الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87202 / تحميل: 6106
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

والضابط ما ذكرناه من اعتبار الاسم كالمقيس عليه ، وعلف الاُمّهات لا يسري إلى الأولاد.

ويبعد ما قيل في غنم مكّة ، لأنّها لو كانت متولّدة من جنسين لم يكن لها نسل كالسِّمع المتولّد من الذئب والضبع(١) ، وكالبغال.

وقال الشافعي : لا تجب سواء كانت الاُمّهات من الظباء أو الغنم ، لأنّه متولّد من وحشي أشبه المتولّد من وحشيّين.

ولأنّ الوجوب إنّما يثبت بنصّ أو إجماع أو قياس ، والكلّ منفي هنا ، لاختصاص النصّ والإِجماع بالإِيجاب في بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية وليست هذه داخلة في اسمها ولا حكمها ولا حقيقتها ولا معناها ، فإنّ المتولّد بين شيئين ينفرد باسمه وجنسه وحكمه عنهما كالبغل فلا يتناوله النصّ ، ولا يمكن القياس ، لتباعد ما بينهما واختلاف حكمهما ، فإنه لا يجزئ في هدي ولا اُضحية ولا دية(٢) ، ولا نزاع معنا إذا لم يبق الاسم.

وقال أبو حنيفة ومالك : إن كانت الاُمّهات أهليةً وجبت الزكاة وإلّا فلا ، لأنّ ولد البهيمة يتبع اُمّه في الاسم والملك فيتبعها في الزكاة ، كما لو كانت الفحول معلوفةً(٣) . ونمنع التبعيّة في الاسم.

____________________

(١) اُنظر : الصحاح ٣ : ١٢٣٢.

(٢) المجموع ٥ : ٣٣٩ ، فتح العزيز ٥ : ٣١٥ ، المغني ٢ : ٤٦٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٣٥.

(٣) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٠ ، المغني ٢ : ٤٦٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٤٣٥ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، فتح العزيز ٥ : ٣١٥.

٨١

الفصل الثالث

في زكاة الغنم‌

الزكاة واجبة في الغنم بإجماع علماء الإِسلام.

قالعليه‌السلام : ( كلّ صاحب غنم لا يؤدّي زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر تمشي عليه فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها كلّما انقضى آخرها عاد أولها حتى يقضي الله بين الخلق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )(١) .

إذا ثبت هذا فإنّ شرائط الزكاة هنا كما هي في الإِبل والبقر بالإِجماع ، نعم تختلف في مقادير النصب ، والضأن والمعز جنس واحد بإجماع العلماء ، والظباء مخالف للغنم إجماعاً.

مسألة ٥٢ : أول نصاب الغنم : أربعون ، فلا زكاة فيما دونها‌ ، فإذا بلغت أربعين ففيها شاة.

الثاني : مائة وإحدى وعشرون فلا شي‌ء في الزائد على الأربعين حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين ففيه شاتان.

الثالث : مائتان وواحدة ، فلا زكاة في الزائد حتى تبلغ مائتين وواحدة ففيه ثلاث شياه ، والكلّ بالإِجماع.

____________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٦٨٢ / ٢٦ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٤ / ١٦٥٨ ، سنن البيهقي ٤ : ٨١.

٨٢

وحكي عن معاذ أنّ الفرض لا يتغيّر بعد المائة وإحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين واثنتين وأربعين ليكون مثلَي مائة وإحدى وعشرين فيكون فيها ثلاث شياه(١) .

والإِجماع على خلافه ، على أنّ الراوي لها الشعبي وهو لم يلق معاذاً(٢) .

الرابع : ثلاثمائة وواحدة وفيه روايتان : إحداهما : أنّه كالثالث ثلاث شياه ، فلا يتغيّر الفرض بعد مائتين وواحدة حتى تبلغ أربعمائة فتجب في كلّ مائة شاة ، وبه قال المفيد والسيد المرتضى(٣) ، وهو قول أكثر الفقهاء ، والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين(٤) .

لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه للسُّعاة : ( إنّ في الغنم السائمة إذا بلغت أربعين شاةٌ إلى مائة وعشرين ، فإذا زادت ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين ، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ، فإذا زادت ففي كلّ مائةٍ شاة )(٥) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٤٦٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥.

(٢) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن من أعيان الصحابة ، شهد بدراً وما بعدها ، مات بالشام سنة ١٨.

والشعبي هو : عامر بن شراحيل أبو عمرو ، مات بعد المائة وله نحو من ثمانين.

اُنظر : اُسد الغابة ٤ : ٣٧٨ ، الاستيعاب بهامش الإِصابة ٣ : ٣٥٥ - ٣٦٠ ، وتهذيب التهذيب ٥ : ٥٩ / ١١٠ و ١٠ : ١٧٠ / ٣٤٩.

(٣) المقنعة : ٣٩ ، جمل العلم والعمل ( ضمن رسائل الشريف المرتضى ) ٣ : ١٢٣.

(٤) المجموع ٥ : ٤١٧ - ٤١٨ ، فتح العزيز ٥ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٥٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٦ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٢ ، الشرح الصغير ١ : ٢٠٩ ، المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢٨ ، اللباب ١ : ١٤٢ ، المغني ٢ : ٤٦٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥.

٨٣

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « ليس فيما دون الأربعين شي‌ء ، فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى المائتين ، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث من الغنم إلى ثلاثمائة ، فإذا كثرت الغنم ففي كلّ مائة شاة »(١) .

الثانية(٢) : أنّها إذا زادت على ثلاثمائة وواحدة ففيها أربع شياه ، ثم لا يتغيّر الفرض حتى تبلغ خمسمائة ، وهو اختيار الشيخ -(٣) رحمه‌الله - وأحمد في الرواية الاُخرى ، وبه قال النخعي والحسن بن صالح بن حي(٤) .

لقول الباقرعليه‌السلام في الشاة : « في كلّ أربعين شاةً شاةٌ ، وليس فيما دون الأربعين شاةً شي‌ء حتى تبلغ عشرين ومائة ، فإذا بلغت عشرين ومائة ففيها مثل ذلك شاة واحدة ، فإذا زاد على عشرين ومائة ففيها شاتان ، وليس فيها أكثر من شاتين حتى تبلغ مائتين ، فإذا بلغت المائتين ففيها مثل ذلك ، فإذا زادت على المائتين شاة واحدة ففيها ثلاث شياه ، ثم ليس فيها أكثر من ذلك حتى تبلغ ثلاثمائة ، فإذا بلغت ثلاثمائة ففيها مثل ذلك ثلاث شياه ، فإذا زادت واحدة ففيها أربع شياه حتى تبلغ أربعمائة ، فإن تمّت أربعمائة كان على كلّ مائة شاة شاة »(٥) .

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل ثلاثمائة حدّاً للوقص وغايةً له(٦) ؛

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٣ / ٦٢.

(٢) أي : الرواية الثانية.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ١٩٩ ، الخلاف ٢ : ٢١ ، المسألة ١٧.

(٤) المغني ٢ : ٤٦٣ ، الشرح الكبير ٢ : ٥١٥ - ٥١٦.

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٢ / ٦١ ، وفيها عن الإِمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

(٦) اُنظر : سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ / ٦٢١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٦.

٨٤

فتجب أن يتعقّبه النصاب كالمائتين.

إذا ثبت هذا ، فلا خلاف في أنّ في أربعمائة أربع شياه ، وفي خمسمائة خمس ، وهكذا بالغاً ما بلغت.

* * *

٨٥

الفصل الرابع

في الأشناق‌

الشّنق بفتح النون : ما بين الفرضين(١) ، والوقص قال الفقهاء : بسكون القاف(٢) .

وقال بعض أهل اللغة : بفتحه(٣) ، لأنّه يجمع على ( أوقاص ) و ( أفعال ) جمع ( فَعَلْ ) لا جمع ( فَعْلْ ) فإنّ ( فَعْلاً ) يجمع على ( أفْعُل ).

وقد جاء - كما قال الفقهاء - هول وأهوال ، وحوْل وأحوال ، وكبْر وأكبار ، وبالجملة فهو ما بين النصابين(٤) أيضاً.

قال الأصمعي : الشنق يختص بأوقاص الإِبل ، والوقص بالبقر والغنم(٥) .

وبعض الفقهاء يخصّ الوقص بالبقر أيضاً ، ويجعل ناقص الغنم والنقدين والغلّات عفواً ، وكلّ ذلك لفظي.

وقيل : الوقص ما بين الفرضين كما بين الثلاثين إلى الأربعين في البقر ،

____________________

(١) الصحاح ٤ : ١٥٠٣.

(٢) المجموع ٥ : ٣٩٢ ، وتهذيب الأسماء واللغات ٤ : ١٩٣.

(٣ و ٤ ) الصحاح ٣ : ١٠٦١.

(٥) المجموع ٥ : ٣٩٢ ، وتهذيب الأسماء واللغات ٤ : ١٩٣.

٨٦

والشنق ما دون الفريضة كالأربع من الإِبل(١) .

مسألة ٥٣ : ما نقص عن النصاب الأول لا شي‌ء فيه‌ إجماعاً ، وكذا ما بين النصابين عند علمائنا ، وإنّما تتعلّق الزكاة بالنصاب خاصّة - وبه قال الشافعي في كتبه القديمة والجديدة ، وأبو حنيفة ، والمزني(٢) - لأنّه عدد ناقص عن نصاب إذا بلغه وجبت فيه الزكاة ، فلا تتعلّق به كالأربع.

ولقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وليس فيما بين الثلاثين إلى الأربعين شي‌ء حتى يبلغ أربعين - إلى أن قالاعليهما‌السلام - وليس على النيّف شي‌ء ، ولا على الكسور شي‌ء »(٣) .

وقال الشافعي في الإِملاء : تتعلّق الزكاة بالنصاب وبما زاد عليه من الوقص ، وبه قال محمد بن الحسن.

لقولهعليه‌السلام : ( فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض )(٤) .

ولأنّه حقّ يتعلّق بنصاب فوجب أن يتعلّق به وبما زاد عليه إذا وجد معه ولم ينفرد بحكم كالقطع في السرقة(٥) .

والنصّ أقوى من المفهوم والقياس.

فعلى قولنا ، لو ملك خمسين من الغنم وتلفت العشرة الزائدة قبل‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٤٥٤.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٢ ، المجموع ٥ : ٣٩١ و ٣٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٧ - ٣٨ ، المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٧ ، الهداية للمرغيناني ١ : ٩٩ ، اللباب ١ : ١٤١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٤ / ٥٧.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٦ / ١٥٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ - ٦٢١ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٤ / ١٧٩٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٩ و ٢٨ ، مسند أحمد ١ : ١١ و ٢ : ١٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٥.

(٥) فتح العزيز ٥ : ٥٤٨ و ٥٥٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٥٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٨.

٨٧

التمكّن من الأداء بعد الحول لم يسقط هنا شي‌ء ، لأنّ التالف لم تتعلّق الزكاة به ، ولو تلف عشرون سقط ربع الشاة ، لأنّ الاعتبار بتلف جزء من النصاب ، وإنّما تلف من النصاب ربعه.

فروع :

أ - لو تلف بعض النصاب قبل الحول فلا زكاة ، وبعده وبعد إمكان الأداء يجب جميع الفرض ، لأنّه تلف بعد تفريطه في التأخير فضمن ، وإن تلف بعد الحول وقبل إمكان الأداء سقط عندنا من الزكاة بقدر التالف.

وللشافعي قولان بناءً على أنّ إمكان الأداء شرط في الوجوب أو الضمان ، فعلى الأول لا شي‌ء ، لنقصه قبل الوجوب(١) .

ب - لو كان معه تسع من الإِبل فتلف أربع قبل الحول أو بعده وبعد الإِمكان وجبت الشاة(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .

وإن كان بعد الحول وقبل الإِمكان فكذلك عندنا.

وعند الشافعي كذلك على تقدير أن يكون الإِمكان شرطاً في الوجوب ، لأنّ التالف قبل الوجوب إذا لم ينقص به النصاب لا حكم له ، وعلى تقدير أن يكون من شرائط الضمان فكذلك إن لم تتعلّق بمجموع النصاب والوقص ، وإن تعلّقت بهما سقط قدر الحصّة أربعة أتساع الشاة(٤) .

وقال بعضهم - على هذا التقدير - : لا يسقط شي‌ء ، لأنّ الزيادة لمـّا لم تكن شرطاً في وجوب الشاة لم يسقط شي‌ء بتلفها وإن تعلّقت بها ، كما لو شهد ثمانية بالزنا ورجع أربعة بعد قتله لم يجب عليهم شي‌ء ، ولو رجع خمسة وجب‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥١ ، المجموع ٥ : ٣٧٥ ، الوجيز ١ : ٨٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٧ - ٥٤٨ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢.

(٢) في نسخة « ط » : الزكاة.

(٣ و ٤ ) المجموع ٥ : ٣٧٥ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

٨٨

عليهم الضمان ، لنقص ما بقي من العدد المشترط(١) .

ج - لو ذهب خمس من التسع قبل الحول فلا زكاة ، وإن كان بعده وقبل إمكان الأداء سقط خمس الشاة ، وبه قال الشافعي على تقدير أنّ الإِمكان من شرائط الضمان وتعلّق الزكاة بالنصاب.

وعلى تقدير كونه شرطاً في الوجوب فكقبل الحول لنقص النصاب قبل الوجوب.

وعلى تقدير كونه شرطاً في الضمان وتعلّق الزكاة بالمجموع تسقط خمسة أتساع الشاة(٢) .

د - لو كان معه خمس وعشرون وأوجبنا بنت المخاض فيه فتلف منها خمسة قبل إمكان الأداء وجب أربعة أخماس بنت مخاض - وبه قال الشافعي على تقدير كونه شرطاً في الضمان(٣) ، وأبو يوسف ومحمد(٤) - لأنّ الواجب بحؤول الحول بنت مخاض ، فإذا تلف البعض لم يتغيّر الفرض ، بل كان التالف منه ومن المساكين.

وقال أبو حنيفة : تجب أربع شياه(٥) . فجعل التالف كأنّه لم يكن.

قال الشيخ : لو كان معه ستّ وعشرون فهلك خمس قبل الإِمكان فقد هلك خُمس المال إلّا خُمس الخُمس فيكون عليه أربعة أخماس بنت مخاض إلّا أربعة أخماس خُمسها ، وعلى المساكين خُمس بنت مخاض إلّا أربعة أخماس خُمسها(٦) .

ه- حكم غير الإِبل حكمها في جميع ذلك ، فلو تلف من نصاب الغنم‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٣٧٥ و ٣٩٢ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

(٢) المجموع ٥ : ٣٧٦ ، فتح العزيز ٥ : ٥٤٩.

(٣) المجموع ٥ : ٣٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٨ - ٣٩.

(٤ و ٥ ) حلية العلماء ٣ : ٣٩.

(٦) المبسوط للطوسي ١ : ١٩٤‌

٨٩

شي‌ء سقط من الفريضة بنسبته.

وهل الشاتان في مجموع النصاب الثاني أو في كلّ واحد شاة؟

احتمالان(١) ، فعلى الأول لو تلف شي‌ء بعد الحول بغير تفريط نقص من الواجب في النصب بقدر التالف ، وعلى الثاني يوزّع على ما بقي من النصاب الذي وجب فيه التالف.

مسألة ٥٤ : لا تأثير للخلطة عندنا في الزكاة‌ سواء كانت خلطة أعيان أو أوصاف ، بل يزكّى كلٌّ منهما زكاة الانفراد ، فإن كان نصيب كلّ منهما نصاباً وجب عليه زكاة بانفراده.

وإن كان المال مشتركاً كما لو كانا مشتركين في ثمانين من الغنم بإرث أو شراء أو هبة فإنّه يجب على كلّ واحد منهما شاة بانفراده.

ولو كانا مشتركين في أربعين فلا زكاة هنا ، وبه قال أبو حنيفة والثوري(٢) ، لقولهعليه‌السلام : ( إذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شي‌ء فيها )(٣) .

وقال : ( ليس على المرء في ما دون خمس ذود من الإِبل صدقة )(٤) ولم يفصّل.

وقالعليه‌السلام : « في أربعين شاةً شاةٌ »(٥) .

____________________

(١) ورد في النُسخ الخطية : احتمال. وما أثبتناه من الطبعة الحجرية هو الصحيح.

(٢) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٨٤ ، المجموع ٥ : ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩١ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٣.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ ، مسند أحمد ١ : ١٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٥ ، و ١٠٠ بتفاوت يسير.

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٤٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٥ / ٩٨٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، وسنن البيهقي ٤ : ٨٤ و ١٠٧ و ١٢٠.

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٧ / ١٨٠٥ و ٥٧٨ / ١٨٠٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٨ / ١٥٦٨ ، سنن الترمذي ٣ : ١٧ / ٦٢١ ، وسنن البيهقي ٤ : ١١٦.

٩٠

فإذا ملكا ثمانين وجب شاتان.

ولأنّ ملك كلّ واحد منهما ناقص عن النصاب فلا تجب عليه الزكاة ، كما لو كان منفرداً.

وقال الشافعي : الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجل الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان أو أوصاف بأن يكون ملك كلّ منهما متميّزاً عن الآخر ، وإنّما اجتمعت ماشيتهما في المرعى والمسرح - على ما يأتي(١) - سواء تساويا في الشركة أو اختلفا بأن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون ، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاةً لكلّ منهم شاة ، وبه قال عطاء والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق(٢) .

لقولهعليه‌السلام : ( لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع )(٣) أراد إذا كان لجماعة لا يجمع بين متفرّق فإنّه إذا كان للواحد يجمع للزكاة وإن تفرّقت أماكنه ، وقوله : ( ولا يفرّق بين مجتمع ) يقتضي إذا كان لجماعة لا يفرّق ، ونحن نحمله على أنّه لا يجمع بين متفرّق في الملك ليؤخذ منه الزكاة زكاة رجل واحد فلا يفرّق بين مجتمع في الملك فإنّ الزكاة تجب على الواحد وإن تفرّقت أمواله.

وقال مالك : تصحّ الخلطة إذا كان مال كلّ واحد منهما نصاباً(٤) .

____________________

(١) يأتي في المسألة اللاحقة (٥٥).

(٢) المجموع ٥ : ٤٣٢ - ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٨٩ - ٣٩٠ ، حلية العلماء ٣ : ٦٠ - ٦١ ، الاُم ٢ : ١٤ ، مختصر المزني : ٤٣ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٤ ، سنن النسائي ٥ : ٢٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٦ / ١٨٠١ و ٥٧٧ / ١٨٠٥ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٧ / ١٥٦٧ ، سنن الدارمي ١ : ٣٨٣ ، مسند أحمد ١ : ١٢ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٠٥.

(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٣٣١ و ٣٣٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٧ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ١٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢ ، المجموع ٥ : ٤٣٣ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩١ ، المغني ٢ : ٤٧٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٧.

٩١

وحكى بعض الشافعيّة عن الشافعي وجها آخر : أنّ العبرة إنّما هي بخلطة الأعيان دون خلطة الأوصاف(١) .

مسألة ٥٥ : قد بيّنا أنّه لا اعتبار بالخلطة بنوعيها‌ - خلافاً للشافعي ومن تقدّم(٢) - فلا شرط عندنا وعند أبي حنيفة ، لعدم الحكم.

أمّا الشافعي فقد شرط فيها أموراً :

الأول : أن يكون مجموع المالين نصاباً.

الثاني : أن يكون الخليطان معاً من أهل فرض الزكاة ، فلو كان أحدهما ذمّيّاً أو مكاتباً لم تؤثّر الخلطة ، وزكّى المسلم والحرّ كما في حالة الانفراد ، وهذان شرطان عامّان ، وفي اشتراط دوام الخلطة السنة؟ ما يأتي.

وتختصّ خلطة الجوار باُمور :

الأول : اتّحاد المسرح ، والمراد به المرعى.

الثاني : اتّحاد المراح ، وهو مأواها ليلاً.

الثالث : اتّحاد المشرع وهو أن يرد غنمهما ماءً واحداً من نهر أو عين أو بئر أو حوض.

وإنّما شرط(٣) اجتماع المالين في هذه الاُمور ليكون سبيلها سبيل مال المالك [ الواحد ](٤) وليس المقصود أن لا يكون لها إلّا مسرح أو مرعى أو مراح واحد بالذات ، بل يجوز تعدّدها لكن ينبغي أن لا تختص ماشية هذا بمسرح ومراح ، وماشية الآخر بمسرح ومراح.

الرابع : اشتراك المالين في الراعي أو الرعاة - على أظهر الوجهين عنده - كالمراح.

____________________

(١) فتح العزيز ٥ : ٣٩٠ - ٣٩١ ، المجموع ٥ : ٤٣٣.

(٢) تقدّم ذكرهم في المسألة السابقة (٥٤).

(٣) في نسختي « ن وف » : شرطوا.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

٩٢

الخامس : اشتراكهما في الفحل ، فلو تميّزت ماشية أحدهما بفحولة ، وماشية الآخر باُخرى فلا خلطة - على أظهر الوجهين - عنده.

السادس : اشتراكهما في موضع الحلب ، فلو حلب هذا ماشيته في أهله ، والآخر في أهله فلا خلطة(١) .

وهل يشترط الاشتراك في الحالب والمحلب؟ أظهر الوجهين عنده عدمه ، كما لا يشترط الاشتراك في الجازّ وآلات الجزّ(٢) .

وإن شرط الاشتراك في المحلب فهل يشترط خلط اللبن؟ وجهان ، أصحهما عنده : المنع ، لأدائه إلى الربا عند القسمة إذ قد يكثر لبن أحدهما(٣) .

وقيل : لا ربا كالمسافرين يستحب خلط أزوادهم وإن اختلف أكلهم(٤) .

وربما يفرّق بأنّ كلّ واحد يدعو غيره إلى طعامه فكان إباحةً ، بخلافه هنا.

وهل يشترط نيّة الخلطة؟ وجهان عندهم : الاشتراط ، لأنّه معنى يتغيّر به حكم الزكاة تخفيفاً كالشاة في الثمانين ، ولو لا الخلطة لوجب شاتان ، وتغليظاً كالشاة في الأربعين ، ولولاها لم يجب شي‌ء فافتقر إلى النيّة ، ولا ينبغي أن يغلظ عليه من غير رضاه ، ولا أن ينقص حقّ الفقراء إذا لم يقصده.

والمنع ، لأنّ تأثير الخلطة لخفّة المؤونة باتّحاد المرافق وذلك لا يختلف‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٣٤ - ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٢ - ٣٩٤ ، الاُم ٢ : ١٣ ، مختصر المزني : ٤٣ ، المغني ٢ : ٤٧٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٨ - ٥٣٠.

(٢) المجموع ٥ : ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٧ - ٣٩٨.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٥ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٨ - ٣٩٩.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٥ - ٤٣٦ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٩.

٩٣

بالقصد وعدمه(١) .

وهل يشترط وجود الاختلاط في أول السنة واتّفاق أوائل الأحوال؟

قولان(٢) .

وفي تأثير الخلطة في الثمار والزرع ثلاثة أقوال له : القديم : عدم التأثير ، وبه قال مالك وأحمد في رواية.

لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والرعي )(٣) وإنّما تتحقّق في المواشي.

والجديد : عدمه(٤) ، وتأثير خلطة الشيوع دون الجوار(٥) ، فعلى الجديد تؤثّر ، لحصول الاتّفاق باتّحاد العامل والناطور(٦) والنهر الذي تسقى منه.

وقال بعض أصحاب مالك : لا يشترط من هذه الشروط شي‌ء سوى الخلطة في المرعى ، وأضاف بعض أصحابه إليه الاشتراك في الراعي أيضاً(٧) ، والكلّ عندنا باطل.

فروع على القول بشركة الخلطاء :

أ - إذا اختلطا خلطة جوار ولم يمكن أخذ مال كلّ منهما من ماله كأربعين لكُلٍّ عشرون ، أخذ الساعي شاةً من أيّهما كان ، فإن لم يجد الواجب إلّا في‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ ، المجموع ٥ : ٤٣٦ ، فتح العزيز ٥ : ٣٩٩ - ٤٠٠ ، حلية العلماء ٣ : ٦١.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٤٠٢ - ٤٠٣.

(٣) سنن الدارقطني ٢ : ١٠٤ / ١ ، سنن البيهقي ٤ : ١٠٦ وفيهما : ( الراعي ) بدل ( الرعي ).

(٤) أي عدم عدم التأثير الملازم للثبوت.

(٥) المجموع ٥ : ٤٥٠ ، فتح العزيز ٥ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٧١ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٣٤٣ ، بلغة السالك ١ : ٢١٠ - ٢١١ ، المغني ٢ : ٤٨٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٤٤.

(٦) الناطور : حافظ الزرع والثمر والكرم. لسان العرب ٥ : ٢١٥ « نطر ».

(٧) المنتقى - للباجي - ٢ : ١٣٧ و ١٣٨ ، المغني ٢ : ٤٧٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٣١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٦٢.

٩٤

مال أحدهما أخذ منه.

وإن أمكن أخذ ما يخصّ كلّ [ واحد ](١) منهما لو انفرد فوجهان : أن يأخذ من كلّ منهما حصّة ماله ليغنيهما عن التراجع ، وأن يأخذ من عرض المال ما يتّفق ، لأنّهما مع الخلطة كمال واحد ، والمأخوذ زكاة جميع المال(٢) .

فعلى هذا لو أخذ من كلّ منهما حصّة ماله بقي التراجع بينهما ، فإذا أخذ من هذا شاةً ، ومن هذا اُخرى رجع كلٌّ منهما على صاحبه بنصف قيمة ما اُخذ منه.

ولو كان بينهما سبعون من البقر أربعون لأحدهما ، وثلاثون للآخر ، فالتبيع والمسنّة واجبان على الشيوع ، على صاحب الأربعين أربعة أسباعهما ، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما.

فإن أخذهما من صاحب الأربعين رجع على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباعهما وبالعكس.

ولو أخذ التبيع من صاحب الأربعين والمسنّة من الآخر رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع التبيع على الآخر ، والآخر بقيمة أربعة أسباع المسنّة على الأول.

وإن أخذ المسنّة من صاحب الأربعين والتبيع من الآخر رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع المسنّة على الآخر ، والآخر عليه بقيمة أربعة أسباع التبيع ، هذا كلّه في خلطه الجوار.

أمّا خلطة الأعيان فالأخذ منه يقع على حسب ملكهما ، فلو كان لهما ثلاثمائة من الإِبل فعليهما ستّ حقاق ولا تراجع.

ولو كان لأحدهما ثلاثمائة وللآخر مائتان فله عشر حقاق بالنسبة ، وهذا‌

____________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الوجهان للشافعية ، راجع فتح العزيز ٥ : ٤٠٨.

٩٥

يأتي على مذهبنا.

ب - لو ورثا أو ابتاعا شائعاً وأداما الخلطة زكّيا - عندهم - زكاة الخلطة ، وكذا لو ملك كلٌّ منهما دون النصاب ثم خلطا وبلغ النصاب(١) .

ولو انعقد الحول على مال كلّ منهما منفرداً ثم طرأت الخلطة ، فإن اتّفق الحولان بأن ملكا غرّة المحرّم وخلطا غرّة صفر ، ففي الجديد : لا يثبت حكم الخلطة في السنة الاُولى - وبه قال أحمد - لأنّ الأصل الانفراد ، والخلط عارض فيغلب حكم الحول المنعقد على الانفراد ، وتجب على كلّ منهما شاة إذا جاء المحرّم(٢) .

وفي القديم - وبه قال مالك - ثبوت حكم الخلطة نظراً إلى آخر الحول ، فإنّ الاعتبار في قدر الزكاة بآخر الحول ، فيجب على كلّ منهما نصف شاة إذا جاء المحرّم(٣) .

ولو اختلف الحولان ، فملك أحدهما غرّة المحرّم والآخر غرّة صفر وخلطا غرّة ربيع ، فعلى الجديد ، إذا جاء المحرّم فعلى الأول شاة ، وإذا جاء صفر فعلى الثاني شاة.

وعلى القديم ، إذا جاء المحرّم فعلى الأول نصف شاة ، وإذا جاء صفر فعلى الثاني نصف شاة.

ثم في سائر الأحوال يثبت حكم الخلطة على القولين ، فعلى الأول عند غرّة كلّ محرّم نصف شاة ، وعلى الثاني عند غرّة كلّ صفر كذلك ، وبه قال مالك وأحمد(٤) .

وقال ابن سريج : إنّ حكم الخلطة لا يثبت في سائر الأحوال ، بل‌

____________________

(١) فتح العزيز ٥ : ٤٤١.

(٢ و ٣ ) المجموع ٥ : ٤٤٠ ، الوجيز ١ : ٨٣ ، فتح العزيز ٥ : ٤٤٣ - ٤٤٦ ، المغني ٢ : ٤٧٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢٩.

(٤) فتح العزيز ٥ : ٤٤٧ - ٤٤٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٠ - ٤٤١.

٩٦

يزكّيان زكاة الانفراد أبداً(١) .

ولو انعقد الحول على الانفراد في حق أحد الخليطين دون الآخر كما لو ملك أحدهما غرّة المحرّم والآخر غرّة صفر ، وكما ملك خلطا ، فإذا جاء المحرّم فعلى الأول شاة في الجديد ، ونصف شاة في القديم(٢) .

وأمّا الثاني فإذا جاء صفر فعليه نصف شاة - في القديم - وفي الجديد ، وجهان : شاة ، لأنّ الأول لم يرتفق بخلطته فلا يرتفق هو بخلطة الأول ، وأظهرهما : نصف شاة ، لأنّه كان خليطاً في جميع الحول ، وفي سائر الأحوال يثبت حكم الخلطة على القولين إلّا عند ابن سريج(٣) .

ولو طرأت خلطة الشيوع على الانفراد كما لو ملك أربعين شاة ، ثم باع بعد ستّة أشهر نصفها مشاعاً ، فالظاهر أنّ الحول لا ينقطع ، لاستمرار النصاب بصفة الاشتراك ، فإذا مضت ستّة أشهر من وقت البيع فعلى البائع نصف شاة ولا شي‌ء على المشتري إن أخرج البائع واجبة من المشترك ، لنقصان النصاب.

وإن أخرجها من غيره ، وقلنا : الزكاة في الذمة ، فعليه أيضاً نصف شاة عند تمام حوله ، وإن قلنا : تتعلّق بالعين ففي انقطاع حول المشتري قولان : أرجحهما : الانقطاع ، لأنّ إخراج الواجب من غير النصاب يفيد عود الملك بعد الزوال لا أنّه يمنع الزوال(٤) .

ج - إذا اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة ، واُخرى من جنسها منفردة كما لو خلط عشرين شاة بمثلها لغيره وله أربعون ينفرد [ بها ](٥) ففيما يخرجان الزكاة؟ قولان مبنيّان على أنّ الخلطة خلطة ملك أي يثبت حكم الخلطة في‌

____________________

(١) الوجيز ١ : ٨٣ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٤٩.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ - ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٣.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٨ - ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤١ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٢ ، فتح العزيز ٥ : ٤٥٩ - ٤٦٢.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

٩٧

كلّ ما في ملكه ؛ لأنّ الخلطة تجعل مال الاثنين كمال الواحد ، ومال الواحد يضمّ بعضه إلى بعض وإن تفرّقت أماكنه ، فعلى هذا كان صاحب الستّين خلط جميع ماله بعشرين ، فعليه ثلاثة أرباع شاة ، وعلى الآخر ربعها.

أو أنّها خلطة عين أي يقتصر حكمها على عين المخلوط ، لأنّ خفّة المؤونة إنّما تحصل في القدر المخلوط وهو السبب في تأثير الخلطة ، فعلى صاحب العشرين نصف شاة ، لأنّ جميع ماله خليط عشرين ، وفي أربعين شاة ، فحصّة العشرين نصفها(١) .

وفي صاحب الستّين وجوه : أصحّها عنده : أنه يلزمه شاة ، لأنّه اجتمع في ماله الاختلاط والانفراد فغلّب حكم الانفراد ، كما لو انفرد بالمال في بعض الحول فكأنّه منفرد بجميع الستّين ، وفيها شاة.

والثاني : يلزمه ثلاثة أرباع شاة ، لأنّ جميع ماله ستّون ، وبعضه مختلط حقيقةً ، وملك الواحد لا يتبعّض حكمه فيلزم إثبات حكم الخلطة للباقي ، فكأنّه خلط جميع الستّين بالعشرين ، وواجبها شاة حصّة الستّين ثلاثة أرباعها.

الثالث : يلزمه خمسة أسداس شاة ونصف سدس جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد ، ففي الأربعين حصّتها من الواجب لو انفرد بالكلّ وهو شاة حصّة الأربعين ثُلثا شاة ، وفي العشرين حصّتها من الواجب لو خلط الكلّ وهي ربع شاة لأنّ الكلّ ثمانون ، وواجبها شاة.

الرابع : أنّ عليه شاة وسدس شاة من ذلك نصف شاة في العشرين المختلطة ، كما أنّه واجب خليطه في ماله ، وثُلثا شاة في الأربعين المنفردة وذلك حصة الأربعين لو انفرد بجميع ماله.

الخامس : أنّ عليه شاة في الأربعين ونصف شاة في العشرين ، كما لو‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٥٩ ، المجموع ٥ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٦٩ - ٤٧٠.

٩٨

كانا لمالكين(١) .

ولو خلط عشرين بعشرين لغيره ولكلّ منهما أربعون منفردة ، إن قلنا بخلطة الملك فعليهما شاة ، لأنّ الكلّ مائة وعشرون

وإن قلنا بخلطة العين فوجوه : أصحها : أنّ على كلّ منهما شاة.

الثاني : ثلاثة أرباع ، لأنّ كلّاً منهما يملك ستّين بعضها خليط عشرين فيغلب حكم الخلطة في الكلّ ، والكلّ ثمانون ، حصّة ستّين ما قلنا.

الثالث : على كلّ منهما خمسة أسداس شاة ونصف سدس جمعاً بين الاعتبارين ، فيقدّر كلّ واحد منهما كأنّه منفرد بالستّين ، وفيها شاة ، فحصّة الأربعين منها ثُلثا شاة ، ثم يقدّر أنّه خلط جميع الستّين بالعشرين والمبلغ ثمانون ، وفيها شاة ، فحصّة العشرين منها ربع شاة.

وقيل : على كلّ واحد خمسة أسداس شاة بلا زيادة تجب في العشرين بحساب ما لو كان جميع المالين مختلطاً وهو مائة وعشرون وواجبها شاة ، فحصة العشرين سدس شاة وفي الأربعين ثُلثا شاة(٢) .

الرابع : على كلّ منهما شاة وسدس شاة ، نصف شاة في العشرين المختلطة قصراً لِحكم الخلطة على الأربعين ، وثُلثا شاة في الأربعين المنفردة.

الخامس : على كلّ واحد شاة ونصف شاة ، شاة للأربعين المنفردة ، ونصف للعشرين المختلطة(٣) .

د - لو خالط الشخص ببعض ماله واحداً وببعضه آخر ولم يتشارك الآخران بأن يكون له أربعون فخلط منها عشرين بعشرين لرجل لا يملك غيرها ،

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٤٤ ، الوجيز ١ : ٨٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧١ - ٤٧٣.

(٢) فتح العزيز ٥ : ٤٧٤.

(٣) المجموع ٥ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٣ - ٤٧٥.

٩٩

وعشرين بعشرين لآخر كذلك ، فإن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب الأربعين نصف شاة ، لأنّه خليطهما ومبلغ الأموال ثمانون ، وحصّة الأربعين منها النصف ، وكلّ واحد من خليطيه يضمّ ماله إلى جميع مال صاحب الأربعين.

وهل يضمّه إلى مال الآخر؟ وجهان : الضمّ ، لينضمّ الكلّ في حقّهما كما انضمّ في حق صاحب الأربعين ، فعلى كلّ واحد منهما ربع شاة.

والعدم ، لأنّ كلّاً منهما لم يخالط الآخر بماله بخلاف صاحب الأربعين فإنه خالط لكلِّ واحد منهما ، فعلى كلّ واحد ثُلث شاة.

وإن قلنا بخلطة العين فعلى كلّ من الآخَرَين نصف شاة ، لأنّ مبلغ ماله وما خالط ماله أربعون(١) .

وفي صاحب الأربعين وجوه :

أحدها : تلزمه شاة تغليباً للانفراد وإن لم يكن منفرداً حقيقةً لكن ما لم يخالط به أحدهما فهو منفرد عنه فيعطى حكم الانفراد ، ويغلب حتى يصير كالمنفرد بالباقي أيضاً ، وكذا بالإِضافة إلى الخليط الثاني فكأنّه لم يخالط أحداً.

الثاني : يلزمه نصف شاة ، تغليباً للخلطة ، فإنّه لا بدّ من إثبات حكم الخلطة حيث وجدت حقيقةً ، واتّحاد المال يقتضي ضمّ أحد ماليه إلى الآخر ، فكلّ المال ثمانون ، فكأنّه خلط أربعين بأربعين.

الثالث : يلزمه ثُلثا شاة جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد ، بأن يقال : لو كان جميع ماله مع [ مال ](٢) زيد لكان المبلغ ستّين وواجبها شاة ، حصّة العشرين الثُلث ، وكذا يفرض في حقّ الثاني فيجتمع عليه ثُلثان(٣) .

مسألة ٥٦ : قد بيّنا أنّه إذا ملك أربعين وجب عليه الشاة وإن تعدّدت‌

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٤٥ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٦ - ٤٧٧.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) المجموع ٥ : ٤٤٥ ، فتح العزيز ٥ : ٤٧٧ - ٤٧٨.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الكتاب، و قوله:( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) فأمر لهعليه‌السلام أن يخفّف كفر من كفر كما قال:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

و سيأتي ما في الرواية من تفسير عليّعليه‌السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.

و قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحقّ و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإنّ ربّك الّذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

و هذه الآيات الحافّة لقوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه ليأخذ قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) موقعه فقد عرفت في أوّل السورة أنّ الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضاً بالتدبّر في الآيات السابقة أنّها مسرودة ليتخلّص بها إلى تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلّص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسّر في عدّة من الروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنّها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنّها الحواميم السبع، و ما قيل: إنّها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شي‏ء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنّة.

و قد كثر اختلافهم في قوله:( مِنَ الْمَثانِي ) من جهة كون( مِنَ ) للتبعيض أو للتبيين و في كيفيّة اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.

و الّذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - إنّ( مِنَ ) للتبعيض فإنّه سبحانه سمّى

٢٠١

جميع آيات كتابه مثاني إذ قال:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربّهم ) الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلّها.

و الظاهر أنّ المثاني جمع مثنيّة اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) هود: ٥ و سمّيت الآيات القرآنيّة مثاني لأنّ بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضاً و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في صفة القرآن:( يصدّق بعضه بعضاً) و عن عليّعليه‌السلام : فيه:( ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

و لعلّ في ذلك كفاية و غنى عمّا ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشّاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنّها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سمّيت آيات القرآن مثاني لتكرّر المعاني فيها، و كقولهم: سمّيت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كلّ صلاة مرّتين أو لأنّها تثنّى في كلّ ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن، أو لأنّ كثيراً من كلماتها مكرّرة كالرحمن و الرحيم و إيّاك و الصراط و عليهم، أو لأنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة و مرّة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأنّ الله استثناها و ادّخرها لهذه الاُمّة و لم ينزلها على الاُمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

و في قوله:( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أمّا القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أمّا الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة( سَبْعاً ) و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.

و الآية - كما تبيّن - في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أنّ في هذه الموهبة العظمى المتضمّنة لحقائق المعارف الإلهيّة الهادية إلى كلّ كمال و سعادة بإذن الله عدّة أن تحملك على الصفح الجميل

٢٠٢

و الاشتغال بربّك و التوغّل في طاعته.

قوله تعالى: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ - إلى قوله -الْمُبِينُ ) الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الّذي تقدّم الأمر به، و لذلك جيي‏ء بالكلام في صورة الاستئناف.

و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيّان و مثبتان فقوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) مدّ العينين إلى ما متّعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدّي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيّين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عمّا أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متّعنا به أزواجاً قليلة أو أصنافاً من الكفّار.

و ربّما أخذ بعضهم قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أنّ الغرض على أيّ حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلّق القلبيّ بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الّذي يكنّى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.

و قوله:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أنّ الطائر إذا أراد أن يضمّ إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثمّ خفضه لها هذا.

و الّذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيّد بآيات اُخر كقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ لكنّ الّذي وقع في نظير الآية ممّا يمكن أن يفسّر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضمّ المؤمنين إليه و قصر

٢٠٣

الهمّ على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أنّ الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربّهم بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية: الكهف: ٢٨.

و قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي لا دعوى لي إلّا أنّي نذير اُنذركم بعذاب الله سبحانه مبين اُبيّن لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شي‏ء.

فهذه الاُمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزؤا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنّه نذير مبين هو الصفح الجميل الّذي يليق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لو اُسقط منها واحد لاختلّ الأمر.

و من ذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) منسوخ بآية السيف غير وجيه فإنّ هذا الصفح الّذي تأمر به الآية و يفسّره قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) باق على إحكامه و اعتباره حتّى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى: ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضّيت الشي‏ء أي فرّقته و بعّضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضيّ، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) لا يخلو السياق من دلالة على أنّه متعلّق بمقدّر يلوّح إليه قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الّذين يصفهم قوله بعد:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ ) و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفّار قريش جزّؤا

٢٠٤

القرآن أجزاءً فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأوّلين، و قالوا: مفترى، و تفرّقوا في مداخل طرق مكّة أيّام الموسم يصدّون الناس الواردين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله.

و قيل قوله:( كَما أَنْزَلْنا ) متعلّق بما تقدّم من قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الّذين فرّقوا القرآن أجزاء و أبعاضاً و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.

و فيه أنّ السورة مكّيّة نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم:( آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) آل عمران: ٧٢ ممّا قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

و ربّما قيل: سموا مقتسمين لأنّهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أنّ الآية التالية تفسّر المقتسمين بالّذين جعلوا القرآن عضين لا بالّذين فرّقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أنّ الآيتين تذكران قوماً نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعّضوه أبعاضاً ليصدّوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الّذين ذكروا في الآيتين ثمّ يذكر الله مآل أمرهم بقوله:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحقّ إذا تكلّم به جهارا، انتهى.

و الآية تفريع على ما تقدّم، و من حقّها أن تتفرّع لأنّها الغرض في الحقّيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و اُمرت بالصفح الجميل و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحقّ و أعلن الدعوة.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) في مقام التعليل لقوله:

٢٠٥

( فَاصْدَعْ ) إلخ كما يشعر الكلام أو يدلّ على أنّ هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) و أعلن الدعوة و أظهر الحقّ( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا ) أي لأنّنا( كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) بإنزال العذاب عليهم و هم( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) رجع ثانياً إلى حزنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصّة في السور المكّيّة من ذلك لشدّة الأمر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وصّاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبوديّة مفرّعاً ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغمّ و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضاً من قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإنّ ظاهره الأمر بالصبر على العبوديّة حتّى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مرّ الحوادث:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣.

و بذلك يتأيّد أنّ المراد بالساجدين المصلّون و أنّه أمر بالصلاة و قد سمّيت سجوداً تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظيّ منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجّه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد - أو بهما و بالسجود - المعنى اللغويّ و هو تنزيهه تعالى عمّا يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلّل له تذلّل العبوديّة.

و أمّا قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسّر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبوديّة - كما هو

٢٠٦

ظاهر السياق، و خاصّة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر - كان بقرينة تقييده بقوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) أمراً بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبوديّة.

و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الّذي يتبدّل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيّد ذلك تفريع ما تقدّم من قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) على قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) فإنّه بالحقّيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأنّ لهم يوماً ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبوديّة و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مرّ ما يقولون حتّى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

و في التعبير بمثل قوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) إشعار أيضاً بذلك فإنّ العناية فيه بأنّ اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربّه حتّى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الّذي هو عالم اليقين العامّ بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقينيّ الّذي ربّما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

و بذلك يظهر فساد ما ربّما قيل: إنّ الآية تدلّ على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأنّ المخاطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد دلّت آيات كثيرة من كتاب الله أنّه من الموقنين و أنّه على بصيرة و أنّه على بيّنة من ربّه و أنّه معصوم و أنّه مهديّ بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافاً إلى ما قدّمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

و سنفرد لدوام التكليف بحثاً عقليّاً بعد الفراغ عن البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

٢٠٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال: الرضا بغير عتاب.

و في المجمع، حكي عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضاعليه‌السلام : في الآية قال: العفو من غير عتاب.

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهنّ.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام و غير واحد من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و من طرق أهل السنّة عن عليّ و عدّة من الصحابة كعمر بن الخطّاب و عبدالله بن مسعود و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عبّاس قال: سأل رجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: أ رأيت قول الله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) ؟ قال: اليهود و النصارى. قال:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.

أقول: و قد عرفت فيما مرّ أنّ مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكّيّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قوله:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قالا: هم قريش.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن عليّ الحلبيّ قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفياً منها ثلاث سنين خائفاً لا يظهر حتّى أمر الله عزّوجلّ أن يصدع بما اُمر فأظهر حينئذ الدعوة.

٢٠٨

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أنّ عبدالله بن مسعود قال: ما زال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخفيا حتّى نزل:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) فخرج هو و أصحابه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن علي الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اكتتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزؤن خمسة من قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميّ و العاص بن وائل السهميّ و الحارث بن حنظلة(١) و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهريّ و الأسود بن المطّلب بن أسد فلمّا قال الله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد أخزاهم فأماتهم الله بشرّ ميتات.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضاً و الطبرسيّ في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن عليّعليه‌السلام : ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كلّ من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن عليّ و عن ابن عبّاس مع سبب هلاكهم.

و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنّة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الّذي اتّفق فيه حديث الفريقين هو ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلميّ عن أبي الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما اُوحي إلي أن أكون تاجراً و لا أجمع المال متكاثراً و لكن اُوحي إليّ:( أن فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

أقول: و روي ما في معناه أيضاً عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج البخاريّ و ابن جرير عن اُمّ العلاء: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل

__________________________________________________

(١) طلاطلة ط.

٢٠٩

على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أنّ الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير.

و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ من صبر صبر قليلاً و من جزع جزع قليلاً.

ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً و أمره بالصبر و الرفق فقال:( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) و قال تبارك و تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

( بحث فلسفي في كيفيّة وجود التكليف و دوامه)

قد تقدّم في خلال أبحاث النبوّة و كيفيّة انتشاء الشرائع السماويّة في هذا الكتاب أنّ كلّ نوع من أنواع الموجودات له غاية كماليّة هو متوجّه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجوديّة تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلّا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النموّ قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدّم أيضاً أنّ الحرمان من بلوغ الغايات إنّما هو في أفراد خاصّة من الأنواع و أمّا النوع بنوعيّته فلا يتصوّر فيه ذلك.

و أنّ الإنسان و هو نوع وجوديّ له غاية وجوديّة لا ينالها إلّا بالاجتماع المدنيّ كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الاُنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.

٢١٠

و أنّ تحقّق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنسانيّ يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات اُمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضروريّة و يقف بها كلّ منهم في موقفه الّذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجوديّ، و هذه الأحكام و القوانين العمليّة في الحقّيقة منبعثة عن الحوائج الّتي تهتف بها خصوصيّة وجود الإنسان و خلقته الخاصّة بما لها من التجهيزات البدنيّة و الروحيّة كما أنّ خصوصيّة وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيّات العلل و الأسباب الّتي تكوّن وجود الإنسان من الكون العامّ.

و هذا معنى كون الدين فطريّاً أي أنّه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العامّ فلو اُقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و اُبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العامّ في نظامه.

و أنّ هذه الأحكام و القوانين سواءً كانت معامليّة اجتماعيّة تصلح بها حال المجتمع و يجمع بها شمله أو عباديّة تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنّها جميعاً يجب أن يتلقّاها الإنسان من طريق نبوّة إلهيّة و وحي سماويّ لا غير.

و بهذه الاُصول الماضية يتبيّن أنّ التكليف الإلهيّ يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيويّة سواء كان في نفسه ناقصاً لم يكمل وجوداً بعد أو كاملاً علماً و عملاً: أمّا لو كان ناقصاً فظاهر، و أمّا لو كان كاملاً فلأنّ معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعامليّة ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكّن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العباديّة الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهيّة الهادية للإنسان إلى سعادته.

و من المعلوم أنّ تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهيّة تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلّف الملكات عن آثارها

٢١١

فإنّ الأفعال مقدّمات معدّة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثاراً لها تصدر عنها صدوراً لا تخلّف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد: أنّ تخلّف الإنسان عن التكليف الإلهيّ و إن كان كاملاً، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهيّة بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلّف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضاً إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أنّ الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.

٢١٢

( سورة النحل مكّيّة، و هي مائة و ثمان و عشرون آية)

( سورة النحل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١ ) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ( ٢ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( ٤ ) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا  لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٥ ) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( ٦ ) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ  إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٧ ) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً  وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٨ ) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ  وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٩ ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً  لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( ١٠ ) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ١١ ) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٢ ) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣ ) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

٢١٣

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ١٤) وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥) وَعَلَامَاتٍ  وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ( ١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ١٧) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا  إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ( ١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ( ٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ  وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ( ٢١)

( بيان)

الغالب على الظنّ - إذا تدبّرنا السورة - أنّ صدر السورة ممّا نزلت في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماويّة و الأرضيّة ممّا تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاماً متقناً و تدبيراً متّصلاً يدلّ على وحدانيّته تعالى في ربوبيّته.

و يحتجّ في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنّه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الاُمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) مفرّعاً آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أنّ عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهيّ و دنوّه منهم و قرب نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيراً نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و ليس إلّا أمره تعالى بظهور الحقّ على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبّر في صدر السورة.

٢١٤

و أمّا ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) إلى آخر السورة على ما بينها من الاتّصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون ممّا نزلت في أوائل عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعيد الهجرة - فصدر السورة و ذيلها متقارباً النزول - و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلّا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) الآية، و قوله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) الآية النازلة على قول في سلمان الفارسيّ و قد آمن بالمدينة، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الآية النازلة في عمّار - كما سيأتي - و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كلّ ذلك يفيد الظنّ بكون الآيات مدنيّة.

و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: الآية ٤١ و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) الآية: ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و عدّة آيات تتلوها.

و الإنصاف - بعد ذلك كلّه - أنّ قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) الآية: ١٢٦ و آيتان بعدها مدنيّة لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكّيّة منها بالمدنيّة. و هذا و إن لم يوافق شيئاً من المأثور لكنّ السياق يشهد به و هو اُولى بالاتّباع. و قد مرّ في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكّيّة. و الغرض الّذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أنّ فيها أمراً بالصبر و وعداً حسناً على الصبر في ذات الله.

و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحقّ عليهم و يوضح تعالى ذلك ببيان أنّ الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أنّ الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبدالله و لا يعبد غيره، و بيان أنّ الدين الحقّ لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرّع دونه دين

٢١٥

و ردّ ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوّة و التشريع و بيان اُمور من الدين الإلهيّ.

هذا هو الّذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرّة بعد مرّة و في ضمنها آيات تتعرّض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك ممّا يحوم حولها.

قوله تعالى: ( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للمشركين لأنّ الآيات التالية مسوقة احتجاجاً عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعاً كالمتفرّعة على قوله في ذيل هذه الآية:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) و مقتضاه أن يكون الأمر الّذي أخبر بإتيانه أمراً يطهّر ساحة الربوبيّة من شركهم بحسم مادّته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حقّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا و أوعد المشركين مرّة بعد مرّة في كلامه أنّه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذّبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضاً ضمير( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقّق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجي‏ء بعد.

و على هذا أيضاً يكون قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنّهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلّا لشركهم استهزاء و سخريّة.

٢١٦

و بما مرّ يندفع ما ذكره بعضهم أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعاً فإنّ السياق لا يلائمه.

على أنّه تعالى يخصّ في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال:( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أنّها الحقّ ) الشورى: ١٨.

و كذا ما ذكروه أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أنّ المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضاً كما يدلّ عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

و من العجيب ما استدلّ به جمع منهم على أنّ المراد بالأمر يوم القيامة أنّه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) و هو مفسّر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و ممّا يؤكّد المناسبة قوله هناك:( يَأْتِيَكَ ) و ههنا:( أَتى) . و أمثال هذه الأقاويل الملفّقة ممّا ينبغي أن يلتفت إليه.

و نظيره قول بعضهم: إنّ المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنّه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرّمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصّة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديماً و حديثاً في حقيقة الروح لا يختلفون في أنّهم يفهمون منه معنى واحداً و هو ما به الحياة الّتي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

و أمّا حقيقته إجمالاً فالّذي يفيده مثل قوله تعالى:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨ و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) المعارج: ٤ و غيرهما

٢١٧

أنّه موجود مستقلّ ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء كما ربّما يتوهّم، و قد أفاد بقوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من سنخ أمره، و عرّف أيضاً أمره بمثل قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فدلّ على أنّه كلمة الإيجاد الّتي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الّذي يفيضه عليها لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله:( وَ ما أَمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠ فإنّ هذا التعبير إنّما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادّة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتّى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة الّتي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته، و لذلك سمّاه وحيا و عدّ إلقاءه و إنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فإنّ الوحي هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبيّعليه‌السلام وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) الباء للمصاحبة أو للسببيّة و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمّل فإنّ تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنّما هو لإلقائه في روح النبيّعليه‌السلام ليفيض عليه المعارف الإلهيّة و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأنّ كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير( يُنَزِّلُ ) له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

و المعنى: أنّ الله منزّه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الّذي يدعونه له و لتنزّهه و تعاليه عن الشريك ينزّل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الّذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد - أو بسببه - على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلّا أنا فاتّقون.

٢١٨

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمّي روحاً لأنّ به حياة القلوب، كما أنّ الروح الحقيقيّ به حياة الأبدان. قال: و قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) أي بأمره، و نظيره قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله لأنّ أحداً لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أمّا قوله: إنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى الباء استناداً إلى قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله إلخ فقد مرّ في تفسير سورة الرعد أنّ( مِنْ ) على ظاهر معناه و أنّ بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى( بأمره ) بل قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) معناه بالروح الكائن من أمره - على أنّ الظرف مستقرّ لا لغو - كما في قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و معناه ما تقدّم.

و أمّا قوله: إنّ الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنّه بمعنى النبوّة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أنّ نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة، و أمّا في نفسه و هو أن يسمّى الوحي أو النبوّة روحاً باشتراك لفظيّ أو مجازاً من حيث إنّه يحيي القلوب و يعمرها، كما أنّ الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيّناه مراراً أنّ الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.

و المتحصّل من كلامه سبحانه أنّ الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيّد به الأنبياء و الرسل كما قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و قال:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أمّا أنّ إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي

٢١٩

حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنّه من الاستعارة المصرّحة أو استعارة بالكناية أو أنّ قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) من قبيل التشبيه لذكر المشبّه صريحا بناء على كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بيانيّة كما صرّحوا في قوله:( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) بقره ١٨٧ أنّه من التشبيه للتصريح بالمشبّه في متن الكلام فكلّ ذلك من الأبحاث الأدبيّة الفنّيّة الّتي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقّائق.

و ذكر بعضهم أنّ( مِنْ أَمْرِهِ ) بيان للروح، و( مِنْ ) للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدّم.

و فيه أنّه مدفوع بقوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ، مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنّ من الواضح أنّ الآيتين تسلكان مسلكاً واحداً، و ظاهر آية الإسراء أنّ( مِنْ ) فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أنّ الروح من سنخ الأمر و شأن من شؤونه و يقرب منها قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ ربّهم مِنْ كلّ أَمْرٍ ) القدر: ٤.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح هو جبريل و أيّده بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) ،: الشعراء: ١٩٤ فإنّ من المسلّم أنّ المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزّل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.

و فيه أنّ هذه الآية نظيرة قوله تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

و أردء الوجوه ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلّا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.

و قوله:( عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) أي إنّ بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقّف على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن يقهره تعالى

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409