الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91432 / تحميل: 6609
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فلا ينافي ذلك كون فعله ملازماً لحكم و مصالح و مختلفاً باختلاف الاستعدادات لا يقع إلّا عن استعداد في المحلّ و صلاحية للقبول فإنّ استعداد المستعدّ ليس إلّا كسؤال السائل، فكما أنّ سؤال السائل إنّما يقرّبه من جود المسؤل و عطائه من غير أن يجبره على الإعطاء و يقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعدّ لإفاضته تعالى و حرمان غير المستعدّ من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شي‏ء أو يمنعه عنه شي‏ء لكنّه لا يفعل شيئاً و لا يفيض رحمة إلّا عن استعداد فيما يفيض عليه و صلاحية منه.

و قد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال:( وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ ) الأنعام: ١٢٤ فإنّ الآية ظاهرة في أنّ الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة و أنّ الله سبحانه أعلم بالمورد الّذي يصلح لها و يستأهل لتلك الكرامة و هو غير هؤلاء المجرمين الماكرين و أمّا هم فليس لهم عندالله إلّا الصغار و العذاب لإجرامهم و مكرهم. هذا.

و من هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفي المرجّح في مورد الرسالة و محصّل ما ذكره أنّ الآية تعلّق الرسالة على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن تقيّدها بشي‏ء، فالرسول إنّما ينال الرسالة بمشيّة من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهّله لذلك و يرجّحه على غيره و وجه الفساد ظاهر ممّا تقدّم.

و نظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائيّة غير كسبيّة، و ذلك أنّه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل إلّا ما يشاء، و الاُمور العطائيّة و الكسبيّة في ذلك سواء، و لا شي‏ء يقع في الوجود إلّا بإذنه.

و قوله:( أَنْ أَنْذِرُوا أنّه لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) بيان لقوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي، و الإنذار

٢٢١

هو إخبار فيه تخويف، كما أنّ التبشير هو إخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو إعلام بالمحذور كما ذكره غيره، و التقدير على الأوّل أخبروهم مخوّفين بوحدانيّتي في الاُلوهيّة و وجوب تقواي، و على الثاني أعلموهم ذلك، على أن يكون( أَنَّهُ ) مفعولاً ثانياً لا منصوباً بنزع الخافض.

و قد علم بذلك أنّ قوله:( فَاتَّقُونِ ) متفرّع على قوله:( لا إِلهَ إلّا أَنَا ) و الجملتان جميعاً مفعول ثان أو في موضعه لقوله:( أَنْذِرُوا ) و يوضح ذلك أنّ لا إله و هو الّذي يبتدئ منه و ينتهي إليه كلّ شي‏ء أو المعبود بالحقّ من لوازم صفة اُلوهيّته أن يتّقيه الإنسان لتوقّف كلّ خير و سعادة إليه، فلو فرض أنّه واحد لا شريك له في اُلوهيّته كان لازمه أن يتّقى وحده لأنّ التقوى و هو إصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد و النظر، فعبادة الآلهة الكثيرين و الخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد بإله واحد لا شريك له الّذي هو القيّوم على كلّ شي‏ء و بيده زمام كلّ أمر و لذا لم يؤمر نبيّ أن يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلّا نُوحِي إِلَيْهِ أنّه لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥.

فالّذي اُمر الرسل بالإنذار به في الآية هو مجموع قوله:( أَنَّهُ لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) و هو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقّة في التوحيد و الأحكام العمليّة جميعاً في التقوى، و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم أنّ قوله:( فَاتَّقُونِ ) للمستعجلين من الكفّار المذكورين في الآية الاُولى أو لخصوص كفّار قريش من غير أن يكون داخلاً فيما اُمر به الرسل من الإنذار.

قوله تعالى: ( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تقدّم معنى خلق السماوات و الأرض بالحقّ، و لازم خلقها بالحقّ أن لا يكون للباطل فيها أثر، و لذلك عقّبه بتنزيهه عن الشركاء الّذين يدعونهم ليشفعوا لهم عندالله و يهدوهم إلى الخير و يقوهم الشرّ فإنّهم من الباطل الّذي لا أثر له.

و في الآية و الآيات التالية لها احتجاج على وحدانيّته تعالى في الاُلوهيّة و الربوبيّة من جهتي الخلق و التدبير جميعاً فإنّ الخلق و الإيجاد آية الاُلوهيّة و

٢٢٢

كون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبيّة لأنّ الشي‏ء لا يكون نعمة بالنسبة إلى آخر إلّا عن ارتباط بينهما و اتّصال من أحدهما بالآخر يؤدّي إلى نظام جامع بينهما و تدبير واحد يجمعهما، و وحدة التدبير آية وحدة المدبّر فكون ما في السماوات و الأرض من مخلوق نعما للإنسان يدلّ على أنّ الله سبحانه وحده ربّه و ربّ كلّ شي‏ء.

قوله تعالى: ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) المراد به الخلق الجاري في النوع الإنسانيّ و هو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم و عيسىعليهما‌السلام .

و الخصيم صفة مشبهة من الخصومة و هي الجدال، و الآية و إن أمكن أن تحمل على الامتنان حيث إنّ من عظيم المنّ أن يبدّل الله سبحانه بقدرته التامّة قطرة من ماء مهين إنساناً كامل الخلقة منطيقا متكلّما ينبئ عن كلّ ما جلّ و دقّ ببيانه البليغ لكن كثرة الآيات الّتي توبّخ الإنسان و تقرّعه على وقاحته في خصامه في ربّه كقوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) يس: ٧٨ ترجّح أن يكون المراد بذيل الآية بيان وقاحة الإنسان.

و يؤيّد ذلك أيضاً بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ ) الأنعام جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سمّيت بذلك لنعمة مسّها بخلاف الحافر الّذي يصلب كذا في المجمع، و في المفردات: الدف‏ء خلاف البرد. انتهى. و كأنّ المراد بالدف‏ء ما يحصل من جلودها و أصوافها و أوبارها من الحرارة للاتّقاء من البرد، أو المراد بالدف‏ء ما يدفؤء به.

و المراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف‏ء من أصوافها و أوبارها و جلودها و ألبانها و شحومها و غير ذلك، و قوله:( لَكُمْ ) يمكن أن يكون متعلّقا بقوله:( خَلَقَها ) و يكون قوله:( فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ ) حالا من ضمير( خَلَقَها ) و

٢٢٣

يمكن أن يكون( لَكُمْ ) ظرفا مستقرّاً متعلّقاً بالجملة الثانية أي في الأنعام دف‏ء كائنا لكم.

قوله تعالى: ( وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ) الجمال الزينة و حسن المنظر، قال في المجمع: الإراحة ردّ الماشية بالعشيّ من مراعيها إلى منازلها و المكان الّذي تراح فيه مراح، و السروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال: سرحت الماشية سرحا و سروحا و سرحها أهلها. انتهى.

يقول تعالى: و لكم في الأنعام منظر حسن حين تردّونها بالعشي إلى منازلها و حين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.

قوله تعالى: ( وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) الأثقال جمع ثقل و هو المتاع الّذي يثقل حمله و المراد بقوله:( بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) مشقّة تتحمّلها الأنفس في قطع المسافات البعيدة و المسالك الصعبة.

و المراد أنّ الأنعام كالإبل و بعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسّر لكم بلوغها إلّا بمشقّة تتحمّلها أنفسكم فرفع عنكم المشاقّ بخلقها و تسخيرها لكم إنّ ربّكم رؤف رحيم.

قوله تعالى: ( وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) معطوف على الأنعام فيما مرّ أي و الخيل و البغال و الحمير خلقها لكم لتركبوها، و زينةً أي إنّ في خلقها ارتباطاً بمنافعكم و ذلك أنّكم تركبونها و تتّخذونها زينة و جمالاً، و قوله:( وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان و غيره، و سخّرها لكم لتنتفعوا بها، و الدليل على ما قدّرناه هو السياق.

قوله تعالى: ( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) القصد - على ما ذكره الراغب و غيره - استقامة الطريق و هو كونه قيّما على سالكيه أوصلهم إلى الغاية، و الظاهر أنّ المصدر بمعنى الفاعل و الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها و المراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله:( و منها جائر) أي و من السبيل ما

٢٢٤

هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها و يضلّهم عنها.

و المراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة و الفلاح و إذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الّذي أوجب على نفسه أن يجعل لهم طريقاً هذا نعته ثمّ يهديهم إليه أمّا الجعل فهو ما جهّز الله كلّ موجود و منها الإنسان من القوى و الأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدّته إلى سعادته و كماله المطلوب قال تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠ و قال في الإنسان خاصّة:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) الروم: ٣٠.

و أمّا الهداية فهي الّتي فعلها من ناحية الفطرة و ثنّاها بما من طريق بعث الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨ و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الدهر: ٣.

و إنّما أدرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات الّتي سياقها عدّ النعم العلويّة و السفليّة من السماء و الأرض و الأنعام و الخيل و البغال و الحمير و الماء النازل من السماء و الزرع و نظائرها لما أنّ الكلام انجرّ في آيتي الأنعام و الخيل إلى معنى قطع الطرق و ركوب المراكب فناسب أن يذكر ما أنعم به من الطريق المعنويّ الموصل للإنسان إلى غايته الحقيقيّة يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادّة و نشأة الصورة.

فذكر سبحانه أنّ من نعمه الّتي منّ بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم و هداهم إليه.

و قد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأنّ سبيل الضلال ليس سبيلاً مجعولاً له و في عرض سبيل الهدى و إنّما هو الخروج عن السبيل و عدم التلبّس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة و إنّما هو عدم السبيل.

و كيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى و ترك نسبة السبيل

٢٢٥

الجائر المؤدّي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى.

و إذ كان من الممكن أن يتوهّم أنّ لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفوراً في نعمته مغلوباً في تدبيره و ربوبيّته حيث جعل السبيل و لم يسلكه الأكثرون و هدى إليه و لم يهتد به المدعوّون دفعه بقوله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي إنّ عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلّفين و ظهورهم عليه بل لأنّه تعالى لم يشأ ذلك و لو شاء لم يسعهم إلّا أن يهتدوا جميعاً فهو القاهر الغالب على كلّ حال.

و بعبارة اُخرى السبيل القاصد الّذي جعله الله تعالى هو السبيل المبنيّ على اختيار الإنسان يقطعه بإتيان الأعمال الصالحة و اجتناب المعاصي عن اختيار منه، و ما هذا شأنه لم يكن ممّا يجبر عليه و لا عامّاً للجميع فإنّ الطبائع متنوّعة و التراكيب مختلفة و لا محالة تتنوّع آثارها، و يختلف الأفراد بالإيمان و الكفر و التقوى و الفجور و الطاعة و المعصية.

و الآية ممّا تشاجرت فيها الأشاعرة و المعتزلة من فرق المسلمين فاستدلّت المعتزلة بأنّ تغيير الاُسلوب بجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز إضافته إليه تعالى و ما لا يجوز كما ذكره في الكشّاف.

و تكلّفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بأنّ السبيلين جميعاً منه تعالى و إنّما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدّباً، و من مجيب بأنّ المراد بقوله:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أنّ عليه تعالى بيان السبيل الحقّ فضلاً و كرماً منه دون بيان السبيل الجائر و أمّا أصل الجعل فهما جميعاً مجعولان له تعالى، و من منكر أن يكون تغيير الاُسلوب في الآية لأمر مطلوب.

و الحقّ أنّ دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافاً إليه تعالى دون السبيل الجائر ممّا لا ريب فيه لكنّ ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقاً لغيره تعالى لما تقدّم أنّ سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أنّ الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتّى ينسب خلقه و إيجاده إليه تعالى

٢٢٦

و إنّما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضالّ أي عدم إيجاده الهدى في نفسه.

و مع ذلك فالّذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله:( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فاطر: ٨ و قوله:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) البقرة: ٢٦ هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائيّ، كما يفسره قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ فإذا فسق الإنسان و خرج بسوء اختياره عن زيّ العبوديّة بأن عصى و لم يرجع و هو ضلاله الابتدائيّ من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته على حاله و لم يقض عليه الهدى.

و أمّا الضلال الابتدائي من الإنسان فإنّما هو انكفاف و قصور عن الطاعة و قد هداه الله من طريق الفطرة و دعوة النبوّة.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) شروع في نوع آخر من النعم و هي النعم النباتيّة الّتي يقتات بها الإنسان و غيره و ما سخّر له لتدبير أمرها كالليل و النهار و الشمس و القمر و ما يحذو حذوها، و لذلك غيّر السياق فقال:( هُوَ الَّذِي ) إلخ، و لم يقل: و أنزل من السماء.

و قوله:( تُسِيمُونَ ) من الإسامة و هي رعي المواشي و منه السائمة للماشية الراعية و( مِنَ ) الاُولى تبعيضيّة و الثانية نشؤيّة و الشجر من النبات ما له ساق و ورق و ربّما توسّع فاُطلق على ذي الساق و غيره جميعاً، و منه الشجر المذكور في الآية لمكان قوله:( فِيهِ تُسِيمُونَ ) و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) إلخ، الزيتون شجر معروف و يطلق على ثمره أيضاً يقال: إنّه اسم جنس جمعيّ واحده زيتونة، و كذا النخيل، و يطلق على الواحد و الجمع، و الأعناب جمع عنبة و هي ثمرة شجرة الكرم و يطلق على نفس الشجرة كما في الآية، و السياق يفيد أنّ قوله:( وَ مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) تقديره و من كلّ الثمرات أنبت أشجارها. و لعلّ التصريح بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها و عطف الباقي عليها لكونها ممّا يقتات بها غالبا.

٢٢٧

و لما كان في هذا التدبير العامّ الوسيع الّذي يجمع شمل الإنسان و الحيوان في الارتزاق به حجّة على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) إلى آخر الآية قد تكرّر الكلام في معنى تسخير الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم، و لكون كلّ من المذكورات و كذا مجموع الليل و النهار و مجموع الشمس و القمر و النجوم ذا خواصّ و آثار في نفسه من شأنه أن يستقلّ بإثبات وحدانيّته في ربوبيّته تعالى ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين السابقة و اللاحقة.

قوله تعالى: ( وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) الذرء الخلق، و اختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مرّ كما يختلف ألوان المعادن و سائر المركّبات العنصريّة الّتي ينتفع بها الإنسان في معاشه و لا يبعد أن يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعيّ بينها فتقرب الآية مضموناً من قوله تعالى:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) الرعد: ٤ و قد تقدّم تقريب الاستدلال به.

و اختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كإنبات الشجر و الثمر أمر واحد يستدلّ به على وحدانيّته في الربوبيّة و لذا قال:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) و لم يقل: لآيات.

و هذه حجج ثلاث نسب الاُولى إلى الّذين يتفكّرون، و الثانية إلى الّذين يعقلون، و الثالثة إلى الّذين يتذكّرون، و ذلك أنّ الحجّة الاُولى مؤلّفة من مقدّمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكّر، و الثانية مؤلّفة من مقدّمات علميّة لا يتيسّر فهمها إلّا لمن غار في أوضاع الأجرام العلويّة و السفليّة و عقل آثار حركاتها و انتقالاتها، و الثالثة مؤلّفة من مقدّمات كلّيّة فلسفيّة إنّما ينالها الإنسان

٢٢٨

بتذكّر ما للوجود من الأحكام العامّة الكلّيّة كاحتياج هذه النشأة المتغيّرة إلى المادّة و كون المادّة العامّة واحدة متشابهة الأمر، و وجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقيّة إلى أمر آخر وراء المادّة الواحدة المتشابهة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) إلخ و هذا فصل آخر من النعم الإلهيّة و هو نعم البحر و الجبال و الأنهار و السبل و العلامات و كان ما تقدّمه من الفصل مشتملاً على نعم البرّ و السهل من الأشجار و الأثمار و نحوها، و لذلك قال:( وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ ) و لم يقل: و سخّر إلخ.

و الطريّ فعيل من الطراوة و هو الغضّ الجديد من الشي‏ء على ما ذكره في المفردات، و المخر شقّ الماء عن يمين و شمال، يقال: مخرت السفينة تمخر مخراً فهي ماخرة و مخر الأرض أيضاً شقّها للزراعة. على ما في المجمع و المراد بأكل اللحم الطريّ من البحر هو أكل لحوم الحيتان المصطادة منه، و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من أمثال اللؤلؤ و المرجان الّتي تتحلّى و تتزيّن بها النساء.

و قوله:( وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ) أي تشاهد السفائن تشقّ ماءه عن اليمين و الشمال، و لعلّ قوله:( وَ تَرَى ) من الخطابات العامّة الّتي لا يقصد بها مخاطب خاصّ و كثيراً ما يستعمل كذلك و معناه يراه كلّ راء و يشاهده كلّ من له أن يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.

و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي و لتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر و إرسال السفائن فيه و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير و ترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا و كذا و لتبتغوا من فضله، و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي و من الغايات في تسخير البحر و إجراء الفلك فيه شكركم له المرجوّ منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم

٢٢٩

عليكم في البرّ عن أن تتصرّفوا في البحر بالغوص و إجراء السفن و غير ذلك لكنّه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلّكم تشكرونه على هذا الزائد فإنّ الإنسان قليلاً ما يتنبّه في الضروريّات أنّها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه و لو شاء لقطعها و أمّا الزوائد النافعة فهي أقرب من هذا التنبّه و الانتقال.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقى‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) قال في المجمع: الميد الميل يميناً و شمالاً و هو الاضطراب ماد يميد ميدا. انتهى.

و قوله:( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) أي كراهة أن تميد بكم أو أن لا تميد بكم و المراد أنّه طرح على الأرض جبالاً ثوابت لئلّا تضطرب و تميل يميناً و شمالاً فيختلّ بذلك نظام معاشكم.

و قوله:( وَ أَنْهاراً ) أي و جعل فيها أنهاراً تجري بمائها و تسوقه إلى مزارعكم و بساتينكم و تسقيكم و ما عندكم من الحيوان الأهليّ.

و قوله:( وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) معطوف على قوله:( وَ أَنْهاراً ) أي و جعل سبلا لغاية الاهتداء المرجوّ منكم، و السبل منها ما هي طبيعيّة و هي المسافات الواقعة بين بقعتين من الأرض الواصلة إحداهما بالاُخرى من غير أن يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين، و منها ما هي صناعيّة و هي الّتي تتكوّن بعبور المارّة و آثار الأقدام أو يعملها الإنسان.

و الظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين، و لا ضير في نسبة ما جعله الإنسان إلى جعله تعالى كما نسب الأنهار و العلامات إلى جعله تعالى و أكثرها من صنع الإنسان و كما نسب ما عمله الإنسان من الأصنام و غيرها إلى خلقه تعالى في قوله:( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ ) الصافّات: ٩٦.

و ذلك أنّها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى و جعل الشي‏ء ذي الأثر جعل لأثره بوجه و إن لم يكن جعلاً مستقيماً من غير واسطة.

قوله تعالى: ( وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) العلامات جمع علامة و هي ما

٢٣٠

يعلم به الشي‏ء، و هو معطوف على قوله:( أَنْهاراً ) أي و جعل علامات تستدلّون بها على الأشياء الغائبة عن الحسّ و هي كلّ آية و أمارة طبيعيّة أو وضعيّة تدلّ على مدلولها و منها الشواخص و النصب و اللغات و الإشارات و الخطوط و غيرها.

ثمّ ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال:( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) و لعلّ الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرّز عن تكرار( تَهْتَدُونَ ) بصيغة الخطاب في آخر الآيتين.

و الآية السابقة:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) المتضمّنة لمسألة الهداية المعنويّة الّتي هي كالمعترضة بين الآيات العادّة للنعم الصوريّة و إن كان الأنسب ظاهراً أن يوضع بعد هذه الآية أعني قوله:( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) المتعرّضة هي و ما قبلها للهداية الصوريّة غير أنّ ذلك لم يكن خاليا من اللبس و إيهام التناقض بخلاف موقعها الّذي هي واقعة فيه و إن كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ - إلى قوله -إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) الآيات تقرير إجماليّ للحجّة المذكورة تفصيلاً في ضمن الآيات الستّ عشرة الماضية و استنتاج للتوحيد و هي حجّة واحدة اُقيمت لتوحيد الربوبيّة، و ملخّصها أنّ الله سبحانه خالق كلّ شي‏ء فهو الّذي أنعم بهذه النعم الّتي لا يحيط بها الإحصاء الّتي ينتظم بها نظام الكون، و هو تعالى عالم بسرّها و علنها فهو الّذي يملك الكلّ و يدبّر الأمر فهو ربّها، و ليس شي‏ء ممّا يدعونه على شي‏ء من هذه الصفات فليست أرباباً فالإله واحد لا غير و هو الله عزّ اسمه.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ الآيات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة و طريق النعمة، بيان الفساد أنّ طريق الخلقة وحدها إنّما تثبت الصانع و وحدانيّته في الخلق و الإيجاد، و الوثنيّون - و إليهم وجه الكلام في الآيات - لا ينكرون وجود الصانع و لا أنّ الله سبحانه خالق الكلّ حتّى أوثانهم و أن أوثانهم ليسوا بخالقين لشي‏ء و إنّما يدّعون لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم و الشفاعة عند الله فلا يفيد إثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئاً.

٢٣١

و إنّما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النعمة إذ من البيّن أنّه إذا كان الله سبحانه خالقاً لكلّ شي‏ء موجوداً له كانت آثار وجودات الأشياء و هي النعم الّتي يتنعّم بها له سبحانه كما أنّ وجوداتها له ملكاً طلقاً لا يقبل بطلاناً و لا نقلاً و لا تبديلاً فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شي‏ء حتّى الّذي نفس النعمة من آثار وجوده فإنّه و ما له من أثر هو لله وحده.

و لذلك ضمّ إلى حديث الخلق و الإنعام قوله تعالى:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) لأنّ مجرّد استناد الخلق و الإنعام إلى شي‏ء لا يستلزم ربوبيّته و لا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم إليهما ليتمّ بذلك أنّه مدبّر يهدي كلّ شي‏ء إلى كماله المطلوب له و سعادته المكتوبة في صحيفة عمله، و من المعلوم أنّ العبادة إنّما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوماً بسمة العلم عالماً بعبادة من يعبده شاهداً لخضوعه.

فمجموع ما تتضمّنه الآيات من حديث الخلق و النعمة و العلم مقدّمات لحجّة واحدة اُقيمت على توحيد الربوبيّة الّذي ينكره الوثنيّة كما عرفت.

فقوله:( أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه و نفي للمساواة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن لا يخلق آلهتهم الّذين يدعونهم من دون الله.

و بيانه - كما ظهر ممّا تقدّم - أنّ الله سبحانه يخلق الأشياء و يستمرّ في خلقها فلا يستوي هو و من لا يخلق شيئاً فإنّه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها و آثار وجوداتها الّتي هي الأنظمة الخاصّة بها و النظام العامّ الجاري عليها.

و قوله:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) إلخ، إشارة إلى كثرة النعم الإلهيّة كثرة خارجة عن حيطة الإحصاء، و بالحقّيقة ما من شي‏ء إلّا و هو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلّيّ و إن كان ربّما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.

و قد علّل سبحانه ذلك بقوله:( إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) و هو من ألطف التعليل و أدقّه فأفاد سبحانه أنّ خروج النعمة عن حدّ الإحصاء إنّما هو من بركات اتّصافه تعالى بصفتي المغفرة و الرحمة فإنّه بمغفرته - و المغفرة هي الستر - يستر ما في الأشياء

٢٣٢

من وبال النقص و شوهة القصور، و برحمته - و الرحمة إتمام النقص و رفع الحاجة - يظهر فيها الخير و الكمال و يحلّيها بالجمال فببسط المغفرة و الرحمة على الأشياء يكون كلّ شي‏ء نافعاً في غيره خيراً مطلوباً عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالأشياء بعضها نعمة لبعض فللنعمة الإلهيّة من السعة و العرض ما لمغفرته و رحمته من ذلك: فإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، فافهم ذلك.

و الآية من الموارد الّتي استعملت فيها المغفرة في غير الذنب و المعصية للأمر المولويّ هو المعروف عند المتشرّعة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) إشارة إلى الركن الثالث من أركان الربوبيّة و هو العلم فإنّ الإله لو كان غير متّصف بالعلم استوت العبادة و اللّاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغواً لا أثر لها.

فمن الواجب في الربّ المعبود أن يكون له علم و لا كلّ علم، كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده و باطنه فإنّ العبادة متقوّمة بالنيّة فهي إنّما تقع عبادة حقيقة إذا اُتي بها عن نيّة صالحة و هو ممّا يرجع إلى الضمير فلا يتمّ العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها إلّا بعد إحاطة المعبود بظاهر من يعبده و باطنه لكنّ الله سبحانه عليم بما يسرّه الإنسان و ما يعلنه كما أنّه خالق منعم و يستحقّ بذلك أن يعبد.

و من هنا يظهر وجه اختيار ما في الآية من التعبير لبيان علمه فلم يعبّر بمثل قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) و قوله:( وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) بل قال:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) فذكر العلم بالإسرار و الإعلان، و أضافه إلى الإنسان لأنّ الكلام في عبادة الإنسان لربّه، و الواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح و القلب جميعاً أن يكون عالماً بما يسرّه الإنسان و ما يعلنه من النيّة القلبيّة و الأحوال و الحركات البدنيّة.

و قوله:( وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شيئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إشارة إلى فقدان الركن الأوّل من أركان الربوبيّة في آلهتهم الّذين يدعون من دون الله

٢٣٣

و يتفرّع عليه الركن الثاني و هو إيتاء النعمة، فليس الّذين يدعونهم آلهة و أربابا و الله الربّ.

و قوله:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) إشارة إلى فقدان الركن الثالث من أركان الربوبيّة في أصنامهم و هو العلم بما يسرّون و ما يعلنون و قد بالغ في نفي ذلك فنفى أصل الحياة المستلزم لنفي مطلق العلم فضلاً عن نوعه الكامل الّذي هو العلم بما يسرّون و ما يعلنون فقال:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) فأثبت الموت أوّلاً و هو لا يجامع الشعور ثمّ أكّده بنفي الحياة ثانياً.

و خصّ من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبّادهم من الناس فقال:( وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) أي ما يدري الأصنام أيّان يبعث عبادهم فإنّ العبادة هي الّتي يجزى بها الإنسان يوم البعث فمن الواجب في الإله المعبود أن يعلم متى يوم البعث حتّى يجزي عبّاده فيه عن عبادتهم، و هؤلاء لا يدرون شيئاً من ذلك.

و من هنا يظهر أنّ أوّل ضميري الجمع( يَشْعُرُونَ ) للأصنام و الثاني( يُبْعَثُونَ ) للمشركين، و أمّا إرجاعهما كليهما إلى الأصنام فغير مرضيّ لأنّ العلم بالبعث مختصّ به سبحانه محجوب عن غيره و لا يختصّ الجهل به بالأصنام، و أردأ منه قول بعضهم: إنّ ضميري الجمع معاً في الآية عائدان إلى المشركين. هذا.

و الآيات و إن كانت مسوقة بظاهرها لنفي ربوبيّة الأصنام لكنّ البيان بعينه بأدنى دقّة جار في أرباب الأصنام كالملائكة المقرّبين و الجنّ و الكمّلين من البشر و الكواكب من كلّ ما يعبده الوثنيّون فإنّ صفات الخلق و الإنعام و العلم لا تقوم بالأصالة و الاستقلال إلّا بالله سبحانه، و لا ربوبيّة حقيقة إلّا بالأصالة و الاستقلال، فافهم.

و في الآيتين أعني قوله:( وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ - إلى قوله -يُبْعَثُونَ ) التفات من الخطاب إلى الغيبة، و لعلّ النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما و المشركون لا يقولون به فحوّل الخطاب منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتوسّل بذلك إليه من غير اعتراض.

٢٣٤

و قوله:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) بيان لنتيجة الحجّة الّتي اُقيمت في الآيات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقّف عليه الاُلوهيّة و هي المعبوديّة بالحقّ، و غيره تعالى ممّن يدعون من دونه غير واجد لشي‏ء ممّا تتوقّف عليه و هو الخلق و الإنعام و العلم فإلهكم الّذي يحقّ له أن يعبد واحد و لازم معناه أنّه الله عزّ اسمه.

( بحث روائي)

في المجمع، أربعون آية من أوّلها مكّيّة و الباقي من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) إلى آخر السورة مدنيّة، عن الحسن و قتادة، و قيل: مكّيّة كلّها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اُحد:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكّة و المدينة عن ابن عبّاس و عطاء و الشعبيّ، و في إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكّيّ و بعضها مدنيّ فالمكّيّ من أوّلها إلى قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ، و المدنيّ قوله:( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلًا - إلى قوله -بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

أقول: و قد قدّمنا أنّ الّذي يعطيه السياق خلاف ذلك كلّه فراجع.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال: إذا أخبر الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشي‏ء إلى وقت فهو قوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) حتّى يأتي ذلك الوقت و قال: إنّ الله إذا أخبر أنّ شيئاً كائن فكأنّه قد كان.

أقول: كأنّه إشارة إلى أنّ التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) ذعر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نزل( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فسكنوا.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت هذه الآية:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إنّ هذا يزعم أنّ أمر الله قد أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى تنظروا ما هو كائن فلمّا

٢٣٥

رأوا أنّه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل.

فنزلت:( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ) الآية فقالوا: إنّ هذا يزعم مثلها أيضاً فلمّا رأوا أنّه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل شي‏ء فنزل:( وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) الآية.

أقول: و الرواية تدلّ على أنّ المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتّى تملأ السماء ثمّ ينادي مناد: يا أيّها الناس! فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم و منهم من يشكّ ثمّ ينادي الثانية: يا أيّها الناس فيقول الناس: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم ثمّ ينادي: أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فوالّذي نفسي بيده إنّ الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه و إنّ الرجل ليملؤ حوضه فما يسقي فيه شيئاً، و إنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه و يشغل الناس.

أقول: و قد رام بعضهم أن يستفيد من هذه الروايات الثلاث - و في معناها بعض روايات اُخر - أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و لا دلالة فيها على ذلك.

أمّا الرواية الاُولى فلا يدلّ ذعرهم أنّهم فهموا منها ذلك فإنّ أمر الله أيّا ما كان ممّا يهيب عباده على أنّه لا حجّة في فهمهم و ليس الشبهة مفهوميّة حتّى يرجع إليهم بما هم أهل اللسان.

على أنّ الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ الله سبحانه يعدّ الاستعجال بالقيامة من صفات الكفّار و يذمّهم عليه و يبرّئ المؤمنين منه قال:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ) الشورى: ١٨ و قد مرّت الإشارة إليه في البيان المتقدّم هذا إذا كان الخطاب في قوله:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) للمؤمنين، و أمّا إذا كان المخاطب به المشركين و هم

٢٣٦

كانوا يستعجلونه، فمعنى النهي عن استعجالهم هو حلول الأجل و قرب الوقوع لا الإمهال و الإنظار، و لا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) .

و أمّا الرواية الثانية فظاهرها أنّهم فهموا منها العذاب الدنيويّ دون الساعة فهي تؤيّد ما قدّمناه في البيان لا ما ذكروه.

و أمّا الرواية الثالثة فأقصى ما تدلّ عليه أنّ قيام الساعة من مصاديق إتيان أمر الله و لا ريب في ذلك و هو غير كون المراد بالأمر في الآية هو الساعة.

و في كتاب الغيبة، للنعمانيّ بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال: هو أمرنا أمر الله عزّوجلّ فلا يستعجل به يؤيّده بثلاثة أجناد: الملائكة و المؤمنون و الركب، و خروجه كخروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ذلك قوله:( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحقّ ) .

أقول: و رواه المفيد في كتاب الغيبة، عن عبد الرحمن عنهعليه‌السلام ‏، و مراده ظهور المهديّعليه‌السلام كما صرّح به في روايات اُخر و هو من جري القرآن أو بطنه.

و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف قال: أتى رجل أميرالمؤمنينعليه‌السلام يسأله عن الروح أ ليس هو جبرئيل؟ فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام : جبرئيل من الملائكة و الروح غير جبرئيل، فكبر ذلك على الرجل فقال له: لقد قلت عظيما من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل. فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول الله لنبيّه:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) و الروح غير الملائكة.

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه، و في روايات اُخر: أنّه خلق أعظم من جبرئيل.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) قالعليه‌السلام : خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيماً متكلّماً بليغاً.

و فيه، في قوله تعالى:( حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ) قالعليه‌السلام : حين ترجع من المرعى و حين تخرج إلى المرعى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أحدهماعليهما‌السلام قال: سألته عن أبوال الخيل

٢٣٧

و البغال و الحمير قال: نكرهها، قلت: أ ليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أ ليس قد بيّن الله لكم:( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ ) و قال في الخيل و البغال و الحمير:( لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً ) فجعل الأكل من الأنعام الّتي قصّ الله في الكتاب، و جعل للركوب الخيل و البغال و الحمير و ليس لحومها بحرام و لكنّ الناس عافوها.

أقول: و الروايات في الخيل و البغال و الحمير مختلفة و مذهب أهل البيتعليهم‌السلام حلّيّة أكل لحومها على كراهية.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) قال: قالعليه‌السلام : العجائب الّتي خلقها الله في البرّ و البحر.

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ ) أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنّه كان يقرأ هذه الآية:( فمنكم جائر) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: هو الجدي لأنّه نجم لا يدور عليه بناء القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر.

أقول: و هو مرويّ عن الصادقعليه‌السلام أيضا.

و في الكافي، بإسناده عن داود الجصّاص قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول:( وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: النجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و العلامات الأئمّةعليهم‌السلام .

أقول: و رواه أيضاً بطريقين آخرين عنه و عن الرضاعليهما‌السلام و رواه العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما، و الشيخ في أماليه، عن الصادقعليه‌السلام .

و ليس بتفسير و إنّما هو من البطن و من الدليل عليه‏ ما رواه الطبرسيّ في المجمع، قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحن العلامات و النجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقد قال: إنّ الله جعل النجوم أماناً لأهل السماء و جعل أهل بيتي أماناً لأهل الأرض.

٢٣٨

( سورة النحل الآيات ٢٢ - ٤٠)

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( ٢٢ ) لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ( ٢٣ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ  قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٢٤ ) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( ٢٥ ) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ  قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٢٧ ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ  فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ  بَلَىٰ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٨ ) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا  فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( ٢٩ ) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ  قَالُوا خَيْرًا  لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ  وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ  وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ( ٣٠ ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ  كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ ( ٣١ ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ  يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٣٢ ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ

٢٣٩

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ  كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( ٣٤) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ  كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( ٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ  فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ  فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( ٣٦) إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ  وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ( ٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ  لَا يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ  بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( ٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ( ٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( ٤٠)

( بيان)

هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة، و قد كان الشطر الأوّل يتضمّن توحيد الربوبيّة و إقامة الحجّة على المشركين في ذلك بعد ما أنذرهم بإتيان الأمر و نزّه الله سبحانه عن شركهم.

و هذا الشطر الثاني يتضمّن ما يناسب المقام ذكره من مساوي صفات المشركين المتفرّعة على إنكارهم التوحيد و أباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله و استهزائهم

٢٤٠

بآياته و إنكارهم الحشر، و بيان بطلانها و إظهار فسادها، و تهديدهم بإتيان الأمر و حلول العذاب الدنيويّ، و الإيعاد بعذاب يوم الموت و يوم القيامة و حقائق اُخر ستنكشف بالبحث.

قوله تعالى: ( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) قد تقدّم الكلام في قوله:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و أنّه نتيجة الحجّة الّتي اُقيمت في الآيات السابقة.

و قوله:( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) إلخ تفريع عليه، و افتتاح لفصل جديد من الكلام حول أعمال الكفّار من أقوالهم و أعمالهم الناشئة عن عدم إيمانهم بالله سبحانه و إنّما ذكر عدم إيمانهم بالآخرة و لم يذكر عدم إيمانهم بالله وحده لأنّ الّذي اُقيمت عليه الحجّة هو التوحيد الكامل و هو وجوب الاعتقاد بإله عليم قدير خلق كلّ شي‏ء و أتمّ النعمة لا لغواً باطلاً بل بالحقّ ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا و يجازيهم بما اكتسبوا ممّا عهده إليهم من الأمر و النهي بواسطة الرسل.

فالتوحيد المندوب إليه في الآيات الماضية هو القول بوحدانيّته تعالى و الإيمان بما أتى به رسل الله و الإيمان بيوم الحساب و الجزاء، و لذلك وصف الكفّار بعدم الإيمان بالآخرة لأنّ الإيمان بها يستلزم الإيمان بالوحدانيّة و الرسالة.

و لك أن تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في أوّل الآيات:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أنّه لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فإنّه كلام جامع للاُصول الثلاثة.

و قوله:( قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) أي للحقّ و قوله:( وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) أي عن الحقّ، و الاستكبار - على ما ذكروه - طلب الترفّع بترك الإذعان للحقّ.

و المعنى: إلهكم واحد على ما تدلّ عليه الآيات الواضحة في دلالتها، و إذا كان الأمر على هذا الوضوح و الجلاء لا يستتر بستر و لا يرتاب فيه فهم فالّذين

٢٤١

لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة للحقّ جاحدة له عناداً و هم مستكبرون عن الانقياد للحقّ من غير حجّة و لا برهان.

قوله تعالى: ( لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ( لا جَرَمَ ) كلمة مركّبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل و سيبويه و إليه يرجع ما ذكره غيرهما و إن اختلفوا في أصل تركّبه قال الخليل: و هو كلمة تحقيق و لا يكون إلّا جواباً يقال فعلوا كذا فيقول السامع: لا جرم يندمون.

و المعنى من المحقّق - أو حقّ - إنّ الله يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ، و هو كناية و تهديد بالجزاء السيّئ أي إنّه يعلم ما يخفونه من أعمالهم و ما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا و يؤاخذهم على ما أنكروا و استكبروا إنّه لا يحبّ المستكبرين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب في المفردات: السطر و السطر - بفتح فسكون أو بفتحتين - السطر من الكتابة و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف - إلى أن قال - و جمع السطر أسطر و سطور و أسطار.

قال: و أمّا قوله:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) فقد قال المبرّد: هي جمع اُسطورة نحو اُرجوحة و أراجيح و اُثفيّة و أثافيّ و اُحدوثة و أحاديث، و قوله تعالى:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) أي شي‏ء كتبوه كذباً و ميناً فيما زعموا نحو قوله تعالى:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) انتهى و قال غيره: أساطير جمع أسطار و أسطار جمع سطر فهو جمع الجمع.

و قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) يمكن أن يكون القائل بعض المؤمنين و إنّما قاله اختباراً لحالهم و استفهاما لما يرونه في الدعوة النبويّة، و يمكن أن يكون من المشركين و إنّما قاله لهم ليقلّدهم فيما يرونه، و عبّر عن القرآن بمثل قوله:( ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) لنوع من التهكّم و الاستهزاء، و يمكن أن يكون شاكاً متحيّراً باحثاً، و الآية التالية و كذا قوله فيما سيأتي:( وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا

٢٤٢

ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) يؤيّد أحد الوجهين الأخيرين.

و قوله:( قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) أي الّذي يسأل عنه أكاذيب خرافيّة كتبها الأوّلون و أثبتوها و تركوها لمن خلفهم، و لازم هذا القول دعوى أنّه ليس نازلاً من عند الله سبحانه.

قوله تعالى: ( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) إلى آخر الآية. قال في المفردات: الوزر - بفتحتين - الملجأ الّذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:( كَلَّا لا وَزَرَ إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و الوزر - بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل، قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ) الآية كقوله:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ) .

قال: و حمل وزر الغير بالحقّيقة هو على نحو ما أشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شي‏ء، و من سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها و وزر من عمل بها) أي مثل وزر من عمل بها، و قوله:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخرى) أي لا تحمل وزره من حيث يتعرّى المحمول عنه، انتهى.

و الّذي ذكره من الحديث النبويّ مرويّ من طرق الخاصّة و العامّة جميعاً و يصدّقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ كلّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور: ٢١ و قوله:( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) يس: ١٢ و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و أمّا قوله في تفسير قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كان له وزرها و وزر من عمل بها) : أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهريّ لا بأس بأن يوجّه به الآية و الرواية لرفع التناقض بينهما و بين مثل قوله تعالى:( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اُخرى‏ ) الأنعام: ١٦٤ و قوله:( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ) هود: ١١١ إذ لو حمل الآمر وزر السيّئة و عذّب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الآية الاُولى، و لو قسّم بينهما و حمل كلّ منهما بعض

٢٤٣

الوزر و عذّب ببعض العذاب ناقض الآية الثانية، و أمّا لو حمل السانّ و الآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئاً.

و أمّا بحسب الحقّيقة فكما أنّ العمل عمل واحد حسنة أو سيّئة كذلك وزره و عذابه مثلاً واحد لا تعدّد فيه، غير أنّ نفس العمل لما كان قائماً بأكثر من واحد - قيامه بالآمر و الفاعل قياماً طوليّاً لا عرضيّاً يوجب المحذور - كانت تبعته من الوزر و العذاب قائمة بأكثر من واحد، فهناك وزر واحد يزرها اثنان، و عذاب واحد يعذّب به الآمر و الفاعل جميعاً.

و يسهل تصوّر ذلك بالتأمّل في مضمون الآيات المبنيّة على تجسّم الأعمال فإنّ العمل كالسيّئة مثلاً على تقدير التجسّم واحد شخصيّ يتمثّل لاثنين و يعذّب بتمثّله إنسانيّن الآمر و الفاعل أو السانّ و المستنّ فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوّره اثنان فيلتذّان أو يتألّمان معا به و ليس إلّا واحداً.

و قد تقدّم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الآية في الجزء التاسع من الكتاب، و سيأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.

و كيف كان فقوله:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) اللام للغاية و هي متعلّقة بقوله:( قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) و في قوله:( يُضِلُّونَهُمْ ) دلالة على أنّ حملهم لأوزار غيرهم إنّما هو من جهة إضلالهم فيعود الإضلال غاية و الحمل غاية الغاية، و التقدير قالوا أساطير الأوّلين ليضلّوهم و هم أنفسهم ضالّون فيحملوا أوزار أنفسهم كاملة و من أوزار اُولئك الّذين يضلّونهم بغير علم.

و في تقييد قوله:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ ) بقوله( كامِلَةً ) دفع لتوهّم التقسيم و التبعيض بأن يحملوا بعضا من أوزار أنفسهم و بعضا من أوزار الّذين يضلّونهم فيعود الجميع أوزاراً كاملة بل يحملون أوزار أنفسهم كاملة ثمّ من أوزار الّذين يضلّونهم.

و قوله:( وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) من تبعيضيّة لأنّهم لا يحملون جميع

٢٤٤

أوزارهم بل أوزارهم الّتي ترتّبت على إضلالهم خاصّة بشهادة السياق فالتبعيض إنّما هو لتمييز الأوزار المترتّبة على الإضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كلّ وزر من أوزار الإضلال و حمل بعضه على هذا و بعضه على ذاك و لا تقسيم مجموع أوزار الإضلال و حمل قسم منه على هذا و قسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الآخر فإنّ أمثال قوله تعالى:( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨ تنافي ذلك فافهم.

و ممّا تقدّم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أنّ مقتضاه أنّه لم ينقص منها شي‏ء و لم تكفّر بنحو بليّة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفّر بذلك أوزار المؤمنين.

و كذا ما استفاده بعض آخر أنّ في الآية دلالة على أنّه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً للكلّ لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفّار به فائدة.

وجه الوهن أنّ ما ذكراه من خزي الكافرين و إكرام المؤمنين و إن كان حقّاً في نفسه كما تدلّ عليه الآيات الدالّة على خزي الكفّار بما يصيبهم في الدنيا و حبط أعمالهم و شمول المغفرة و الشفاعة لطائفة من المؤمنين، لكنّ هذه الآية ليست ناظرة إلى شي‏ء من ذلك بل العناية فيها إنّما هي بالفرق بين أوزار أنفسهم و أوزار غيرهم الّذين أضلّوهم و أنّ الطائفة الثانية يلحقهم بعضها و هي الّتي ترتّبت من الأوزار على الإضلال بخلاف

الطائفة الاُولى فهي لهم أنفسهم.

و أوهن منهما ما ذكره بعضهم أنّ( مِنْ ) في قوله:( وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ ) إلخ زائدة أو بيانيّة، و هو كما ترى.

و تقييده سبحانه قوله:( يُضِلُّونَهُمْ ) بقوله:( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) للدلالة على أنّ الّذين أضلّهم هؤلاء المشركون الّذين قالوا: أساطير الأوّلين إنّما ضلّوا باتّباعهم لهم تقليداً و بغير علم فالقائلون أئمّة الضلال و هؤلاء الضلال أتباعهم و مقلّدوهم ثمّ ختم سبحانه الآية بذمّهم و تقبيح أمرهم جميعاً فقال:( أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) .

٢٤٥

قوله تعالى: ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) إلخ، إتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور أمره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضراً، و هذا شائع في الكلام و خرور السقف سقوطه على الأرض و انهدامه.

و الظاهر - كما يشعر به السياق - أنّ قوله:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) كناية عن إبطال كيدهم و إفساد مكرهم من حيث لا يتوقّعون كمن يتّقي أمامه و يراقبه فيأتيه العدوّ من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده و هم مراقبون سقفه ممّا يأتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.

و على هذا فقوله:( وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) عطف تفسيريّ يفسّر قوله:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ ) إلخ و المراد بالعذاب العذاب الدنيويّ.

و في الآية تهديد للمشركين الّذين كانوا يمكرون بالله و رسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبري الاُمم الماضية حيث ردّ مكرهم إلى أنفسهم فكانوا هم الممكورين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) الإخزاء من الخزي و هو على ما ذكره الراغب الذلّ الّذي يستحيي منه، و المشاقّة من الشقّ و هو قطع بعض الشي‏ء و فصله منه فهي المخاصّمة و المعاداة و الاختلاف ممّن من شأنه أن يأتلف و يتّفق فمشاقّة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع أهل التوحيد و هم اُمّة واحدة فطرهم الله جميعاً على التوحيد و دين الحقّ و مخاصمتهم لهم و انفصالهم عنهم.

و المعنى: أنّ الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة و يضرب عليهم الذلّة و الهوان بقوله: أين شركائي الّذين كنتم تشاقّون أهل الحقّ فيهم و تخاصمونهم و توجدون الاختلاف في دين الله.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ ) الخزي ذلّة الموقف و السوء العذاب على ما يفيده السياق.

٢٤٦

و هؤلاء الّذين وصفهم الله بأنّهم اُوتوا العلم و أخبر أنّهم يتكلّمون بكذا هم الّذين رزقوا العلم بالله و انكشفت لهم حقيقة التوحيد فإنّ ذلك هو الّذي يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم و بين المشركين الّذين ينكشف لهم يومئذ أنّهم ما كانوا يعبدون إلّا أسماء سمّوها و سرابا توهّموه.

على أنّ الله سبحانه يخبر عنهم أنّهم يتكلّمون يومئذ و يقولون كذا و قد قال في وصف اليوم:( لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) النبأ: ٣٨ و القول لا يكون صواباً بحق المعنى إلّا مع كون قائله مصوناً من خطاءه و لغوه و باطله، و لا يكون مصونا في قوله إلّا إذا كان مصونا في فعله و في علمه فهؤلاء قوم لا يرون إلّا الحقّ و لا يفعلون إلّا الحقّ و لا ينطقون إلّا بالحقّ.

فإن قلت: فالّذين اُوتوا العلم بناء على ما فسّر، هم أهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى و إرادة غيرهم كقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ ) القصص: ٨٠ و قوله:( وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أنّه الحقّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ) الحجّ: ٥٤ إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم إرادة العصمة من إيتاء العلم.

قلت: ما ذكرناه إنّما هو استفادة بمؤنة المقام لا أنّه مدلول اللفظ كلّما اُطلق في كلامه تعالى.

و أمّا قولهم: إنّ المراد بالّذين اُوتوا العلم هم الأنبياء فقط أو الأنبياء و المؤمنون الّذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) إلى آخر الآية الظاهر أنّه تفسير للكافرين الواقع في آخر الآية السابقة كما أنّ قوله الآتي:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) إلخ، تفسير للمتّقين الواقع في آخر الآية الّتي قبله، و لا يستلزم كونه بياناً للكافرين كونه من تمام قول الّذين اُوتوا العلم حتّى يختلّ نظم الكلام بقولهم:( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ ) إلخ، ثمّ بيانهم بقولهم:( الَّذِينَ

٢٤٧

تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) إلخ دون أن يقولوا: الّذين توفيّهم الملائكة كما لا يخفى.

و قوله:( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) أي الاستسلام و هو الخضوع و الانقياد، و ضمير الجمع للكافرين و المعنى الكافرون هم الّذين تتوفّاهم الملائكة و يقبضون أرواحهم و الحال أنّهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله فألقوا السلم و قدّموا الخضوع و الانقياد مظهرين بذلك أنّهم ما كانوا يعملون من سوء، فيردّ عليهم قولهم و يكذّبون و يقال لهم: بلى قد فعلتم و عملتم إنّ الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد و هو الموت.

قوله تعالى: ( فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) الخطاب للمجموع كما كان قوله:( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ ) و كذا قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) إلخ، ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كلّ واحد واحد منهم.

و على هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كلّ واحد منكم باباً من جهنّم يناسب عمله و موقفه من الكفر لا أن يدخل كلّ واحد منهم جميع الأبواب أو أكثر من واحد منها، و قد تقدّم الكلام في معنى أبواب جهنّم في تفسير قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) الحجر: ٤٤.

و المتكبّرون هم المستكبرون بحسب المصداق و إن كانت العناية اللفظيّة مختلفة فيهما كالمسلم و المستسلم فالمستكبر هو الّذي يطلب الكبر لنفسه بإخراجه من القوّة إلى الفعل و إظهاره لغيره و المتكبّر هو الّذي يقبله لنفسه و يأخذه صفة.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ) إلى آخر الآية. أخذ المسؤل عنهم هم الّذين اتّقوا أي الّذين شأنهم في الدنيا أنّهم تلبّسوا بالتقوى و هم المتّصفون به المستمرّون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتّقين مرّتين فيكون المسؤل عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الإيمان كما كان المسؤل عنهم في الطائفة الاُخرى شرارهم الكاملين في الكفر و هم المستكبرون.

فقول بعضهم: إنّ المراد بالّذين اتّقوا مطلق المؤمنين الّذين اتّقوا الشرك

٢٤٨

أو الشرك و المعاصي في الجملة. ليس في محلّه.

و قوله:( قالُوا خَيْراً ) أي أنزل خيراً لأنّه أنزل قرآناً يتضمّن معارف و شرائع في أخذها و العمل بها خير الدنيا و الآخرة و في قولهم:( خَيْراً ) اعتراف بكون القرآن نازلاً من عنده تعالى مضافاً إلى وصفهم له بالخيريّة و في ذلك إظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هو أساطير و لو قال المتّقون: خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنّه لو قال المستكبرون: أساطير الأوّلين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول. كذا قيل.

و قوله:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ) ظاهر السياق أنّه بيان لقولهم:( خَيْراً ) و هل هو تتمّة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله:( وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) إلى آخر الآية أنّه كلام منه تعالى يبيّن به وجه الخيريّة فيما أنزله إليهم فإنّه أشبه بكلام الربّ تعالى منه بكلام المربوب و خاصّة المتّقين الّذين لا يجترؤن على أمثال هذه الاقتراحات.

و المراد بالحسنة المثوبة الحسنة و ذلك لأنّهم بالإحسان الّذي هو العمل بما يتضمّنه الكتاب يرزقون مجتمعاً صالحاً يحكم فيه العدل و الإحسان و عيشة طيّبة مبنيّة على الرشد و السعادة ينالون ذلك جزاء دنيويّاً لإحسانهم لقوله: لهم في الدنيا و لدار الحياة الآخرة خير جزاءً لأنّ فيها بقاء بلا فناء و نعمة من غير نقمة و سعادة ليس معها شقاء.

و معنى الآية: و قيل للمتّقين من المؤمنين ما ذا أنزل ربّكم من الكتاب و ما شأنه؟ قالوا أنزل خيراً، و كونه خيرا هو أنّ للّذين أحسنوا- أي عملوا بما فيه فوضع الإحسان موضع الأخذ و العمل بما في الكتاب إيماء إلى أنّ الّذي يأمر به الكتاب أعمال حسنة - في هذه الدنيا مثوبة حسنة و لدار الآخرة خير لهم جزاء.

ثمّ مدح دارهم ليكون تأكيداً للقول فقال:( وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) ثمّ بين دار المتّقين بقوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ‏ ) و المعنى ظاهر.

٢٤٩

قوله تعالى: ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجنّة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بيان للمتّقين كما كان قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) إلخ بياناً للمستكبرين.

و الطيب تعري الشي‏ء ممّا يختلط به فيكدّره و يذهب بخلوصه و محوضته يقال: طاب لي العيش أي خلص و تعرّى ممّا يكدّره و ينقصّه و القول الطيب ما كان عاريا من اللغو و الشتم و الخشونة و سائر ما يوجب فيه غضاضة و الفرق بين الطيب و الطهارة أنّ الطهارة كون الشي‏ء على طبعه الأصليّ بحيث يخلو عمّا يوجب التنفّر عنه و الطيّب كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدّره و يفسد أمره سواء تنفّر عنه أم لا و لذلك قوبل الطيّب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد، قال تعالى:( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) النور: ٢٦ و قال:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨.

و على هذا فالمراد بكون المتّقين طيّبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الّذين وصفهم بالظلم حال التوفّي في قوله السابق:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) و يكون معنى الآية أنّ المتّقين هم الّذين تتوفّاهم الملائكة متعرّين عن خبث الظلم - الشرك و المعاصي - يقولون لهم سلام عليكم - و هو تأمين قوليّ لهم -( ادْخُلُوا الْجنّة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) - و هو هداية لهم إليها -.

فالآية - كما ترى - تصف المتّقين بالتخلّص عن التلبّس بالظلم و تعدهم الأمن و الاهتداء إلى الجنّة فيعود مضمونها إلى معنى قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك و فسّره بعضهم بكون أقوالهم و أفعالهم زاكية، و الأكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب و أنت بالتأمّل فيما تقدّم تعرف أنّ شيئاً ممّا ذكروه لا يخلو عن تسامح.

٢٥٠

قوله تعالى: ( ْ يَنْظُرُونَ إلّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ ) إلخ، رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين و ذكر بعض أحوالهم و أقوالهم و قياسهم ممّن سبقهم من طغاة الاُمم الماضين و ما آل إليه أمرهم.

و قوله:( ْ يَنْظُرُونَ إلّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏ ) سياق الآية و خاصّة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنّها مسوقة للتهديد فالمراد بإتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال و ينطبق على مثل قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلّا بِالحقّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) الحجر: ٨ و المراد بإتيان أمر الربّ تعالى قيام الساعة و فصل القضاء و الانتقام الإلهيّ منهم.

و أمّا كون المراد بإتيان الأمر ما تقدّم في أوّل السورة من قوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) و قد قرّبنا هناك أنّ المراد به مجيي‏ء النصر و ظهور الإسلام على الشرك فلا يلائم اللّحن الشديد الّذي في الآية تلك الملائمة، و أيضاً سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث و إصرارهم على نفيه و الردّ عليهم، و هو يؤيّد كون المراد بإتيان الأمر قيام الساعة.

و قد أضاف الربّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( أمرُ رَبِّكَ‏ ) و لم يقل: أمر الله أو أمر ربّهم ليدلّ به على أنّ فيه انتصاراً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قضاء له عليهم.

و قوله:( لِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ ) تأكيد للتهديد و تأييد بالنظير أي فعل الّذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود و الاستهزاء ممّا فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) إلخ.

و قوله:( ما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏ ) معترضة يبيّن بها أنّ الّذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه إلّا الظلم، غير أنّ هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم لا ظلماً منه تعالى و تقدّس، و لم يعذّبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرّة أو مرّتين بل أمهلهم إذ ظلموا حتّى استمرّوا في ظلمهم و أصرّوا عليه - كما يدلّ عليه قوله:( كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏ ) - فعند ذلك أنزل عليهم العذاب، ففي قوله:( ما ظَلَمَهُمُ اللهُ) إلخ، إثبات الاستمرار على الظلم عليهم و نفي أصل الظلم عن الله سبحانه.

٢٥١

قوله تعالى: ( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) حاقَ بِهِمْ أي حلّ بهم، و قيل: معناه نزل بهم و أصابهم، و الّذي كانوا به يستهزؤن هو العذاب الّذي كانت رسلهم ينذرونهم به و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، الّذي تورده الآية شبهة على النبوّة من الوثنيّين المنكرين لها، و لذلك عرّفهم بنعتهم الصريح حيث قال:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) و لم يكتف بالضمير و لم يقل: و قالوا كما في الآيات السابقة ليعلم أنّ الشبهة لهم بعينهم.

و قوله:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا ) جملة شرطيّة حذف فيها مفعول( شاءَ ) لدلالة الجزاء عليه، و التقدير لو شاء الله أن لا نعبد من دونه شيئاً ما عبدنا إلخ.

و قول بعضهم: إنّ الإرادة و المشيّة لا تتعلّق بالعدم و إنّما تتعلّق بالوجود، فلا معنى لمشيّة عدم العبادة فالاُولى أن يقدّر متعلّق المشيّة أمراً وجوديّاً ملازماً لعدم العبادة كالتوحيد مثلاً و يكون التقديم لو شاء الله أن نوحّده أو أن نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شي‏ء، و استدلّ‏ّ بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن) حيث علّق عدم الكون على عدم المشيّة لا على مشيّة العدم.

و فيه أنّ ما ذكره حقّ بالنظر إلى حقيقة الأمر، إلّا أنّ العنايات اللفظيّة و التوسّعات الكلاميّة لا تدور دائماً مدار الحقّائق الكونيّة و الأنظار الفلسفيّة و إنّ الأفهام البسيطة - و لم تكن أفهام اُولئك الوثنيّين بأرقى منها - كما تجيز ترتّب الفعل الوجودي على المشيّة تجيز تعلّق عدمه بها، و في كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جريا على هذه العناية الظاهريّة:( اللّهمّ إن شئت أن لا تعبد لم تعبد) .

على أنّهم يشيرون بقولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا ) إلخ، إلى قول الرسل لهم: لا تشركوا بالله و لا تعبدوا غير الله و لا تحرّموا ما أحلّ الله و هي نواه و مدلول النهي طلب الترك.

٢٥٢

على أنّ الوثنيّين لا ينكرون توحيده تعالى في الاُلوهيّة بمعنى الصنع و الإيجاد، و إنّما يشركون في العبادة بمعنى أنّهم يخصّونه تعالى بالصنع و الإيجاد و يخصّون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون أحدهم إله موجد غير معبود و هو الله سبحانه، و الباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله أصلاً لا أنّهم يعبدونه تعالى و آلهتهم جميعاً، و حينئذ لو كان التقدير( لو شاء الله أن نوحّده في العبادة أو أن نعبده وحده) لكان الأهمّ أن يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفي عبادتهم لغيره أو كان نفي عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده، فافهم ذلك.

و إن كان و لا بدّ من تقدير متعلّق المشيّة أمراً وجوديّاً فليكن التقدير: لو شاء الله أن نكفّ عن عبادة غيره ما عبدنا إلخ حتّى يتحدّ الشرط و الجزاء بحسب الحقّيقة في عين أنّهما يختلفان في النفي و الإثبات.

و قوله:( ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) لفظة من الاُولى بيانيّة و الثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفي، و المعنى ما عبدنا شيئاً دونه، و نظير ذلك قوله:( وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) .

و قوله:( نَحْنُ وَ لا آباؤُنا ) بيان لضمير التكلّم في( عَبَدْنا ) للدلالة على أنّهم يتكلّمون عنهم و عن آبائهم جميعاً لأنّهم كانوا يقتدون في عبادة الأصنام بآبائهم، و قد تكرّر في القرآن حكاية مثل قولهم:( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) الزخرف: ٢٣.

و قوله:( وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) عطف على قوله:( عَبَدْنا ) إلخ أي و لو شاء الله أن لا نحرّم من دونه من شي‏ء أو نحلّ ما حرّمناه ما حرّمنا إلخ، و المراد البحيرة و السائبة و غيرهما ممّا حرّموه.

ثمّ إنّ قولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، ظاهر من جهة تعليق نفي العبادة على نفس مشيّته تعالى في أنّهم أرادوا بالمشيّة إرادته التكوينيّة

٢٥٣

الّتي لا تتخلّف عن المراد البتّة و لو أرادوا غيرها لقالوا: لو شاء الله كذا لأطعناه و استجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.

فكأنّهم يقولون: لو كانت الرسالة حقّة و كان ما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام و الأوثان و النهي عن تحريم البحيرة و السائبة و الوصيلة و غيرها نواهي لله سبحانه كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئاً غيره و أن لا نحرّم من دونه شيئاً، و لو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره و لا نحرّم شيئاً لم نعبد و لم نحرّم لاستحالة تخلّف مراده عن إرادته لكنّا نعبد غيره و نحرّم أشياء فليس يشاء شيئاً من ذلك فلا نهي و لا أمر منه تعالى و لا شريعة و لا رسالة من قبله.

هذا تقرير حجّتهم على ما يعطيه السياق، و مغزى مرادهم أنّ عبادتهم لغير الله و تحريمهم لما حرّموه و بالجملة عامّة أعمالهم لم تتعلّق بها مشيّة من الله بنهي و لو تعلّقت لم يعملوها ضرورة.

و ليسوا يعنون بها أنّ مشيّة الله تعلّقت بعبادتهم و تحريمهم فصارت ضروريّة الوجود و هم ملجؤن في فعلها مجبرون في الإتيان بها فلا معنى لنهي الرسل عنها بعد الإلجاء و ذلك أنّ( لَوْ ) تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطيّة( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أنّه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره، و إن شئت قلت: لكنّا عبدنا غيره فانكشف أنّه لم يشأ ذلك، و أمّا مثل قولنا: لكنّه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا: لكنّه شاء أن لا نوحّده فعبدنا غيره فهو أجنبيّ عن مفهوم الشرطيّة و منطوقها جميعاً.

على أنّهم لو عنوا ذلك و كان غرضهم ردّ النبوّة بإثبات الإلجاء في أفعالهم بما أقاموه من الحجّة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلّمين له غير أنّهم معتذرون عن اتّباع الهدى الّذي أتاهم به الرسل بالإلجاء و الإجبار و أنّ الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال و الشقاء بعبادة غير الله و تحريم ما أحلّ الله و أجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه و لا يستطيعون التخلّف عنه.

لكنّهم مدّعون للاهتداء مصرّون على هذه المزعمة مصرّحون بها كما حكى

٢٥٤

الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال:( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلّا يَخْرُصُونَ - إلى أن قال -بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الزخرف: ٢٢ و قد تكرّر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الأصنام بأنّها سنّة قوميّة قدّسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب أن يقدّسها و يجري عليها خلفهم بعد سلفهم و أين هذا من الاعتراف بالضلال و الشقاء.؟

و كذا ليسوا يعنون بهذه الحجّة أنّ أعمالهم مخلوقة لأنفسهم غير مرتبطة بالمشيّة الإلهيّة و لا أنّه خالقها إذ الأعمال و الأفعال على هذا التقدير بمعزل من أن تتعلّق بها الإرادة الإلهيّة، و إنّما يتسبّب تعالى لعدم فعل من الأفعال بإيجاد المانع عنه فكان الأنسب حينئذ أن يقولوا: لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره و تحريم ما حرّمناه و هو مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا: لو شاء الله شيئاً من أعمالنا لبطل و خرج عن كونه عملاً لنا و نحن مستقلّون به.

على أنّه لو كان معنى قولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا ) هو أنّه لو شاء لصرفنا كان حقّاً فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة:( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلّا يَخْرُصُونَ ) الزخرف: ٢٠.

فالحقّ أنّهم أرادوا بقولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أن يستدلّوا بعبادتهم لها على أنّ المشيّة الإلهيّة لم تتعلّق بتركها من غير تعرّض لتعلّق المشيّة بفعل العبادة أو لكون المشيّة مستحيلة التعلّق بعبادتهم إلّا بالصرف.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) ، خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره أن يبلّغ رسالته بلاغاً مبيناً و لا يعتني بما لفّقوه من الحجّة فإنّها داحضة و الحجّة تامّة عليهم بالبلاغ و فيه إشارة إجماليّة إلى دحض حجّتهم.

فقوله:( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي على هذا الطريق الّذي سلكه هؤلاء سلك الّذين من قبلهم فعبدوا غير الله و حرّموا ما لم يحرّمه الله ثمّ إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا

٢٥٥

مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) فالجملة كقوله تعالى:( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ) الأنفال: ٥٢.

و قوله:( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) أي بلّغهم الرسالة بلاغاً مبيناً تتمّ به الحجّة عليهم فإنّما وظيفة الرسل البلاغ المبين و ليس من وظيفتهم أن يلجؤوا الناس إلى ما يدعونهم إليه و ينهونهم عنه و لا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة الّتي لا تتخلّف عن المراد و لا أمره الّذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون حتّى يحوّلوا بذلك الكفر إلى الإيمان و يضطرّوا العاصي على الإطاعة.

فإنّما الرسول بشر مثلهم و الرسالة الّتي بعث بها إنذار و تبشير و هي مجموعة قوانين اجتماعيّة أوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم و آخرتهم صورتها صورة الأوامر و النواهي المولويّة و حقيقتها الإنذار و التبشير، قال تعالى:( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) الأنعام: ٥٠ فهذا ما أمر به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغهم و قد أمر به نوحاً و من بعده من الرسلعليه‌السلام أن يبلّغوه اُممهم كما في سورة هود و غيرها.

و قال أيضاً مخاطباً نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) الكهف: ١١٠.

فهذا هو الّذي يشير إليه على سبيل الإجمال بقوله:( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) فإنّ ظاهره كما أشرنا إليه سابقاً أنّ هذه حجّة دائرة بينهم قديماً و حديثاً، و على هذا ليس من شأن الرسول إجبار الناس و إلجاؤهم على الإيمان و الطاعة بل البلاغ المبين بالإنذار و التبشير و حجّتهم لا تدفع ذلك فبلّغ ما اُرسلت به بلاغاً مبيناً و لا تطمع في هداية من ضلّ منهم، و ستفصّل الآيتان التاليتان ما أجملته هذه الآية و توضحانها.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كلّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ

٢٥٦

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) إلخ، الطاغوت في الأصل مصدر كالطغيان و هو تجاوز الحدّ بغير حقّ، و اسم المصدر منه الطغوى، قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كلّ متعدّ و كلّ معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع، قال تعالى:( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ) ( وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) . انتهى.

و قوله:( وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كلّ أُمَّةٍ رَسُولًا ) إشارة إلى أنّ بعث الرسول أمر لا يختصّ به اُمّة دون اُمّة بل هو سنّة إلهيّة جارية في جميع الناس بما أنّهم في حاجة إليه و هو يدركهم أينما كانوا كما أشار إلى عمومه في الآية السابقة إجمالاً بقوله:( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

و قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول إلّا أن يدعوهم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت لأنّ الأمر و كذا النهي من البشر و خاصّة إذا كان رسولاً ليس إلّا دعوة عاديّة لا إلجاءً و اضطراراً تكوينيّاً، و لا أنّ للرسول أن يدّعي ذلك حتّى يرد عليه أنّه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شي‏ء و إذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم إنّ التقدير ليقول لهم: اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت. ليس في محلّه.

و قوله:( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) أي كانت كلّ من هذه الاُمم مثل هذه الاُمّة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله و اجتناب الطاغوت.

و ذلك أنّ الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره و لا تنسب إلى أحد دونه إلّا بالتبع كما قال:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) القصص: ٥٦ و سنشير إليه في الآية التالية:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏ هُداهُمْ فإنّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) و الآيات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة، و لا يستلزم ذلك كونها أمراً اضطراريّاً لا صنع فيه للعبد أصلاً فإنّها اختياريّة بالمقدّمة كما يشير إليه قوله:

٢٥٧

( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت: ٦٩ يفيد أنّ للهداية الإلهيّة طريقاً ميسراً للإنسان و هو الإحسان في العمل و أنّ الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلّون.

و بعض هذه الاُمم - الطائفة الثانية منهم - هو من حقّت عليه الضلالة أي ثبتت و لزمت، و هذه الضلالة هي الّتي من قبل العبد بسوء اختياره و ليس بالّتي تتبعها مجازاة من الله فإنّ الله يصفها بقوله: حَقَّتْ ثمّ يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ يقول:( فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) فقد كانت هناك ضلالة ثمّ حقّت و ثبتت بإثبات الله مجازاة فصارت هي الّتي من قبل الله سبحانه مجازاة، فتبصّر.

و لم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلّا ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر و تكذيب أو نظائرها كقوله:( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة: ٥ و عدم الهداية هو الإضلال، و قوله:( وَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم: ٢٧ و قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) النساء: ١٦٨ و قوله:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف: ٥ إلى غير ذلك من الآيات.

و لم يقل سبحانه: فمنهم من هدى الله و منهم من أضلّه مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من إضافته إليه تعالى دفعا لإيهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر أوّلاً من هداه ثمّ قابله بمن كان من حقّه أن يضلّ - و هو الّذي اختار الضلالة على الهدى أي اختار أن لا يهتدي - فلم يهده الله و حقّ له ذلك.

و توضيحه ببيان آخر: أنّ خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائيّ و نسبته إلى العبد و الضلال مجازاة و نسبته إليه تعالى و نسبة الهداية ابتداء و مجازاة إلى الله سبحانه هي أنّ الله أودع في الإنسان إمكان الرشد و استعداد الاهتداء فإنّ جرى على سلامة الفطرة و لم يبطل الاستعداد باتّباع الهوى و المعصية أو أصلحه بالندامة و التوبة بعد المعصية هداه الله، و هذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الاُولى الفطريّة.

٢٥٨

و إن اتّبع هواه و عصى ربّه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى و هو ضلاله بسوء اختياره فإن لم يندم و لم يراجع أثبته الله على حاله و حقّت عليه الضلالة و هو الضلال مجازاة.

و ربّما توهّم متوهّم أنّ الإمكان و الاستعداد لا يكون إلّا ذا طرفين فالّذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال و الإنسان لا يزال متردّدا بين آثار وجوديّة و أفعال مثبتة و الجميع منه تعالى حتّى الاستعداد و الإمكان الأوّل.

و هو من أوهن التوهّم فإنّ عدّ إمكان الضلال و ما يترتّب عليه الضلال أمراً وجوديّاً و عطاء ربّانيّاً يفسد معنى الضلال و يبطله فإنّ الضلال إنّما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد أمراً ثبوتيّاً لم يكن ضلالاً بل صار الهدى و الضلال كلاهما أمرين وجوديّين و عطاءين إلهيّين نظير ما يترتّب على الجماد مثلاً من الآثار الوجوديّة الخارجة عن الهدى و الضلال.

و بعبارة اُخرى: الضلال إنّما يكون ضلالاً إذا كان مقيسا إلى الهدى و من الواجب حينئذ أن يكون عدم الهدى و إذا اُخذ أمراً وجوديّاً لم يكن ضلالاً فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد و ضالّ و لا حاله إلى هدى و ضلال فلا مفرّ من أخذ الضلال أمراً عدميّاً، و نسبة الضلال الأوّل إلى نفس العبد. فأحسن التأمّل فيه فلا تزلّ قدم بعد ثبوتها.

و قوله:( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للّذين أشركوا القائلين:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و الالتفات إلى خطابهم لكونه أشدّ تأثيراً في تثبيت القول و إتمام الحجّة.

و الكلام متفرّع على ما بين جواباً لحجّتهم إجمالاً و تفصيلاً و محصّل المعنى أنّ الرسالة و الدعوة النبويّة ليست من الإرادة التكوينيّة الملجئة إلى ترك عبادة الأصنام و تحريم ما لم يحرّمه الله حتّى يستدلّوا بعدم وجود الإلجاء على عدم وجود الرسالة و كذب مدّعيها بل هي دعوة عاديّة بعث الله سبحانه بها رسلاً يدعونكم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت و حقيقته الإنذار و التبشير، و من الدليل على ذلك آثار

٢٥٩

الاُمم الماضية الظالمة الّتي تحكي عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين حتّى يتبيّن لكم أنّ الدعوة النبويّة الّتي هي إنذار حقّ و أنّ الرسالة ليست كما تزعمون.

قوله تعالى: ( إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏ هُداهُمْ فإنّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) لما بيّن أنّ الاُمم الماضين انقسموا طائفتين و كانت إحدى الطائفتين هم الّذين حقّت عليهم الضلالة و كانت هؤلاء الّذين أشركوا و قالوا ما قالوا كالّذين من قبلهم منهم بين في هذه الآية أنّ ثبوت الضلالة في حقّهم إنّما هو ثبوت لا زوال معه و تحتّم لا يقبل التغيير فإنّه لا هادي بالحقّيقة إلّا الله فإن جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنّه لا يهديهم فإنّه يضلّهم و لا يجتمع الهدى و الضلال معاً، و ليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم.

ففي الآية تعزية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إرشاد له أن لا يحرص في هداهم و إعلام له أنّ القضاء قد مضى في حقّهم و ما يبدّل القول لديه و ما هو بظلّام للعبيد.

فقوله:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى‏ هُداهُمْ ) إلخ، في تقدير إن تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئاً فليسوا ممّن يمكن له الاهتداء فإنّ الله هو الّذي يهدي من اهتدى، و هو لا يهديهم فإنّه يضلّهم و لا يناقض تعالى فعل نفسه، و ليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.

و في هذه الآيات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبّرة و المفوّضة و كلّ يفسّرها بما يقتضيه مذهبه حتّى قال الإمام الرازيّ: إنّ المشركين أرادوا بقولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، أنّه لما كان الكلّ من التوحيد و الشرك و الهدى و الضلال من الله كانت بعثة الأنبياء عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله و جار مجرى طلب العلّة في أحكامه و أفعاله تعالى و ذلك باطل فلا يقال له: لم فعلت هذا و لم لم تفعل ذلك؟

قال: فثبت أنّ الله تعالى إنّما ذمّ هؤلاء القائلين لأنّهم اعتقدوا أنّ كون الأمر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لأنّهم كذبوا في قولهم ذلك. انتهى ملخّصا.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409