الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87242 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الكتاب، و قوله:( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) فأمر لهعليه‌السلام أن يخفّف كفر من كفر كما قال:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

و سيأتي ما في الرواية من تفسير عليّعليه‌السلام الصفح بالعفو من غير عتاب.

و قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحقّ و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإنّ ربّك الّذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

و هذه الآيات الحافّة لقوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه ليأخذ قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) موقعه فقد عرفت في أوّل السورة أنّ الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضاً بالتدبّر في الآيات السابقة أنّها مسرودة ليتخلّص بها إلى تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلّص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسّر في عدّة من الروايات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنّها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنّها الحواميم السبع، و ما قيل: إنّها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شي‏ء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنّة.

و قد كثر اختلافهم في قوله:( مِنَ الْمَثانِي ) من جهة كون( مِنَ ) للتبعيض أو للتبيين و في كيفيّة اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.

و الّذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - إنّ( مِنَ ) للتبعيض فإنّه سبحانه سمّى

٢٠١

جميع آيات كتابه مثاني إذ قال:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربّهم ) الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلّها.

و الظاهر أنّ المثاني جمع مثنيّة اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى( يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) هود: ٥ و سمّيت الآيات القرآنيّة مثاني لأنّ بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضاً و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في صفة القرآن:( يصدّق بعضه بعضاً) و عن عليّعليه‌السلام : فيه:( ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض) أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

و لعلّ في ذلك كفاية و غنى عمّا ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشّاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنّها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سمّيت آيات القرآن مثاني لتكرّر المعاني فيها، و كقولهم: سمّيت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كلّ صلاة مرّتين أو لأنّها تثنّى في كلّ ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن، أو لأنّ كثيراً من كلماتها مكرّرة كالرحمن و الرحيم و إيّاك و الصراط و عليهم، أو لأنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة و مرّة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأنّ الله استثناها و ادّخرها لهذه الاُمّة و لم ينزلها على الاُمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

و في قوله:( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أمّا القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أمّا الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة( سَبْعاً ) و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.

و الآية - كما تبيّن - في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أنّ في هذه الموهبة العظمى المتضمّنة لحقائق المعارف الإلهيّة الهادية إلى كلّ كمال و سعادة بإذن الله عدّة أن تحملك على الصفح الجميل

٢٠٢

و الاشتغال بربّك و التوغّل في طاعته.

قوله تعالى: ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ - إلى قوله -الْمُبِينُ ) الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الّذي تقدّم الأمر به، و لذلك جيي‏ء بالكلام في صورة الاستئناف.

و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيّان و مثبتان فقوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) مدّ العينين إلى ما متّعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدّي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيّين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عمّا أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متّعنا به أزواجاً قليلة أو أصنافاً من الكفّار.

و ربّما أخذ بعضهم قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أنّ الغرض على أيّ حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلّق القلبيّ بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الّذي يكنّى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.

و قوله:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أنّ الطائر إذا أراد أن يضمّ إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثمّ خفضه لها هذا.

و الّذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيّد بآيات اُخر كقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ) آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التوبة: ١٢٨ لكنّ الّذي وقع في نظير الآية ممّا يمكن أن يفسّر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضمّ المؤمنين إليه و قصر

٢٠٣

الهمّ على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أنّ الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربّهم بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية: الكهف: ٢٨.

و قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي لا دعوى لي إلّا أنّي نذير اُنذركم بعذاب الله سبحانه مبين اُبيّن لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شي‏ء.

فهذه الاُمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزؤا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنّه نذير مبين هو الصفح الجميل الّذي يليق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لو اُسقط منها واحد لاختلّ الأمر.

و من ذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) منسوخ بآية السيف غير وجيه فإنّ هذا الصفح الّذي تأمر به الآية و يفسّره قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) باق على إحكامه و اعتباره حتّى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى: ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضّيت الشي‏ء أي فرّقته و بعّضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضيّ، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) لا يخلو السياق من دلالة على أنّه متعلّق بمقدّر يلوّح إليه قوله:( وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الّذين يصفهم قوله بعد:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏ ) و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفّار قريش جزّؤا

٢٠٤

القرآن أجزاءً فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأوّلين، و قالوا: مفترى، و تفرّقوا في مداخل طرق مكّة أيّام الموسم يصدّون الناس الواردين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله.

و قيل قوله:( كَما أَنْزَلْنا ) متعلّق بما تقدّم من قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الّذين فرّقوا القرآن أجزاء و أبعاضاً و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.

و فيه أنّ السورة مكّيّة نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم:( آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) آل عمران: ٧٢ ممّا قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

و ربّما قيل: سموا مقتسمين لأنّهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أنّ الآية التالية تفسّر المقتسمين بالّذين جعلوا القرآن عضين لا بالّذين فرّقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أنّ الآيتين تذكران قوماً نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعّضوه أبعاضاً ليصدّوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الّذين ذكروا في الآيتين ثمّ يذكر الله مآل أمرهم بقوله:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحقّ إذا تكلّم به جهارا، انتهى.

و الآية تفريع على ما تقدّم، و من حقّها أن تتفرّع لأنّها الغرض في الحقّيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و اُمرت بالصفح الجميل و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحقّ و أعلن الدعوة.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) في مقام التعليل لقوله:

٢٠٥

( فَاصْدَعْ ) إلخ كما يشعر الكلام أو يدلّ على أنّ هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيراً بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) و أعلن الدعوة و أظهر الحقّ( وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا ) أي لأنّنا( كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) بإنزال العذاب عليهم و هم( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) رجع ثانياً إلى حزنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصّة في السور المكّيّة من ذلك لشدّة الأمر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وصّاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبوديّة مفرّعاً ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغمّ و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضاً من قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإنّ ظاهره الأمر بالصبر على العبوديّة حتّى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مرّ الحوادث:( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ١٥٣.

و بذلك يتأيّد أنّ المراد بالساجدين المصلّون و أنّه أمر بالصلاة و قد سمّيت سجوداً تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظيّ منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجّه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد - أو بهما و بالسجود - المعنى اللغويّ و هو تنزيهه تعالى عمّا يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلّل له تذلّل العبوديّة.

و أمّا قوله:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسّر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبوديّة - كما هو

٢٠٦

ظاهر السياق، و خاصّة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر - كان بقرينة تقييده بقوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) أمراً بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبوديّة.

و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الّذي يتبدّل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيّد ذلك تفريع ما تقدّم من قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) على قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) فإنّه بالحقّيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأنّ لهم يوماً ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبوديّة و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مرّ ما يقولون حتّى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

و في التعبير بمثل قوله:( حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) إشعار أيضاً بذلك فإنّ العناية فيه بأنّ اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربّه حتّى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الّذي هو عالم اليقين العامّ بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقينيّ الّذي ربّما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

و بذلك يظهر فساد ما ربّما قيل: إنّ الآية تدلّ على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأنّ المخاطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد دلّت آيات كثيرة من كتاب الله أنّه من الموقنين و أنّه على بصيرة و أنّه على بيّنة من ربّه و أنّه معصوم و أنّه مهديّ بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافاً إلى ما قدّمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

و سنفرد لدوام التكليف بحثاً عقليّاً بعد الفراغ عن البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

٢٠٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) قال: الرضا بغير عتاب.

و في المجمع، حكي عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضاعليه‌السلام : في الآية قال: العفو من غير عتاب.

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهنّ.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام و غير واحد من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و من طرق أهل السنّة عن عليّ و عدّة من الصحابة كعمر بن الخطّاب و عبدالله بن مسعود و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عبّاس قال: سأل رجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: أ رأيت قول الله:( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) ؟ قال: اليهود و النصارى. قال:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.

أقول: و قد عرفت فيما مرّ أنّ مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكّيّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قوله:( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) قالا: هم قريش.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن عليّ الحلبيّ قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفياً منها ثلاث سنين خائفاً لا يظهر حتّى أمر الله عزّوجلّ أن يصدع بما اُمر فأظهر حينئذ الدعوة.

٢٠٨

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أنّ عبدالله بن مسعود قال: ما زال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخفيا حتّى نزل:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) فخرج هو و أصحابه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن علي الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اكتتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذّاب امض عنّا.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزؤن خمسة من قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميّ و العاص بن وائل السهميّ و الحارث بن حنظلة(١) و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهريّ و الأسود بن المطّلب بن أسد فلمّا قال الله:( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قد أخزاهم فأماتهم الله بشرّ ميتات.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضاً و الطبرسيّ في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن عليّعليه‌السلام : ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كلّ من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن عليّ و عن ابن عبّاس مع سبب هلاكهم.

و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنّة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الّذي اتّفق فيه حديث الفريقين هو ما قدّمناه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلميّ عن أبي الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما اُوحي إلي أن أكون تاجراً و لا أجمع المال متكاثراً و لكن اُوحي إليّ:( أن فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

أقول: و روي ما في معناه أيضاً عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج البخاريّ و ابن جرير عن اُمّ العلاء: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل

__________________________________________________

(١) طلاطلة ط.

٢٠٩

على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أنّ الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين إنّي لأرجو له الخير.

و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ من صبر صبر قليلاً و من جزع جزع قليلاً.

ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً و أمره بالصبر و الرفق فقال:( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ) و قال تبارك و تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

فصبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

( بحث فلسفي في كيفيّة وجود التكليف و دوامه)

قد تقدّم في خلال أبحاث النبوّة و كيفيّة انتشاء الشرائع السماويّة في هذا الكتاب أنّ كلّ نوع من أنواع الموجودات له غاية كماليّة هو متوجّه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجوديّة تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلّا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النموّ قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدّم أيضاً أنّ الحرمان من بلوغ الغايات إنّما هو في أفراد خاصّة من الأنواع و أمّا النوع بنوعيّته فلا يتصوّر فيه ذلك.

و أنّ الإنسان و هو نوع وجوديّ له غاية وجوديّة لا ينالها إلّا بالاجتماع المدنيّ كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الاُنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.

٢١٠

و أنّ تحقّق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنسانيّ يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات اُمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضروريّة و يقف بها كلّ منهم في موقفه الّذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجوديّ، و هذه الأحكام و القوانين العمليّة في الحقّيقة منبعثة عن الحوائج الّتي تهتف بها خصوصيّة وجود الإنسان و خلقته الخاصّة بما لها من التجهيزات البدنيّة و الروحيّة كما أنّ خصوصيّة وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيّات العلل و الأسباب الّتي تكوّن وجود الإنسان من الكون العامّ.

و هذا معنى كون الدين فطريّاً أي أنّه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العامّ فلو اُقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و اُبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العامّ في نظامه.

و أنّ هذه الأحكام و القوانين سواءً كانت معامليّة اجتماعيّة تصلح بها حال المجتمع و يجمع بها شمله أو عباديّة تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنّها جميعاً يجب أن يتلقّاها الإنسان من طريق نبوّة إلهيّة و وحي سماويّ لا غير.

و بهذه الاُصول الماضية يتبيّن أنّ التكليف الإلهيّ يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيويّة سواء كان في نفسه ناقصاً لم يكمل وجوداً بعد أو كاملاً علماً و عملاً: أمّا لو كان ناقصاً فظاهر، و أمّا لو كان كاملاً فلأنّ معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعامليّة ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكّن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العباديّة الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهيّة الهادية للإنسان إلى سعادته.

و من المعلوم أنّ تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهيّة تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلّف الملكات عن آثارها

٢١١

فإنّ الأفعال مقدّمات معدّة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثاراً لها تصدر عنها صدوراً لا تخلّف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد: أنّ تخلّف الإنسان عن التكليف الإلهيّ و إن كان كاملاً، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهيّة بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلّف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضاً إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أنّ الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.

٢١٢

( سورة النحل مكّيّة، و هي مائة و ثمان و عشرون آية)

( سورة النحل الآيات ١ - ٢١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١ ) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ( ٢ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣ ) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( ٤ ) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا  لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٥ ) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( ٦ ) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ  إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٧ ) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً  وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( ٨ ) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ  وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٩ ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً  لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( ١٠ ) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ١١ ) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ  وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٢ ) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٣ ) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

٢١٣

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ١٤) وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥) وَعَلَامَاتٍ  وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ( ١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ١٧) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا  إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ( ١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ( ٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ  وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ( ٢١)

( بيان)

الغالب على الظنّ - إذا تدبّرنا السورة - أنّ صدر السورة ممّا نزلت في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماويّة و الأرضيّة ممّا تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاماً متقناً و تدبيراً متّصلاً يدلّ على وحدانيّته تعالى في ربوبيّته.

و يحتجّ في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنّه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الاُمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) مفرّعاً آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أنّ عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهيّ و دنوّه منهم و قرب نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيراً نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و ليس إلّا أمره تعالى بظهور الحقّ على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبّر في صدر السورة.

٢١٤

و أمّا ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) إلى آخر السورة على ما بينها من الاتّصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون ممّا نزلت في أوائل عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعيد الهجرة - فصدر السورة و ذيلها متقارباً النزول - و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلّا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) الآية، و قوله:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) الآية النازلة على قول في سلمان الفارسيّ و قد آمن بالمدينة، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الآية النازلة في عمّار - كما سيأتي - و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كلّ ذلك يفيد الظنّ بكون الآيات مدنيّة.

و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: الآية ٤١ و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) الآية: ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و عدّة آيات تتلوها.

و الإنصاف - بعد ذلك كلّه - أنّ قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا ) الآية: ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) الآية: ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) الآية: ١٢٦ و آيتان بعدها مدنيّة لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكّيّة منها بالمدنيّة. و هذا و إن لم يوافق شيئاً من المأثور لكنّ السياق يشهد به و هو اُولى بالاتّباع. و قد مرّ في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكّيّة. و الغرض الّذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أنّ فيها أمراً بالصبر و وعداً حسناً على الصبر في ذات الله.

و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحقّ عليهم و يوضح تعالى ذلك ببيان أنّ الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أنّ الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبدالله و لا يعبد غيره، و بيان أنّ الدين الحقّ لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرّع دونه دين

٢١٥

و ردّ ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوّة و التشريع و بيان اُمور من الدين الإلهيّ.

هذا هو الّذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرّة بعد مرّة و في ضمنها آيات تتعرّض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك ممّا يحوم حولها.

قوله تعالى: ( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للمشركين لأنّ الآيات التالية مسوقة احتجاجاً عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعاً كالمتفرّعة على قوله في ذيل هذه الآية:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) و مقتضاه أن يكون الأمر الّذي أخبر بإتيانه أمراً يطهّر ساحة الربوبيّة من شركهم بحسم مادّته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حقّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا و أوعد المشركين مرّة بعد مرّة في كلامه أنّه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذّبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضاً ضمير( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقّق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجي‏ء بعد.

و على هذا أيضاً يكون قوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنّهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلّا لشركهم استهزاء و سخريّة.

٢١٦

و بما مرّ يندفع ما ذكره بعضهم أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعاً فإنّ السياق لا يلائمه.

على أنّه تعالى يخصّ في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال:( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أنّها الحقّ ) الشورى: ١٨.

و كذا ما ذكروه أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أنّ المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضاً كما يدلّ عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

و من العجيب ما استدلّ به جمع منهم على أنّ المراد بالأمر يوم القيامة أنّه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر:( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) و هو مفسّر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و ممّا يؤكّد المناسبة قوله هناك:( يَأْتِيَكَ ) و ههنا:( أَتى) . و أمثال هذه الأقاويل الملفّقة ممّا ينبغي أن يلتفت إليه.

و نظيره قول بعضهم: إنّ المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنّه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرّمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصّة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديماً و حديثاً في حقيقة الروح لا يختلفون في أنّهم يفهمون منه معنى واحداً و هو ما به الحياة الّتي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

و أمّا حقيقته إجمالاً فالّذي يفيده مثل قوله تعالى:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨ و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) المعارج: ٤ و غيرهما

٢١٧

أنّه موجود مستقلّ ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء كما ربّما يتوهّم، و قد أفاد بقوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أنّه من سنخ أمره، و عرّف أيضاً أمره بمثل قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣ فدلّ على أنّه كلمة الإيجاد الّتي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الّذي يفيضه عليها لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادّة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله:( وَ ما أَمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠ فإنّ هذا التعبير إنّما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادّة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتّى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصّل أنّ الروح كلمة الحياة الّتي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيّته، و لذلك سمّاه وحيا و عدّ إلقاءه و إنزاله على نبيّه إيحاء في قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ فإنّ الوحي هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبيّعليه‌السلام وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) الباء للمصاحبة أو للسببيّة و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمّل فإنّ تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنّما هو لإلقائه في روح النبيّعليه‌السلام ليفيض عليه المعارف الإلهيّة و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأنّ كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير( يُنَزِّلُ ) له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

و المعنى: أنّ الله منزّه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الّذي يدعونه له و لتنزّهه و تعاليه عن الشريك ينزّل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الّذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد - أو بسببه - على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلّا أنا فاتّقون.

٢١٨

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمّي روحاً لأنّ به حياة القلوب، كما أنّ الروح الحقيقيّ به حياة الأبدان. قال: و قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) أي بأمره، و نظيره قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله لأنّ أحداً لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أمّا قوله: إنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى الباء استناداً إلى قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) أي بأمر الله إلخ فقد مرّ في تفسير سورة الرعد أنّ( مِنْ ) على ظاهر معناه و أنّ بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ( مِنْ أَمْرِهِ ) بمعنى( بأمره ) بل قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) معناه بالروح الكائن من أمره - على أنّ الظرف مستقرّ لا لغو - كما في قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و معناه ما تقدّم.

و أمّا قوله: إنّ الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنّه بمعنى النبوّة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أنّ نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوّة، و أمّا في نفسه و هو أن يسمّى الوحي أو النبوّة روحاً باشتراك لفظيّ أو مجازاً من حيث إنّه يحيي القلوب و يعمرها، كما أنّ الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيّناه مراراً أنّ الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.

و المتحصّل من كلامه سبحانه أنّ الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيّد به الأنبياء و الرسل كما قال:( وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و قال:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أمّا أنّ إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي

٢١٩

حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنّه من الاستعارة المصرّحة أو استعارة بالكناية أو أنّ قوله:( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) من قبيل التشبيه لذكر المشبّه صريحا بناء على كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) بيانيّة كما صرّحوا في قوله:( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) بقره ١٨٧ أنّه من التشبيه للتصريح بالمشبّه في متن الكلام فكلّ ذلك من الأبحاث الأدبيّة الفنّيّة الّتي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقّائق.

و ذكر بعضهم أنّ( مِنْ أَمْرِهِ ) بيان للروح، و( مِنْ ) للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدّم.

و فيه أنّه مدفوع بقوله تعالى:( قُلِ الرُّوحُ، مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنّ من الواضح أنّ الآيتين تسلكان مسلكاً واحداً، و ظاهر آية الإسراء أنّ( مِنْ ) فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أنّ الروح من سنخ الأمر و شأن من شؤونه و يقرب منها قوله تعالى:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ ربّهم مِنْ كلّ أَمْرٍ ) القدر: ٤.

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالروح هو جبريل و أيّده بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) ،: الشعراء: ١٩٤ فإنّ من المسلّم أنّ المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزّل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.

و فيه أنّ هذه الآية نظيرة قوله تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

و أردء الوجوه ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلّا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.

و قوله:( عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) أي إنّ بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقّف على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن يقهره تعالى

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409