الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87215 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأعراف: ٣٤ و قال:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤.

قوله تعالى: ( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبّون البنين و يستحسنونهم.

فقوله:( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) يعني البنات و قوله:( وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنّة على تقدير صحّة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: ٥٠ و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجي‏ء من معناه.

و قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي المقدّمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدّم و الإفراط الإسراف في التقدّم كما أنّ التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الّذي يسبق السيّارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدّمه.

و لما كان قولهم كذبا و افتراء إنّ لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنّهم سبقوا ربّهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أنّ لهم النار و أنّهم مقدّمون إليها حقّاً و ذلك قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ظاهر السياق أنّ المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليّا لهم يومئذ اتّفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات الّتي توعد بالعذاب.

٣٠١

و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى اُمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممّن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فاتّبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليّهم اليوم و هم متّفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.

و جوّز الزمخشريّ على هذا الوجه أن يكون ضمير( وَلِيُّهُمُ ) لقريش و المعنى أنّ الشيطان زيّن للاُمم الماضين أعمالهم و هو اليوم وليّ قريش و يبعّده لزوم اختلاف الضمائر.

و يمكن أن يكون المراد بالاُمم الاُمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد باليوم مدّة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.

و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.

و أقرب الوجوه أوّلها ثمّ التالي فالتالي و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالّذي اختلفوا فيه هو الحقّ من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبيين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجّة، و الدليل على هذا الّذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقّة و الأحكام الإلهيّة و ما أنزلنا عليك الكتاب إلّا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحقّ الّذي اختلف فيه فيتمّ لهم الحجّة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحقّ و يرحمهم بالإيمان به و العمل.

٣٠٢

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الذكر محمّد و نحن أهله المسؤلون‏. الحديث.

أقول: يشيرعليه‌السلام إلى قوله تعالى:( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا ) الطلاق: ١١ و في معناه روايات كثيرة.

و في تفسير البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال جلّ ذكره:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمّدعليه‌السلام أمر الله عزّوجلّ بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهّال و سمّى الله عزّوجلّ القرآن ذكراً فقال تبارك و تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) و قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ‏ ) .

أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأنّ الذكر هو القرآن و أنّهم أهله لكونهم قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرّح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث اُخر.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول الله تعالى:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أنّهم اليهود و النصارى فقال: إذاً يدعونكم إلى دينهم قال ثمّ قال: بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر و نحن المسؤلون. قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : الذكر القرآن.

أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضاعليه‌السلام في مجلس المأمون.

و قد مرّ أنّ الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيّين المحيلين للرسالة اُمروا أن يسألوا أهل الذكر و هم أهل الكتب السماويّة: هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحي إليهم؟ و من المعلوم أنّ المشركين لما كانوا

٣٠٣

لا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لأنّهم لم يكونوا يقرّون للقرآن أنّه ذكر من الله فتعيّن أن يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب و خاصّة اليهود.

و أمّا إذا اُخذ قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) في نفسه مع قطع النظر عن المورد و من شأن القرآن ذلك - و من المعلوم أنّ المورد لا يخصّص بنفسه - كان القول عامّاً من حيث السائل و المسؤل و المسؤل عنه ظاهراً فالسائل كلّ من يمكن أن يجهل شيئاً من المعارف حقيقيّة و المسائل من المكلّفين، و المسؤل عنه جميع المعارف و المسائل الّتي يمكن أن يجهله جاهل، و أمّا المسؤل فإنّه و إن كان بحسب المفهوم عامّاً فهو بحسب المصداق خاصّ و هم أهل بيت النبيّعليه‌السلام .

و ذلك أنّ المراد بالذكر إن كان هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر، و إن كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقومه - و هم قومه أو المتيقّن من قومه - فهم أهله و خاصّته و هم المسؤلون و قد قارنهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن‏ و أمر الناس بالتمسّك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض‏. الحديث.

و من الدليل على أنّ كلامهمعليه‌السلام من الجهة الّتي ذكرناها عدم تعرّضهم لشي‏ء من خصوصيّات مورد الآية.

و ممّا قدّمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أنّ المشركين الّذين اُمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقبلون من أهل بيته؟.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله و قد قال الله( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه.

٣٠٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ - إلى قوله -بِمُعْجِزِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : إذا جاؤا و ذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ ) قال: قال: على تيقّظ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال: واجباً.

و في المعاني، بإسناده عن حنّان بن سدير عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام :( وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الّذي لا يشبهه شي‏ء و لا يوصف و لا يتوهّم‏.

و في الدرّ المنثور في قوله:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ) الآية أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ الله يؤاخذني و عيسى بن مريم بذنوبنا - و في لفظ: بما جنت هاتان الإبهام و الّتي تليها - لعذّبنا ما يظلمنا شيئاً.

أقول: و الحديث مخالف لما يثبته الكتاب و السنّة من عصمة الأنبياءعليهم‌السلام و لا وجه لحملة على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه.

٣٠٥

( سورة النحل الآيات ٦٥ - ٧٧)

وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ٦٥ ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ ( ٦٦ ) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٦٧ ) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( ٦٨ ) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا  يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ٦٩ ) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ  وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا  إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( ٧٠ ) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ  فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ  أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ( ٧١ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ  أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ( ٧٢ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٧٣ ) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ  إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٧٤ ) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ

٣٠٦

وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا  هَلْ يَسْتَوُونَ  الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ  هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ  وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٧٧)

( بيان)

رجوع بعد رجوع إلى عدّ النعم و الآلاء الإلهيّة و استنتاج التوحيد و البعث منها و الإشارة إلى مسألة التشريع و هي النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلخ، يريد إنبات الأرض بعد ما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الّذي هو المطر فتأخذ اُصول النباتات و بذورها في النمو بعد سكونها، و هي حياة من سنخ الحياة الحيوانيّة و إن كانت أضعف منها، و قد اتّضح بالأبحاث الحديثة أنّ للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان و إن اختلفتا صورة و أثراً.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فإنّ العاقل الطالب للحقّ إذا سمع ما يتوقّع فيه الحقّ أصغى و استمع إليه ليعيه و يحفظه، قال تعالى:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨.

فإذا ذكّر من فيه قريحة قبول الحقّ حديث إنزال الله المطر و إحيائه الأرض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث و أنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) إلخ الفرث هو الثفل الّذي ينزل إلى

٣٠٧

الكرش و الأمعاء فإذا دفع فهو سرجين و ليس فرثا، و السائغ اسم فاعل من السوغ يقال: ساغ الطعام و الشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.

و قوله:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) أي لكم في الإبل و البقر و الغنم لأمراً أمكنكم أن تعتبروا به و تتّعظوا ثمّ بين ذلك الأمر بقوله:( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلخ، أي بطون ما ذكر من الأنعام أخذ الكثير شيئاً واحداً.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ ) الفرث في الكرش و ألبان الأنعام مكانها مؤخّر البطن بين الرجلين، و الدم مجراه الشرايين و الأوردة و هي محيطة بهما جميعاً فأخذ اللبن شيئاً هو بين الفرث و الدم كأنّه باعتبار مجاورته لكلّ منهما و اجتماع الجميع في داخل الحيوان و هذا كما يقال، اخترت زيدا من بين القوم و دعوته و أخرجته من بينهم إذا اجتمع معهم في مكان واحد و جاورهم فيه و إن كان جالساً في حاشية القوم لا وسطهم، و المراد بذلك أنّي ميّزته من بينهم و قد كان غير متميّز.

و المعنى: نسقيكم ممّا في بطونه لبناً خارجاً من بين فرث و دم خالصاً غير مختلط و لا مشوب بهما و لا مستصحب لشي‏ء من طعمهما و رائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر و ذريعة إلى العلم بكمال القدرة و نفوذ الإرادة، و أنّ الّذي خلّص اللبن من بين فرث و دم لقادر على أن يبعث الإنسان و يحييه بعد ما صار عظاماً رميماً و ضلّت في الأرض أجزاؤه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: السكر - بضمّ السين - حالة تعرض بين المرء و عقله - إلى أن قال - و السكر - بفتحتين - ما يكون منه السكر، قال تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) انتهى.

و قال في المجمع: السكر في اللغة على أربعة أوجه: الأوّل ما أسكر من الشراب، و الثاني ما طعم من الطعام، قال الشاعر:( جعلت عيب الأكرمين سكراً) أي جعلت ذمّهم طعما لك، و الثالث السكون و منه ليلة ساكرة أي ساكنة، قال الشاعر:( و ليست بطلق و لا ساكرة) و يقال: سكرت الريح سكنت، قال:( و جعلت عين

٣٠٨

الحرور تسكر) ، و الرابع المصدر من قولك: سكر سكراً و منه التسكير التحيير في قوله:( سكرت أبصارنا) انتهى. و الظاهر أنّ الأصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك، و سائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة و التوسّع.

و قوله:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ ) إمّا جملة اسميّة معطوفة على قوله:( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) كقوله في الآية السابقة:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) ، و التقدير: و من ثمرات النخيل و الأعناب ما - أو(١) شي‏ء -( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، قالوا: و العرب ربّما يضمر ما الموصولة كثيراً، و منه قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) الدهر: ٢٠، و التقدير رأيت ما ثمّ، أو التقدير و من ثمرات النخيل و الأعناب شي‏ء تتّخذون منه، بناء على عدم جواز حذف الموصول و إبقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريّون من النحاة.

و إمّا جملة فعليّة معطوفة على قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) ، كما في الآية التالية:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) و التقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل و الأعناب، و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، بدل منه أو استئناف كأنّ قائلاً يقول: ما ذا نستفيد منه فقيل:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) ، و إفراد ضمير( مِنْهُ ) بتأويل المذكور كقوله:( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) في الآية السابقة.

و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) أي تتّخذون ممّا ذكر من ثمرات النخيل و الأعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و غير ذلك ممّا يقتات به.

و لا دلالة في الآية على إباحة استعمال السكر و لا على تحسين استعماله إن لم تدلّ على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن و إنّما الآية تعدّ ما ينتفعون به من ثمرات النخيل و الأعناب و هي مكّيّة تخاطب المشركين و تدعوهم إلى التوحيد.

و على هذا فالآية لا تتضمّن حكماً تكليفيّاً حتّى تكون منسوخة أو غير منسوخة

__________________________________________________

(١) الترديد مبنيّ على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.

٣٠٩

و به يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.

و قد أغرب صاحب روح المعاني إذ قال: و تفسير السكر بالخمر هو المرويّ عن ابن مسعود و ابن عمر، و أبي رزين و الحسن و مجاهد و الشعبيّ و النخعيّ و ابن أبي ليلى و أبي ثور و الكلبيّ و ابن جبير مع خلق آخرين، و الآية نزلت في مكّة و الخمر إذ ذاك كانت حلالاً يشربها البرّ و الفاجر، و تحريمها إنّما كان بالمدينة اتّفاقاً، و اختلفوا في أنّه قبل اُحد أو بعدها و الآية المحرّمة لها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ، على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها و روى ذلك غير واحد ممّن تقدّم كالنخعيّ و أبي ثور و ابن جبير.

و قيل: نزلت قبل و لا نسخ بناء على ما روي عن ابن عبّاس أنّ السكر هو الخلّ بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أنّ السكر المطعوم المتفكّه به كالنقل و أنشد:( جعلت أعراض الكرام سكراً) - إلى أن قال - و إلى عدم النسخ ذهب الحنفيّون و قالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة و استدلّوا عليه بأنّ الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك، و لا يقع الامتنان إلّا بمحلّل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيّذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.

أمّا ما ذكره في الخمر فقد فصّلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة، و أقمنا الشواهد هناك على أنّ الخمر كانت محرّمة قبل الهجرة و كان الإسلام معروفاً بتحريمها و تحريم الزنا عند المشركين عامّتهم، و أنّ تحريمها نزل في سورة الأعراف و قد نزلت قبل سورة النحل قطعاً، و في سورتي البقرة و النساء و قد نزلتا قبل سورة المائدة.

و أنّ الّتي نزلت في المائدة إنّما نزلت لتشديد الحرمة و زجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلّفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات و هو الّذي يشير إليه

٣١٠

بقوله: يشربها البرّ و الفاجر و في لفظ الآيات دلالة على ذلك إذ يقول:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

و أمّا ما نقله عن ابن عبّاس أنّ السكر في لغة الحبشة بمعنى الخلّ فلا معوّل عليه، و استعمال اللفظ غير العربيّ و إن كان غير عزيز في القرآن كما قيل في إستبرق و جهنّم و زقّوم و غيرها لكنّه إنّما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو إبهام، و أمّا في مثل السكر و هو في اللغة العربيّة الخمر و في الحبشيّة الخلّ فلا و كيف يجوز أن ينسب إلى أبلغ الكلام أنّه ترك الخلّ و هو عربيّ جيّد و استعمل مكانه لفظة حبشيّة تفيد في العربيّة ضدّ معناها؟

و أمّا ما نسبه إلى أبي عبيدة فقد تقدّم ما عليه في أوّل الكلام فراجع.

و أمّا ما نسبه إلى الحنفيّة من أنّ المراد بالسكر النبيذ و أنّ الآية تدلّ على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حدّ الإسكار لمكان الامتنان ففيه أنّ الآية لا تدلّ على أكثر من أنّهم يتّخذون منه سكراً، و أمّا الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الآية و إنّما عدّ من النعم ثمرات النخيل و الأعناب لا كلّ ما عملوا منها من حلال و حرام و لو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدالّ بمقابلته على نوع من العتاب على اتّخاذهم منه سكراً كما اعترف به البيضاويّ و غيره.

على أنّ ما في الآية من لفظ السكر غير مقيّد بكونه نبيذاً أو خمراً و لا قليلاً لا يبلغ حدّ الإسكار و لا غيره فلو كان اتّخاذ السكر متعلّقاً للامتنان الدالّ على الجواز لكانت الآية صريحة في حلّيّة الجميع ثمّ لم يقبل النسخ أصلاً فإنّ لسان الامتنان لا يقبل أمداً يرتفع بعده، كيف يجوز أن يعدّ الله شيئاً من نعمه و يمتنّ على الناس به ثمّ يعدّه بعد برهة رجساً و من عمل الشيطان كما في آية المائدة إلّا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) حثّا على التعقّل و الإمعان في أمر النبات و ثمراته.

قوله تعالى: ( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) إلى

٣١١

آخر الآيتين، الوحي - كما قال الراغب - الإشارة السريعة و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرّد عن التركيب أو بإشارة و نحوها، و المحصّل من موارد استعماله أنّه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي و كذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كلّ ذلك من الوحي، و قد استعمل في كلامه تعالى في كلّ من هذه المعاني كقوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) الآية، و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) القصص: ٧، و قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: ١٢١، و قوله:( فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) مريم: ١١، و من الوحي التكليم الإلهيّ لأنبيائه و رسله، قال تعالى:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْياً ) الشورى: ٥١، و قد قرّر الأدب الدينيّ في الإسلام أن لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء و الرسل من التكليم الإلهيّ.

قال في المجمع: و الذلل جمع الذلول، يقال: دابّة ذلول بين الذلّ و رجل ذلول بيّن الذلّ و الذلّة. انتهى.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) أي ألهمه من طريق غريزته الّتي أودعها في بنيته، و أمر النحل و هو زنبور العسل في حياته الاجتماعيّة و سيرته و صنعته لعجيب، و لعلّ بداعة أمره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) .

و قوله:( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ) هذا من مضمون الوحي الّذي اُوحي إليه، و الظاهر أنّ المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.

و قوله:( ثُمَّ كُلِي مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) الأمر بأن تأكل من كلّ الثمرات مع أنّها تنزل غالباً على الأزهار إنّما هو لأنّها إنّما تأكل من موادّ الثمرات أوّل ما تتكوّن في بطون الأزهار و لما تكبر و تنضج.

و قوله:( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ) تفريعه على الأمر بالأكل يؤيّد أنّ

٣١٢

المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيّأته من العسل المأخوذ من الثمرات و إضافة السبل إلى الربّ للدلالة على أنّ الجميع بإلهام إلهيّ.

و قوله:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) إلخ، استئناف بعد ذكر جملة ما اُمرت به يبيّن فيه ما يترتّب على مجاهدتها في امتثال أمر الله سبحانه ذللا و هو أنّه يخرج من بطونها أي بطون النحل( شَرابٌ ) و هو العسل( مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) بالبياض و الصفرة و الحمرة الناصعة و ما يميل إلى السواد( فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) من غالب الأمراض.

و تفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة الّتي بنت حياتها على مدنيّة عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها و لا يحاط بدقائقها ثمّ الّذي تهيّؤه ببالغ مجاهدتها و ما يشتمل عليه من الخواصّ خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظانّ تحقيقه.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و قد اختلف التعبير بذلك في هذه الآيات فخصّ الآية في إحياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون، و في ثمرات النخيل و الأعناب بقوم يعقلون، و في أمر النحل بقوم يتفكّرون.

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ النظر في أمر الموت و الحياة بحسب طبعه من العبرة و الموعظة، و هي بالسمع أنسب، و النظر في الثمرات من حيث ما ينفع الإنسان في وجوده من السير البرهاني من مسلك اتّصال التدبير و ارتباط الأنظمة الجزئيّة و رجوعها إلى نظام عامّ واحد لا يقوم إلّا بمدبّر واحد و هو للعقل أنسب، و أمر النحل في حياتها يتضمّن دقائق عجيبة لا تنكشف للإنسان إلّا بالإمعان في التفكّر فهو آية للمتفكّرين.

و قد أشرنا سابقاً إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات، و عمدتها في هذه الآيات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم و إشفاقا بحالهم و هم لا يعلمون، و الإعراض عن مخاطبتهم لكفرهم و جحودهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلّب بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين فيتحوّل منه إليهم و منهم إليه.

٣١٣

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شيئاً ) إلخ، الأرذل اسم تفضيل من الرذالة و هي الرداءة و الرذل الدون و الردي‏ء، و المراد بأرذل العمر بقرينة قوله:( لِكَيْ لا يَعْلَمَ ) إلخ، سنّ الشيخوخة و الهرم الّتي فيها انحطاط قوى الشعور و الإدراك، و هي تختلف باختلاف الأمزجة و تبتدئ على الأغلب من الخمس و السبعين.

و المعنى: و الله خلقكم معشر الناس ثمّ يتوفّاكم في عمر متوسّط و منكم من يردّ إلى سنّ الهرم فينتهي إلى أن لا يعلم بعد علم شيئاً لضعف القوى، و هذا آية أنّ حياتكم و موتكم و كذا شعوركم و علمكم ليست بأيديكم و إلّا اخترتم البقاء على الوفاة و العلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه و قدرته تعالى، و لهذا علّله بقوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ اللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) إلى آخر الآية، فضل بعض الناس على بعض في الرزق و هو ما تبقى به الحياة ربّما كان من جهة الكميّة كالغنيّ المفضّل بالمال الكثير على الفقير، و ربّما كان من جهة الكيفيّة كأن يستقلّ بالتصرّف فيه بعضهم و يتولّى أمر الآخرين مثل ما يستقلّ المولى الحرّ بملك ما في يده و التصرّف فيه بخلاف عبده الّذي ليس له أن يتصرّف في شي‏ء إلّا بإذنه و كذا الأولاد الصغار بالنسبة إلى وليّهم و الأنعام و المواشي بالنسبة إلى مالكها.

و قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى‏ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) قرينة على أنّ المراد هو القسم الثاني من التفضيل و هو أنّ بعضهم فضّل بالحرّيّة و الاستقلال بملك ما رزق و ليس يختار أن يردّ ما رزق باستقلاله و حرّيته إلى من يملكه و يملك رزقه، و لا أن يبذل له ما اُوتيه من نعمة حتّى يتساويّاً و يتشاركاً فيبطل ملكه و يذهب سودده.

فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها و لا برادّين لها على غيرهم، و ليست إلّا من الله سبحانه فإنّ أمر المولويّة و الرقّيّة و إن كان من الشؤون الاجتماعيّة الّتي ظهرت عن آراء الناس و السنن الاجتماعيّة الجارية في مجتمعاتهم لكن له اُصول طبيعيّة

٣١٤

تكوينيّة هي الّتي بعثت آراءهم على اعتباره كسائر الاُمور الاجتماعيّة العامّة.

و من الشاهد على ذلك أنّ الاُمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بإلغاء سنّة الاسترقاق ثمّ اتّبعتهم سائر الاُمم من الشرقيّين و غيرهم و هم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية و إن ألغوا صورتها، و يجرون مسمّاها و إن هجروا اسمها(١) و لن يزالوا كذلك فليس في وسع الإنسان أن يسدّ باب المغالبة، و قد قدّمنا كلاماً في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.

و كون هذا المعنى نعمة من الله إنّما هو لأنّ من صلاح المجتمع الإنسانيّ أن يتسلّط بعضهم على بعض فيصلح القويّ الضعيف بصالح التدبير و يكمّله.

و على هذا فقوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) متفرّع على المنفي في قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ ) دون النفي، و المعنى: ليسوا برادّي رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين و في ذلك ذهاب مولويّتهم، و يحتمل أن يكون جملة استفهامية حذفت منها أداة الاستفهام و فيها إنكار أن يكون المفضّلون و المفضّل عليهم في ذلك متساويين، و لو كانوا سواء لم يمتنع المفضّل من أن يردّ رزقه على من فضل عليه فإنّ في ذلك دلالة على أنّها نعمة خصّه الله بها.

و لذلك عقّبه ثانياً بقوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) و هو استفهام توبيخيّ كالمتفرّع لما تقدّمه من الاستفهام الإنكاريّ، و المراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.

و المعنى - و الله أعلم - و الله فرّق بينكم بأن فضّل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حرّ مستقلّ في التصرّف فيه، و بعضكم عبد تبع له لا يتصرّف إلّا عن إذن فليس الّذين فضّلوا برادّي رزقهم الّذي رزقوه على سبيل الحرّيّة و الاستقلال على ما ملكت أيمانهم حتّى يكون هؤلاء المفضّلون و المفضّل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختصّ بالمفضّلين أ فبنعمة الله يجحدون؟.

__________________________________________________

(١) و إنّما نقلوا حكم الاسترقاق ممّا بين الفرد و الفرد إلى ما بين المجتمع و المجتمع و سموه بغير اسمه.

٣١٥

هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفّت به من القرائن، و السياق سياق تعداد النعم، و ربّما قرّر معنى الآية على وجه آخر:

فقيل: المعنى أنّهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم و أزواجهم حتّى يكونوا في ذلك سواء و يرون ذلك نقصا لأنفسهم فكيف يشركون عبيدي في ملكي و سلطاني و يعبدونهم و يتقرّبون إليهم كما يعبدونني و يتقرّبون إلي، كما فعلوا في عيسى بن مريمعليه‌السلام ؟

قالوا: و الآية على شاكلة قوله تعالى:( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) الروم: ٢٨ قالوا: و الآية نزلت في نصارى نجران.

و فيه أنّ سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة و التوبيخ فلا أثر فيها منه.

على أنّ الآية ممّا نزلت بمكّة و أين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ستّ من الهجرة أو بعدها؟ و قياس هذه الآية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين، فسياق هذه الآية سياق الاحتجاج بذكر النعمة و سياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك.

و قيل: إنّ المعنى فهؤلاء الّذين فضّلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم و عبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملّاك و المماليك فإنّ الّذي ينفقه المولى على مملوكه إنّما ينفقه ممّا رزقهم الله فالله رازقهم جميعاً فهم فيه سواء.

و محصّله أنّ قوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) حالّ محلّ إضراب مقدّر و التقدير أنّ الموالي ليسوا برادّي رزق أنفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدي مواليهم و هم سواء في الرزق من الله.

و فيه أنّ ما قرّر من المعنى مقتضاه أن يبطل التسوية أخيراً حكم التفضيل أوّلاً، و لا يستقيم عليه مدلول قوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) .

و قيل: المراد أنّ الموالي ليسوا برادّي ما بأيديهم من الرزق على مواليهم

٣١٦

حتّى يستووا في التمتّع منه.

و فيه أنّه يعود حينئذ إلى أنّ الإنسان يمنع غيره من أن يتسلّط على ما ملكه من الرزق، و حينئذ يكون تخصيص ذلك بالعبيد مستدركاً زائداً، و لو وجه بأنّه إنّما لا يردّه عليه لمكان تسلّطه على عبيده رجع إلى ما قدّمناه من المعنى، و لكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكيّة المولى لعبده و لما عنده من الرزق.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) إلى آخر الآية. قال في المفردات: قال الله تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) جمع حافد و هو المتحرّك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب. قال المفسّرون: هم الأسباط و نحوهم و ذلك أنّ خدمتهم أصدق - إلى أن قال - قال الأصمعيّ: أصل الحفد مداركة الخطو. انتهى.

و في المجمع: و أصل الحفد الإسراع في العمل - إلى أن قال - و منه قيل للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة. انتهى. و المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين لمكان قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) و لذا فسّر بعضهم قوله:( بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) بصغار الأولاد و كبارهم، و بعضهم بالبنين و الأسباط و هم بنو البنين.

و المعنى: و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً تألفونها و تأنسون بها، و جعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين و حفدة و أعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم و تدفعون بهم عن أنفسكم المكاره و رزقكم من الطيّبات و هي ما تستطيبونه من أمتعة الحياة و تنالونه بلا علاج و عمل كالماء و الثمرات أو بعلاج و عمل كالأطعمة و الملابس و نحوها، و( مِنْ ) في( مِنَ الطَّيِّباتِ ) للتبعيض و هو ظاهر.

ثمّ وبّخهم بقوله:( أَ فَبِالْباطِلِ ) و هي الأصنام و الأوثان و من ذلك القول بالبنات لله، و الأحكام الّتي يشرّعها لهم أئمّتهم أئمّة الضلال( يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) و النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم و جعل البنين و الحفدة من أزواجهم فإنّ ذلك من أعظم النعم و أجلاهاً لكونه أساساً تكوينيّاً يبتني عليه المجتمع البشريّ، و يظهر به فيهم حكم التعاون و التعاضد بين الأفراد، و ينتظم به لهم أمر

٣١٧

تشريك الأعمال و المساعي فيتيسّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا و الآخرة.

و لو أنّ الإنسان قطع هذا الرابط التكوينيّ الّذي أنعم الله به عليه و هجر هذا السبب الجميل، و إن توسّل بأيّ وسيلة غيره لتلاشى جمعه و تشتّت شمله و في ذلك هلاك الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) عطف على موضع الجملة السابقة و المعنى يكفرون بنعمة الله و يعبدون من دون الله ما لا يملك إلخ.

و قد ذكروا أنّ( رِزْقاً ) مصدر و( شيئاً ) مفعوله و المعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئاً و قيل: الرزق بمعنى المرزوق و( شيئاً ) بدل منه، و قيل: إنّ( شيئاً ) مفعول مطلق و التقدير: لا يملك شيئاً من الملك. و خير الوجوه أوسطها.

و يمكن أن يقال:( مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً ) بدل من( رِزْقاً ) و هو من بدل الكلّ من البعض يفيد معنى الإضراب و الترقّي، و المعنى و يعبدون ما لا يملك لهم رزقاً بل لا يملك لهم في السماوات و الأرض شيئاً.

و قوله:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) أي و لا يستطيعون أن يملكوا رزقاً و شيئاً و يمكن أن يكون منسيّ المتعلّق جارياً مجرى اللازم أي و لا استطاعة لهم أصلاً.

و قد اجتمع في الآية رعاية الاعتبارين في الأصنام فإنّها من جهة أنّها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضّة غير عاقلة و بهذا الاعتبار قيل:( ما لا يَمْلِكُ ) إلخ، و من جهة أنّهم يعدّونها آلهة دون الله و يعبدونها و العبادة لا تكون إلّا لعاقل منسلكة - على زعمهم - في سلك العقلاء، و بهذا الاعتبار قيل:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) .

و في الآية رجوع إلى التخلّص لبيان الغرض من تعداد النعم و هو التوحيد و إثبات النبوّة بمعنى التشريع و المعاد يجري ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في أولاها عن ضربّهم الأمثال لله سبحانه، و يضرب في الثانية مثلاً تبيّن به وحدانيّته تعالى في ربوبيّته، و في الثالثة مثلاً يتبيّن به أمر النبوّة و التشريع، و يتعرّض في الرابعة لأمر المعاد.

٣١٨

قوله تعالى: ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الظاهر السابق إلى الذهن أنّ المراد بضرب الأمثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيليّة و هي إجراء الأوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم: إنّ له بنات كالإنسان، و إنّ الملائكة بناته، و إنّ بينه و بين الجنّة نسباً و صهراً، و إنّه كيف يحيي العظام و هي رميم إلى غير ذلك، و هذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى، و قد تقدّم في خلال الآيات السابقة قوله:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ ) .

فالمعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبّهونه بغيره و تقيسونه إلى خلقه لأنّ الله يعلم و أنتم لا تعلمون حقائق الاُمور و كنهه تعالى.

و قيل: المراد بالضرب الجعل، و بالأمثال ما هو جمع المثل بمعنى الندّ، فقوله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) في معنى قوله في موضع آخر:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) البقرة: ٢٢، و هو معنى بعيد.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية، ما في الآية من المثل المضروب يفرض عبداً مملوكاً لا يقدر على شي‏ء، و آخر رزق من الله رزقاً حسناً ينفق منه سرّاً و جهراً ثمّ يسأل هل يستويان؟ و اعتبار التقابل بين المفروضين يعطي أنّ كلّا من الطرفين مقيّد بخلاف ما في الآخر من الوصف مع تبيين الأوصاف بعضها لبعض.

فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه و لا لشي‏ء من متاع الحياة و هو غير قادر على التصرّف في شي‏ء من المال، و الّذي فرض قباله حرّ يملك نفسه و قد رزقه الله رزقاً حسناً و هو ينفق منه سرّاً و جهراً على قدرة منه على التصرّف بجميع أقسامه.

و قوله:( هَلْ يَسْتَوُونَ ) سؤال عن تساويهما، و من البديهيّ أنّ الجواب هو نفي التساوي و يثبت به أنّ الله سبحانه و هو المالك لكلّ شي‏ء المنعم بجميع النعم لا يساوي شيئاً من خلقه و هم لا يملكون لا أنفسهم و لا غيرهم و لا يقدرون على شي‏ء من التصرّف فمن الباطل قولهم: إنّ مع الله آلهة غيره و هم من خلقه.

٣١٩

و التعبير بقوله:( يَسْتَوُونَ ) دون أن يقال: يستويان للدلالة على أنّ المراد من ذلك الجنس من غير أن يختصّ بمولى و عبد معيّنين كما قيل.

و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي له عزّ اسمه جنس الحمد و حقيقته و هو الثناء على الجميل الاختياريّ لأنّ جميل النعمة من عنده و لا يحمد إلّا الجميل فله تعالى كلّ الحمد كما أنّ له جنسه فافهم ذلك.

و الجملة من تمام الحجّة و محصّلها أنّه لا يستوي المملوك الّذي لا يقدر أن يتصرّف في شي‏ء و ينعم بشي‏ء، و المالك الّذي يملك الرزق و يقدر على التصرّف فيه فيتصرّف و ينعم كيف شاء، و الله سبحانه هو المحمود بكلّ حمد إذ ما من نعمة إلّا و هي من خلقه فله كلّ صفة يحمد عليها كالخلق و الرزق و الرحمة و المغفرة و الإحسان و الإنعام و غيرها، فله كلّ ثناء جميل، و ما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شي‏ء فهو سبحانه الربّ وحده دون غيره.

و قد قيل: إنّ الحمد في الآية شكر على نعمه تعالى، و قيل: حمد على تمام الحجّة و قوّتها، و قيل: تلقين للعباد و معناه قالوا: الحمد لله الّذي دلّنا على توحيده و هدانا إلى شكر نعمه، و هي وجوه لا يعبأ بها.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر المشركين لا يعلمون أنّ النعمة كلّها لله لا يملك غيره شيئاً و لا يقدر على شي‏ء بل يثبتون لأوليائهم شيئاً من الملك و القدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعاً و خوفاً، هذا حال أكثرهم و أمّا أقلّهم من الخواصّ فإنّهم على علم من الحقّ لكنّهم يحيدون عنه بغياً و عناداً.

و قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الآية مثل مضروب في الله سبحانه و فيمن يزعمونه شريكاً له في الربوبيّة، و قيل: إنّها مثل تمثّل به حال الكافر المخذول و المؤمن الموفّق فإنّ الكافر لإحباط عمله و عدم الاعتداد بأعماله كالعبد المملوك الّذي لا يقدر على شي‏ء فلا يعدّ له إحسان و إن أنفق و بالغ بخلاف المؤمن الّذي يوفّقه الله لمرضاته و يشكر مساعيه فهو ينفق ممّا عنده من الخير سرّاً و جهراً.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الاحتجاج الّذي للآيات، و قد تقدّم أنّ الآية إحدى

٣٢٠

الآيات الثلاث المتوالية الّتي تتعرّض لغرض تعداد النعم الإلهيّة، و هي تذكّر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعّم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئاً و لا يقدر على شي‏ء فيستنتج أنّ الربّ هو المنعم لا غير.

قوله تعالى: ( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع:، الأبكم الّذي يولد أخرس لا يفهم و لا يفهم، و قيل: الأبكم الّذي لا يقدر أن يتكلّم و الكلّ الثقل يقال: كلّ عن الأمر يكلّ كلّا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه. و كلّت السكّين كلولا إذا غلظت شفرتها، و كلّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه و ذهاب حدّه فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ، و التوجيه: الإرسال في وجه من الطريق، يقال: وجّهته إلى موضع كذا فتوجّه إليه. انتهى.

فقوله:( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ) مقايسة اُخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في أوصافهما المذكورة.

و قوله:( أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) أي محروم من أن يفهم الكلام و يفهم غيره بالكلام لكونه أبكم لا يسمع و لا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليّات و المزايا الّتي يكتسبها الإنسان من طريق السمع الّذي هو أوسع الحواسّ نطاقاً، به يتمكّن الإنسان من العلم بأخبار من مضى و ما غاب عن البصر من الحوادث و ما في ضمائر الناس و يعلّم العلوم و الصناعات، و به يتمكّن من إلقاء ما يدركه من المعاني الجليلة و الدقيقة إلى غيره، و لا يقوى الأبكم على درك شي‏ء منها إلّا النزر اليسير ممّا يساعد عليه البصر بإعانة من الإشارة.

فقوله:( لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) مخصّص عمومه بالأبكم أي لا يقدر على شي‏ء ممّا يقدر عليه غير الأبكم و هو جملة ما يحرمه الأبكم من تلقّي المعلومات و إلقائها.

و قوله:( وَ هُوَ كلّ عَلى‏ مَوْلاهُ ) أي ثقل و عيال على من يلي و يدبّر أمره فهو لا يستطيع أن يدبّر أمر نفسه، و قوله:( أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) أي إلى أيّ جهة أرسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لا ينفع نفسه، فهذا أعني قوله:( أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ

٣٢١

عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، مثل أحد الرجلين، و لم يذكر سبحانه مثل الآخر لحصول العلم به من قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) إلخ، و فيه إيجاز لطيف.

و قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فيه إشارة إلى وصف الرجل المفروض و سؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما و عدمه.

أمّا الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبّس به غير الأبكم من الخير و الكمال الّذي يحلّي نفسه و يعدو إلى غيره و هو العدل الّذي هو التزام الحدّ الوسط في الأعمال و اجتناب الإفراط و التفريط فإنّ الأمر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه أن يتمكّن الصلاح من نفس الإنسان ثمّ ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الاُمور ثمّ يحبّ انبساطه على أعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل و هو - كما عرفت - مطلق التجنّب عن الإفراط و التفريط أي العمل الصالح أعمّ من العدل في الرعيّة.

ثمّ وصفه بقوله:( وَ هُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و هو السبيل الواضح الّذي يهدي سالكيه إلى غايتهم من غير عوج، و الإنسان الّذي هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجري في أعماله على الفطرة الإنسانيّة من غير أن يناقض بعض أعماله بعضاً أو يتخلّف عن شي‏ء ممّا يراه حقّاً و بالجملة لا تخلّف و لا اختلاف في أعماله.

و توصيف هذا الرجل المفروض الّذي يأمر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد أوّلاً أنّ أمره بالعدل ليس من أمر الناس بالبرّ و نسيان نفسه بل هو مستقيم في أحواله و أعماله يأتي بالعدل كما يأمر به.

و ثانياً: أنّ أمره بالعدل ليس ببدع منه من غير أصل فيه يبتني عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط و لازمه أن يحبّ لغيره ذلك فيأمرهم أن يلتزموا وسط الطريق و يجتنبوا حاشيتي الإفراط و التفريط.

و أمّا السؤال أعني ما في قوله:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) إلخ، فهو سؤال لا جواب له إلّا النفي لا شكّ فيه و به يثبت أنّ ما يعبدونه من دون الله من الأصنام و الأوثان و هو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدي من نفسه و لا أن يهدي

٣٢٢

غيره لا يساوي الله تعالى و هو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بإرسال الرسل و تشريع الشرائع.

و منه يظهر أنّ هذا المثل المضروب في الآية في معنى قوله تعالى:( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) يونس: ٣٥ فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته و أفعاله، و من استقامة صراطه أن يجعل لما خلقه من الأشياء غايات تتوجّه إليها فلا يكون الخلق باطلاً، كما قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) و أن يهدي كلّا إلى غايته الّتي تخصّه كما خلقها و جعل لها غاية كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠ فيهدي الإنسان إلى سبيل قاصد كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) الدهر: ٣.

و هذا أصل الحجّة على النبوّة و التشريع، و قد مرّ تمامه في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

فقد تحصّل أنّ الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجّة على التوحيد مع إشارة إلى النبوّة و التشريع.

و قيل: إنّه مثل مضروب فيمن يؤمّل منه الخير و من لا يؤمّل منه، و أصل الخير كلّه من الله تعالى فكيف يستوي بينه و بين شي‏ء سواه في العبادة.؟

و فيه أنّ المورد أخصّ من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه و هو يأمر بالعدل و هو شأنه تعالى دون غيره على أنّهم لا يساوون بينه و بين غيره في العبادة بل يتركونه و يعبدون غيره.

و قيل: إنّه مثل مضروب في المؤمن و الكافر فالأبكم هو الكافر، و الّذي يأمر بالعدل هو المؤمن، و فيه أنّ صحّة انطباق الآية على المؤمن و الكافر بل على كلّ من يأمر بالعدل و من يسكت عنه و جريها فيهما أمر، و مدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم و الاحتجاج على التوحيد و ما يلحق به من الاُصول أمر آخر، و

٣٢٣

الّذي تفيده بالنظر إلى هذه الجهة أنّ مورد المثل هو الله سبحانه و ما يعبدون من دونه لا غير.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الغيب يقابل الشهادة في إطلاقات القرآن الكريم و قد تكرّر فيه:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) و قد تقدّم مراراً أنّهما أمران إضافيّان فالأمر الواحد غيب و غائب بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة و مشهود بالنسبة إلى آخر.

و إذ كان من الأشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره و يخفى ببعض أعني أنّه متضمّن غيباً و شهادة كانت إضافة الغيب و الشهادة إلى الشي‏ء تارة بمعنى اللّام فيكون مثلاً غيب السماوات و الأرض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما، و يلحق بهذا الباب الإضافة لنوع من الاختصاص، كما في قوله:( فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ) الجنّ: ٢٦.

و تارة بمعنى( من ) أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات و الأرض الغيب الّذي يشتملان عليه نوعاً من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة و بعبارة اُخرى ما يغيب عن الأفهام من أمرهما قبال ما يظهر منهما.

و الساعة هي من غيب السماوات و الأرض بهذا المعنى الثاني:

أمّا أوّلاً: فلأنّه سبحانه يعدّها في كلامه من الغيب، و ليست بخارج من أمر السماوات و الأرض فهو من الغيب بهذا المعنى.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما يصفها به من الأوصاف إنّما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبّئهم الله بما كانوا فيه يختلفون و يوم تبلى السرائر و يوماً يخاطب فيه الإنسان بمثل قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ، و يوماً يخاطبون ربّهم بقولهم:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا ) و بالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقّائق في هذه النشأة ظهور عيان، و من المعلوم أنّ هذه الحقائق غير خارجة من السماوات و الأرض بل هي معهما ثابتة.

٣٢٤

كيف؟ و هو تعالى يقول:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فيثبته ملكاً لنفسه و ليس ملكه من الملك الاعتباريّ يتعلّق بكلّ أمر موهوم أو جزافيّ بل ملك حقيقيّ يتعلّق بأمر ثابت فلها نوع من الثبوت و إن فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها.

و الشواهد القرآنيّة على هذا الّذي ذكرناه كثيرة. و قد عدّ سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور و لعبا و لهوا، و كرّر أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة، و ذكر أنّ الدار الآخرة هي الحيوان، و أنّهم سيعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين و سيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، إلى غير ذلك ممّا يشتمل عليه الآيات على اختلاف ألسنتها.

و بالجملة الساعة من غيب السماوات و الأرض، و الآية أعني قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقرّر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل: و لله علم غيب السماوات و الأرض، و سياق الآية يعطي أنّ الجملة أعني قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ ) إلخ، توطئة و تمهيد لقوله:( ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) إلخ، فالجملة مسوقة للاحتجاج.

و على هذا يعود معنى الآية إلى أنّ الله سبحانه يملك غيب السماوات و الأرض ملكا له أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما و كيف لا؟ و غيب الشي‏ء لا يفارق شهادته و هو موجود ثابت معه و له الخلق و الأمر، و الساعة الموعودة ليست بأمر محال حتّى لا يتعلّق بها قدرة بل هي من غيب السماوات و الأرض و حقيقتها المستورة عن الأفهام اليوم فهي ممّا استقرّ عليه ملكه تعالى، و له أن يتصرّف فيه بالإخفاء يوماً و بالإظهار آخر.

و ليست بصعبة عليه تعالى فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ الله على كلّ شي‏ء قدير.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) مسوق لا لإثبات أصل الساعة أو إمكانها بل لنفي صعوبتها و المشقّة في إقامتها و هوان أمرها عنده سبحانه.

٣٢٥

فقوله:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إلّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) أي بالنسبة إليه و إلّا فقد استعظم سبحانه أمرها بما يهون عنده كلّ أمر خطير و وصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها، قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٨٧.

و تشبيه أمرها بلمح البصر إنّما هو من جهة أنّ اللّمحة و هي مدّ البصر و إرساله للرؤية أخفّ الأعمال عند الإنسان و أقصرها زماناً فهو تشبيه بحسب فهم السامع و لذلك عقّبه بقوله:( أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) فإنّ مثل هذا السياق يفهم منه الإضراب فكأنّه تعالى يقول: إنّ أمرها في خفّة المؤنة و الهوان و السهولة بالنسبة إلينا يشبه لمح أحدكم ببصره، و إنّما اُشبّهه به رعاية لحالكم و تقريباً إلى فهمكم و إلّا فالأمر أقرب من ذلك، كما قال فيها:( وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) الأنعام: ٧٣، فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته و مشيّته تعالى كأمر أيسر الخلق و أهونه.

و علّل تعالى ذلك بقوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) فقدرته على كلّ شي‏ء توجب أن تكون الأشياء بالنسبة إليه سواء.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء من حيث النسبة، فقلّة الأسباب المتوسّطة بين الفاعل و فعله و الشرائط و الموانع و كثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة، فالإنسان مثلاً قادر على التنفّس و حمل ما يطيقه من الأثقال و ليسا سواء بالنسبة إليه و على هذا القياس.

فإنّ في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة، و توضيحه أنّ القدرة الّتي فينا قدرة مقيّدة، فإنّ قدرة الإنسان مثلاً على أكل الغذاء و هي أنّ له نسبة الفاعليّة إليه و هي في تأثيرها مشروطة بتحقّق غذاء في الخارج و كونه بين يديه و ممكن التناول و عدم ما يمنع من ذلك من إنسان أو غيره، و كون أدوات الفعل كاليد و الفم و غيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك، و الّذي يملكه الإنسان هو الإرادة و الزائد على ذلك وسائط و شرائط و موانع خارجة عن قدرته بالحقيقة و قيد يقيّدها، و إذا أراد الإنسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه أن يهيّئ تلك الاُمور الّتي تتقيّد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء و وضعه قريبا منه و رفع الموانع و إعمال الأدوات البدنيّة مثلاً.

٣٢٦

و من المعلوم أنّ قلّة هذه الاُمور و كثرتها و قربها و بعدها و ما أشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة و عدمها و ضعف القدرة و قوّتها فتقيّد القدرة هو الموجب للاختلاف.

و أمّا قدرته تعالى فإنّها عين ذاته الّتي يجب وجودها و يمتنع عدمها، و إذا كان كذلك فلو تقيّدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها و هو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحدّ و لا مقيّدة بقيد، عامّة تتعلّق بكلّ شي‏ء على حدّ سواء من غير أن يكون شي‏ء بالنسبة إليه أصعب من شي‏ء أو أسهل، و أقرب إليه من شي‏ء أو أبعد، و إنّما الاختلاف بين الأشياء أنفسها بقياس بعضها إلى بعض.

و بتقريب آخر ما من شي‏ء إلّا و هو يفتقر إليه سبحانه في وجوده، فإذا فرضنا كلّ أمر موجود بحيث لا يشذّ عنها شاذّ في جانب و نسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلّقاً لقدرته، و ليس هناك أمر ثالث يكون قيداً لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع و إلّا لكان شريكاً في التأثير تعالى عن ذلك.

و أمّا الّذي بين الأشياء أنفسها من الأسباب المتوسّطة و الشرائط و الموانع فإنّها توجب تقيّد بعضها ببعض لا تقيّد القدرة العامّة الإلهيّة الّتي تتعلّق بها ثمّ تتعلّق القدرة بالمقيّد منها دون المطلق بمعنى أنّ متعلّق القدرة هو زيد الّذي أبوه فلان و اُمّه فلانة و هو في زمان كذا و مكان كذا و هكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم و القدرة المتعلّقة به متعلّقة بالجميع بعينه، و ليست هناك إلّا قدرة واحدة متعلّقة بالجميع يوجد بها كلّ شي‏ء في موطنه الخاصّ به، و هي مطلقة غير مقيّدة لا اختلاف للأشياء بالنسبة إليها و إنّما الاختلاف بينها أنفسها.

فقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء بالنسبة إليها بالسهولة و الصعوبة و غير ذلك و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنيّة يتبيّن بها:

أوّلاً: أنّ حقيقة المعاد ظهور حقيقة الأشياء بعد خفائها.

٣٢٧

و ثانياً: أنّ القدرة الإلهيّة تتعلّق بجميع الأشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة و الصعوبة و القرب و البعد و غير ذلك.

و ثالثاً: أنّ الأشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجوداً بحيث إنّ إيجاد الواحد منها إيجاد الجميع و الجميع متعلّق قدرة واحدة لا مؤثّر فيها غيرها.

نعم هناك نظر آخر أبسط من ذلك و هو النظر فيها من جهة نظام الأسباب و المسبّبات، و قد صدّقه الله في كلامه كما تقدّم بيانه في البحث عن الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب، و بهذه النظرة ينفصل الأشياء بعضها عن بعض و يتوقّف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدّم و تتأخّر و تسهل و تصعب، و تكون الأسباب وسائط بينها و بينه تعالى و يكون تعالى فاعلاً بوساطة الأسباب، و هو نظر بسيط.

و قد ذكر كثير من المفسّرين في قوله:( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أنّه بحذف مضاف و التقدير و لله علم غيب إلخ، و فيه أنّه يستلزم ارتفاع الاتّصال بين هذه الجملة و بين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب و بين هوان أمر الساعة، فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام.

و قول بعضهم في رفع الاستدراك أنّ صدر الآية و ذيلها يثبتان العلم و القدرة و بهما معا يتمّ خلق الساعة غير مفيد فإنّهم إنّما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدّهم إيّاها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبّث لإثباتها بمسألة العلم، و يشهد لذلك ما في سائر الآيات المثبتة لإمكان المعاد بعموم القدرة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتّى يقال: إنّ الأصل عدمه بل لأنّ إضافة الغيب و هو ما يغيب عن الحسّ و العقل إلى السماوات و الأرض تفيد أنّ المراد الاُمور المجهولة الّتي فيهما ممّا يقع فيهما حالا أو بعد حين و ملكه تعالى له ملكه للعلم به.

و فيه أنّ المقدّمة الأخيرة ممنوعة و قد تقدّم بيانه على أنّ إشكال ارتفاع الاتّصال بين الجملتين في محلّه بعد.

و أيضاً ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ

٣٢٨

شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) أنّ من جملة الأشياء إقامة الساعة في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك.

و فيه أنّه لا يفي بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفي و الإثبات و إنّما يفي بتعليل ما لو قيل: إنّ الله سيجعل أمر الساعة كلمح البصر مع إمكان كونه لا كذلك فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ ) قال: قالعليه‌السلام : الفرث ما في الكرش‏

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفليّ عن السكونيّ قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ليس أحد يغصّ بشرب اللبن لأنّ الله عزّوجلّ يقول:( لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن رجل عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال: نحن النحل الّذي أوحى الله إليه أن اتّخذي من الجبال بيوتاً أمرنا أن نتّخذ من العرب شيعة( وَ مِنَ الشَّجَرِ ) يقول: من العجم( وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ) من الموالي، و الّذي خرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، العلم الّذي يخرج منّا إليكم.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر، و هي من باب الجري و يشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الجبال على قريش، و الشجر على العرب، و ممّا يعرشون على الموالي، و ما يخرج من بطونها على العلم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عليّ بن المغيرة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.

و في المجمع، روي عن عليّعليه‌السلام : إنّ أرذل العمر خمس و سبعون سنة، و روي عن النبيّ مثل ذلك.

أقول: روى ذلك في الدرّ المنثور، عن الطبريّ عن عليّعليه‌السلام ، و روى عن

٣٢٩

ابن مردويه عن أنس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حديثاً مفصّلاً يدلّ على أنّ أرذل العمر مائة سنة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالرحمن الأشلّ عن الصادقعليه‌السلام : في قول الله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) قال: الحفدة بنو البنت، و نحن حفدة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جميل بن دراج عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الحفدة قال: و هم العون منهم يعني البنين.

و في المجمع في معنى الحفدة: هي أختان الرجل على بناته قال: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و لا تنافي بين الروايات كما تقدّم في البيان.

و في التهذيب، بإسناده عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في طلاق العبد و نكاحه قال: ليس له طلاق و لا نكاح أ ما تسمع الله تعالى يقول:( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) قال: لا يقدر على طلاق و لا على نكاح إلّا بإذن مولاه.

أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات من طرق الشيعة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: قالعليه‌السلام : كيف يستوي هذا؟ و من يأمر بالعدل أميرالمؤمنين و الأئمّةعليهم‌السلام ‏.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) الآية قال: هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و هو على صراط مستقيم.

أقول: و الروايتان من الجري و ليستا من أسباب النزول في شي‏ء لما تقدّم في البيان السابق.

و كذا ما روي من طرق أهل السنّة: أنّ قوله:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً ) ، الآية نزل في هشام بن عمرو و هو الّذي ينفق ماله سرّاً و جهراً في عبده أبي الجوزاء الّذي كان ينهاه، و كذا ما روي أنّ الآية نزلت في عثمان بن عفان و عبد له.

٣٣٠

و كذا ما روي: في قوله:( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ) الآية، أنّ الأبكم اُبيّ بن خلف و من يأمر بالعدل حمزة و عثمان بن مظعون، و كذا ما روي: أنّ الأبكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشيّ و كان قليل الخير يعادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ما روي: أنّ الأبكم أبوجهل و الآمر بالعدل عمّار، و ما روي: أنّ الآمر بالعدل عثمان ابن عفّان، و الأبكم مولى له كافر و هو اُسيد بن أبي العيص، إلى غير ذلك.

٣٣١

( سورة النحل الآيات ٧٨ - ٨٩)

وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٧٩ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ  وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ( ٨٠ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ  كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( ٨١ ) فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٨٢ ) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ( ٨٣ ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٨٤ ) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ٨٥ ) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ  فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٨٦ ) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ  وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٨٧ ) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ( ٨٨ ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ  وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَؤُلَاءِ  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ( ٨٩ )

٣٣٢

( بيان)

الآيات تذكر عدّة اُخرى من النعم الإلهيّة ثمّ تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حقّ القول في وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و في البعث و في النبوّة و التشريع نظيره القبيل السابق الّذي أوردناه من الآيات.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً ) إلى آخر الآية. الاُمّهات جمع اُمّ و الهاء زائدة نظير أهراق و أصله أراق و قد تأتي اُمّات، و قيل: الاُمّهات في الإنسان و الاُمّات في غيره من الحيوان، و الأفئدة جمع قلّة للفؤاد و هو القلب و اللبّ، و لم يبن له جمع كثرة.

و قوله:( وَ اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) إشارة إلى التولّد و( لا تَعْلَمُونَ شيئاً ) حال من ضمير الخطاب أي أخرجكم من أرحامهنّ بالتولّد و الحال أنّ نفوسكم خالية من هذه المعلومات الّتي أحرزتموها من طريق الحسّ و الخيال و العقل بعد ذلك.

و الآية تؤيّد ما ذهب إليه علماء النفس أنّ لوح النفس خالية عن المعلومات أوّل تكوّنها ثمّ تنتقش فيها شيئاً فشيئاً - كما قيل - و هذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفاً( يعلم شيئاً ) و الدليل عليه قوله تعالى في خلال الآيات السابقة فيمن يردّ إلى أرذل العمر (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) فإنّ من الضروريّ أنّه في تلك الحال عالم بنفسه.

و احتجّ بعضهم بعموم الآية على أنّ العلم الحضوريّ يعني به علم الإنسان بنفسه كسائر العلوم الحصوليّة مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثمّ ناقش في أدلّة كون علم النفس بذاتها حضوريّاً مناقشات عجيبة.

و فيه أنّ العموم منصرف إلى العلم الحصوليّ و يشهد بذلك الآية المتقدّمة.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) إشارة إلى مبادئ العلم الّذي أنعم بها على الإنسان فمبدء التصوّر هو الحسّ، و العمدة

٣٣٣

فيه السمع و البصر و إن كان هناك غيرهما من اللمس و الذوق و الشمّ، و مبدأ الفكر هو الفؤاد.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللهُ ) إلخ، قال في المجمع: الجوّ الهواء البعيد من الأرض. انتهى. يقول: أ لم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخّرات لله سبحانه في جوّ السماء و الهواء البعيد من الأرض، ثمّ استأنف فقال مشيراً إلى ما هو نتيجة هذا النظر:( ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا اللهُ ) .

و إثبات الإمساك لله سبحانه و نفيه عن غيره مع وجود أسباب طبيعيّة هناك مؤثّرة في ذلك و كلامه تعالى يصدّق ناموس العلّيّة و المعلوليّة إنّما هو من جهة أنّ توقّف الطير في الجوّ من دون أن تسقط كيفما كان و إلى أيّ سبب استند هو و سببه و الرابطة الّتي بينهما جميعاً مستندة إلى صنعه تعالى فهو الّذي يفيض الوجود عليه و على سببه و على الرابطة الّتي بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة و إن كان سببه الطبيعيّ القريب معه يتوقّف هو عليه.

و معنى توقّفه في وجوده على سببه ليس أنّ سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد وجود نفسه منه تعالى بل إنّ هذا المسبّب يتوقّف في أخذه الوجود منه تعالى إلى أخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك، و قد تقدّم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.

و هذا معنى توحيد القرآن، و الدليل عليه من جهة لفظه أمثال قوله:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤، و قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥، و قوله:( اللهُ خالِقُ كلّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: ٦٢، و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) النحل: ٧٧.

و الدليل على ما قدّمناه في معنى النفي و الإثبات في الآية قوله تعالى:( مُسَخَّراتٍ ) فإنّ التسخير إنّما يتحقّق بقهر أحد السببين الآخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففي لفظه دلالة على أنّ للمقهور نوعاً من السببيّة.

و ليس طيران الطائر في جوّ السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الإنسان في

٣٣٤

الأرض فالجميع ينتهي إلى صنعه تعالى على حدّ سواء لكن اُلفة الإنسان لبعض الاُمور و كثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه و كثر عهده به كالمستثنى من الكلّيّة انتبه لذلك و انتزعت القريحة للبحث عنه و الإنسان يرى الأجسام الأرضيّة الثقيلة معتمدة على الأرض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلاً تنقض كلّيّة هذا الحكم بطيرانها تعجّب منه و انبسط للبحث عنه و الحصول على علّته، و للحقّ نصيب من هذا البحث و هذا هو أحد الأسباب في أخذ هذا النوع من الاُمور في القرآن موادّ للاحتجاج.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي في كونها مسخّرات في جوّ السماء فإنّ للطير و هو في الجوّ دفيفاً و صفيفاً و بسطاً لأجنحتها و قبضاً و سكوناً و انتقالاً و صعوداً و نزولاً و هي جميعاً آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) إلى آخر الآية، في المفردات: البيت مأوى الإنسان بالليل لأنّه يقال: بات أقام بالليل كما يقال: ظلّ بالنهار. ثمّ قد يقال: للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، و جمعه أبيات و بيوت لكنّ البيوت بالمسكن أخصّ و الأبيات بالشعر، قال: و يقع ذلك على المتّخذ من حجر و مدر و صوف و وبر. انتهى موضع الحاجة.

و السكن ما يسكن إليه، و الظعن الارتحال و هو خلاف الإقامة، و الصوف للضأن و الوبر للإبل كالشعر للإنسان و يسمّى ما للمعز شعراً كالإنسان، و الأثاث متاع البيت الكثير و لا يقال للواحد منه أثاث، قال في المجمع: و لا واحد للأثاث كما أنّه لا واحد للمتاع. انتهى. و المتاع أعمّ من الأثاث فإنّه مطلق ما يتمتّع به و لا يختصّ بما في البيت.

و قوله:( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ) أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه، و من البيوت ما لا يسكن إليه كالمتّخذ لادّخار الأموال و اختزان الأمتعة و غير ذلك و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً ) إلخ، أي من جلودها بعد الدبغ و هي الأنطاع و الأدم( بُيُوتاً ) و هي القباب و الخيام( تَسْتَخِفُّونَها )

٣٣٥

أي تعدّونها خفيفة من جهة الحمل( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) و ارتحالكم( وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ ) من غير سفر و ظعن.

و قوله:( وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها ) إلخ، معطوف على موضع( مِنْ جُلُودِ ) أي و جعل لكم( مِنْ أَصْوافِها ) و هي للضأن و( أَوْبارِها ) و هي للإبل( وَ أَشْعارِها ) و هي للمعز( أَثاثاً ) تستعملونه في بيوتكم( وَ مَتاعاً ) تتمتّعون به( إِلى‏ حِينٍ ) محدود، قيل: و فيه إشارة إلى أنّها فانية داثرة فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا ) إلى آخر الآية، الظرفان أعني قوله:( لَكُمْ ) و( مِمَّا خَلَقَ ) متعلّقان بجعل و تعليق الظلال بما خلق لكونها أمراً عدميّاً محقّقاً بتبع غيره و هي مع ذلك من النعم العظيمة الّتي أنعم الله بها على الإنسان و سائر الحيوان و النبات فما الانتفاع بالظلّ للإنسان و غيره بأقلّ من الانتفاع بالنور و لو لا الظلّ و هو ظلّ الليل و ظلّ الأبنية و الأشجار و الكهوف و غيرها لما عاش على وجه الأرض عائش.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) الكنّ ما يستتر به الشي‏ء حتّى أنّ القميص كنّ للابسه، و أكنان الجبال هي الكهوف و الثقب الموجودة فيها.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) أي قميصاً يحفظكم من الحرّ، قال في المجمع:، و لم يقل: و تقيكم البرد لأنّ ما وقى الحرّ وقى البرد، و إنّما خصّ الحرّ بذلك مع أنّ وقايتها للبرد أكثر لأنّ الّذين خوطبوا بذلك أهل حرّ في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحرّ أكثر، عن عطاء.

قال: على أنّ العرب يكتفي بذكر أحد الشيئين عن الآخر للعلم به قال الشاعر:

و ما أدري إذا يممّت أرضا

اُريد الخير أيّهما يليني

فكنّى عن الشرّ و لم يذكره لأنّه مدلول عليه، ذكره الفرّاء انتهى.

و لعلّ بعض الوجه في ذكره الحرّ و الاكتفاء به أنّ البشر الاُولى كانوا يسكنون المناطق الحارّة من الأرض فكان شدّة الحرّ أمسّ بهم من شدّة البرد

٣٣٦

و تنبّههم لاتّخاذ السراويل إنّما هو للاتّقاء ممّا كان الابتلاء به أقرب إليهم و هو الحرّ و الله أعلم.

و قوله:( وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) الظاهر أنّ المراد به درع الحديد و نحوه.

و قوله:( كَذلِكَ يتمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) امتنان عليهم بإتمام النعم الّتي ذكرها، و كانت الغاية المرجوّة من ذلك إسلامهم لله عن معرفتها فإنّ المترقّب المتوقّع ممّن يعرف النعم و إتمامها عليه أن يسلم لإرادة منعمه و لا يقابله بالاستكبار لأنّ منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.

قوله تعالى: ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) قال في المجمع: البلاغ الاسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم، انتهى.

لمّا فرغ عن ذكر ما اُريد ذكره من النعم و الاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب و اللوم و الوعيد على الكفر و يتضمّن ذكر وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و المعاد و النبوّة و بدأ ذلك ببيان وظيفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته و هو البلاغ فقال:( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي يتفرّع على هذا البيان الّذي ليس فيه إلّا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم من غير أن يتبعه إجبار أو إكراه أنّهم إن تولّوا و أعرضوا عن الإصغاء إليه و الاهتداء به( فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) و التبليغ الواضح الّذي لا إبهام فيه و لا ستر عليه لأنّك رسول و ما على الرسول إلّا ذلك.

و في الآية تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بيان وظيفة له.

قوله تعالى: ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) المعرفة و الإنكار متقابلان كالعلم و الجهل و هذا هو الدليل على أنّ المراد بالإنكار و هو عدم المعرفة لازم معناه و هو الإنكار في مقام العمل و هو عدم الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلباً، لكن قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) يخصّ الجحود بأكثرهم كما سيجي‏ء فيبقى للإنكار المعنى الأوّل.

و قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) دخول اللّام على( الْكافِرُونَ ) يدلّ على الكمال أي إنّهم كافرون بالنعم الإلهيّة أو بما تدلّ عليه من التوحيد و غيره جميعاً لكنّ

٣٣٧

أكثرهم كاملون في كفرهم و ذلك بالجحود عناداً و الإصرار عليه و الصدّ عن سبيل الله.

و المعنى: يعرفون نعمة الله بعنوان أنّها نعمة منه و مقتضاه أن يؤمنوا به و برسوله و اليوم الآخر و يسلموا في العمل ثمّ إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الإنكار دون المعرفة، و أكثرهم لا يكتفون بمجرّد الإنكار العمليّ بل يزيدون عليه بكمال الكفر و العناد مع الحقّ و الجحود و الإصرار عليه.

و فيما قدّمناه كفاية لك عمّا أطال فيه المفسّرون في معنى قوله:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) مع أنّهم جميعاً كافرون بإنكارهم من قول بعضهم، إنّما قال:( أَكْثَرُهُمُ ) لأنّ منهم من لم تقم عليه الحجّة كمن لم يبلغ حدّ التكليف أو كان مؤفاً في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.

و فيه أنّ هؤلاء خارجون عن إطلاق الآية رأساً فإنّها تذكر توبيخاً و إيعاداً أنّهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها، و هؤلاء إن كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين و إن لم ينكروها لم يدخلوا في إطلاق الآية قطعاً، و كيف يصحّ أن يقال: إنّهم لم تقم عليهم الحجّة و ليست الحجّة إلّا النعمة الّتي يعدّها الله سبحانه و هم يعرفونها.؟

و قول بعضهم: إنّما قال:( وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) لأنّه كان يعلم أنّ فيهم من سيؤمن، و فيه أنّه قول لا دليل عليه.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالأكثر الجميع و إنّما عدل عن البعض احتقاراً له أن يذكره، و نسب إلى الحسن البصريّ، و هو قول عجيب.

قيل: و في الآية دليل على فساد قول المجبرة إنّه ليس لله على الكافر نعمة و أنّ جميع ما فعله بهم إنّما هو خذلان و نقمة لأنّه سبحانه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم، انتهى.

و الحقّ أنّ للنعمة اعتبارين: أحدهما كونها نعمة أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسميّة، و الآخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحيّة الإنسانيّة بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها إيمانه بالله و رسوله و اليوم الآخر

٣٣٨

و استعمالها في طريق مرضاة الله، و المؤمن منعّم بالنعمتين كلتيهما و الكافر منعّم في الدنيا بالطائفة الاُولى محروم من الثانية، و في كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) قال في المجمع: قال الزجّاج: و العتب الموجدة يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا: عاتبه، و إذا رجع إلى مسرّته قيل: أعتب، و الاسم العتبي و هو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، و استعتبه طلب منه أن يعتب. انتهى.

و قوله:( وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كلّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) يفيد السياق أنّ المراد بهذا اليوم يوم القيامة، و بهؤلاء الشهداء الّذين يبعث كلّ واحد منهم من اُمّة، شهداء الأعمال الّذين تحمّلوا حقائق أعمال اُمّتهم في الدنيا و هم يستشهد بهم و يشهدون عليهم يوم القيامة و قد تقدّم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة: ١٤٣ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و لا دلالة في لفظ الآية على أنّ المراد بشهيد الاُمّة نبيّها، و لا أنّ المراد بالاُمّة اُمّة الرسول فمن الجائز أن يكون غير النبيّ من اُمّته كالإمام شهيداً كما يدلّ عليه آية البقرة السابقة و قوله تعالى:( وَ جِي‏ءَ بِالنبيّينَ وَ الشُّهَداءِ ) الزمر: ٦٩، و على هذا فالمراد بكلّ اُمّة اُمّة الشهيد المبعوث و أهل زمانه.

و قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) ذكر بعث شهداء الاُمم دليل على أنّهم يشهدون على اُممهم بما عملوا في الدنيا، و قرينة على أنّ المراد من نفي الإذن للكافرين أنّهم لا يؤذن لهم في الكلام و هو الاعتذار لا محالة و نفي الإذن في الكلام إنّما هو تمهيد لأداء الشهود شهادتهم كما تلوّح إليه آيات اُخر كقوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: ٦٥، و قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) المرسلات: ٣٦.

٣٣٩

على أنّ سياق قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ ) إلخ، يفيد أنّ المراد بهذا الّذي ذكر نفي ما يتّقى به الشرّ يومئذ من الحيل و بيان أنّه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم في الدنيا يومئذ و هو أحد أمرين: الاعتذار أو استئناف العمل، أمّا الثاني فيتكفّله قوله:( وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) و لا يبقى للأوّل و هو الاعتذار بالكلام إلّا قوله:( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) أي لا يطلب منهم أن يعتبوا الله و يرضوه بيان لعدم إمكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل و الرجوع إلى السمع و الطاعة فإنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و لا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتّى يعملوا صالحاً فيجزوا به.

و قد بيّن سبحانه ذلك في مواضع اُخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) القلم: ٤٣، و قوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ ربّهم رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: ١٢.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) كانت الآية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الّذي هو يوم القيامة و بين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأنّ جزاء يوم القيامة لا يرتفع و لا يتغيّر باعتذار و لا باستعتاب، و هذه الآية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيويّة الّتي تتعلّق بالظالمين في الدنيا فإنّها تقبل بوجه التخفيف أو الإنظار بتأخير ما و عذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفاً و لا إنظاراً.

فقوله:( وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ ) ذكر الظلم في الصلة دون الكفر و نحوه للدلالة على سبب الحكم و ملاكه، و المراد برؤية العذاب إشرافه عليهم و إشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق، و المراد بالعذاب عذاب يوم القيامة و هو عذاب النار.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409