الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87206 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وأمّا ما صدر عن الخضر ـ لو سلّم عدم نبوّته ـ فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى ٧ لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.

مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!

ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.

هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ(١) ، قاتلهم الله تعالى ، وعطّل ديارهم.

* * *

__________________

وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور ، فانظر مثلا :

صحيح مسلم ٤ / ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣ ـ ٤ ح ١ ـ ٣ ، مسند أحمد ٢ / ٢٥٨ ، سنن الدارقطني ٢ / ٢٢٠ ذ ح ٢٦٧٩ ، السنن الكبرى ١ / ٣٨٨ وج ٤ / ٣٢٦ وج ٧ / ١٠٣ ، تفسير القرطبي ١٨ / ١٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٣٧ في تفسير آية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )[ سورة الحشر ٥٩ : ٧ ].

(١) انظر : دائرة معارف القرن العشرين ١٠ / ١٧٧ مادّة « نسخ ».

٢٢١
٢٢٢

في حقيقة الكلام

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

المبحث السابع

في أنّه تعالى متكلّم

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل

في حقيقة الكلام

الكلام عند العقلاء : عبارة عن المؤلّف من الحروف المسموعة.

وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا ، مغايرا لهذه الحروف والأصوات ، ( وهذه الحروف والأصوات )(٢) دالّة عليه(٣) .

وهذا غير معقول ، فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلناه

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٠ ، شرح العقائد النفسية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣ ـ ٩٤.

٢٢٣

فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!

وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.

وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم الله موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.

والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.

وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه ـ مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ـ معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!

٢٢٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء : عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى(٢) .

ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ](٣) .

ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات

فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر(٤) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٩١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٨ و ٢٤٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣.

(٤) تزوير الكلام : إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١١٢ ـ ١١٣ مادّة « زور ».

٢٢٥

فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.

قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.

فإن قال : هو الإرادة.

قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.

وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.

ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.

قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه ـ أي المعنى

٢٢٦

النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر ـ هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته ـ أي إرادة المتكلّم ـ لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة »(١) .

هذا كلام صاحب « المواقف ».

وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.

وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.

فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.

ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.

وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله

__________________

(١) المواقف : ٢٩٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٩٥.

٢٢٧

تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث(١)

فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.

وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.

نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام الله تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٢٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وانظر : المواقف : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

وأقول :

لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :

الأوّل : اللفظ الصادر عنه.

الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.

الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.

الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.

الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.

كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.

ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.

وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!

ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.

وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.

فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.

٢٢٩

وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.

كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.

وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر

ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني

ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.

وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.

وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه

ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.

٢٣٠

وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.

فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.

قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.

وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.

على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.

غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.

فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.

وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.

٢٣١

وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم »

فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي(١) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني ـ على ما نقل عنه ـ وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء(٢) .

فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :

ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.

فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.

فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.

فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.

هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.

وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » ـ بحسب النسخ التي وجدناها ـ بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،

__________________

(١) شرح التجريد : ٤١٩.

(٢) انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات : ١٣٥.

٢٣٢

كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.

فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم ـ كما في كلام الإنسان ـ ، أو بمباشرة شجرة ونحوها ـ كما في كلام الله تعالى ـ ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :

إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.

وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.

وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.

.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.

ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.

فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.

٢٣٣

على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.

مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم

بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.

ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.

هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي(١) .

ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا(٢) .

وهذا هو الجهل المفرط!

وسيذكر المصنّف ; دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦.

(٢) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦ ؛ أي : « فضلا عن المصحف » كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف ٨ / ٩٢.

٢٣٤

كلامه تعالى متعدّد

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

[ المطلب ] الثاني

في أنّ كلامه تعالى متعدّد

المعقول من الكلام ـ على ما تقدّم ـ أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده(٢) .

والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١١٠ ـ ١١١ ، شرح المواقف ٨ / ٩١ ـ ٩٤ ، شرح التجريد : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٢٣٥

لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!

* * *

٢٣٦

وقال الفضل(١) :

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :

العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.

وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢١٦.

٢٣٧

وأقول :

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.

وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.

وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.

وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.

وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد

٢٣٨

صار علما ؛ وهو كما ترى.

وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.

وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

* * *

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

و قال الزمخشريّ: إنّ المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثمّ نسبوه إلى ربّهم و قالوا لو شاء الله إلى آخره و هذا مذهب المجبّرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على الرسل إلّا أن يبلّغوا الحقّ و أنّ الله لا يشاء الشرك و المعاصي بالبيان و البرهان، و يطلعوا على بطلان الشرك و قبحه، و براءة الله من أفعال العباد، و أنّهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و أنّ الله باعثهم على جميلها و موفّقهم له و زاجرهم عن قبيحها و موعدهم عليه، انتهى موضع الحاجة و قد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.

و قد عرفت أنّ الآيات تروم غرضا وراء ذلك، و أنّ مرادهم بقولهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، إبطال الرسالة بأنّ ما أتى به الرسل من النهي عن عبادة غير الله و تحريم ما لم يحرّمه الله لو كان حقّاً لكان الله مريداً لتركهم عبادة غيره و تحريم ما لم يحرّمه و لو كان مريداً ذلك لم يتحقّق منهم و ليس كذلك، و أمّا أنّ الإرادة الإلهيّة تعلّقت بفعلهم فوجب أو أنّها لم تتعلّق و من المحال أن تتعلّق و ليست أفعالهم إلّا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنّما ذلك أمر خارج عن مدلول كلامهم أجنبيّ عن الحجّة الّتي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدّم.

و في قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) دلالة على أنّ لغيرهم ناصرين كثيرين و ذلك أنّ السياق يدلّ على أنّه ليس لهم ناصر أصلاً لا واحد و لا كثير فنفي الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي أنّ هناك ناصرين لكنّهم ليسوا لهم بل لغيرهم و ليس إلّا من يهتدي بهدى الله، و نظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) الشعراء: ١٠٠.

و هؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام و سائر أسباب التوفيق و الهداية و الله سبحانه من ورائهم محيط، قال تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن: ٥١.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى‏ ) إلى

٢٦١

آخر الآية، قال في المفردات: الجهد الجهد - بفتح الجيم و ضمّها - الطاقة، و المشقّة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: و قال تعالى:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.

و قال في المجمع في معنى قوله:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) أي بلغوا في القسم كلّ مبلغ. انتهى.

و قولهم:( لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) إنكار للحشر، و الجملة كناية عن أنّ الموت فناء فلا يتعلّق به بعده خلق جديد، و هذا لا ينافي قول كلّهم أو جلّهم بالتناسخ فإنّه قول بتعلّق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنسانيّ أو غير إنسانيّ و عيشها في الدنيا، و هو قولهم بالتولّد بعد التولّد.

و قوله:( بَلى‏ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ) أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقّاً أي إنّ الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الّذي وعد عباده، و أثبته إثباتا فلا يتخلّف و لا يتغيّر.

و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي لا يعلمون أنّه من الوعد الّذي لا يخلف و القضاء الّذي لا يتغيّر لإعراضهم عن الآيات الدالّة عليه الكاشفة عن وعده و هي خلق السماوات و الأرض و اختلاف الناس بالظلم و الطغيان و العدل و الإحسان و التكليف النازل في الشرائع الإلهيّة.

قوله تعالى: ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) اللام للغاية و الغرض أي يبعث الله من يموت ليبيّن لهم إلخ، و الغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإنّ الثانية من متفرّعات الاُولى و لوازمها فإنّ الكافرين إنّما يعلمون أنّهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبيّن الاختلاف الّذي ظهر بينهم و بين الرسل بسبب إثبات المعاد و نفيه و ظهور المعاد لهم عيانا.

و تبيّن ما اختلف فيه الناس من شؤون يوم القيامة، و قد تكرّر في كلامه هذا التعبير و ما في معناه تكرّراً صحّ معه جعل تبيين الاختلاف معرّفا لهذا اليوم الّذي ثقل في السماوات و الأرض و على ذلك يتفرّع ما قصّه الله سبحانه في كلامه

٢٦٢

من تفاصيل ما يجري فيه من المرور على الصراط و تطاير الكتب و وزن الأعمال و السؤال و الحساب و فصل القضاء.

و من المعلوم - و خاصّة من سياق آيات القيامة - أنّ المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة و اُنوثة و طول و قصر و بياض و سواد بل ما يوجد في دين الحقّ من الاختلاف في اعتقاد أو عمل. و قد بيّن الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيويّة في كتبه المنزلة و بلسان أنبيائه بكلّ طريق ممكن كما يقول بعد عدّة آيات:( وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية: ٦٤ من السورة.

و من هنا يظهر للمتدبّر أنّ البيان الّذي يخبر تعالى عنه و يخصّه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور و الوضوح غير ما يتمشّى من الكتاب و النبوّة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة و الموعظة و الجدال بالّتي هي أحسن، و ليس إلّا العيان الّذي لا يتطرّق إليه شكّ و ارتياب و لا يهجس معه خطور نفسانيّ بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢ و قوله:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحقّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحقّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥.

فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينيّة الحقّة و الأعمال الصالحة و ما أخلدوا إليه من الباطل و يفصل بينهم بظهور الحقّ و انجلائه.

قوله تعالى: ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) هو نظير قوله في موضع آخر:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢ و منه يعلم أنّه تعالى يسمّي أمره قولاً كما يسمّي أمره و قوله من حيث قوّته و إحكامه و خروجه عن الإبهام و كونه مراداً حكماً و قضاء، قال تعالى:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إلّا لِلَّهِ ) يوسف: ٦٧ و قال:( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) الحجر: ٦٦ و قال:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧ و كما يسمّي قوله الخاصّ كلمة،

٢٦٣

قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢ و قال:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩ ثمّ قال في عيسىعليه‌السلام :( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده - و هو بوجه نفس وجود الشي‏ء الكائن - هو أمره و قوله حسب ما يسمّيه القرآن و كلمته لكنّ الظاهر أنّ الكلمة هي القول باعتبار خصوصيّته و تعيّنه.

و يتبيّن بذلك أنّ إرادته و قضاءه واحد، و أنّه بحسب الاعتبار متقدّم على القول و الأمر فهو سبحانه يريد شيئاً و يقضيه ثمّ يأمره و يقول له كن فيكون، و قد علّل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحقّ ) الأنعام: ٧٣ فأفاد أنّ قوله هو الحقّ الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجيّة الّتي هي فعله فلا معنى لفرض التخلّف فيه و عروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروريّ أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه فلا يخطئ و لا يغلط في فعله، و لا يردّ أمره، و لا يكذب قوله و لا يخلف في وعده.

و قد تبيّن أيضاً من هذه الآية و من قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، أنّ لله سبحانه إرادتين: إرادة تكوين لا يتخلّف عنها المراد، و إرادة تشريع يمكن أن تعصى و تطاع، و سنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) قال: بيت مكرهم أي ماتوا و أبقاهم الله في النار و هو مثل لأعداء آل محمّد.

٢٦٤

أقول: و ظاهره أنّ قوله:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ ) إلخ كناية عن بطلان مكرهم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) قال: كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشرّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) الآية قال: قالعليه‌السلام : الّذين اُوتوا العلم الأئمّة يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا؟ ثمّ قال: قال: فهم أيضاً الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) سلّموا لما أصابهم من البلاء ثمّ يقولون:( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) فردّ الله عليهم فقال:( بَلى) ، إلخ.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي إسحاق الهمدانيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : فيما كتبه إلى أهل مصر قال: يا عباد الله إنّ أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل بطاعته و ينصح في توبته. عليكم بتقوى الله فإنّها يجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال عزّوجلّ:( وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن مسكان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) قال الدنيا.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) قال: قالعليه‌السلام هم المؤمنون الّذين طابت مواليدهم في الدنيا.

أقول: و هو بالنظر إلى ما يقابله من قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) الآية لا يخلو عن خفاء و الرواية ضعيفة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: اجتمعت قريش فقالوا: إنّ محمّداً رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا اُناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كلّ طريق من طرق مكّة على رأس كلّ ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردّوه عنه.

٢٦٥

فخرج ناس منهم في كلّ طريق فكان إذا أقبل الرجل وافداً لقومه ينظر ما يقول محمّد؟ فينزل بهم قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه و يقول: أنا اُخبرك بمحمّد فلا يريد أن يعني إليه هو رجل كذّاب لم يتّبعه على أمره إلّا السفهاء و العبيد و من لا خير فيه و أمّا شيوخ قومه و خيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فإذا كان الوافد ممّن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمّد قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتّى بلغت إلّا مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل و أنظر ما يقول و آتي قومي ببيان أمره فيدخل مكّة فيلقى المؤمنين فيسألهم: ما ذا يقول محمّد؟ فيقولون: خيراً للّذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال و لدار الآخرة خير و هي الجنّة.

أقول: و الاعتبار يساعد على القصّة و ما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضيّ.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسنعليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنّه لا يروّي و لا يهمّ و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفيّة عنه و هي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك كما أنّه لا كيف له.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و حسنه و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان و اللفظ له عن أبي ذرّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يقول الله: يا بن آدم كلّكم مذنب إلّا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم و كلّكم فقراء إلّا من أغنيت فسلوني اُعطكم، و كلّكم ضالّ إلّا من هديت فسلوني الهدى أهدكم و من استغفرني و هو يعلم أنّي ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له و لا اُبالي.

و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا

٢٦٦

على قلب أشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أنّ أوّلكم و آخركم و حيّكم و ميّتكم و رطبكم و يابسكم سألوني حتّى تنتهي مسألة كلّ واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك ممّا عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر.

و ذلك أنّي جواد ماجد واحد عطائي كلام و عذابي كلام إنّما أمري لشي‏ء إذا أردته أن أقول له كن فيكون.

٢٦٧

( سورة النحل الآيات ٤١ - ٦٤)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً  وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ٤١ ) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٤٢ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٤٣ ) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ  وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ٤٤ ) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ( ٤٥ ) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ( ٤٦ ) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٤٧ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ( ٤٨ ) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( ٤٩ ) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ  ( ٥٠ ) وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ  إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ  فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( ٥١ ) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا  أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ( ٥٢ ) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ  ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ( ٥٣ ) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( ٥٤ ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ  فَتَمَتَّعُوا  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٥٥ )

٢٦٨

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ  تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ( ٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ  وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ( ٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ( ٥٨) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ  أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ  أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( ٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ  وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ( ٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىٰ  لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ( ٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٦٣) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ  وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( ٦٤)

( بيان)

الآيتان الأوليان تذكران الهجرة و تعدان المهاجرين في الله وعداً حسناً في الدنيا و الآخرة، و باقي الآيات تعقّب حديث شركهم بالله و تشريعهم بغير إذن الله، و هي بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عدّ المشركين الدعوة النبويّة إلى ترك عبادة الآلهة و تحريم ما لم يحرّمه الله أمراً محالاً كما اُشير إليه في قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا

٢٦٩

حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وعد جميل للمهاجرين و قد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكّة: إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدّة من المؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإذن من الله و رسوله إليها و لبثوا فيها حيناً في أمن و راحة من أذى مشركي مكّة و عذابهم و فتنتهم.

و الثانية هجرتهم من مكّة إلى المدينة بعد مهاجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الظاهر أنّ المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الاُولى و هو ظاهر.

و قوله:( فِي اللهِ ) متعلّق بهاجروا، و المراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطاً بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم و خرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلّا طلب العلم و لا بغية له إلّا طلب المعيشة، و السياق يعطي أنّ قوله:( مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) أيضاً مقيّد بذلك معنى، و التقدير: و الّذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، و إنّما حذف اختصاراً و إنّما اكتفى به قيداً للمهاجرة لأنّها محلّ الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.

و قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) قيل: أي بلدة حسنة بدلا ممّا تركوه من وطنهم كمكّة و حواليها بدليل قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) فإنّه من بوّأت له مكاناً أي سوّيت و أقررته فيه.

و قيل: أي حالة حسنة من الفتح و الظفر و نحو ذلك فيكون قوله:( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) إلخ، من الاستعارة بالكناية.

و الوجهان متّحدان مآلا فإنّهم إنّما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعاً إسلاميّاً طيّباً لا يعبد فيه إلّا الله، و لا يحكم فيه إلّا العدل و الإحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح، و لو حمدوا البلدة الّتي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الإسلاميّ المستقرّ فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة الّتي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء اُريد بالحسنة البلدة أو الغاية.

٢٧٠

و قوله:( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتميم للوعد و إشارة إلى أنّ أجر الآخرة أفضل من هذا الأجر الدنيويّ لو كانوا يعلمون ما أعدّ الله لهم فيها من النعم فإنّ فيها سعادة من غير شقاء و خلوداً من غير فناء و لذّة غير مشوبة بألم و جوار ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) لا يبعد أن يستفاد من سياق الآيتين أنّ جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعداً حسناً في الدنيا و الآخرة من غير نظر إلى الإخبار بتحقّق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط: من يهاجر في الله فله كذا و كذا، و تكون العناية في قوله:( الَّذِينَ صَبَرُوا ) إلخ بتوصيف المهاجرين بالصبر و التوكّل من غير نظر إلى ما تحقّق منهم من ذلك أيّام توقّفهم في أوطانهم بين المشركين قبال أذاهم و فتنتهم.

و العناية بالتوصيف إنّما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة الّتي وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مرّ الجهاد و أظهروا الجزع عند هجوم العظائم و لم يتأيّدوا بالتوكّل على الله و اعتمدوا على أنفسهم الضعيفة اُحيط بهم و لم يتهيّأ لهم المستقرّ و فرّقهم العدوّ المصرّ على عداوته بددا و تلاشى المجتمع الصالح الّذي أقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا، و أمّا أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه أوضح.

و لو كان المراد وعد المهاجرين الّذين تحقّق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا لنفوسهم و تسلية لهم عمّا اُخرجوا من ديارهم و أموالهم و قاسوا الفتن و المحن كان قوله:( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) مدحاً لهم بما ظهر منهم أيّام إقامتهم بمكّة و غيرها من الصبر في الله على أذى المشركين و التوكّل على الله فيما عزموا عليه من الإسلام لله.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) رجوع ثان إلى بيان كيفيّة إرسال الرسل و إنزال الكتب حتّى يتّضح للمشركين أنّه لم تكن الدعوة الدينيّة إلّا دعوة عاديّة من رجال يوحى

٢٧١

إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم و عقباهم.

و أنّه لم يدّع أحد من الرسل و لا ادّعي في كتاب من كتب الشرائع أنّ الدعوة الدينيّة ظهور للقدرة الغيبيّة القاهرة لكلّ شي‏ء و الإرادة التكوينيّة لهدم النظام الجاري و نقض سنّة الاختيار و إبطالها حتّى يقول القائل منهم:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ.

و على هذا فقوله سبحانه:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ) مسوق لحصر الرسالة على البشر العاديّ من رجال يوحى إليهم قبال ما ادّعاه المشركون أنّها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة و إبطالاً للاختيار و الاستطاعة.

و به يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم أنّ الآية مسوقة لردّ المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون أنّ البشر لا يصلح للرسالة و أنّها لو كانت فهي من شأن الملائكة فالآية تخبر أنّ السنّة الإلهيّة جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث للدعوة الدينيّة إلّا رجالاً من البشر يوحي إليهم المعارف و الأوامر و النواهي.

و ذلك أنّ سياق الآيات لا يساعد على ذلك، و لم يتقدّم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتّى يوجّه الكلام إلى ذلك.

و إنّما الّذي تقدّم هو قول المشركين:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ و كان مسوقاً لإثبات استحالة النبوّة لا لكونها من شأن الملائكة.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الله سبحانه لم يرسل صبيّا و لا امرأة، و استشكل بنبوّة عيسىعليه‌السلام في المهد و اُجيب بأنّ النبوّة أعمّ من الرسالة و الّذي أثبته عيسى لنفسه بقوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم: ٣٠ هي النبوّة دون الرسالة.

و فيه أنّ الاستدلال المذكور بالآية إنّما هو بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) و هذا الفعل كما يتعلّق في القرآن بالرسول كذلك يتعلّق بالنبيّ غير الرسول قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ ) الآية فلو تمّ الاستدلال المذكور لدلّ

٢٧٢

على حرمان الأطفال و النساء عن الرسالة و النبوّة جميعاً، و قد حكى الله عن عيسىعليه‌السلام قوله:( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) مريم: ٣٠ و قال في يحيىعليه‌السلام :( وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) مريم: ١٢.

و الحقّ أنّ الآية:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا ) إنّما هي في مقام بيان أنّ الرسل كانوا رجالاً من البشر العاديّ من غير عناية بكونهم أوّل ما بعثوا للرسالة أفراداً بالغين مبلغ الرجال فالغرض أنّ نوحاً و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيىعليهم‌السلام - و هم رسل - كانوا رجالاً يوحى إليهم و لم يكونوا أشخاصاً مجهّزين بقدرة قاهرة غيبيّة و إرادة إلهيّة تكوينيّة.

و يقرب من الآية قوله تعالى: في موضع آخر:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ ) الأنبياء: ٨.

و قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الظاهر أنّه خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقومه، و قد كان الخطاب في سابق الكلام للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة و المعنى موجّه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتّخذ كلّ من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع أهل الذكر و سألهم و من كان يعلم ذلك كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين به كان في غنى عن الرجوع و السؤال.

و قيل: إنّ الخطاب في الآية للمشركين فإنّهم هم المنكرون فليرجعوا و ليسألوا و فيه أنّ لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع و لا نكتة ظاهرة تصحّح ذلك و الله أعلم.

و الذكر حفظ معنى الشي‏ء أو استحضاره، و يقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره، و تارة يقال لحضور الشي‏ء في القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، و ذكر باللسان، و كلّ واحد منهما

٢٧٣

ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، انتهى موضع الحاجة.

و الظاهر أنّ الأصل فيه ما هو للقلب و إنّما يسمّى اللفظ ذكراً اعتباراً بإفادته المعنى و إلقائه إيّاه في الذهن، و على هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أنّ مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اُطلق فيه و لم يتقيّد بشي‏ء هو ذكره.

و بهذه العناية أيضاً سمّي القرآن وحي النبوّة و الكتب المنزّلة على الأنبياء ذكراً، و الآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع. و قد سمّى الله سبحانه في الآية التالية القرآن ذكراً.

فالقرآن الكريم ذكر كما أنّ كتاب نوح و صحف إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و إنجيل عيسىعليه‌السلام - و هي الكتب السماويّة المذكورة في القرآن - كلّها ذكر، و أهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.

و لما كان أهل الشي‏ء و خاصّته أعرف بحاله و أبصر بأخباره كان على من يريد التبصّر في أمره أن يرجع إلى أهله، و أهل الكتب السماويّة القائمون على دراستها و تعلّمها و العمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها و العالمون بأخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد الاطّلاع على شي‏ء من أمرهم أن يراجعهم و يسألهم.

لكنّ المشركين المخاطبين بمثل قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) لما كانوا لا يسلّمون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوّة و لا يصدّقونه في دعواه و يستهزؤن بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦ لم ينطبق قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) بحسب المورد إلّا على أهل التوراة، و خاصّة من حيث كونهم أعداء للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رادّين لنبوّته و كانت نفوس المشركين طيّبة بهم لذلك، و قد قالوا في المشركين:( هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ) النساء: ٥١.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل العلم بأخبار من مضى من الاُمم سواء أ كانوا مؤمنين أم كفّاراً؟ و سمّي العلم ذكرا لأنّ العلم بالمدلول يحصل غالباً من

٢٧٤

تذكّر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبّب باسم السبب.

و فيه أنّه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أنّ المعهود من الموارد الّتي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.

و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأنّ الله سمّاه ذكراً و أهله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه و خاصّة المؤمنين. و فيه أنّ كون القرآن ذكراً و أهله أهله لا ريب فيه لكن إرادة ذلك من الآية خاصّة لا تلائم تمام الحجّة فإنّ اُولئك لم يكونوا مسلّمين لنبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟.

و كيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عامّ عقلائيّ و هو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، و ليس ما تتضمّنه من الحكم حكماً تعبّديّاّ، و لا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم و لا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويّاً تشريعيّاً و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ ) متعلّق بمقدّر يدلّ عليه ما في الآية السابقة من قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) أي أرسلناهم بالبيّنات و الزبر و هي الآيات الواضحة الدالّة على رسالتهم و الكتب المنزّلة عليهم.

و ذلك أنّ العناية في الآية السابقة إنّما هي ببيان كون الرسل بشراً على العادة فحسب فكأنّه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع أنّهم بما ذا اُرسلوا؟ فاُجيب عنه فقيل: بالبيّنات و الزبر أمّا البيّنات فلإثبات رسالتهم و أمّا الزبر فلحفظ تعليماتهم.

و قيل: هو متعلّق بقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا ) أي و ما أرسلنا بالبيّنات و الزبر إلّا رجالاً نوحي إليهم. و فيه أنّه لا بأس به في نفسه لكنّه مفوّت لما تقدّم من النكتة.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) لا شكّ أنّ تنزيل الكتاب على الناس و إنزال الذكر على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحد بمعنى أنّ تنزيله على الناس هو إنزاله إليه ليأخذوا به و يوردوه مورد العمل كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً

٢٧٥

مُبِيناً ) النساء: ١٧٤ و قال:( لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الأنبياء: ١٠.

فيكون محصّل المعنى أنّ القصد بنزول هذا الذكر إلى عامّة البشر و أنّك و الناس في ذلك سواء، و إنّما اخترناك لتوجيه الخطاب و إلقاء القول لا لنحمّلك قدرة غيبيّة و إرادة تكوينيّة إلهيّة فنجعلك مسيطرا عليهم و على كلّ شي‏ء بل لأمرين:

أحدهما: أن تبيّن للناس ما نزّل تدريجاً إليهم لأنّ المعارف الإلهيّة لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بدّ من بعث واحد منهم للتبيين و التعليم، و هذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثمّ يؤمر بتبليغه و تعليمه تبيينه.

و الثاني: رجاء أن يتفكّروا فيك فيتبصّروا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله فإنّ الأوضاع المحيطة بك و الحوادث و الأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم و خمود الذكر و الحرمان من التعلّم و الكتابة و فقدان مربّ صالح و الفقر و الاحتباس بين قوم جهلة أخسّاء صفر الأيدي من مزايا المدنيّة و فضائل الإنسانيّة كانت جميعاً أسباباً قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، و لا تقبض من عرى السعادة على مسكة، لكنّ الله سبحانه أنزل إليك ذكراً تتحدّى به على الجنّ و الإنس مهيمنا على سائر الكتب السماويّة تبيانا لكلّ شي‏ء و هدى و رحمة و برهاناً و نوراً مبيناً.

فالتفكّر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع و لا لك من الأمر شي‏ء و أنّ الله أنزله بعلمه و أيّدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب العاديّة شي‏ء.

هذا ما تفيده الآية الكريمة نظراً إلى سياقها و سياق ما قبلها و محصّله أنّ قوله:( لِتُبَيِّنَ ) إلخ، غاية للإنزال لا لنفسه بل من حيث تعلّقه بشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّ متعلّق( يَتَفَكَّرُونَ ) المحذوف هو نحو قولنا: فيك لا قولنا: في الذكر.

لكنّ القوم ذكروا أنّ قوله:( لِتُبَيِّنَ ) غاية للإنزال و أنّ المراد بالتفكّر

٢٧٦

التفكّر في الذكر ليعلم بذلك أنّه حقّ و معنى الآية على هذا:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) أي القرآن لتبيّن للناس كافّة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من اُصول المعارف و الأحكام و الشرائع و أحوال الاُمم الماضية و ما جرى فيهم من سنّة الله تعالى، و لرجاء أن يتفكّروا في الذكر فيهتدوا إلى أنّه حقّ من عند الله أو يتفكّروا فيما تبيّنه لهم.

و أنت خبير بأنّ لازم ذلك أوّلاً شبه تحصيل الحاصل في إنزاله إليه ليبيّن لهم ما نزّل إليهم، و الإنزال واحد، و لا مدفع له إلّا أن يغيّر النظم إلى مثل قولنا: و أنزلنا إليك الذكر لتبيّنه لهم.

و ثانياً: كون قوله:( إِلَيْكَ ) مستدركا مستغنى عنه و خاصّة بالنظر إلى قوله:( وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) و ذلك أنّ الإنزال غايته التبيين و لا أثر في ذلك لكونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنزل إليه دون غيره، و كذلك التفكّر في الذكر غاية مرجوّة للعلم بأنّه حقّ من عند الله من غير نظر إلى من اُنزل إليه، و لازم ذلك كون قوله:( إِلَيْكَ ) زائداً في الكلام لا حاجة إليه.

و ثالثاً: انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ) و الآيات المتقدّمة عليها.

و هاهنا وجه آخر يمكن أن يندفع به بعض الإشكالات السابقة و هو كون المراد بالذكر المنزّل لفظ القرآن الكريم و بما نزّل إليهم معاني الأحكام و الشرائع و غيرها، و يكون قوله:( لِتُبَيِّنَ ) غاية للإنزال، و قوله:( وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) معطوفا على مقدّر و غاية للتبيين لا للإنزال، و هو خلاف ظاهر الآية، و عليك بإجادة التدبّر فيها.

و من لطيف التعبير في الآية قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) و( ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) بتفريق الفعلين بالإفعال الدالّ على اعتبار الجملة و الدفعة و التفعيل الدالّ على اعتبار التدريج، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ العناية في قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) بتعلّق الإنزال بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط من غير نظر إلى خصوصيّة نفس الإنزال، و لذلك اُخذ الذكر جملة واحدة فعبّر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.

٢٧٧

و أمّا الناس فإنّ الّذي لهم من ذلك هو الأخذ و التعلّم و العمل، و قد كان تدريجيّاً و لذلك عنّي به و عبّر عن نزوله إليهم بالتنزيل.

و في الآية دلالة على حجّيّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الآيات القرآنيّة، و أمّا ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في غير النصّ و الظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله و ما فيه من التأويل فممّا لا ينبغي أن يصغي إليه.

هذا في نفس بيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر و غيره و أمّا سائر الاُمّة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجّيّة لبيانهم لعدم شمول الآية و عدم نصّ معتمد عليه يعطي حجّيّة بيانهم على الإطلاق.

و أمّا قوله تعالى:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فقد تقدّم أنّه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.

هذا كلّه في نفس بيانهم المتلقّى بالمشافهة، و أمّا الخبر الحاكي له فما كان منه بيانا متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعيّة و ما يلحق به فهو حجّة لكونه بيانهم، و أمّا ما كان مخالفاً للكتاب أو غير مخالف لكنّه ليس بمتواتر و لا محفوفاً بالقرينة فلا حجّيّة فيه لعدم كونه بياناً في الأوّل و عدم إحراز البيانيّة في الثاني و للتفصيل محلّ آخر.

قوله تعالى: ( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) هذه الآية و الآيتان بعدها إنذار و تهديد للمشركين و هم الّذين يعبدون غير الله سبحانه و يشرّعون لأنفسهم سننا يستنّون بها في الحياة فما يعملون من الأعمال مستقلّين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوّة استناداً إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلّها سيّئات و ما يتقلّبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون و أخذ أو ردّ و فعل أو ترك و هم على ما هم عليه من استكبار و غرور، كلّها ذنوب يقترفونها مكراً بالله ربّهم و برسله الداعين إلى الأخذ بدين الله و لزوم سبيله.

٢٧٨

فقوله:( السَّيِّئاتِ ) مفعول( مَكَرُوا ) بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيّئات ماكرين، و ما احتمله بعضهم من كون السيّئات وصفاً سادّاً مسدّ المفعول المطلق و التقدير: يمكرون المكرات السيّئات بعيد من السياق.

و بالجملة الكلام لتهديد المشركين و إنذارهم بالعذاب الإلهيّ و يدخل فيهم مشركو مكّة، و الكلام متفرّع على ما تقدّم كما يدلّ عليه قوله:( أَ فَأَمِنَ ) بفاء التفريع.

و المعنى - و الله أعلم - فإذا دلّت الآيات البيّنات على أنّ الله هو ربّهم لا شريك له في ربوبيّته و أنّ الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم و خير دنياهم و اُخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله و يوحي إليهم بما تشتمل عليه الدعوة، فهؤلاء الّذين يعرضون عن ذلك و يمكرون بالله و رسله بالتشبّث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله و تشريع ما يوافق أهواءهم و يعملون السيّئات هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب و هم لا يشعرون، أي يفاجئهم من غير أن يتنبّهوا بتوجّهه إليهم قبل نزوله.

قوله تعالى: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) الفاعل هو الله سبحانه و قد كثرت في القرآن نسبة الأخذ إليه، و قيل: الضمير للعذاب، و التقلّب هو التحوّل من حال إلى حال و المراد به تحوّل المشركين في مقاصدهم و أعمالهم السيّئة و انتقالهم من نعمة إلى نعمة اُخرى من نعم الحياة الدنيا، قال تعالى:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: ١٩٧.

فالمراد بأخذهم في تقلّبهم أن يأخذهم في عين ما يتقلّبون فيه من السيّئات مكراً بالله و رسله بالعذاب أو المعنى يعذّبهم بنفس ما يتقلّبون فيه فيعود النعمة نقمة، و هذا أنسب بالنظر إلى قوله:( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

و قوله:( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) في مقام التعليل لأخذهم في تقلّبهم و مكرهم السيّئات

٢٧٩

أي لأنّهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلّب عليه أو بالفرار من حكمه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ فإنّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) التخوّف تمكّن الخوف من النفس و استقراره فيها فالأخذ على تخوّف هو العذاب مبنيّاً على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتّقوه و يحذروه بما استطاعوا من توبة و ندامة و نحوهما فيكون الأخذ على تخوّف مقابلاً لإتيان العذاب من حيث لا يشعرون.

و ربّما قيل: إنّ الأخذ على تخوّف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة و الطوفان و غيرهما.

و ربّما قيل: إنّ معنى التخوّف التنقّص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيّاً كأخذ الأمن ثمّ الأمطار ثمّ الرخص ثمّ الصحّة و هكذا.

و قوله:( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوّف و يتنزّل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الّذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنّه رؤف رحيم، و في التعبير بقوله:( رَبَّكُمْ ) إشارة إلى ذلك، و كونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الأوّلين ظاهر، و أمّا بالنسبة إلى الثالث فلأنّ الأخذ بالنقص لا يخلو من مهلة و فرصة يتنبّه فيها من تنبّه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.

و الكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقاً للحصر كما نبّه به بعضهم بل إحصاء لأنواع منه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ ) المراد بالرؤية الرؤية البصريّة و النظر الحسّيّ إلى الأشياء الجسمانيّة لأنّ المطلوب إلفات النظر إلى الأجسام ذوات الأظلال.

و التفيّؤ من الفي‏ء و هو الظلّ راجعاً، و لذا قيل: إنّ الظلّ هو ما في أوّل النهار إلى زوال الشمس و الفي‏ء هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار، و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409