الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87203 / تحميل: 6106
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المتّقين و بشّرهم بالجنّة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسّر التقوى في الحديث كما تقدّم.

ثمّ إنّ مجرّد صحّة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمّى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصّة في الأوصاف الّتي تحتمل البقاء و الاستمرار إلّا من استقرّ فيه الوصف، و لو صحّ ما ذكره في المتّقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالّين و قد أوعدهم الله النار، و أدّى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إنّ هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرّة و المرّتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتّقي بالمرّة و المرّتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.

ثمّ الّذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إنّ هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ ذلك لا ينفعه شيئاً، و كقوله: إنّ زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنّما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظيّ و قد عرفت أنّ هناك آيات جمّة صالحة للتقييد.

و كقوله: إنّ ذلك خلاف الظاهر. و كأنّه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أنّ ظهور المطلق إنّما هو حجّة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.

فالحقّ أنّ الآية إنّما تشمل الّذين استقرّت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فاُولئك هم المقضيّ عليهم بالسعادة و الجنّة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنّة أنّ أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلّا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنّة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتّقين على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إلى آخر الآيتين. الغلّ الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد ممّا يبعث

١٨١

الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب هو التعب و العيّ الوارد من خارج.

يصف تعالى في الآيتين حال المتّقين في سعادتهم بدخول الجنّة، اختصّ بالذكر هذه الاُمور من بين نعم الجنّة على كثرتها فإنّ العناية باقتضاء من المقام متعلّقة ببيان أنّهم في سلام و أمن ممّا ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنّهم في أمن من قبل أنفسهم لأنّ الله نزع ما في صدورهم من غلّ فلا يهمّ الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى و أنّهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسّهم نصب أصلاً و أنّهم في أمن و سلام من ناحية ربّهم فما هم من الجنّة بمخرجين أبداً فلهم السعادة و الكرامة من كلّ جهة، و لا يغشاهم و لا يمسّهم شقاء و وهن من جهة أصلاً لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربّهم.

( كلام في الأقضية الصادرة في بدء خلقة الإنسان‏)

الأقضية الّتي صدرت عن مصدر العزّة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة:

الأوّل و الثاني قوله لإبليس:( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر: ٣٥ و يمكن إرجاعهما إلى واحد.

الثالث قوله سبحانه له:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الحجر: ٣٨.

الرابع و الخامس و السادس قوله له:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٤٣.

السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦.

١٨٢

التاسع و العاشر قوله لهم:( اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و هناك أقضية فرعيّة مترتّبة على هذه الأقضية الأصليّة يعثر عليها المتدبّر الباحث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الآية قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: خلق خلقاً و خلق روحاً ثمّ أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالّتي نقصت من الله شيئاً هي من قدرته تبارك و تعالى.

و فيه، و في رواية سماعة عنهعليه‌السلام : خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.

أقول: أي هي قدرته الفعليّة منبعثة عن قدرته الذاتيّة صادرة منها كما يدلّ عليه الخبر السابق.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضّله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عمّا يروون: أنّ الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال:( بَيْتِيَ ) ( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمّن معارف

١٨٣

جمّة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الاُولى و الثانية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفيّ بحذف الإسناد عن وهب - و اللفظ للثاني - عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن إبليس و قوله:( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنّه يوم يبعث الله فيه الناس و لكنّ الله عزّوجلّ أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن محمّد بن يونس عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( فَأَنْظِرْنِي - إلى قوله -إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) قال: يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصخرة الّتي في بيت المقدس.

أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار اُخرى من طرق أهل البيتعليهم‌السلام .

و من الممكن أن تكون الرواية الاُولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقيّة، و يمكن أن توجّه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدّم في الكلام على الرجعة في الجزء الأوّل من الكتاب و غيره أنّ الروايات الواردة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسّرها بظهور المهديّعليه‌السلام تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة اُخرى لكون هذه الأيّام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدّة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: أ رأيت قول الله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) ؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنّك

١٨٤

لا تملك أن تدخلهم جنّة و لا ناراً.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الآية، قال: قال: يدخل في كلّ باب أهل مذهب، و للجنّة ثمانية أبواب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد في الزهد عن خطّاب بن عبدالله قال: قال عليّ: أ تدرون كيف أبواب جهنّم؟ قلنا: كنحو هذه الأبواب. قال: لا، ولكنّها هكذا و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده.

و فيه، أخرج ابن المبارك و هنّاد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في البعث من طرق عن عليّ قال: أبواب جهنّم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث حتّى يملأ كلّها.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكّوا في الله، و جزء غفلوا عن الله.

أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أنّ الكلام غير مسوق للحصر.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لجهنّم باب لا يدخل منه إلّا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي.

أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.

و فيه، أخرج أحمد و ابن حبّان و الطبريّ و ابن مردويه و البيهقيّ في البعث عن عتبة بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: للجنّة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض.

أقول: و الروايات - كما ترى - تؤيّد من قدّمناه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) الآية، قال: قال العداوة.

١٨٥

و في تفسير البرهان، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال عليّ بن أبي طالب: يا رسول الله أيّما أنا أحبّ إليك أم فاطمة؟ قال: فاطمة أحبّ إلي منك و أنت أعزّ علي منها، و كأنّي بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إنّ عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنّة إخواناً على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.

و فيه، عن ابن المغازليّ في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّي مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثمّ قال لعليّ: أنت أخي ثمّ تلا هذه الآية:( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض.

أقول: و رواه أيضاً عن أحمد في مسنده مرفوعاً إلى زيد بن أوفى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الرواية مبسوطة.

و في الروايتين تفسير قوله تعالى:( عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أنّ التقابل في الآية كناية عن عدم تتبّع أحدهم عورات إخوانه و زلّاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غلّ و هو معنى لطيف.

و ما قرأه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآية إنّما هو من باب الجري و الانطباق لا أنّ الآية نازلة في أهل البيتعليهم‌السلام فسياق الآيات لا يلائمه البتّة.

و نظيرها ما روي عن عليّعليه‌السلام : أنّ الآية نزلت فينا أهل بدر، و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر، و في رواية اُخرى عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر و علي‏ّ، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و الزبير و طلحة، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و عثمان و طلحة و الزبير، و في رواية اُخرى عن ابن عباس: أنّها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ و

١٨٦

طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبدالله بن مسعود.

و الروايات - على ما بها من الاختلاف - تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقصّ ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثمّ قضى ما قضى، و لا تعلّق لذلك بأشخاص بخصوصيّتهم هذا.

١٨٧

( سورة الحجر الآيات ٤٩ - ٨٤)

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٤٩ ) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ( ٥٠ ) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( ٥١ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ( ٥٢ ) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٥٣ ) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( ٥٤ ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ( ٥٥ ) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ( ٥٦ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٥٧ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٥٨ ) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥٩ ) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا  إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ( ٦١ ) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٦٢ ) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ( ٦٣ ) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٦٤ ) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ( ٦٥ ) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( ٦٦ ) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٦٧ ) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ( ٦٨ ) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ ( ٦٩ ) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٧٠ ) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ( ٧١ ) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٢ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( ٧٣ ) فَجَعَلْنَا

١٨٨

عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ( ٧٤) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ( ٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ( ٧٦) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ( ٧٧) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ( ٧٨) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ( ٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ( ٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ( ٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ( ٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ( ٨٣) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ٨٤)

( بيان)

بعد ما تكلّم سبحانه حول استهزائهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما أنزل إليه من الكتاب و اقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة و هم ليسوا بمؤمنين و إن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير و الإنذار و هو ما في قوله:( نَبِّئْ عِبادِي ) إلى آخر الآيتين ثمّ أوضحه و أيّده بقصّة جامعة للجهتين متضمّنة للأمرين معا و هي قصّة ضيف إبراهيم و فيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة و عذاب قوم لوط بأشدّ أنواع العذاب.

ثمّ أيّده تعالى بإشارة إجماليّة إلى تعذيب أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب و أصحاب الحجر و هم ثمود قوم صالحعليهما‌السلام .

قوله تعالى: ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) المراد بقوله:( عِبادِي ) على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم: أنّ المراد بهم المتّقون السابق ذكرهم أو المخلصون.

و تأكيد الجملتين بالإسميّة و إنّ و ضمير الفصل و اللام في الخبر يدلّ على أنّ الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة و الرحمة و ألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدّر بقدر و لا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلّا و يمكن أن يفرض

١٨٩

لها مانع يمنع من إرسالها أو مقدّر يقدّرها و يحدّها، لكنّه سبحانه يحكم لا معقّب لحكمه و لا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته و رحمته شي‏ء و لا يحدّهما أمر إلّا أن يشاء ذلك هو جلّ و عزّ، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه و رحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلّا أن يخافه تعالى نفسه كما قال:( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ ) الزمر: ٥٤.

و ليس لأحد أن يحقّر عذابه أو يؤمّل عجزه أو يأمن مكره و الله غالب على أمره و لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

قوله تعالى: ( وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) الضيف معروف و يطلق على المفرد و الجمع و ربّما يجمع على أضياف و ضيوف و ضيفان لكنّ الأفصح - كما قيل - أن لا يثنّى و لا يجمع لكونه مصدراً في الأصل.

و المراد بالضيف الملائكة المكرمون الّذين اُرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد و لهلاك قوم لوط سمّاهم ضيفا لأنّهم دخلوا عليه في صورة الضيف.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ضمير الجمع في( دَخَلُوا ) و( فَقالُوا ) في الموضعين للملائكة فقولهم:( سَلاماً ) تحيّة و تقديره نسلّم عليك سلاما و قول إبراهيمعليه‌السلام :( إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) أي خائفون و الوجل: الخوف.

و إنّما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقرّ بهم المجلس و قدّم إليهم عجلاً حنيذا فلم يأكلوا منه فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصّة مذكورة على نحو التلخيص.

و قولهم:( لا تَوْجَلْ ) تسكين لوجله و تأمين له و تطييب لنفسه بأنّهم رسل ربّه و قد دخلوا عليه ليبشّروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاماً و عليماً، و لعلّ المراد كونه عليماً بتعليم الله و وحيه فيقرب من قوله في موضع آخر:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) الصافات: ١١٢.

١٩٠

قوله تعالى: ( قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تلقّى إبراهيمعليه‌السلام البشرى و هو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه و قد أيأسته العادة الجارية عن الولد و إن كان يجلّ أن يقنط من رحمة الله و نفوذ قدرته، و لذا تعجّب من قولهم و استفهمهم كيف يبشّرونه بالولد و حاله هذه الحال؟ و زوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.

فقوله:( أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) الكبر كناية عن الشيخوخة و مسّه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه و إذهاب قواه، و المعنى إنّي لأتعجبّ من بشارتكم إيّاي و الحال أنّي شيخ هرم فني شبابي و فقدت قوى بدني، و العادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.

و قوله:( فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تفريع على قوله:( مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) و هو استفهام عمّا بشّروه به كأنّه يشكّ في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الّذي تبشّرون به؟ فإنّ الّذي يدلّ عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، و هذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا اُخبر بما يستبعده أو لا يصدّقه: ما تقول؟ و ما تريد؟ و ما ذا تصنع؟.

قوله تعالى: ( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالحقّ - إلى قوله -إلّا الضَّالُّونَ ) الباء في( بِالحقّ ) للمصاحبة أي إنّ بشارتنا ملازمة للحقّ غير منفكّة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله و هذا، جواب للملائكة و قد قابلهم إبراهيمعليه‌السلام على نحو التكنية فقال:( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلّا الضَّالُّونَ ) و الاستفهام إنكاريّ أي إنّ القنوط من رحمة الله ممّا يختصّ بالضالّين و لست أنا بضالّ فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) الخطب الأمر الجليل و الشأن العظيم، و في خطابهم بالمرسلين دلالة على أنّهم ذكروا له ذلك قبلاً، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ - إلى قوله -لَمِنَ الْغابِرِينَ ) قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضيّ من هو معه قال تعالى:( إِلَّا عَجُوزاً فِي

١٩١

الْغابِرِينَ ) يعني فيمن طال أعمارهم، و قيل: فيمن بقي و لم يسر مع لوط، و قيل: فيمن بقي بعد في العذاب، و في آخر:( إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) و في آخر:( قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) - إلى أن قال - و الغبار ما يبقى من التراب المثار و جعل على بناء الدخان و العثار و نحوهما من البقايا. انتهى و لعلّه من هنا ما ربّما يسمّى الماضي و المستقبل معا غابرا أمّا الماضي فبعناية أنّه بقي فيما مضى و لم يتعدّ إلى الزمان الحاضر و أمّا المستقبل فبعناية أنّه باق لم يفن بعد كالماضي.

و الآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا ) من عند الله سبحانه( إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) نكّروهم و لم يسمّوهم صونا للّسان عن التصريح باسمهم تنفّراً منه و مستقبل الكلام يعيّنهم ثمّ استثنوا و قالوا:( إِلَّا آلَ لُوطٍ ) و هم لوط و خاصّته و ظهر به أنّ القوم قومه( إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ) أي مخلّصوهم من العذاب( أَجْمَعِينَ ) و ظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.

ثمّ استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أنّ النجاة لا تشملها و أنّ العذاب سيأخذها و يهلكها فقالوا( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.

و قد تقدّم تفصيل قول في ضيف إبراهيمعليه‌السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و عقدنا هناك بحثاً مستقلّاً فيه.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) إنّما قال لهم لوطعليه‌السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان و كان يشقّه ما يراه منهم و شأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدّم في سورة هود و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْناكَ بِالحقّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) الامتراء من المرية و هو الشكّ، و المراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الّذي كان ينذرهم به لوط و هم يشكّون فيه، و المراد بإتيانهم بالحقّ إتيانهم بقضاء حقّ في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم:( وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هود: ٧٦ و قيل: المراد( و أتيناك بالعذاب الذي لا شكّ فيه)

١٩٢

و ما ذكرناه هو الوجه.

و في آيات القصّة تقديم و تأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخّر في موضع المقدّم و بالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصّة في غير محلّه الّذي يقتضيه الترتيب الطبعيّ و تعيّنه له سنّة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.

و ترتيب القصّة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود و غيرها و الاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله:( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ ) إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثمّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى تمام ستّ آيات. ثمّ قوله:( قالُوا بَلْ جِئْناكَ ) إلى تمام أربع آيات. ثمّ قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) إلى آخر الآيات.

و حقيقة هذا التقديم و التأخير أنّ للقصّة فصولاً أربعة و قد اُخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأوّل و الثاني أعني أنّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى آخره اُخّر في الذكر ليتّصل آخره و هو قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) بأوّل الفصل الأخير:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) و ذلك ليتمثّل به الغرض في الاستشهاد بالقصّة و ينجلي أوضح الانجلاء و هو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم و أمن منه لا يخطر ببالهم شي‏ء من ذلك و ذلك أبلغ في الدهشة و أوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.

و نظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصّة أصحاب الحجر الآتية من اتّصال قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) كلّ ذلك ليجلّي معنى قوله تعالى في صدر المقال:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله:( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) يؤكّده و قطع الليل شطر مقطوع منه، و المراد باتّباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلّف عن السير و يحملهم

١٩٣

على السير الحثيث كما يشعر به قوله:( وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) .

و المعنى: و إذ جئناك بعذاب غير مردود و أمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا و تأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلّفوا عن السير و لا يساهلوا فيه و لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه و امضوا حيث تؤمرون، و فيه دلالة على أنّه كانت أمامهم هداية إلهيّة تهديهم و قائد يقودهم.

قوله تعالى: ( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) القضاء مضمّن معنى الوحي و لذا عدّي بإلى - كما قيل - و المراد بالأمر أمر العذاب كما يفسّره قوله:( أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) و الإشارة إليه بلفظة( ذلِكَ ) للدلالة على عظم خطره و هول أمره.

و المعنى: و قضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط و هو أنّ دابر هؤلاء و أثرهم الّذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل و بناء و عمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - إلى قوله -إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) يدلّ نسبة المجيي‏ء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدّهم أهل المدينة لكثرتهم.

فالمعنى( وَ جاءَ ) إلى لوط( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) جمع كثير منهم يريدون أضيافه و هم( يَسْتَبْشِرُونَ ) لولعهم بالفحشاء و خاصّة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) بالعمل الشنيع بهم( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ لا تُخْزُونِ قالُوا ) المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم( أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) أن تؤويهم و تشفع فيهم و تدافع عنهم فلمّا يئس لوطعليه‌السلام منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهنّ - كما تقدّم بيانه في سورة هود -( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ - إلى قوله -مِنْ سِجِّيلٍ ) قال في المفردات: العمارة ضدّ الخراب. قال: و العمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة

١٩٤

فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، و إذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإنّ البقاء ضدّ الفناء، و لفضل البقاء على العمر وصف الله به و قلما وصف بالعمر قال: و العمر - بالضمّ - و العمر - بالفتح - واحد لكن خصّ القسم بالعمر - بالفتح- دون العمر - بالضمّ - نحو( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ) ، انتهى.

و الخطاب في( لَعَمْرُكَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو قسم ببقائه و قول بعضهم: إنّه خطاب من الملائكة للوطعليه‌السلام و قسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.

و العمه هو التردّد على حيرة و السجّيل حجارة العذاب و قد تقدّم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

و المعنى اُقسم بحياتك و بقائك يا محمّد إنّهم لفي سكرتهم و هي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء و المنكر يتردّدون متحيّرين( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) و هي الصوت الهائل( مُشْرِقِينَ ) أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها و فوقها تحتها و أمطرنا و أنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجّيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ - إلى قوله -لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية العلامة و المراد بالآيات أوّلاً العلامات الدالّة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار و بالآية ثانياً العلامة الدالّة للمؤمنين على حقّيّة الإنذار و الدعوة الإلهيّة و التوسّم التفرّس و الانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.

و المعنى: أنّ في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط و في بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرّسين و إنّ تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف و لم تنمح بالكلّيّة بعد، إنّ في ذلك لآية للمؤمنين تدلّ على حقّيّة الإنذار و الدعوة و قد تبيّن بذلك وجه إيراد الآيات جمعا و مفردا في الموضعين.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ - إلى -فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) الأيكة واحدة الأيك و هو الشجر الملتفّ بعضه ببعض فقد كانوا - كما قيل - في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.

و هؤلاء - كما ذكروا - هم قوم شعيبعليه‌السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون

١٩٥

الغيضة، و يؤيّده قوله تعالى ذيلاً:( وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) أي مكانا قوم لوط و أصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإنّ الّذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط و قوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم و تكذيبهم لدعوة شعيبعليه‌السلام و قد تقدّمت قصّتهم في سورة هود و قوله:( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) الضمير لأصحاب الأيكة و قيل: لهم و لقوم لوط. و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح و الحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها و عدّهم مكذّبين لجميع المرسلين و هم إنّما كذّبوا صالحا المرسل إليهم إنّما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة و المكذّب لواحد منهم مكذّب للجميع.

و قوله:( وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) إن كان المراد بالآيات المعجزات و الخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة و شربها و ما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن اُهلكوا، و قد تقدّمت القصّة في سورة هود، و إن كان المراد بها المعارف الإلهيّة الّتي بلّغها صالحعليه‌السلام و نشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقّة و الآية المعجزة فالأمر واضح.

و قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضيّة و السماويّة بزعمهم.

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي صيحة العذاب الّتي كان فيها هلاكهم، و قد تقدّمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

و قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.

١٩٦

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنّة و اذكروا النار فنزلت:( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

أقول: و في معناه روايات اُخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.

و فيه أخرج أبونعيم في الحلية عن جعفر بن محمّد في قوله:( إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) قال: هم المتفرّسون.

و فيه، أخرج البخاريّ في تاريخه و الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن السنّي و أبونعيم معا في الطبّ و ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ثمّ قرأ:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال المتفرّسين.

و في اختصاص المفيد، بإسناده عن أبي بكر بن محمّد الحضرميّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال: ما من مخلوق إلّا و بين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب عن الأئمّة من آل محمّد ثمّ ليس يدخل عليهم أحد إلّا عرفوه مؤمناً أو كافراً ثمّ تلا هذه الآية:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) فهم المتوسّمون.

أقول: و الروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، و ليس معناها نزول الآية فيهمعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ مدين و أصحاب الأيكة اُمّتان بعث الله إليهما شعيبا.

أقول: و قد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصّة بشرى إبراهيم و قصص لوط و شعيب و صالحعليهم‌السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و اكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.

١٩٧

( سورة الحجر الآيات ٨٥ - ٩٩)

 وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ  وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ  فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ( ٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ( ٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ( ٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ( ٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ( ٨٩) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ( ٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ( ٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( ٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ( ٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( ٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( ٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ( ٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ( ٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( ٩٩)

( بيان)

في الآيات تخلّص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإنّ من القضاء الحقّ أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصّة يوم القيامة الّذي لا ريب فيه و هو اليوم الّذي لا يغادر أحداً و لا يدع مثقال ذرّة من الخير و الشرّ إلّا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإنّ الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإنّ الاشتغال بالله سبحانه أهمّ و أوجب.

١٩٨

و لقد كرّر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن اُولئك المستهزءين به - و هم الّذين مرّ ذكرهم في مفتتح السورة - و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنّه كفاه شرّهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) الباء في قوله:( بِالحقّ) للمصاحبة أي إنّ خلقها جميعاً لا ينفكّ عن الحقّ و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: ٨ و لو لا ذلك لكان لعباً باطلاً قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحقّ ) الدخان: ٣٩ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ و من الدليل على كون المراد بالحقّ ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله:( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالحقّ العدل و الإنصاف و الباء للسببيّة و المعنى ما خلقنا ذلك إلّا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.

و ذلك أن كون الحقّ في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أنّ الّذي ذكره من المعنى إنّما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببيّة.

و كذا ما ذكره بعضهم أنّ الحقّ بمعنى الحكمة و أنّ الجملة الاُولى( وَ ما خَلَقْنَا ) إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيويّ و الثانية( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) إلى العذاب الاُخرويّ و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا متلبّساً بالحقّ و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعاً لفسادهم و إرشاداً لمن بقي إلى الصلاح، و إنّ الساعة لآتية فينتقم أيضاً فيها من أمثال هؤلاء.

و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كلّ من الفريقين يجرّ نارها إلى قرصته فاستدلّ بها أصحاب الجبر على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله لأنّ أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.

١٩٩

و استدل بها أصحاب التفويض على أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإنّ المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحقّ و الباطل لا يكون مخلوقاً بالحقّ.

و الحقّ أنّ الحجّتين جميعاً من الباطل فإنّ جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيّات عدميّة إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حلّه و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنّما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدميّة، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإنّ ذلك من جهاته العدميّة فليس الفعل بجهته العدميّة ممّا بين السماوات و الأرض حتّى تشمله الآية، و لا بجهته الوجوديّة من الباطل حتّى يكون خلقه خلقاً للباطل بالحقّ.

على أنّ الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أنّ قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقلّ دونه هو ملاك الاتّصاف فالمتّصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الّذي خلقه و يسّر له أن يفعل كذا و كذا كما أنّ المتّصف بالسواد و البياض الجسم الّذي يقوم به هذان اللونان دون الّذي أوجده.

و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) قال في المفردات: صفح الشي‏ء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى:( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ ) ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ) .

و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة الّتي أثبتّ فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفّحت

٢٠٠

الكتاب، و قوله:( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) فأمر لهعليه‌السلام أن يخفّف كفر من كفر كما قال:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

و سيأتي ما في الرواية من تفسير عليّعليه‌السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.

و قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحقّ و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإنّ ربّك الّذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

و هذه الآيات الحافّة لقوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه ليأخذ قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) موقعه فقد عرفت في أوّل السورة أنّ الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضاً بالتدبّر في الآيات السابقة أنّها مسرودة ليتخلّص بها إلى تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلّص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسّر في عدّة من الروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنّها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنّها الحواميم السبع، و ما قيل: إنّها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شي‏ء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنّة.

و قد كثر اختلافهم في قوله:( مِنَ الْمَثانِي ) من جهة كون( مِنَ ) للتبعيض أو للتبيين و في كيفيّة اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.

و الّذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - إنّ( مِنَ ) للتبعيض فإنّه سبحانه سمّى

٢٠١

جميع آيات كتابه مثاني إذ قال:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربّهم ) الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلّها.

و الظاهر أنّ المثاني جمع مثنيّة اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) هود: ٥ و سمّيت الآيات القرآنيّة مثاني لأنّ بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضاً و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في صفة القرآن:( يصدّق بعضه بعضاً) و عن عليّعليه‌السلام : فيه:( ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

و لعلّ في ذلك كفاية و غنى عمّا ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشّاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنّها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سمّيت آيات القرآن مثاني لتكرّر المعاني فيها، و كقولهم: سمّيت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كلّ صلاة مرّتين أو لأنّها تثنّى في كلّ ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن، أو لأنّ كثيراً من كلماتها مكرّرة كالرحمن و الرحيم و إيّاك و الصراط و عليهم، أو لأنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة و مرّة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأنّ الله استثناها و ادّخرها لهذه الاُمّة و لم ينزلها على الاُمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

و في قوله:( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أمّا القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أمّا الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة( سَبْعاً ) و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.

و الآية - كما تبيّن - في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أنّ في هذه الموهبة العظمى المتضمّنة لحقائق المعارف الإلهيّة الهادية إلى كلّ كمال و سعادة بإذن الله عدّة أن تحملك على الصفح الجميل

٢٠٢

و الاشتغال بربّك و التوغّل في طاعته.

قوله تعالى: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ - إلى قوله -الْمُبِينُ ) الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الّذي تقدّم الأمر به، و لذلك جيي‏ء بالكلام في صورة الاستئناف.

و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيّان و مثبتان فقوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) مدّ العينين إلى ما متّعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدّي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيّين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عمّا أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متّعنا به أزواجاً قليلة أو أصنافاً من الكفّار.

و ربّما أخذ بعضهم قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أنّ الغرض على أيّ حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلّق القلبيّ بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الّذي يكنّى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.

و قوله:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أنّ الطائر إذا أراد أن يضمّ إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثمّ خفضه لها هذا.

و الّذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيّد بآيات اُخر كقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ لكنّ الّذي وقع في نظير الآية ممّا يمكن أن يفسّر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضمّ المؤمنين إليه و قصر

٢٠٣

الهمّ على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أنّ الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربّهم بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية: الكهف: ٢٨.

و قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي لا دعوى لي إلّا أنّي نذير اُنذركم بعذاب الله سبحانه مبين اُبيّن لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شي‏ء.

فهذه الاُمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزؤا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنّه نذير مبين هو الصفح الجميل الّذي يليق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لو اُسقط منها واحد لاختلّ الأمر.

و من ذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) منسوخ بآية السيف غير وجيه فإنّ هذا الصفح الّذي تأمر به الآية و يفسّره قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) باق على إحكامه و اعتباره حتّى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى: ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضّيت الشي‏ء أي فرّقته و بعّضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضيّ، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) لا يخلو السياق من دلالة على أنّه متعلّق بمقدّر يلوّح إليه قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الّذين يصفهم قوله بعد:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ ) و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفّار قريش جزّؤا

٢٠٤

القرآن أجزاءً فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأوّلين، و قالوا: مفترى، و تفرّقوا في مداخل طرق مكّة أيّام الموسم يصدّون الناس الواردين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله.

و قيل قوله:( كَما أَنْزَلْنا ) متعلّق بما تقدّم من قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الّذين فرّقوا القرآن أجزاء و أبعاضاً و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.

و فيه أنّ السورة مكّيّة نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم:( آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) آل عمران: ٧٢ ممّا قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

و ربّما قيل: سموا مقتسمين لأنّهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أنّ الآية التالية تفسّر المقتسمين بالّذين جعلوا القرآن عضين لا بالّذين فرّقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أنّ الآيتين تذكران قوماً نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعّضوه أبعاضاً ليصدّوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الّذين ذكروا في الآيتين ثمّ يذكر الله مآل أمرهم بقوله:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحقّ إذا تكلّم به جهارا، انتهى.

و الآية تفريع على ما تقدّم، و من حقّها أن تتفرّع لأنّها الغرض في الحقّيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و اُمرت بالصفح الجميل و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحقّ و أعلن الدعوة.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) في مقام التعليل لقوله:

٢٠٥

( فَاصْدَعْ ) إلخ كما يشعر الكلام أو يدلّ على أنّ هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) و أعلن الدعوة و أظهر الحقّ( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا ) أي لأنّنا( كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) بإنزال العذاب عليهم و هم( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) رجع ثانياً إلى حزنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصّة في السور المكّيّة من ذلك لشدّة الأمر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وصّاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبوديّة مفرّعاً ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغمّ و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضاً من قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإنّ ظاهره الأمر بالصبر على العبوديّة حتّى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مرّ الحوادث:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣.

و بذلك يتأيّد أنّ المراد بالساجدين المصلّون و أنّه أمر بالصلاة و قد سمّيت سجوداً تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظيّ منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجّه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد - أو بهما و بالسجود - المعنى اللغويّ و هو تنزيهه تعالى عمّا يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلّل له تذلّل العبوديّة.

و أمّا قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسّر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبوديّة - كما هو

٢٠٦

ظاهر السياق، و خاصّة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر - كان بقرينة تقييده بقوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) أمراً بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبوديّة.

و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الّذي يتبدّل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيّد ذلك تفريع ما تقدّم من قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) على قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) فإنّه بالحقّيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأنّ لهم يوماً ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبوديّة و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مرّ ما يقولون حتّى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

و في التعبير بمثل قوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) إشعار أيضاً بذلك فإنّ العناية فيه بأنّ اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربّه حتّى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الّذي هو عالم اليقين العامّ بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقينيّ الّذي ربّما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

و بذلك يظهر فساد ما ربّما قيل: إنّ الآية تدلّ على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأنّ المخاطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد دلّت آيات كثيرة من كتاب الله أنّه من الموقنين و أنّه على بصيرة و أنّه على بيّنة من ربّه و أنّه معصوم و أنّه مهديّ بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافاً إلى ما قدّمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

و سنفرد لدوام التكليف بحثاً عقليّاً بعد الفراغ عن البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

٢٠٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال: الرضا بغير عتاب.

و في المجمع، حكي عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضاعليه‌السلام : في الآية قال: العفو من غير عتاب.

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهنّ.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام و غير واحد من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و من طرق أهل السنّة عن عليّ و عدّة من الصحابة كعمر بن الخطّاب و عبدالله بن مسعود و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عبّاس قال: سأل رجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: أ رأيت قول الله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) ؟ قال: اليهود و النصارى. قال:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.

أقول: و قد عرفت فيما مرّ أنّ مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكّيّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قوله:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قالا: هم قريش.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن عليّ الحلبيّ قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفياً منها ثلاث سنين خائفاً لا يظهر حتّى أمر الله عزّوجلّ أن يصدع بما اُمر فأظهر حينئذ الدعوة.

٢٠٨

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أنّ عبدالله بن مسعود قال: ما زال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخفيا حتّى نزل:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) فخرج هو و أصحابه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن علي الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اكتتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزؤن خمسة من قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميّ و العاص بن وائل السهميّ و الحارث بن حنظلة(١) و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهريّ و الأسود بن المطّلب بن أسد فلمّا قال الله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد أخزاهم فأماتهم الله بشرّ ميتات.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضاً و الطبرسيّ في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن عليّعليه‌السلام : ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كلّ من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن عليّ و عن ابن عبّاس مع سبب هلاكهم.

و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنّة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الّذي اتّفق فيه حديث الفريقين هو ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلميّ عن أبي الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما اُوحي إلي أن أكون تاجراً و لا أجمع المال متكاثراً و لكن اُوحي إليّ:( أن فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

أقول: و روي ما في معناه أيضاً عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج البخاريّ و ابن جرير عن اُمّ العلاء: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل

__________________________________________________

(١) طلاطلة ط.

٢٠٩

على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أنّ الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير.

و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ من صبر صبر قليلاً و من جزع جزع قليلاً.

ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً و أمره بالصبر و الرفق فقال:( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) و قال تبارك و تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

( بحث فلسفي في كيفيّة وجود التكليف و دوامه)

قد تقدّم في خلال أبحاث النبوّة و كيفيّة انتشاء الشرائع السماويّة في هذا الكتاب أنّ كلّ نوع من أنواع الموجودات له غاية كماليّة هو متوجّه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجوديّة تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلّا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النموّ قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدّم أيضاً أنّ الحرمان من بلوغ الغايات إنّما هو في أفراد خاصّة من الأنواع و أمّا النوع بنوعيّته فلا يتصوّر فيه ذلك.

و أنّ الإنسان و هو نوع وجوديّ له غاية وجوديّة لا ينالها إلّا بالاجتماع المدنيّ كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الاُنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.

٢١٠

و أنّ تحقّق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنسانيّ يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات اُمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضروريّة و يقف بها كلّ منهم في موقفه الّذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجوديّ، و هذه الأحكام و القوانين العمليّة في الحقّيقة منبعثة عن الحوائج الّتي تهتف بها خصوصيّة وجود الإنسان و خلقته الخاصّة بما لها من التجهيزات البدنيّة و الروحيّة كما أنّ خصوصيّة وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيّات العلل و الأسباب الّتي تكوّن وجود الإنسان من الكون العامّ.

و هذا معنى كون الدين فطريّاً أي أنّه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العامّ فلو اُقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و اُبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العامّ في نظامه.

و أنّ هذه الأحكام و القوانين سواءً كانت معامليّة اجتماعيّة تصلح بها حال المجتمع و يجمع بها شمله أو عباديّة تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنّها جميعاً يجب أن يتلقّاها الإنسان من طريق نبوّة إلهيّة و وحي سماويّ لا غير.

و بهذه الاُصول الماضية يتبيّن أنّ التكليف الإلهيّ يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيويّة سواء كان في نفسه ناقصاً لم يكمل وجوداً بعد أو كاملاً علماً و عملاً: أمّا لو كان ناقصاً فظاهر، و أمّا لو كان كاملاً فلأنّ معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعامليّة ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكّن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العباديّة الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهيّة الهادية للإنسان إلى سعادته.

و من المعلوم أنّ تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهيّة تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلّف الملكات عن آثارها

٢١١

فإنّ الأفعال مقدّمات معدّة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثاراً لها تصدر عنها صدوراً لا تخلّف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد: أنّ تخلّف الإنسان عن التكليف الإلهيّ و إن كان كاملاً، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهيّة بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلّف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضاً إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أنّ الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.

٢١٢

( سورة النحل مكّيّة، و هي مائة و ثمان و عشرون آية)

( سورة النحل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١ ) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ( ٢ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( ٤ ) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا  لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٥ ) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( ٦ ) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ  إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٧ ) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً  وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٨ ) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ  وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٩ ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً  لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( ١٠ ) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ١١ ) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٢ ) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣ ) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

٢١٣

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ١٤) وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥) وَعَلَامَاتٍ  وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ( ١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ١٧) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا  إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ( ١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ( ٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ  وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ( ٢١)

( بيان)

الغالب على الظنّ - إذا تدبّرنا السورة - أنّ صدر السورة ممّا نزلت في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماويّة و الأرضيّة ممّا تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاماً متقناً و تدبيراً متّصلاً يدلّ على وحدانيّته تعالى في ربوبيّته.

و يحتجّ في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنّه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الاُمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) مفرّعاً آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أنّ عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهيّ و دنوّه منهم و قرب نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيراً نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و ليس إلّا أمره تعالى بظهور الحقّ على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبّر في صدر السورة.

٢١٤

و أمّا ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) إلى آخر السورة على ما بينها من الاتّصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون ممّا نزلت في أوائل عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعيد الهجرة - فصدر السورة و ذيلها متقارباً النزول - و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلّا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) الآية، و قوله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) الآية النازلة على قول في سلمان الفارسيّ و قد آمن بالمدينة، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الآية النازلة في عمّار - كما سيأتي - و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كلّ ذلك يفيد الظنّ بكون الآيات مدنيّة.

و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: الآية ٤١ و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) الآية: ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و عدّة آيات تتلوها.

و الإنصاف - بعد ذلك كلّه - أنّ قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) الآية: ١٢٦ و آيتان بعدها مدنيّة لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكّيّة منها بالمدنيّة. و هذا و إن لم يوافق شيئاً من المأثور لكنّ السياق يشهد به و هو اُولى بالاتّباع. و قد مرّ في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكّيّة. و الغرض الّذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أنّ فيها أمراً بالصبر و وعداً حسناً على الصبر في ذات الله.

و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحقّ عليهم و يوضح تعالى ذلك ببيان أنّ الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أنّ الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبدالله و لا يعبد غيره، و بيان أنّ الدين الحقّ لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرّع دونه دين

٢١٥

و ردّ ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوّة و التشريع و بيان اُمور من الدين الإلهيّ.

هذا هو الّذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرّة بعد مرّة و في ضمنها آيات تتعرّض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك ممّا يحوم حولها.

قوله تعالى: ( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للمشركين لأنّ الآيات التالية مسوقة احتجاجاً عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعاً كالمتفرّعة على قوله في ذيل هذه الآية:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) و مقتضاه أن يكون الأمر الّذي أخبر بإتيانه أمراً يطهّر ساحة الربوبيّة من شركهم بحسم مادّته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حقّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا و أوعد المشركين مرّة بعد مرّة في كلامه أنّه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذّبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضاً ضمير( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقّق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجي‏ء بعد.

و على هذا أيضاً يكون قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنّهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلّا لشركهم استهزاء و سخريّة.

٢١٦

و بما مرّ يندفع ما ذكره بعضهم أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعاً فإنّ السياق لا يلائمه.

على أنّه تعالى يخصّ في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال:( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أنّها الحقّ ) الشورى: ١٨.

و كذا ما ذكروه أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أنّ المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضاً كما يدلّ عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

و من العجيب ما استدلّ به جمع منهم على أنّ المراد بالأمر يوم القيامة أنّه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) و هو مفسّر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و ممّا يؤكّد المناسبة قوله هناك:( يَأْتِيَكَ ) و ههنا:( أَتى) . و أمثال هذه الأقاويل الملفّقة ممّا ينبغي أن يلتفت إليه.

و نظيره قول بعضهم: إنّ المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنّه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرّمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصّة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديماً و حديثاً في حقيقة الروح لا يختلفون في أنّهم يفهمون منه معنى واحداً و هو ما به الحياة الّتي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

و أمّا حقيقته إجمالاً فالّذي يفيده مثل قوله تعالى:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨ و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) المعارج: ٤ و غيرهما

٢١٧

أنّه موجود مستقلّ ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء كما ربّما يتوهّم، و قد أفاد بقوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من سنخ أمره، و عرّف أيضاً أمره بمثل قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فدلّ على أنّه كلمة الإيجاد الّتي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الّذي يفيضه عليها لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله:( وَ ما أَمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠ فإنّ هذا التعبير إنّما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادّة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتّى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة الّتي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته، و لذلك سمّاه وحيا و عدّ إلقاءه و إنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فإنّ الوحي هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبيّعليه‌السلام وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) الباء للمصاحبة أو للسببيّة و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمّل فإنّ تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنّما هو لإلقائه في روح النبيّعليه‌السلام ليفيض عليه المعارف الإلهيّة و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأنّ كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير( يُنَزِّلُ ) له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

و المعنى: أنّ الله منزّه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الّذي يدعونه له و لتنزّهه و تعاليه عن الشريك ينزّل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الّذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد - أو بسببه - على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلّا أنا فاتّقون.

٢١٨

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمّي روحاً لأنّ به حياة القلوب، كما أنّ الروح الحقيقيّ به حياة الأبدان. قال: و قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) أي بأمره، و نظيره قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله لأنّ أحداً لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أمّا قوله: إنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى الباء استناداً إلى قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله إلخ فقد مرّ في تفسير سورة الرعد أنّ( مِنْ ) على ظاهر معناه و أنّ بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى( بأمره ) بل قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) معناه بالروح الكائن من أمره - على أنّ الظرف مستقرّ لا لغو - كما في قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و معناه ما تقدّم.

و أمّا قوله: إنّ الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنّه بمعنى النبوّة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أنّ نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة، و أمّا في نفسه و هو أن يسمّى الوحي أو النبوّة روحاً باشتراك لفظيّ أو مجازاً من حيث إنّه يحيي القلوب و يعمرها، كما أنّ الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيّناه مراراً أنّ الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.

و المتحصّل من كلامه سبحانه أنّ الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيّد به الأنبياء و الرسل كما قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و قال:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أمّا أنّ إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي

٢١٩

حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنّه من الاستعارة المصرّحة أو استعارة بالكناية أو أنّ قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) من قبيل التشبيه لذكر المشبّه صريحا بناء على كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بيانيّة كما صرّحوا في قوله:( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) بقره ١٨٧ أنّه من التشبيه للتصريح بالمشبّه في متن الكلام فكلّ ذلك من الأبحاث الأدبيّة الفنّيّة الّتي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقّائق.

و ذكر بعضهم أنّ( مِنْ أَمْرِهِ ) بيان للروح، و( مِنْ ) للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدّم.

و فيه أنّه مدفوع بقوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ، مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنّ من الواضح أنّ الآيتين تسلكان مسلكاً واحداً، و ظاهر آية الإسراء أنّ( مِنْ ) فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أنّ الروح من سنخ الأمر و شأن من شؤونه و يقرب منها قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ ربّهم مِنْ كلّ أَمْرٍ ) القدر: ٤.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح هو جبريل و أيّده بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) ،: الشعراء: ١٩٤ فإنّ من المسلّم أنّ المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزّل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.

و فيه أنّ هذه الآية نظيرة قوله تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

و أردء الوجوه ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلّا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.

و قوله:( عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) أي إنّ بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقّف على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن يقهره تعالى

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409