الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 83900
تحميل: 5590


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83900 / تحميل: 5590
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكتاب، و قوله:( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) فأمر لهعليه‌السلام أن يخفّف كفر من كفر كما قال:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

و سيأتي ما في الرواية من تفسير عليّعليه‌السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.

و قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحقّ و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإنّ ربّك الّذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

و هذه الآيات الحافّة لقوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه ليأخذ قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) موقعه فقد عرفت في أوّل السورة أنّ الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضاً بالتدبّر في الآيات السابقة أنّها مسرودة ليتخلّص بها إلى تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلّص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسّر في عدّة من الروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنّها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنّها الحواميم السبع، و ما قيل: إنّها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شي‏ء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنّة.

و قد كثر اختلافهم في قوله:( مِنَ الْمَثانِي ) من جهة كون( مِنَ ) للتبعيض أو للتبيين و في كيفيّة اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.

و الّذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - إنّ( مِنَ ) للتبعيض فإنّه سبحانه سمّى

٢٠١

جميع آيات كتابه مثاني إذ قال:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربّهم ) الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلّها.

و الظاهر أنّ المثاني جمع مثنيّة اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) هود: ٥ و سمّيت الآيات القرآنيّة مثاني لأنّ بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضاً و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في صفة القرآن:( يصدّق بعضه بعضاً) و عن عليّعليه‌السلام : فيه:( ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

و لعلّ في ذلك كفاية و غنى عمّا ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشّاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنّها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سمّيت آيات القرآن مثاني لتكرّر المعاني فيها، و كقولهم: سمّيت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كلّ صلاة مرّتين أو لأنّها تثنّى في كلّ ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن، أو لأنّ كثيراً من كلماتها مكرّرة كالرحمن و الرحيم و إيّاك و الصراط و عليهم، أو لأنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة و مرّة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأنّ الله استثناها و ادّخرها لهذه الاُمّة و لم ينزلها على الاُمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

و في قوله:( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أمّا القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أمّا الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة( سَبْعاً ) و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.

و الآية - كما تبيّن - في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أنّ في هذه الموهبة العظمى المتضمّنة لحقائق المعارف الإلهيّة الهادية إلى كلّ كمال و سعادة بإذن الله عدّة أن تحملك على الصفح الجميل

٢٠٢

و الاشتغال بربّك و التوغّل في طاعته.

قوله تعالى: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ - إلى قوله -الْمُبِينُ ) الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الّذي تقدّم الأمر به، و لذلك جيي‏ء بالكلام في صورة الاستئناف.

و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيّان و مثبتان فقوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) مدّ العينين إلى ما متّعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدّي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيّين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عمّا أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متّعنا به أزواجاً قليلة أو أصنافاً من الكفّار.

و ربّما أخذ بعضهم قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أنّ الغرض على أيّ حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلّق القلبيّ بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الّذي يكنّى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.

و قوله:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أنّ الطائر إذا أراد أن يضمّ إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثمّ خفضه لها هذا.

و الّذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيّد بآيات اُخر كقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ لكنّ الّذي وقع في نظير الآية ممّا يمكن أن يفسّر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضمّ المؤمنين إليه و قصر

٢٠٣

الهمّ على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أنّ الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربّهم بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية: الكهف: ٢٨.

و قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي لا دعوى لي إلّا أنّي نذير اُنذركم بعذاب الله سبحانه مبين اُبيّن لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شي‏ء.

فهذه الاُمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزؤا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنّه نذير مبين هو الصفح الجميل الّذي يليق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لو اُسقط منها واحد لاختلّ الأمر.

و من ذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) منسوخ بآية السيف غير وجيه فإنّ هذا الصفح الّذي تأمر به الآية و يفسّره قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) باق على إحكامه و اعتباره حتّى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى: ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضّيت الشي‏ء أي فرّقته و بعّضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضيّ، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) لا يخلو السياق من دلالة على أنّه متعلّق بمقدّر يلوّح إليه قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الّذين يصفهم قوله بعد:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ ) و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفّار قريش جزّؤا

٢٠٤

القرآن أجزاءً فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأوّلين، و قالوا: مفترى، و تفرّقوا في مداخل طرق مكّة أيّام الموسم يصدّون الناس الواردين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله.

و قيل قوله:( كَما أَنْزَلْنا ) متعلّق بما تقدّم من قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الّذين فرّقوا القرآن أجزاء و أبعاضاً و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.

و فيه أنّ السورة مكّيّة نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم:( آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) آل عمران: ٧٢ ممّا قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

و ربّما قيل: سموا مقتسمين لأنّهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أنّ الآية التالية تفسّر المقتسمين بالّذين جعلوا القرآن عضين لا بالّذين فرّقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أنّ الآيتين تذكران قوماً نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعّضوه أبعاضاً ليصدّوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الّذين ذكروا في الآيتين ثمّ يذكر الله مآل أمرهم بقوله:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحقّ إذا تكلّم به جهارا، انتهى.

و الآية تفريع على ما تقدّم، و من حقّها أن تتفرّع لأنّها الغرض في الحقّيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و اُمرت بالصفح الجميل و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحقّ و أعلن الدعوة.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) في مقام التعليل لقوله:

٢٠٥

( فَاصْدَعْ ) إلخ كما يشعر الكلام أو يدلّ على أنّ هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) و أعلن الدعوة و أظهر الحقّ( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا ) أي لأنّنا( كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) بإنزال العذاب عليهم و هم( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) رجع ثانياً إلى حزنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصّة في السور المكّيّة من ذلك لشدّة الأمر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وصّاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبوديّة مفرّعاً ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغمّ و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضاً من قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإنّ ظاهره الأمر بالصبر على العبوديّة حتّى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مرّ الحوادث:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣.

و بذلك يتأيّد أنّ المراد بالساجدين المصلّون و أنّه أمر بالصلاة و قد سمّيت سجوداً تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظيّ منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجّه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد - أو بهما و بالسجود - المعنى اللغويّ و هو تنزيهه تعالى عمّا يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلّل له تذلّل العبوديّة.

و أمّا قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسّر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبوديّة - كما هو

٢٠٦

ظاهر السياق، و خاصّة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر - كان بقرينة تقييده بقوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) أمراً بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبوديّة.

و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الّذي يتبدّل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيّد ذلك تفريع ما تقدّم من قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) على قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) فإنّه بالحقّيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأنّ لهم يوماً ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبوديّة و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مرّ ما يقولون حتّى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

و في التعبير بمثل قوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) إشعار أيضاً بذلك فإنّ العناية فيه بأنّ اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربّه حتّى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الّذي هو عالم اليقين العامّ بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقينيّ الّذي ربّما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

و بذلك يظهر فساد ما ربّما قيل: إنّ الآية تدلّ على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأنّ المخاطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد دلّت آيات كثيرة من كتاب الله أنّه من الموقنين و أنّه على بصيرة و أنّه على بيّنة من ربّه و أنّه معصوم و أنّه مهديّ بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافاً إلى ما قدّمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

و سنفرد لدوام التكليف بحثاً عقليّاً بعد الفراغ عن البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

٢٠٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال: الرضا بغير عتاب.

و في المجمع، حكي عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضاعليه‌السلام : في الآية قال: العفو من غير عتاب.

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهنّ.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام و غير واحد من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و من طرق أهل السنّة عن عليّ و عدّة من الصحابة كعمر بن الخطّاب و عبدالله بن مسعود و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عبّاس قال: سأل رجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: أ رأيت قول الله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) ؟ قال: اليهود و النصارى. قال:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.

أقول: و قد عرفت فيما مرّ أنّ مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكّيّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قوله:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قالا: هم قريش.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن عليّ الحلبيّ قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفياً منها ثلاث سنين خائفاً لا يظهر حتّى أمر الله عزّوجلّ أن يصدع بما اُمر فأظهر حينئذ الدعوة.

٢٠٨

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أنّ عبدالله بن مسعود قال: ما زال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخفيا حتّى نزل:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) فخرج هو و أصحابه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن علي الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اكتتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزؤن خمسة من قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميّ و العاص بن وائل السهميّ و الحارث بن حنظلة(١) و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهريّ و الأسود بن المطّلب بن أسد فلمّا قال الله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد أخزاهم فأماتهم الله بشرّ ميتات.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضاً و الطبرسيّ في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن عليّعليه‌السلام : ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كلّ من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن عليّ و عن ابن عبّاس مع سبب هلاكهم.

و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنّة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الّذي اتّفق فيه حديث الفريقين هو ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلميّ عن أبي الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما اُوحي إلي أن أكون تاجراً و لا أجمع المال متكاثراً و لكن اُوحي إليّ:( أن فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

أقول: و روي ما في معناه أيضاً عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج البخاريّ و ابن جرير عن اُمّ العلاء: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل

__________________________________________________

(١) طلاطلة ط.

٢٠٩

على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أنّ الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير.

و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ من صبر صبر قليلاً و من جزع جزع قليلاً.

ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً و أمره بالصبر و الرفق فقال:( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) و قال تبارك و تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

( بحث فلسفي في كيفيّة وجود التكليف و دوامه)

قد تقدّم في خلال أبحاث النبوّة و كيفيّة انتشاء الشرائع السماويّة في هذا الكتاب أنّ كلّ نوع من أنواع الموجودات له غاية كماليّة هو متوجّه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجوديّة تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلّا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النموّ قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدّم أيضاً أنّ الحرمان من بلوغ الغايات إنّما هو في أفراد خاصّة من الأنواع و أمّا النوع بنوعيّته فلا يتصوّر فيه ذلك.

و أنّ الإنسان و هو نوع وجوديّ له غاية وجوديّة لا ينالها إلّا بالاجتماع المدنيّ كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الاُنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.

٢١٠

و أنّ تحقّق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنسانيّ يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات اُمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضروريّة و يقف بها كلّ منهم في موقفه الّذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجوديّ، و هذه الأحكام و القوانين العمليّة في الحقّيقة منبعثة عن الحوائج الّتي تهتف بها خصوصيّة وجود الإنسان و خلقته الخاصّة بما لها من التجهيزات البدنيّة و الروحيّة كما أنّ خصوصيّة وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيّات العلل و الأسباب الّتي تكوّن وجود الإنسان من الكون العامّ.

و هذا معنى كون الدين فطريّاً أي أنّه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العامّ فلو اُقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و اُبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العامّ في نظامه.

و أنّ هذه الأحكام و القوانين سواءً كانت معامليّة اجتماعيّة تصلح بها حال المجتمع و يجمع بها شمله أو عباديّة تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنّها جميعاً يجب أن يتلقّاها الإنسان من طريق نبوّة إلهيّة و وحي سماويّ لا غير.

و بهذه الاُصول الماضية يتبيّن أنّ التكليف الإلهيّ يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيويّة سواء كان في نفسه ناقصاً لم يكمل وجوداً بعد أو كاملاً علماً و عملاً: أمّا لو كان ناقصاً فظاهر، و أمّا لو كان كاملاً فلأنّ معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعامليّة ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكّن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العباديّة الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهيّة الهادية للإنسان إلى سعادته.

و من المعلوم أنّ تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهيّة تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلّف الملكات عن آثارها

٢١١

فإنّ الأفعال مقدّمات معدّة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثاراً لها تصدر عنها صدوراً لا تخلّف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد: أنّ تخلّف الإنسان عن التكليف الإلهيّ و إن كان كاملاً، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهيّة بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلّف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضاً إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أنّ الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.

٢١٢

( سورة النحل مكّيّة، و هي مائة و ثمان و عشرون آية)

( سورة النحل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١ ) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ( ٢ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( ٤ ) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا  لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٥ ) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( ٦ ) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ  إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٧ ) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً  وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٨ ) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ  وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٩ ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً  لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( ١٠ ) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ١١ ) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٢ ) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣ ) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

٢١٣

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ١٤) وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥) وَعَلَامَاتٍ  وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ( ١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ١٧) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا  إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ( ١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ( ٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ  وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ( ٢١)

( بيان)

الغالب على الظنّ - إذا تدبّرنا السورة - أنّ صدر السورة ممّا نزلت في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماويّة و الأرضيّة ممّا تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاماً متقناً و تدبيراً متّصلاً يدلّ على وحدانيّته تعالى في ربوبيّته.

و يحتجّ في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنّه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الاُمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) مفرّعاً آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أنّ عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهيّ و دنوّه منهم و قرب نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيراً نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و ليس إلّا أمره تعالى بظهور الحقّ على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبّر في صدر السورة.

٢١٤

و أمّا ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) إلى آخر السورة على ما بينها من الاتّصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون ممّا نزلت في أوائل عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعيد الهجرة - فصدر السورة و ذيلها متقارباً النزول - و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلّا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) الآية، و قوله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) الآية النازلة على قول في سلمان الفارسيّ و قد آمن بالمدينة، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الآية النازلة في عمّار - كما سيأتي - و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كلّ ذلك يفيد الظنّ بكون الآيات مدنيّة.

و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: الآية ٤١ و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) الآية: ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و عدّة آيات تتلوها.

و الإنصاف - بعد ذلك كلّه - أنّ قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) الآية: ١٢٦ و آيتان بعدها مدنيّة لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكّيّة منها بالمدنيّة. و هذا و إن لم يوافق شيئاً من المأثور لكنّ السياق يشهد به و هو اُولى بالاتّباع. و قد مرّ في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكّيّة. و الغرض الّذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أنّ فيها أمراً بالصبر و وعداً حسناً على الصبر في ذات الله.

و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحقّ عليهم و يوضح تعالى ذلك ببيان أنّ الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أنّ الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبدالله و لا يعبد غيره، و بيان أنّ الدين الحقّ لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرّع دونه دين

٢١٥

و ردّ ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوّة و التشريع و بيان اُمور من الدين الإلهيّ.

هذا هو الّذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرّة بعد مرّة و في ضمنها آيات تتعرّض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك ممّا يحوم حولها.

قوله تعالى: ( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للمشركين لأنّ الآيات التالية مسوقة احتجاجاً عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعاً كالمتفرّعة على قوله في ذيل هذه الآية:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) و مقتضاه أن يكون الأمر الّذي أخبر بإتيانه أمراً يطهّر ساحة الربوبيّة من شركهم بحسم مادّته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حقّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا و أوعد المشركين مرّة بعد مرّة في كلامه أنّه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذّبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضاً ضمير( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقّق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجي‏ء بعد.

و على هذا أيضاً يكون قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنّهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلّا لشركهم استهزاء و سخريّة.

٢١٦

و بما مرّ يندفع ما ذكره بعضهم أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعاً فإنّ السياق لا يلائمه.

على أنّه تعالى يخصّ في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال:( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أنّها الحقّ ) الشورى: ١٨.

و كذا ما ذكروه أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أنّ المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضاً كما يدلّ عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

و من العجيب ما استدلّ به جمع منهم على أنّ المراد بالأمر يوم القيامة أنّه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) و هو مفسّر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و ممّا يؤكّد المناسبة قوله هناك:( يَأْتِيَكَ ) و ههنا:( أَتى) . و أمثال هذه الأقاويل الملفّقة ممّا ينبغي أن يلتفت إليه.

و نظيره قول بعضهم: إنّ المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنّه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرّمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصّة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديماً و حديثاً في حقيقة الروح لا يختلفون في أنّهم يفهمون منه معنى واحداً و هو ما به الحياة الّتي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

و أمّا حقيقته إجمالاً فالّذي يفيده مثل قوله تعالى:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨ و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) المعارج: ٤ و غيرهما

٢١٧

أنّه موجود مستقلّ ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء كما ربّما يتوهّم، و قد أفاد بقوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من سنخ أمره، و عرّف أيضاً أمره بمثل قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فدلّ على أنّه كلمة الإيجاد الّتي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الّذي يفيضه عليها لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله:( وَ ما أَمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠ فإنّ هذا التعبير إنّما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادّة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتّى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة الّتي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته، و لذلك سمّاه وحيا و عدّ إلقاءه و إنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فإنّ الوحي هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبيّعليه‌السلام وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) الباء للمصاحبة أو للسببيّة و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمّل فإنّ تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنّما هو لإلقائه في روح النبيّعليه‌السلام ليفيض عليه المعارف الإلهيّة و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأنّ كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير( يُنَزِّلُ ) له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

و المعنى: أنّ الله منزّه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الّذي يدعونه له و لتنزّهه و تعاليه عن الشريك ينزّل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الّذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد - أو بسببه - على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلّا أنا فاتّقون.

٢١٨

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمّي روحاً لأنّ به حياة القلوب، كما أنّ الروح الحقيقيّ به حياة الأبدان. قال: و قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) أي بأمره، و نظيره قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله لأنّ أحداً لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أمّا قوله: إنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى الباء استناداً إلى قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله إلخ فقد مرّ في تفسير سورة الرعد أنّ( مِنْ ) على ظاهر معناه و أنّ بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى( بأمره ) بل قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) معناه بالروح الكائن من أمره - على أنّ الظرف مستقرّ لا لغو - كما في قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و معناه ما تقدّم.

و أمّا قوله: إنّ الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنّه بمعنى النبوّة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أنّ نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة، و أمّا في نفسه و هو أن يسمّى الوحي أو النبوّة روحاً باشتراك لفظيّ أو مجازاً من حيث إنّه يحيي القلوب و يعمرها، كما أنّ الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيّناه مراراً أنّ الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.

و المتحصّل من كلامه سبحانه أنّ الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيّد به الأنبياء و الرسل كما قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و قال:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أمّا أنّ إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي

٢١٩

حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنّه من الاستعارة المصرّحة أو استعارة بالكناية أو أنّ قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) من قبيل التشبيه لذكر المشبّه صريحا بناء على كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بيانيّة كما صرّحوا في قوله:( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) بقره ١٨٧ أنّه من التشبيه للتصريح بالمشبّه في متن الكلام فكلّ ذلك من الأبحاث الأدبيّة الفنّيّة الّتي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقّائق.

و ذكر بعضهم أنّ( مِنْ أَمْرِهِ ) بيان للروح، و( مِنْ ) للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدّم.

و فيه أنّه مدفوع بقوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ، مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنّ من الواضح أنّ الآيتين تسلكان مسلكاً واحداً، و ظاهر آية الإسراء أنّ( مِنْ ) فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أنّ الروح من سنخ الأمر و شأن من شؤونه و يقرب منها قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ ربّهم مِنْ كلّ أَمْرٍ ) القدر: ٤.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح هو جبريل و أيّده بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) ،: الشعراء: ١٩٤ فإنّ من المسلّم أنّ المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزّل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.

و فيه أنّ هذه الآية نظيرة قوله تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

و أردء الوجوه ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلّا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.

و قوله:( عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) أي إنّ بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقّف على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن يقهره تعالى

٢٢٠