماضي.

و الآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا ) من عند الله سبحانه( إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) نكّروهم و لم يسمّوهم صونا للّسان عن التصريح باسمهم تنفّراً منه و مستقبل الكلام يعيّنهم ثمّ استثنوا و قالوا:( إِلَّا آلَ لُوطٍ ) و هم لوط و خاصّته و ظهر به أنّ القوم قومه( إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ) أي مخلّصوهم من العذاب( أَجْمَعِينَ ) و ظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.

ثمّ استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أنّ النجاة لا تشملها و أنّ العذاب سيأخذها و يهلكها فقالوا( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.

و قد تقدّم تفصيل قول في ضيف إبراهيمعليه‌السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و عقدنا هناك بحثاً مستقلّاً فيه.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) إنّما قال لهم لوطعليه‌السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان و كان يشقّه ما يراه منهم و شأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدّم في سورة هود و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْناكَ بِالحقّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) الامتراء من المرية و هو الشكّ، و المراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الّذي كان ينذرهم به لوط و هم يشكّون فيه، و المراد بإتيانهم بالحقّ إتيانهم بقضاء حقّ في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم:( وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هود: ٧٦ و قيل: المراد( و أتيناك بالعذاب الذي لا شكّ فيه)

١٩٢

و ما ذكرناه هو الوجه.

و في آيات القصّة تقديم و تأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخّر في موضع المقدّم و بالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصّة في غير محلّه الّذي يقتضيه الترتيب الطبعيّ و تعيّنه له سنّة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.

و ترتيب القصّة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود و غيرها و الاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله:( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ ) إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثمّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى تمام ستّ آيات. ثمّ قوله:( قالُوا بَلْ جِئْناكَ ) إلى تمام أربع آيات. ثمّ قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) إلى آخر الآيات.

و حقيقة هذا التقديم و التأخير أنّ للقصّة فصولاً أربعة و قد اُخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأوّل و الثاني أعني أنّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى آخره اُخّر في الذكر ليتّصل آخره و هو قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) بأوّل الفصل الأخير:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) و ذلك ليتمثّل به الغرض في الاستشهاد بالقصّة و ينجلي أوضح الانجلاء و هو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم و أمن منه لا يخطر ببالهم شي‏ء من ذلك و ذلك أبلغ في الدهشة و أوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.

و نظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصّة أصحاب الحجر الآتية من اتّصال قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) كلّ ذلك ليجلّي معنى قوله تعالى في صدر المقال:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله:( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) يؤكّده و قطع الليل شطر مقطوع منه، و المراد باتّباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلّف عن السير و يحملهم

١٩٣

على السير الحثيث كما يشعر به قوله:( وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) .

و المعنى: و إذ جئناك بعذاب غير مردود و أمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا و تأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلّفوا عن السير و لا يساهلوا فيه و لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه و امضوا حيث تؤمرون، و فيه دلالة على أنّه كانت أمامهم هداية إلهيّة تهديهم و قائد يقودهم.

قوله تعالى: ( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) القضاء مضمّن معنى الوحي و لذا عدّي بإلى - كما قيل - و المراد بالأمر أمر العذاب كما يفسّره قوله:( أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) و الإشارة إليه بلفظة( ذلِكَ ) للدلالة على عظم خطره و هول أمره.

و المعنى: و قضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط و هو أنّ دابر هؤلاء و أثرهم الّذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل و بناء و عمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - إلى قوله -إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) يدلّ نسبة المجيي‏ء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدّهم أهل المدينة لكثرتهم.

فالمعنى( وَ جاءَ ) إلى لوط( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) جمع كثير منهم يريدون أضيافه و هم( يَسْتَبْشِرُونَ ) لولعهم بالفحشاء و خاصّة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) بالعمل الشنيع بهم( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ لا تُخْزُونِ قالُوا ) المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم( أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) أن تؤويهم و تشفع فيهم و تدافع عنهم فلمّا يئس لوطعليه‌السلام منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهنّ - كما تقدّم بيانه في سورة هود -( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ - إلى قوله -مِنْ سِجِّيلٍ ) قال في المفردات: العمارة ضدّ الخراب. قال: و العمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة

١٩٤

فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، و إذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإنّ البقاء ضدّ الفناء، و لفضل البقاء على العمر وصف الله به و قلما وصف بالعمر قال: و العمر - بالضمّ - و العمر - بالفتح - واحد لكن خصّ القسم بالعمر - بالفتح- دون العمر - بالضمّ - نحو( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ) ، انتهى.

و الخطاب في( لَعَمْرُكَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو قسم ببقائه و قول بعضهم: إنّه خطاب من الملائكة للوطعليه‌السلام و قسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.

و العمه هو التردّد على حيرة و السجّيل حجارة العذاب و قد تقدّم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

و المعنى اُقسم بحياتك و بقائك يا محمّد إنّهم لفي سكرتهم و هي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء و المنكر يتردّدون متحيّرين( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) و هي الصوت الهائل( مُشْرِقِينَ ) أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها و فوقها تحتها و أمطرنا و أنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجّيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ - إلى قوله -لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية العلامة و المراد بالآيات أوّلاً العلامات الدالّة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار و بالآية ثانياً العلامة الدالّة للمؤمنين على حقّيّة الإنذار و الدعوة الإلهيّة و التوسّم التفرّس و الانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.

و المعنى: أنّ في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط و في بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرّسين و إنّ تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف و لم تنمح بالكلّيّة بعد، إنّ في ذلك لآية للمؤمنين تدلّ على حقّيّة الإنذار و الدعوة و قد تبيّن بذلك وجه إيراد الآيات جمعا و مفردا في الموضعين.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ - إلى -فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) الأيكة واحدة الأيك و هو الشجر الملتفّ بعضه ببعض فقد كانوا - كما قيل - في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.

و هؤلاء - كما ذكروا - هم قوم شعيبعليه‌السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون

١٩٥

الغيضة، و يؤيّده قوله تعالى ذيلاً:( وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) أي مكانا قوم لوط و أصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإنّ الّذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط و قوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم و تكذيبهم لدعوة شعيبعليه‌السلام و قد تقدّمت قصّتهم في سورة هود و قوله:( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) الضمير لأصحاب الأيكة و قيل: لهم و لقوم لوط. و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح و الحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها و عدّهم مكذّبين لجميع المرسلين و هم إنّما كذّبوا صالحا المرسل إليهم إنّما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة و المكذّب لواحد منهم مكذّب للجميع.

و قوله:( وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) إن كان المراد بالآيات المعجزات و الخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة و شربها و ما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن اُهلكوا، و قد تقدّمت القصّة في سورة هود، و إن كان المراد بها المعارف الإلهيّة الّتي بلّغها صالحعليه‌السلام و نشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقّة و الآية المعجزة فالأمر واضح.

و قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضيّة و السماويّة بزعمهم.

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي صيحة العذاب الّتي كان فيها هلاكهم، و قد تقدّمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

و قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.

١٩٦

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنّة و اذكروا النار فنزلت:( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

أقول: و في معناه روايات اُخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.

و فيه أخرج أبونعيم في الحلية عن جعفر بن محمّد في قوله:( إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) قال: هم المتفرّسون.

و فيه، أخرج البخاريّ في تاريخه و الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن السنّي و أبونعيم معا في الطبّ و ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ثمّ قرأ:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال المتفرّسين.

و في اختصاص المفيد، بإسناده عن أبي بكر بن محمّد الحضرميّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال: ما من مخلوق إلّا و بين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب عن الأئمّة من آل محمّد ثمّ ليس يدخل عليهم أحد إلّا عرفوه مؤمناً أو كافراً ثمّ تلا هذه الآية:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) فهم المتوسّمون.

أقول: و الروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، و ليس معناها نزول الآية فيهمعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ مدين و أصحاب الأيكة اُمّتان بعث الله إليهما شعيبا.

أقول: و قد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصّة بشرى إبراهيم و قصص لوط و شعيب و صالحعليهم‌السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و اكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.

١٩٧

( سورة الحجر الآيات ٨٥ - ٩٩)

 وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ  وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ  فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ( ٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ( ٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ( ٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ( ٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ( ٨٩) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ( ٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ( ٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( ٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ( ٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( ٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( ٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ( ٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ( ٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( ٩٩)

( بيان)

في الآيات تخلّص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإنّ من القضاء الحقّ أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصّة يوم القيامة الّذي لا ريب فيه و هو اليوم الّذي لا يغادر أحداً و لا يدع مثقال ذرّة من الخير و الشرّ إلّا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإنّ الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإنّ الاشتغال بالله سبحانه أهمّ و أوجب.

١٩٨

و لقد كرّر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن اُولئك المستهزءين به - و هم الّذين مرّ ذكرهم في مفتتح السورة - و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنّه كفاه شرّهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) الباء في قوله:( بِالحقّ) للمصاحبة أي إنّ خلقها جميعاً لا ينفكّ عن الحقّ و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: ٨ و لو لا ذلك لكان لعباً باطلاً قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحقّ ) الدخان: ٣٩ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ و من الدليل على كون المراد بالحقّ ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله:( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالحقّ العدل و الإنصاف و الباء للسببيّة و المعنى ما خلقنا ذلك إلّا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.

و ذلك أن كون الحقّ في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أنّ الّذي ذكره من المعنى إنّما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببيّة.

و كذا ما ذكره بعضهم أنّ الحقّ بمعنى الحكمة و أنّ الجملة الاُولى( وَ ما خَلَقْنَا ) إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيويّ و الثانية( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) إلى العذاب الاُخرويّ و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا متلبّساً بالحقّ و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعاً لفسادهم و إرشاداً لمن بقي إلى الصلاح، و إنّ الساعة لآتية فينتقم أيضاً فيها من أمثال هؤلاء.

و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كلّ من الفريقين يجرّ نارها إلى قرصته فاستدلّ بها أصحاب الجبر على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله لأنّ أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.

١٩٩

و استدل بها أصحاب التفويض على أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإنّ المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحقّ و الباطل لا يكون مخلوقاً بالحقّ.

و الحقّ أنّ الحجّتين جميعاً من الباطل فإنّ جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيّات عدميّة إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حلّه و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنّما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدميّة، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإنّ ذلك من جهاته العدميّة فليس الفعل بجهته العدميّة ممّا بين السماوات و الأرض حتّى تشمله الآية، و لا بجهته الوجوديّة من الباطل حتّى يكون خلقه خلقاً للباطل بالحقّ.

على أنّ الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أنّ قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقلّ دونه هو ملاك الاتّصاف فالمتّصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الّذي خلقه و يسّر له أن يفعل كذا و كذا كما أنّ المتّصف بالسواد و البياض الجسم الّذي يقوم به هذان اللونان دون الّذي أوجده.

و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) قال في المفردات: صفح الشي‏ء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى:( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ ) ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ) .

و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة الّتي أثبتّ فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفّحت

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409