الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87199 / تحميل: 6106
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ما أراك إلّا قد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين »(١) .

مسالة ٦٨٢ : إذا قال له إنسان : اشتر لي ، فلا يعطه(٢) من عنده وإن كان الذي عنده أجود ، لأنّه إنّما أمره بالشراء ، وهو ظاهر في الشراء من الغير.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال لك الرجل : اشتر لي ، فلا تعطه من عندك وإن كان الذي عندك خيراً منه »(٣) .

وسأل إسحاقُ الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يبعث إلى الرجل فيقول له : ابتع لي ثوبا ، فيطلب في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ، قال : « لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول ( إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً )(٤) وإن كان عنده خيرا ممّا يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده »(٥) .

مسالة ٦٨٣ : إذا قال التاجر لغيره : هلمّ أحسن إليك‌ ، باعه من غير ربح استحبابا.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال الرجل للرجل : هلمّ أحسن بيعك ، يحرم عليه الربح »(٦) .

ويكره الربح على المؤمن ، فإن فعل فلا يكثر منه.

قال الصادقعليه‌السلام : « ربح المؤمن على المؤمن ربا إلاّ أن يشتري بأكثر‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٦١ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٣ ، ٥٥.

(٢) في الطبعة الحجريّة : « فلا يعطيه ».

(٣) الكافي ٥ : ١٥١ - ١٥٢ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٨ ، و ٧ : ٦ - ٧ / ١٩.

(٤) الأحزاب : ٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٩.

(٦) الكافي ٥ : ١٥٢ / ٩ ، الفقيه ٣ : ١٧٣ / ٧٧٤ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢١.

١٨١

من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك ، أو يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم وارفقوا بهم »(١) .

وينبغي أن يكون الساكت عنده بمنزلة المماكس ، والجاهل بمنزلة البصير المذاقّ.

قال قيس : قلت للباقرعليه‌السلام : إنّ عامّة من يأتيني إخواني فحدّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره ، فقال : « إن ولّيت أخاك فحسن ، وإلاّ فبع بيع البصير المذاق »(٢) .

وعن الصادقعليه‌السلام في رجل عنده بيع وسعّره سعرا معلوما ، فمن سكت عنه ممّن يشتري منه باعه بذلك السعر ، ومن ماكسه فأبى أن يبتاع منه زاده » قال : « لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس ، فأمّا أن يفعله لمن أبى عليه ويماكسه(٣) ويمنعه مَنْ لا يفعل فلا يعجبني إلّا أن يبيعه بيعاً واحداً »(٤) .

مسالة ٦٨٤ : يستحبّ إذا دخل السوق الدعاءُ وسؤال الله تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ويخير له فيما يبيعه ، والتكبير والشهادتان عند الشراء.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا دخلت سوقك فقُلْ : اللّهمّ إنّي أسألك من خيرها وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أبغي أو يبغى عليّ أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ إبليس وجنوده وشرّ فسقة العرب والعجم ، وحسبي الله‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٤ / ٢٢ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢٣ ، الاستبصار ٣ : ٦٩ / ٢٣٢.

(٢) التهذيب ٧ : ٧ / ٢٤ ، وفي الكافي ٥ : ١٥٣ - ١٥٤ / ١٩ عن ميسّر عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٣) في المصدر : « كايسه » بدل « ماكسه ».

(٤) الكافي ٥ : ١٥٢ / ١٠ ، التهذيب ٧ : ٨ / ٢٥.

١٨٢

الذي لا إله إلّا هو عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم »(١) .

وإذا اشترى المتاع ، قال ما روي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « إذا اشتريت شيئاً من متاع أو غيره فكبّر ، ثمّ قُلْ : اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه من فضلك ، فاجعل فيه فضلاً ، اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه رزقك ، فاجعل لي فيه رزقاً ، ثمّ أعد على(٢) كلّ واحدة ثلاث مرّات »(٣) .

قال الصادقعليه‌السلام : « وإذا أراد أن يشتري شيئاً قال : يا حيّ يا قيّوم يا دائم يا رؤوف يا رحيم ، أسألك بعزّتك وقدرتك وما أحاط به علمك أن تقسم لي من التجارة اليوم أعظمها رزقاً وأوسعها فضلاً وخيرها عاقبةً فإنّه لا خير فيما لا عاقبة له » قال الصادقعليه‌السلام : « إذا اشتريت دابّةً أو رأساً فقُلْ : اللّهمّ ارزقني أطولها حياةً وأكثرها منفعةً وخيرها عاقبةً »(٤) .

مسالة ٦٨٥ : ينبغي له إذا بُورك له في شي‌ء من أنواع التجارة أو الصناعة أن يلتزم به. وإذا تعسّر عليه فيه رزقه ، تحوّل إلى غيره.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا رزقت في(٥) شي‌ء فالزمه »(٦) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحوّل إلى غيرها »(٧) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٦ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٢.

(٢) كلمة « على » لم ترد في الكافي.

(٣) الكافي ٥ : ١٥٦ / ١ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٧ / ٣ ، التهذيب ٧ : ٩ - ١٠ / ٣٤.

(٥) في الفقيه والتهذيب : « من » بدل « في ».

(٦) الكافي ٥ : ١٦٨ ( باب لزوم ما ينفع من المعاملات ) الحديث ٣ ، الفقيه ٣ : ١٠٤ / ٤٢٣ ، التهذيب ٧ : ١٤ ، ٦٠.

(٧) الكافي ٥ : ١٦٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٤ / ٥٩.

١٨٣

وينبغي له التساهل والرفق في الأشياء.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بارك الله على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء »(١) .

مسالة ٦٨٦ : يجوز لوليّ اليتيم الناظر في أمره المصلح لمالِه أن يتناول اُجرة المثل‌ ؛ لأنّه عمل يستحقّ عليه اُجرة ، فيساوي(٢) اليتيم غيره.

وسأل هشامُ بن الحكم الصادقَعليه‌السلام فيمن تولّى مال اليتيم مالَه أن يأكل منه؟ قال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك »(٣) .

ويستحبّ له التعفّف مع الغنى ، قال الله تعالى :( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) (٤) .

مسالة ٦٨٧ : يجوز أن يواجر الإنسان نفسه.

سأل ابنُ سنان الكاظمَعليه‌السلام عن الإجارة ، فقال : « صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، فقد آجر موسىعليه‌السلام نفسه واشترط فقال : إن شئت ثماني وإن شئت عشراً ، وأنزل الله عزّ وجلّ فيه( أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٥) »(٦) .

قال الشيخرحمه‌الله : لا ينافي هذا ما رواه الساباطي عن الصادقعليه‌السلام ،

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨ / ٧٩.

(٢) في « ي » وظاهر « س » : « فساوى ».

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٦٠.

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) القصص : ٢٧.

(٦) الكافي ٥ : ٩٠ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١٠٦ / ٤٤٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٨.

١٨٤

قال : قلت له : الرجل يتّجر فإن هو آجر نفسه اُعطي ما يصيب في تجارته ، فقال : « لا يواجر نفسه ، ولكن يسترزق الله عزّ وجلّ ويتّجر فإنّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق »(١) لأنّه محمول على الكراهة ، لعدم الوثوق بالنصح(٢) .

وأقول : لا استبعاد في نهيه عن الإجارة للإرشاد ، فإنّ التجارة أولى ؛ لما فيها من توسعة الرزق ، وقد نبّهعليه‌السلام في الخبر عليه. ولأنّه قد روي « أنّ الرزق قسّم عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منها(٣) في التجارة ، والباقي في سائر الأجزاء(٤) »(٥) .

مسالة ٦٨٨ : يحرم بيع السلاح لأعداء الدين في وقت الحرب‌ ، ولا بأس به في الهدنة.

قال هند السرّاج : قلت للباقرعليه‌السلام : أصلحك الله ما تقول إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعهم فلمـّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله ، فقال : « احمل إليهم فإنّ الله عزّ وجلّ يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم - يعني الروم - فإذا كانت الحرب بيننا فمَنْ حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك »(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٣ ، ذيل الحديث ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ ، ذيل الحديث ١٧٨.

(٣) في « س ، ي » : « منه ».

(٤) كذا قوله : « في سائر الأجزاء ». ونصّ الرواية في المصدر هكذا : « الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها ».

(٥) الكافي ٥ : ٣١٨ - ٣١٩ / ٥٩ ، الفقيه ٣ : ١٢٠ / ٥١٠.

(٦) الكافي ٥ : ١١٢ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٤ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ / ١٨٩.

١٨٥

وقال حكم السرّاج للصادقعليه‌السلام : ما ترى فيما يحمل إلى الشام من السروج وأداتها؟ فقال : « لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّكم في هدنة ، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح والسروج »(١) .

وقال السرّاد للصادقعليه‌السلام : إنّي أبيع السلاح ، قال : « لا تبعه في فتنة »(٢) .

ويجوز بيع ما يُكنّ من النبل لأعداء الدين ؛ لأنّ محمّد بن قيس سأل الصادقَعليه‌السلام عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال : « بِعْهما ما يكنّهما ، الدرع والخُفّين ونحو هذا»(٣) .

مسالة ٦٨٩ : يجوز الأجر على الختان وخفض الجواري.

قال الصادقعليه‌السلام : « لمـّا هاجرن النساء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هاجرت فيهنّ امرأة يقال لها : أمّ حبيب وكانت خافضة تخفض الجواري ، فلمـّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لها : يا اُمّ حبيب ، العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت : نعم يا رسول الله إلّا أن يكون حراماً فتنهاني عنه ، قال : لا ، بل حلال فاُدْني منّي حتى اُعلّمك ، فدنت منه ، فقال : يا اُمّ حبيب إذا أنت فعلت فلا تَنْهكي ، أي لا تستأصلي ، وأشمّي فإنّه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج ».

قال : « وكانت لاُمّ حبيب اُخت يقال لها : اُمّ عطيّة ماشطة ، فلمـّا‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٥ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٧ ، وفي الكافي ٥ : ١١٢ / ١ بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٥ : ١١٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٦.

(٣) الكافي ٥ : ١١٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٦ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ - ٥٨ / ١٨٨.

١٨٦

انصرفت اُمّ حبيب إلى اُختها أخبرتها بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبلت اُمّ عطيّة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بما قالت لها اُختها ، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُدني منّي يا اُمّ عطيّة إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تذهب بماء الوجه »(١) .

مسالة ٦٩٠ : يكره كسب الإماء والصبيان.

قال الصادقعليه‌السلام : « نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كسب الإماء فإنّها إن لم تجده زنت إلّا أمة قد عُرفت بصنعة يد ، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة فإنّه إن لم يجد سرق»(٢) .

ويكره للصانع سهر الليل كلّه في عمل صنعته ؛ لما فيه من كثرة الحرص على الدنيا وترك الالتفات إلى اُمور الآخرة.

قال الصادقعليه‌السلام : « مَنْ بات ساهراً في كسب ولم يعط العين حظَّها من النوم فكسبه ذلك حرام »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الصنّاع إذا سهروا الليل كلّه فهو سحت »(٤) .

وهو محمول على الكراهة الشديدة ، أو على التحريم إذا منع من الواجبات أو منع القسم بين الزوجات.

مسالة ٦٩١ : يجوز بيع عظام الفيل واتّخاذ الأمشاط وغيرها منها‌ ؛ لأنّها طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها ؛ للمقتضي للجواز ، السالم عن المانع.

ولأنّ عبد الحميد بن سعد سأل الكاظمَعليه‌السلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١١٨ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ - ٣٦١ / ١٠٣٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٨ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٧.

(٣) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٩.

(٤) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٨.

١٨٧

أو شراؤه للذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : « لا بأس قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط »(١) .

وكذا يجوز بيع الفهود وسباع الطير.

سأل عيصُ بن القاسم - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال : « نعم »(٢) .

أمّا القرد فقد روي النهي عن بيعه.

قال الصادقعليه‌السلام : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القرد أن يشترى أو يباع »(٣) .

وفي الطريق قول ، فالأولى الكراهة.

ودخل إلى الصادقعليه‌السلام رجل فقال له : إنّي سرّاج أبيع جلود النمر ، فقال : « مدبوغة هي؟» قال : نعم ، قال : « ليس به بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٢ : لا بأس بأخذ الهديّة.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الهديّة على ثلاثة وجوه : هديّة مكافأة ، وهديّة مصانعة ، وهديّة لله عزّ وجلّ »(٥) .

وروى إسحاق بن عمّار قال : قلت له : الرجل الفقير يهدي الهديّة يتعرّض لما عندي فآخذها ولا اُعطيه شيئاً أتحلّ لي؟ قال : « نعم ، هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه »(٦) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٥.

(٣) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٦ ، و ٧ : ١٣٤ / ٥٩٤.

(٤) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٩ ، التهذيب ٧ : ١٣٥ / ٥٩٥.

(٥) الكافي ٥ : ١٤١ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٧.

(٦) الكافي ٥ : ١٤٣ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٢.

١٨٨

وقال محمّد بن مسلم : « جلساء الرجل شركاؤه في الهديّة »(١) .

وهي مستحبّة مرغَّبٌ فيها ؛ لما فيها من التودّد.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لأن أهدي لأخي المسلم هديّة تنفعه أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثلها »(٢) .

وقبولها مستحبّ ؛ اقتداءً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه قال : « لو اُهدي إليَّ كراع لقبلت »(٣) .

ولو أهدي إليه هديّة طلباً لثوابها فلم يثبه ، كان له الرجوع فيها إذا كانت العين باقيةً ؛ لما رواه عيسى بن أعين قال : سألت الصادقَعليه‌السلام عن رجل أهدى إلى رجل هديّة وهو يرجو ثوابها فلم يثبه صاحبها حتى هلك وأصاب الرجل هديّته بعينها ، أله أن يرتجعها إن قدر على ذلك؟ قال : « لا بأس أن يأخذه »(٤) .

مسالة ٦٩٣ : لا يجوز عمل التماثيل والصور المجسّمة. ولا بأس بها فيما يوطأ بالأرجل ، كالفراش وشبهه ؛ لما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّما(٥) نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل ونفرشها ، قال : « لا بأس بما يبسط منها ويفرش ويوطأ ، وإنّما يكره منها ما نُصب على الحائط وعلى السرير »(٦) .

مسالة ٦٩٤ : يجوز لمن أمره غيره بشراء شي‌ء أن يأخذ منه على ذلك‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٣ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٤٤ / ١٢ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٤١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٨.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧١ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٦.

(٥) كذا في المصدر والطبعة الحجريّة ، وفي « س ، ي » : « إنّا » بدل « إنّما ».

(٦) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٢.

١٨٩

الجُعْل ؛ لأنّه فعل مباح.

ولما رواه ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سأله أبي وأنا حاضر ، فقال : ربما أمرنا الرجل يشتري لنا الأرض أو الدار أو الغلام أو الخادم ونجعل له جُعْلاً ، فقال الصادقعليه‌السلام : « لا بأس به »(١) .

مسالة ٦٩٥ : لا بأس بالزراعة ، بل هي مستحبّة.

روى سيابة أنّ رجلاً سأل الصادقعليه‌السلام : أسمع قوماً يقولون : إنّ الزراعة مكروهة ، فقال : « ازرعوا واغرسوا ، فلا والله ما عمل الناس عملاً أحلّ ولا أطيب منه ، والله لنزرعنّ الزرع ولنغرسنّ(٢) غرس النخل بعد خروج الدجّال »(٣) .

وسأل هارون بن يزيد الواسطي الباقرَعليه‌السلام (٤) عن الفلّاحين ، فقال : « هُم الزارعون كنوز الله في أرضه ، وما في الأعمال شي‌ء أحبّ إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيّاً إلّا زارعاً ، إلّا إدريسعليه‌السلام فإنّه كان خيّاطاً »(٥) .

مسالة ٦٩٦ : يجوز أخذ أجر البذرقة من القوافل إذا رضوا بذلك‌ ، وإلّا حرم.

كتب محمّد بن الحسن الصفّار إليه : رجل يبذرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ، ويشارطونه على شي‌ء مسمّى أن يأخذ منهم إذا صاروا إلى الأمن ، هل يحلّ له أن يأخذ منهم؟ فوقّععليه‌السلام « إذا واجر(٦)

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٤.

(٢) في « ي » والطبعة الحجريّة والكافي : « ليزرعنّ ليغرسنّ ».

(٣) الكافي ٥ : ٢٦٠ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٤ - ٣٨٥ / ١١٣٩.

(٤) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة. وفي المصدر : « يزيد بن هارون الواسطي عن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ».

(٥) التهذيب ٦ : ٣٨٤ / ١١٣٨.

(٦) في المصدر : « آجر ».

١٩٠

نفسه بشي‌ء معروف أخذ حقّه إن شاء الله »(١) .

مسالة ٦٩٧ : يكره بيع العقار إلّا لضرورة.

قال أبان بن عثمان : دعاني الصادقعليه‌السلام فقال : « باع فلان أرضه؟ » فقلت : نعم ، فقال: « مكتوب في التوراة أنّه مَنْ باع أرضاً أو ماءً ولم يضعه في أرض وماء ذهب ثمنه محقاً »(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « مشتري العقدة مرزوق وبائعها ممحوق »(٣) .

وقال مسمع للصادقعليه‌السلام : إنّ لي أرضاً تُطلب منّي ويرغّبوني ، فقال لي : « يا أبا سيّار أما علمت أنّه مَنْ باع الماء والطين ولم يجعل ماله في الماء والطين ذهب ماله هباءً » قلت : جعلت فداك إنّي أبيع بالثمن الكثير فأشتري ما هو أوسع ممّا بعت ، فقال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٨ : يكره الاستحطاط من الثمن بعد العقد‌ ؛ لأنّه قد صار ملكاً للبائع بالعقد ، فيندرج تحت قوله تعالى :( وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (٥) .

وروى إبراهيم الكرخي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : اشتريت للصادقعليه‌السلام جاريةً فلمـّا ذهبت أنقدهم قلت : أستحطّهم ، قال : « لا ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة»(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨٥ / ١١٤١.

(٢) الكافي ٥ : ٩١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ / ١١٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ٩٢ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٧ ، وبتفاوت في الكافي ٥ : ٩٢ / ٨.

(٥) هود : ٨٥.

(٦) الكافي ٥ : ٢٨٦ ( باب الاستحطاط بعد الصفقة ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٣.

١٩١

قال الشيخ : إنّه محمول على الكراهة(١) ؛ لما روى معلّى بن خنيس عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يشتري المتاع ثمّ يستوضع ، قال : « لا بأس به » وأمرني فكلّمت له رجلاً في ذلك(٢) .

وعن يونس بن يعقوب عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشي‌ء بعد ما يشتري فيهب له ، أيصلح له؟ قال : « نعم »(٣) .

وكذا في الإجارة. روى عليّ أبو الأكراد عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّي أتقبّل العمل فيه الصناعة وفيه النقش فاُشارط النقاش على شي‌ء فيما بيني وبينه العشرة أزواج بخمسة دراهم أو العشرين بعشرة ، فإذا بلغ الحساب قلت له : أحسن ، فأستوضعه من الشرط الذي شارطته عليه ، قال : « بطيب نفسه؟ » قلت : نعم ، قال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٩ : أصل الأشياء الإباحة إلّا أن يُعلم التحريم في بعضها.

روي عن الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - قال : « كلّ شي‌ء يكون منه حرام وحلال فهو حلال لك أبداً حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « كلّ شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبَل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باع نفسه أو خُدع فبِيع أو قُهر ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٢٣٣ ، ذيل الحديث ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ ، ذيل الحديث ٢٤٥.

(٢) التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٨ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٤.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٣٣ - ٢٣٤ / ١٠١٩ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ / ٢٤٥.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٤ / ١٠٢٠.

(٥) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨.

١٩٢

ذلك أو تقوم به البيّنة »(١) .

مسالة ٧٠٠ : لا ينبغي التهوين في تحصيل قليل الرزق‌ ، فإنّ علي بن بلال روى عن الحسين الجمّال قال : شهدت إسحاق بن عمّار وقد شدّ كيسه وهو يريد أن يقوم فجاء إنسان يطلب دراهم بدينار ، فحلّ الكيس وأعطاه دراهم بدينار ، فقلت له : سبحان الله ما كان فضل هذا الدينار ، فقال إسحاق بن عمّار : ما فعلت هذا رغبة في الدينار ، ولكن سمعت الصادقَعليه‌السلام يقول : « من استقلّ قليل الرزق حرم الكثير »(٢) .

مسألة ٧٠١ : ينبغي الاقتصاد في المعيشة وترك الإسراف.

قال الباقرعليه‌السلام : « من علامات المؤمن ثلاث : حسن التقدير في المعيشة ، والصبر على النائبة ، والتفقّه في الدين » وقال : « ما خير في رجل لا يقتصد في معيشته ما يصلح [ لا ](٣) لدنياه ولا لآخرته »(٤) .

وقال الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) (٥) قال : « ضمّ يده » فقال : « هكذا »( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٦) قال : « وبسط راحته » وقال : « هكذا »(٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « ثلاثة من السعادة : الزوجة الموافقة(٨) ، والأولاد البارّون ، والرجل يرزق معيشته ببلده يغدو إليه ويروح »(٩) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ - ٣١٤ / ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ، ٩٨٩.

(٢) الكافي ٥ : ٣١١ / ٣٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٧ / ٩٩٣.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٢٨.

(٥ و ٦ ) الإسراء : ٢٩.

(٧) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣١.

(٨) في المصدر : « المؤاتية » بدل « الموافقة ».

(٩) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣٢ ، وفي الكافي ٥ : ٢٥٨ ( باب أنّ من السعادة ) الحديث ٢ بتفاوت يسير.

١٩٣

الفصل الثاني : في الشفعة

الشفعة مأخوذة من قولك : شفعت كذا بكذا ، إذا جعلته شفعاً به كأنّ الشفيع يجعل نصيبه شفعاً بنصيب صاحبه.

وأصلها التقوية والإعانة ، ومنه الشفاعة والشفيع ؛ لأنّ كلّ واحد من الموترين(١) يتقوّى بالآخَر.

وفي الشرع عبارة عن استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه ، المنتقلة عنه بالبيع ، أو حقّ تملّك قهري يثبت(٢) للشريك القديم على الحادث ، وليست بيعاً ، فلا يثبت فيها خيار المجلس.

ولا بدّ في الشفعة من مشفوع - وهو المأخوذ بالشفعة ، وهو محلّها - ومن آخذٍ له ، ومن مأخوذ منه ، فهُنا مباحث :

البحث الأوّل : المحلّ.

محلّ الشفعة كلّ عقار ثابت مشترك بين اثنين قابل للقسمة.

واعلم أنّ أعيان الأموال على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الأراضي. وتثبت فيها الشفعة أيّ أرض كانت بلا خلاف - إلّا من الأصمّ(٣) - لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الشفعة فيما‌

____________________

(١) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة.

(٢) في « س ، ي » : « ثبت ».

(٣) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

١٩٤

لم يقسم ، فإذا وقعت(١) الحدود فلا شفعة »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « الشفعة لا تكون إلّا لشريكٍ »(٣) .

احتجّ الأصمّ على قوله بنفي الشفعة في كلّ شي‌ء : بأنّ في إثباتها إضراراً بأرباب الأملاك ، فإنّه إذا علم المشتري أنّه يؤخذ منه ما يبتاعه ، لم يبتعه ، ويتقاعد الشريك بالشريك ، ويستضرّ المالك(٤) .

وهو غلط ؛ لما تقدّم من الأخبار. وما ذكره غلط ؛ لأنّا نشاهد البيع يقع كثيراً ولا يمتنع المشتري - باعتبار استحقاق الشفعة - من الشراء. وأيضاً فإنّ له مدفعاً إذا علم التضرّر بذلك بأن يقاسم الشريك ، فتسقط الشفعة إذا باع بعد القسمة.

وتثبت الشفعة في الأراضي سواء بيعت وحدها أو مع شي‌ء من المنقولات ، ويوزّع الثمن عليهما بالنسبة ، ويأخذ الشفيع الشقص بالقسط.

الثاني : المنقولات‌ ، كالأقمشة والأمتعة والحيوانات ، وفيها لعلمائنا قولان :

أحدهما - وهو المشهور - : أنّه لا شفعة فيها - وبه قال الشافعي(٥) -

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « وضعت » بدل « وقعت ». وما أثبتناه هو الموافق لما في المصادر ، وكذا تأتي الرواية أيضاً بعنوان « وقعت » في ص ٢٠٧ - ٢٠٨.

(٢) الموطّأ ٢ : ٧١٣ / ١ ، التمهيد ٧ : ٣٧ - ٤٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٥ / ٣٥١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٣ و ١٠٥ ، معرفة السنن والآثار ٨ : ٣٠٨ / ١١٩٨٦.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٥.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٣ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ١١٦ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، الوسيط ٤ : ٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣٧ ، =

١٩٥

لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا شفعة إلّا في رَبْعٍ أو حائط »(١) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، ثمّ قال : لا ضرر ولا إضرار »(٢) .

وقول الصادقعليه‌السلام : « ليس في الحيوان شفعة »(٣) .

ولأنّ الأصل عدم الشفعة ، ثبت في الأراضي بالإجماع ، فيبقى الباقي على المنع.

والثاني لعلمائنا : تثبت الشفعة في كلّ المنقولات - وبه قال مالك في إحدى الروايات عنه(٤) - لما رواه العامّة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الشفعة في كلّ شي‌ء »(٥) .

ومن طريق الخاصّة : رواية يونس عن بعض رجاله عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الشفعة لمن هي؟ وفي أيّ شي‌ء هي؟ ولمن تصلح؟ وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ فقال : « الشفعة جائزة في كلّ شي‌ء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشي‌ء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحقّ به من غيره ، وإن زاد على‌

____________________

= العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٢ و ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٥ ، منهاج الطالبين : ١٥١.

(١) نصب الراية ٤ : ١٧٨ نقلاً عن البزار في مسنده.

(٢) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٧.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٧ - ١١٨ / ٤١٩.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧٢.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٦٥٤ / ١٣٧١ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٩ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ١٢٣ / ١١٢٤٤ ، شرح معاني الآثار ٤ : ١٢٥.

١٩٦

الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم »(١) .

ولأنّ الشفعة تثبت لأجل ضرر القسمة ، وذلك حاصل فيما يُنقل.

والجواب : أنّ خبر العامّة وخبر الخاصّة معاً مرسلان ، وأخبارنا أشهر ، فيتعيّن العمل بها وطرح أخبارهم. والضرر بالقسمة إنّما هو لما يحتاج إليه من إحداث المرافق ، وذلك يختصّ بالأرض دون غيرها ، فافترقا.

وقد وردت رواية تقتضي ثبوت الشفعة في المملوك دون باقي الحيوانات :

روى الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في المملوك بين شركاء فيبيع أحدهم نصيبه ، فيقول صاحبه : أنا أحقّ به ، أله ذلك؟

قال : « نعم إذا كان واحدا » فقيل : في الحيوان شفعة؟ فقال : « لا »(٢) .

وعن عبد الله بن سنان قال : قلت للصادقعليه‌السلام : المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال أحدهم : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحداً »(٣) .

وعن مالك رواية اُخرى : أنّ الشفعة تثبت في السفن خاصّة(٤) .

الثالث : الأعيان التي كانت منقولةً في الأصل ثمّ اُثبتت في الأرض للدوام‌ ، كالحيطان والأشجار ، وإن بيعت منفردةً ، فلا شفعة فيها على المختار ؛ لأنّها في حكم المنقولات ، وكانت في الأصل منقولةً ، وستنتهي‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ - ١٦٥ / ٧٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٠ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ - ١٦٦ / ٧٣٤ ، الاستبصار ١ : ١١٦ / ٤١٤.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٢.

١٩٧

إليه وإن طال أمدها ، وليس معها ما تجعل تابعةً له ، وبه قال الشافعي(١) .

وحكى بعض أصحابه قولاً آخَر : أنّه تثبت فيها الشفعة كثبوتها في الأرض(٢) .

ولو بِيعت الأرض وحدها ، ثبتت الشفعة فيها ، ويكون الشفيع معه كالمشتري.

وإن بِيعت الأبنية والأشجار مع الأرض ، ثبتت الشفعة فيها تبعا للأرض ، لأنّ في بعض أخبار العامّة لفظ « الرّبع »(٣) وهو يتناول الأبنية ، وفي بعض أخبار الخاصّة : « والمساكن »(٤) وهو يتناول الأبنية أيضاً ، وفي بعضها : « الدار »(٥) وهو يتناول الجدران والسقوف والأبواب.

مسالة ٧٠٢ : الأثمار على الأشجار - سواء كانت مؤبَّرةً أو لا - إذا بِيعت معها ومع الأرض ، لا تثبت فيها الشفعة - وبه قال الشافعي(٦) - وكذا إذا شرط إدخال الثمرة في البيع ؛ لأنّها لا تدوم في الأرض.

وكذا الزروع الثابتة في الأرض ؛ لأنّ ما لا يدخل في بيع الأرض بالإطلاق لا يثبت له حكم الشفعة ، كالفدان(٧) الذي يعمل فيها ، وعكسه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (١).

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (٢).

(٥) راجع : الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٢ ، والتهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣١ ، والاستبصار ٣ : ١١٧ / ٤١٧.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ ، ١٩٦٧ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٧) الفَدان : الذي يجمع أداة الثورين في القِران للحرث. لسان العرب ١٣ : ٣٢١ « فدن ».

١٩٨

البناء والشجر.

وقال الشيخ وأبو حنيفة ومالك : تدخل الثمار والزروع مع اُصولها ومع الأرض التي نبت الزرع بها(١) ؛ لأنّها متّصلة بما فيه الشفعة ، فتثبت الشفعة فيها ، كالبناء والغراس(٢) .

ويمنع الاتّصال ، بل هي بمنزلة الوتد المثبت في الحائط.

وفي الدولاب الغرّاف والناعورة نظر من حيث عدم جريان العادة بنقله ، فكان كالبناء.

والأقرب : عدم الدخول.

ولا تدخل الحبال التي تركب عليها الدلاء.

مسالة ٧٠٣ : قد بيّنّا أنّه لا تثبت الشفعة في المنقولات‌ ، ولا فرق بين أن تباع منفردةً أو مع الأرض التي تثبت فيها الشفعة ، بل يأخذ الشفيع الشقص من الأرض خاصّة بحصّته من الثمن.

وعن مالك رواية ثالثة أنّها : إن بِيعت وحدها ، فلا شفعة فيها. وإن بيعت مع الأرض ، ففيها الشفعة ؛ لئلّا تتفرّق الصفقة(٣) .

والجواب : المعارضة بالنصوص.

ولو كانت الثمرة غير مؤبَّرة ، دخلت في المبيع شرعاً ، ولا يأخذها الشفيع ؛ لأنّها منقولة. ولأنّ المؤبَّرة لا تدخل في الشفعة فكذا غيرها ، وهو‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « يثبت الزرع فيها » بدل « نبت الزرع بها ».

(٢) الخلاف ٣ : ٤٤٠ ، المسألة ١٥ ، المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ١٣٤ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٧ - ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ / ١٩٦٧ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٤٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣.

١٩٩

أحد قولي الشافعي. والآخَر : أنّها تدخل في الشفعة ؛ لدخولها في مطلق البيع(١) .

وعلى هذا فلو لم يتّفق الأخذ حتى تأبّرت ، فوجهان للشافعيّة :

أظهرهما : الأخذ ؛ لأنّ حقّه تعلّق بها ، وزيادتها كالزيادة الحاصلة في الشجرة.

والثاني : المنع ؛ لخروجها عن كونها تابعةً للنخل.

وعلى هذا فبِمَ يأخذ الأرض والنخيل؟ وجهان :

أشبههما : بحصّتهما من الثمن كما في المؤبَّرة ، وهو مذهبنا.

والثاني : بجميع الثمن تنزيلاً له منزلة عيبٍ يحدث بالشقص(٢) .

ولو كانت النخيل حائلةً عند البيع ثمّ حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع ، فإن كانت مؤبَّرةً ، لم يأخذها. وإن كانت غير مؤبَّرة ، فعلى قولين(٣) .

وعندنا لا يأخذها ؛ لاختصاص الأخذ عندنا بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً.

وإذا بقيت الثمرة للمشتري ، فعلى الشفيع إبقاؤها إلى الإدراك مجّاناً.

وهذا إذا بِيعت الأشجار مع الأرض أو مع البياض الذي يتخلّلها ، أمّا إذا بيعت الأشجار ومغارسها لا غير ، فوجهان للشافعي ، وكذا لو باع الجدار مع الاُسّ :

أحدهما : أنّه تثبت الشفعة ؛ لأنّها أصل ثابت.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١٥٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الأعراف: ٣٤ و قال:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤.

قوله تعالى: ( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبّون البنين و يستحسنونهم.

فقوله:( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) يعني البنات و قوله:( وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنّة على تقدير صحّة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: ٥٠ و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجي‏ء من معناه.

و قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي المقدّمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدّم و الإفراط الإسراف في التقدّم كما أنّ التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الّذي يسبق السيّارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدّمه.

و لما كان قولهم كذبا و افتراء إنّ لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنّهم سبقوا ربّهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أنّ لهم النار و أنّهم مقدّمون إليها حقّاً و ذلك قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ظاهر السياق أنّ المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليّا لهم يومئذ اتّفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات الّتي توعد بالعذاب.

٣٠١

و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى اُمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممّن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فاتّبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليّهم اليوم و هم متّفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.

و جوّز الزمخشريّ على هذا الوجه أن يكون ضمير( وَلِيُّهُمُ ) لقريش و المعنى أنّ الشيطان زيّن للاُمم الماضين أعمالهم و هو اليوم وليّ قريش و يبعّده لزوم اختلاف الضمائر.

و يمكن أن يكون المراد بالاُمم الاُمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد باليوم مدّة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.

و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.

و أقرب الوجوه أوّلها ثمّ التالي فالتالي و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالّذي اختلفوا فيه هو الحقّ من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبيين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجّة، و الدليل على هذا الّذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقّة و الأحكام الإلهيّة و ما أنزلنا عليك الكتاب إلّا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحقّ الّذي اختلف فيه فيتمّ لهم الحجّة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحقّ و يرحمهم بالإيمان به و العمل.

٣٠٢

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الذكر محمّد و نحن أهله المسؤلون‏. الحديث.

أقول: يشيرعليه‌السلام إلى قوله تعالى:( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا ) الطلاق: ١١ و في معناه روايات كثيرة.

و في تفسير البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال جلّ ذكره:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمّدعليه‌السلام أمر الله عزّوجلّ بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهّال و سمّى الله عزّوجلّ القرآن ذكراً فقال تبارك و تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) و قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ‏ ) .

أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأنّ الذكر هو القرآن و أنّهم أهله لكونهم قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرّح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث اُخر.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول الله تعالى:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أنّهم اليهود و النصارى فقال: إذاً يدعونكم إلى دينهم قال ثمّ قال: بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر و نحن المسؤلون. قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : الذكر القرآن.

أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضاعليه‌السلام في مجلس المأمون.

و قد مرّ أنّ الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيّين المحيلين للرسالة اُمروا أن يسألوا أهل الذكر و هم أهل الكتب السماويّة: هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحي إليهم؟ و من المعلوم أنّ المشركين لما كانوا

٣٠٣

لا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لأنّهم لم يكونوا يقرّون للقرآن أنّه ذكر من الله فتعيّن أن يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب و خاصّة اليهود.

و أمّا إذا اُخذ قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) في نفسه مع قطع النظر عن المورد و من شأن القرآن ذلك - و من المعلوم أنّ المورد لا يخصّص بنفسه - كان القول عامّاً من حيث السائل و المسؤل و المسؤل عنه ظاهراً فالسائل كلّ من يمكن أن يجهل شيئاً من المعارف حقيقيّة و المسائل من المكلّفين، و المسؤل عنه جميع المعارف و المسائل الّتي يمكن أن يجهله جاهل، و أمّا المسؤل فإنّه و إن كان بحسب المفهوم عامّاً فهو بحسب المصداق خاصّ و هم أهل بيت النبيّعليه‌السلام .

و ذلك أنّ المراد بالذكر إن كان هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر، و إن كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقومه - و هم قومه أو المتيقّن من قومه - فهم أهله و خاصّته و هم المسؤلون و قد قارنهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن‏ و أمر الناس بالتمسّك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض‏. الحديث.

و من الدليل على أنّ كلامهمعليه‌السلام من الجهة الّتي ذكرناها عدم تعرّضهم لشي‏ء من خصوصيّات مورد الآية.

و ممّا قدّمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أنّ المشركين الّذين اُمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقبلون من أهل بيته؟.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله و قد قال الله( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه.

٣٠٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ - إلى قوله -بِمُعْجِزِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : إذا جاؤا و ذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ ) قال: قال: على تيقّظ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال: واجباً.

و في المعاني، بإسناده عن حنّان بن سدير عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام :( وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الّذي لا يشبهه شي‏ء و لا يوصف و لا يتوهّم‏.

و في الدرّ المنثور في قوله:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ) الآية أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ الله يؤاخذني و عيسى بن مريم بذنوبنا - و في لفظ: بما جنت هاتان الإبهام و الّتي تليها - لعذّبنا ما يظلمنا شيئاً.

أقول: و الحديث مخالف لما يثبته الكتاب و السنّة من عصمة الأنبياءعليهم‌السلام و لا وجه لحملة على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه.

٣٠٥

( سورة النحل الآيات ٦٥ - ٧٧)

وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ٦٥ ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ ( ٦٦ ) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٦٧ ) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( ٦٨ ) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا  يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ٦٩ ) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ  وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا  إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( ٧٠ ) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ  فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ  أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ( ٧١ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ  أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ( ٧٢ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٧٣ ) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ  إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٧٤ ) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ

٣٠٦

وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا  هَلْ يَسْتَوُونَ  الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ  هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ  وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٧٧)

( بيان)

رجوع بعد رجوع إلى عدّ النعم و الآلاء الإلهيّة و استنتاج التوحيد و البعث منها و الإشارة إلى مسألة التشريع و هي النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلخ، يريد إنبات الأرض بعد ما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الّذي هو المطر فتأخذ اُصول النباتات و بذورها في النمو بعد سكونها، و هي حياة من سنخ الحياة الحيوانيّة و إن كانت أضعف منها، و قد اتّضح بالأبحاث الحديثة أنّ للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان و إن اختلفتا صورة و أثراً.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فإنّ العاقل الطالب للحقّ إذا سمع ما يتوقّع فيه الحقّ أصغى و استمع إليه ليعيه و يحفظه، قال تعالى:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨.

فإذا ذكّر من فيه قريحة قبول الحقّ حديث إنزال الله المطر و إحيائه الأرض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث و أنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) إلخ الفرث هو الثفل الّذي ينزل إلى

٣٠٧

الكرش و الأمعاء فإذا دفع فهو سرجين و ليس فرثا، و السائغ اسم فاعل من السوغ يقال: ساغ الطعام و الشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.

و قوله:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) أي لكم في الإبل و البقر و الغنم لأمراً أمكنكم أن تعتبروا به و تتّعظوا ثمّ بين ذلك الأمر بقوله:( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلخ، أي بطون ما ذكر من الأنعام أخذ الكثير شيئاً واحداً.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ ) الفرث في الكرش و ألبان الأنعام مكانها مؤخّر البطن بين الرجلين، و الدم مجراه الشرايين و الأوردة و هي محيطة بهما جميعاً فأخذ اللبن شيئاً هو بين الفرث و الدم كأنّه باعتبار مجاورته لكلّ منهما و اجتماع الجميع في داخل الحيوان و هذا كما يقال، اخترت زيدا من بين القوم و دعوته و أخرجته من بينهم إذا اجتمع معهم في مكان واحد و جاورهم فيه و إن كان جالساً في حاشية القوم لا وسطهم، و المراد بذلك أنّي ميّزته من بينهم و قد كان غير متميّز.

و المعنى: نسقيكم ممّا في بطونه لبناً خارجاً من بين فرث و دم خالصاً غير مختلط و لا مشوب بهما و لا مستصحب لشي‏ء من طعمهما و رائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر و ذريعة إلى العلم بكمال القدرة و نفوذ الإرادة، و أنّ الّذي خلّص اللبن من بين فرث و دم لقادر على أن يبعث الإنسان و يحييه بعد ما صار عظاماً رميماً و ضلّت في الأرض أجزاؤه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: السكر - بضمّ السين - حالة تعرض بين المرء و عقله - إلى أن قال - و السكر - بفتحتين - ما يكون منه السكر، قال تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) انتهى.

و قال في المجمع: السكر في اللغة على أربعة أوجه: الأوّل ما أسكر من الشراب، و الثاني ما طعم من الطعام، قال الشاعر:( جعلت عيب الأكرمين سكراً) أي جعلت ذمّهم طعما لك، و الثالث السكون و منه ليلة ساكرة أي ساكنة، قال الشاعر:( و ليست بطلق و لا ساكرة) و يقال: سكرت الريح سكنت، قال:( و جعلت عين

٣٠٨

الحرور تسكر) ، و الرابع المصدر من قولك: سكر سكراً و منه التسكير التحيير في قوله:( سكرت أبصارنا) انتهى. و الظاهر أنّ الأصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك، و سائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة و التوسّع.

و قوله:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ ) إمّا جملة اسميّة معطوفة على قوله:( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) كقوله في الآية السابقة:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) ، و التقدير: و من ثمرات النخيل و الأعناب ما - أو(١) شي‏ء -( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، قالوا: و العرب ربّما يضمر ما الموصولة كثيراً، و منه قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) الدهر: ٢٠، و التقدير رأيت ما ثمّ، أو التقدير و من ثمرات النخيل و الأعناب شي‏ء تتّخذون منه، بناء على عدم جواز حذف الموصول و إبقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريّون من النحاة.

و إمّا جملة فعليّة معطوفة على قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) ، كما في الآية التالية:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) و التقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل و الأعناب، و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، بدل منه أو استئناف كأنّ قائلاً يقول: ما ذا نستفيد منه فقيل:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) ، و إفراد ضمير( مِنْهُ ) بتأويل المذكور كقوله:( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) في الآية السابقة.

و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) أي تتّخذون ممّا ذكر من ثمرات النخيل و الأعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و غير ذلك ممّا يقتات به.

و لا دلالة في الآية على إباحة استعمال السكر و لا على تحسين استعماله إن لم تدلّ على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن و إنّما الآية تعدّ ما ينتفعون به من ثمرات النخيل و الأعناب و هي مكّيّة تخاطب المشركين و تدعوهم إلى التوحيد.

و على هذا فالآية لا تتضمّن حكماً تكليفيّاً حتّى تكون منسوخة أو غير منسوخة

__________________________________________________

(١) الترديد مبنيّ على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.

٣٠٩

و به يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.

و قد أغرب صاحب روح المعاني إذ قال: و تفسير السكر بالخمر هو المرويّ عن ابن مسعود و ابن عمر، و أبي رزين و الحسن و مجاهد و الشعبيّ و النخعيّ و ابن أبي ليلى و أبي ثور و الكلبيّ و ابن جبير مع خلق آخرين، و الآية نزلت في مكّة و الخمر إذ ذاك كانت حلالاً يشربها البرّ و الفاجر، و تحريمها إنّما كان بالمدينة اتّفاقاً، و اختلفوا في أنّه قبل اُحد أو بعدها و الآية المحرّمة لها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ، على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها و روى ذلك غير واحد ممّن تقدّم كالنخعيّ و أبي ثور و ابن جبير.

و قيل: نزلت قبل و لا نسخ بناء على ما روي عن ابن عبّاس أنّ السكر هو الخلّ بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أنّ السكر المطعوم المتفكّه به كالنقل و أنشد:( جعلت أعراض الكرام سكراً) - إلى أن قال - و إلى عدم النسخ ذهب الحنفيّون و قالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة و استدلّوا عليه بأنّ الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك، و لا يقع الامتنان إلّا بمحلّل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيّذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.

أمّا ما ذكره في الخمر فقد فصّلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة، و أقمنا الشواهد هناك على أنّ الخمر كانت محرّمة قبل الهجرة و كان الإسلام معروفاً بتحريمها و تحريم الزنا عند المشركين عامّتهم، و أنّ تحريمها نزل في سورة الأعراف و قد نزلت قبل سورة النحل قطعاً، و في سورتي البقرة و النساء و قد نزلتا قبل سورة المائدة.

و أنّ الّتي نزلت في المائدة إنّما نزلت لتشديد الحرمة و زجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلّفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات و هو الّذي يشير إليه

٣١٠

بقوله: يشربها البرّ و الفاجر و في لفظ الآيات دلالة على ذلك إذ يقول:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

و أمّا ما نقله عن ابن عبّاس أنّ السكر في لغة الحبشة بمعنى الخلّ فلا معوّل عليه، و استعمال اللفظ غير العربيّ و إن كان غير عزيز في القرآن كما قيل في إستبرق و جهنّم و زقّوم و غيرها لكنّه إنّما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو إبهام، و أمّا في مثل السكر و هو في اللغة العربيّة الخمر و في الحبشيّة الخلّ فلا و كيف يجوز أن ينسب إلى أبلغ الكلام أنّه ترك الخلّ و هو عربيّ جيّد و استعمل مكانه لفظة حبشيّة تفيد في العربيّة ضدّ معناها؟

و أمّا ما نسبه إلى أبي عبيدة فقد تقدّم ما عليه في أوّل الكلام فراجع.

و أمّا ما نسبه إلى الحنفيّة من أنّ المراد بالسكر النبيذ و أنّ الآية تدلّ على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حدّ الإسكار لمكان الامتنان ففيه أنّ الآية لا تدلّ على أكثر من أنّهم يتّخذون منه سكراً، و أمّا الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الآية و إنّما عدّ من النعم ثمرات النخيل و الأعناب لا كلّ ما عملوا منها من حلال و حرام و لو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدالّ بمقابلته على نوع من العتاب على اتّخاذهم منه سكراً كما اعترف به البيضاويّ و غيره.

على أنّ ما في الآية من لفظ السكر غير مقيّد بكونه نبيذاً أو خمراً و لا قليلاً لا يبلغ حدّ الإسكار و لا غيره فلو كان اتّخاذ السكر متعلّقاً للامتنان الدالّ على الجواز لكانت الآية صريحة في حلّيّة الجميع ثمّ لم يقبل النسخ أصلاً فإنّ لسان الامتنان لا يقبل أمداً يرتفع بعده، كيف يجوز أن يعدّ الله شيئاً من نعمه و يمتنّ على الناس به ثمّ يعدّه بعد برهة رجساً و من عمل الشيطان كما في آية المائدة إلّا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) حثّا على التعقّل و الإمعان في أمر النبات و ثمراته.

قوله تعالى: ( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) إلى

٣١١

آخر الآيتين، الوحي - كما قال الراغب - الإشارة السريعة و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرّد عن التركيب أو بإشارة و نحوها، و المحصّل من موارد استعماله أنّه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي و كذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كلّ ذلك من الوحي، و قد استعمل في كلامه تعالى في كلّ من هذه المعاني كقوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) الآية، و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) القصص: ٧، و قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: ١٢١، و قوله:( فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) مريم: ١١، و من الوحي التكليم الإلهيّ لأنبيائه و رسله، قال تعالى:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْياً ) الشورى: ٥١، و قد قرّر الأدب الدينيّ في الإسلام أن لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء و الرسل من التكليم الإلهيّ.

قال في المجمع: و الذلل جمع الذلول، يقال: دابّة ذلول بين الذلّ و رجل ذلول بيّن الذلّ و الذلّة. انتهى.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) أي ألهمه من طريق غريزته الّتي أودعها في بنيته، و أمر النحل و هو زنبور العسل في حياته الاجتماعيّة و سيرته و صنعته لعجيب، و لعلّ بداعة أمره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) .

و قوله:( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ) هذا من مضمون الوحي الّذي اُوحي إليه، و الظاهر أنّ المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.

و قوله:( ثُمَّ كُلِي مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) الأمر بأن تأكل من كلّ الثمرات مع أنّها تنزل غالباً على الأزهار إنّما هو لأنّها إنّما تأكل من موادّ الثمرات أوّل ما تتكوّن في بطون الأزهار و لما تكبر و تنضج.

و قوله:( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ) تفريعه على الأمر بالأكل يؤيّد أنّ

٣١٢

المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيّأته من العسل المأخوذ من الثمرات و إضافة السبل إلى الربّ للدلالة على أنّ الجميع بإلهام إلهيّ.

و قوله:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) إلخ، استئناف بعد ذكر جملة ما اُمرت به يبيّن فيه ما يترتّب على مجاهدتها في امتثال أمر الله سبحانه ذللا و هو أنّه يخرج من بطونها أي بطون النحل( شَرابٌ ) و هو العسل( مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) بالبياض و الصفرة و الحمرة الناصعة و ما يميل إلى السواد( فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) من غالب الأمراض.

و تفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة الّتي بنت حياتها على مدنيّة عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها و لا يحاط بدقائقها ثمّ الّذي تهيّؤه ببالغ مجاهدتها و ما يشتمل عليه من الخواصّ خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظانّ تحقيقه.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و قد اختلف التعبير بذلك في هذه الآيات فخصّ الآية في إحياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون، و في ثمرات النخيل و الأعناب بقوم يعقلون، و في أمر النحل بقوم يتفكّرون.

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ النظر في أمر الموت و الحياة بحسب طبعه من العبرة و الموعظة، و هي بالسمع أنسب، و النظر في الثمرات من حيث ما ينفع الإنسان في وجوده من السير البرهاني من مسلك اتّصال التدبير و ارتباط الأنظمة الجزئيّة و رجوعها إلى نظام عامّ واحد لا يقوم إلّا بمدبّر واحد و هو للعقل أنسب، و أمر النحل في حياتها يتضمّن دقائق عجيبة لا تنكشف للإنسان إلّا بالإمعان في التفكّر فهو آية للمتفكّرين.

و قد أشرنا سابقاً إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات، و عمدتها في هذه الآيات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم و إشفاقا بحالهم و هم لا يعلمون، و الإعراض عن مخاطبتهم لكفرهم و جحودهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلّب بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين فيتحوّل منه إليهم و منهم إليه.

٣١٣

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شيئاً ) إلخ، الأرذل اسم تفضيل من الرذالة و هي الرداءة و الرذل الدون و الردي‏ء، و المراد بأرذل العمر بقرينة قوله:( لِكَيْ لا يَعْلَمَ ) إلخ، سنّ الشيخوخة و الهرم الّتي فيها انحطاط قوى الشعور و الإدراك، و هي تختلف باختلاف الأمزجة و تبتدئ على الأغلب من الخمس و السبعين.

و المعنى: و الله خلقكم معشر الناس ثمّ يتوفّاكم في عمر متوسّط و منكم من يردّ إلى سنّ الهرم فينتهي إلى أن لا يعلم بعد علم شيئاً لضعف القوى، و هذا آية أنّ حياتكم و موتكم و كذا شعوركم و علمكم ليست بأيديكم و إلّا اخترتم البقاء على الوفاة و العلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه و قدرته تعالى، و لهذا علّله بقوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ اللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) إلى آخر الآية، فضل بعض الناس على بعض في الرزق و هو ما تبقى به الحياة ربّما كان من جهة الكميّة كالغنيّ المفضّل بالمال الكثير على الفقير، و ربّما كان من جهة الكيفيّة كأن يستقلّ بالتصرّف فيه بعضهم و يتولّى أمر الآخرين مثل ما يستقلّ المولى الحرّ بملك ما في يده و التصرّف فيه بخلاف عبده الّذي ليس له أن يتصرّف في شي‏ء إلّا بإذنه و كذا الأولاد الصغار بالنسبة إلى وليّهم و الأنعام و المواشي بالنسبة إلى مالكها.

و قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى‏ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) قرينة على أنّ المراد هو القسم الثاني من التفضيل و هو أنّ بعضهم فضّل بالحرّيّة و الاستقلال بملك ما رزق و ليس يختار أن يردّ ما رزق باستقلاله و حرّيته إلى من يملكه و يملك رزقه، و لا أن يبذل له ما اُوتيه من نعمة حتّى يتساويّاً و يتشاركاً فيبطل ملكه و يذهب سودده.

فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها و لا برادّين لها على غيرهم، و ليست إلّا من الله سبحانه فإنّ أمر المولويّة و الرقّيّة و إن كان من الشؤون الاجتماعيّة الّتي ظهرت عن آراء الناس و السنن الاجتماعيّة الجارية في مجتمعاتهم لكن له اُصول طبيعيّة

٣١٤

تكوينيّة هي الّتي بعثت آراءهم على اعتباره كسائر الاُمور الاجتماعيّة العامّة.

و من الشاهد على ذلك أنّ الاُمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بإلغاء سنّة الاسترقاق ثمّ اتّبعتهم سائر الاُمم من الشرقيّين و غيرهم و هم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية و إن ألغوا صورتها، و يجرون مسمّاها و إن هجروا اسمها(١) و لن يزالوا كذلك فليس في وسع الإنسان أن يسدّ باب المغالبة، و قد قدّمنا كلاماً في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.

و كون هذا المعنى نعمة من الله إنّما هو لأنّ من صلاح المجتمع الإنسانيّ أن يتسلّط بعضهم على بعض فيصلح القويّ الضعيف بصالح التدبير و يكمّله.

و على هذا فقوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) متفرّع على المنفي في قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ ) دون النفي، و المعنى: ليسوا برادّي رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين و في ذلك ذهاب مولويّتهم، و يحتمل أن يكون جملة استفهامية حذفت منها أداة الاستفهام و فيها إنكار أن يكون المفضّلون و المفضّل عليهم في ذلك متساويين، و لو كانوا سواء لم يمتنع المفضّل من أن يردّ رزقه على من فضل عليه فإنّ في ذلك دلالة على أنّها نعمة خصّه الله بها.

و لذلك عقّبه ثانياً بقوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) و هو استفهام توبيخيّ كالمتفرّع لما تقدّمه من الاستفهام الإنكاريّ، و المراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.

و المعنى - و الله أعلم - و الله فرّق بينكم بأن فضّل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حرّ مستقلّ في التصرّف فيه، و بعضكم عبد تبع له لا يتصرّف إلّا عن إذن فليس الّذين فضّلوا برادّي رزقهم الّذي رزقوه على سبيل الحرّيّة و الاستقلال على ما ملكت أيمانهم حتّى يكون هؤلاء المفضّلون و المفضّل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختصّ بالمفضّلين أ فبنعمة الله يجحدون؟.

__________________________________________________

(١) و إنّما نقلوا حكم الاسترقاق ممّا بين الفرد و الفرد إلى ما بين المجتمع و المجتمع و سموه بغير اسمه.

٣١٥

هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفّت به من القرائن، و السياق سياق تعداد النعم، و ربّما قرّر معنى الآية على وجه آخر:

فقيل: المعنى أنّهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم و أزواجهم حتّى يكونوا في ذلك سواء و يرون ذلك نقصا لأنفسهم فكيف يشركون عبيدي في ملكي و سلطاني و يعبدونهم و يتقرّبون إليهم كما يعبدونني و يتقرّبون إلي، كما فعلوا في عيسى بن مريمعليه‌السلام ؟

قالوا: و الآية على شاكلة قوله تعالى:( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) الروم: ٢٨ قالوا: و الآية نزلت في نصارى نجران.

و فيه أنّ سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة و التوبيخ فلا أثر فيها منه.

على أنّ الآية ممّا نزلت بمكّة و أين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ستّ من الهجرة أو بعدها؟ و قياس هذه الآية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين، فسياق هذه الآية سياق الاحتجاج بذكر النعمة و سياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك.

و قيل: إنّ المعنى فهؤلاء الّذين فضّلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم و عبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملّاك و المماليك فإنّ الّذي ينفقه المولى على مملوكه إنّما ينفقه ممّا رزقهم الله فالله رازقهم جميعاً فهم فيه سواء.

و محصّله أنّ قوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) حالّ محلّ إضراب مقدّر و التقدير أنّ الموالي ليسوا برادّي رزق أنفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدي مواليهم و هم سواء في الرزق من الله.

و فيه أنّ ما قرّر من المعنى مقتضاه أن يبطل التسوية أخيراً حكم التفضيل أوّلاً، و لا يستقيم عليه مدلول قوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) .

و قيل: المراد أنّ الموالي ليسوا برادّي ما بأيديهم من الرزق على مواليهم

٣١٦

حتّى يستووا في التمتّع منه.

و فيه أنّه يعود حينئذ إلى أنّ الإنسان يمنع غيره من أن يتسلّط على ما ملكه من الرزق، و حينئذ يكون تخصيص ذلك بالعبيد مستدركاً زائداً، و لو وجه بأنّه إنّما لا يردّه عليه لمكان تسلّطه على عبيده رجع إلى ما قدّمناه من المعنى، و لكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكيّة المولى لعبده و لما عنده من الرزق.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) إلى آخر الآية. قال في المفردات: قال الله تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) جمع حافد و هو المتحرّك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب. قال المفسّرون: هم الأسباط و نحوهم و ذلك أنّ خدمتهم أصدق - إلى أن قال - قال الأصمعيّ: أصل الحفد مداركة الخطو. انتهى.

و في المجمع: و أصل الحفد الإسراع في العمل - إلى أن قال - و منه قيل للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة. انتهى. و المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين لمكان قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) و لذا فسّر بعضهم قوله:( بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) بصغار الأولاد و كبارهم، و بعضهم بالبنين و الأسباط و هم بنو البنين.

و المعنى: و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً تألفونها و تأنسون بها، و جعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين و حفدة و أعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم و تدفعون بهم عن أنفسكم المكاره و رزقكم من الطيّبات و هي ما تستطيبونه من أمتعة الحياة و تنالونه بلا علاج و عمل كالماء و الثمرات أو بعلاج و عمل كالأطعمة و الملابس و نحوها، و( مِنْ ) في( مِنَ الطَّيِّباتِ ) للتبعيض و هو ظاهر.

ثمّ وبّخهم بقوله:( أَ فَبِالْباطِلِ ) و هي الأصنام و الأوثان و من ذلك القول بالبنات لله، و الأحكام الّتي يشرّعها لهم أئمّتهم أئمّة الضلال( يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) و النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم و جعل البنين و الحفدة من أزواجهم فإنّ ذلك من أعظم النعم و أجلاهاً لكونه أساساً تكوينيّاً يبتني عليه المجتمع البشريّ، و يظهر به فيهم حكم التعاون و التعاضد بين الأفراد، و ينتظم به لهم أمر

٣١٧

تشريك الأعمال و المساعي فيتيسّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا و الآخرة.

و لو أنّ الإنسان قطع هذا الرابط التكوينيّ الّذي أنعم الله به عليه و هجر هذا السبب الجميل، و إن توسّل بأيّ وسيلة غيره لتلاشى جمعه و تشتّت شمله و في ذلك هلاك الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) عطف على موضع الجملة السابقة و المعنى يكفرون بنعمة الله و يعبدون من دون الله ما لا يملك إلخ.

و قد ذكروا أنّ( رِزْقاً ) مصدر و( شيئاً ) مفعوله و المعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئاً و قيل: الرزق بمعنى المرزوق و( شيئاً ) بدل منه، و قيل: إنّ( شيئاً ) مفعول مطلق و التقدير: لا يملك شيئاً من الملك. و خير الوجوه أوسطها.

و يمكن أن يقال:( مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً ) بدل من( رِزْقاً ) و هو من بدل الكلّ من البعض يفيد معنى الإضراب و الترقّي، و المعنى و يعبدون ما لا يملك لهم رزقاً بل لا يملك لهم في السماوات و الأرض شيئاً.

و قوله:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) أي و لا يستطيعون أن يملكوا رزقاً و شيئاً و يمكن أن يكون منسيّ المتعلّق جارياً مجرى اللازم أي و لا استطاعة لهم أصلاً.

و قد اجتمع في الآية رعاية الاعتبارين في الأصنام فإنّها من جهة أنّها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضّة غير عاقلة و بهذا الاعتبار قيل:( ما لا يَمْلِكُ ) إلخ، و من جهة أنّهم يعدّونها آلهة دون الله و يعبدونها و العبادة لا تكون إلّا لعاقل منسلكة - على زعمهم - في سلك العقلاء، و بهذا الاعتبار قيل:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) .

و في الآية رجوع إلى التخلّص لبيان الغرض من تعداد النعم و هو التوحيد و إثبات النبوّة بمعنى التشريع و المعاد يجري ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في أولاها عن ضربّهم الأمثال لله سبحانه، و يضرب في الثانية مثلاً تبيّن به وحدانيّته تعالى في ربوبيّته، و في الثالثة مثلاً يتبيّن به أمر النبوّة و التشريع، و يتعرّض في الرابعة لأمر المعاد.

٣١٨

قوله تعالى: ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الظاهر السابق إلى الذهن أنّ المراد بضرب الأمثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيليّة و هي إجراء الأوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم: إنّ له بنات كالإنسان، و إنّ الملائكة بناته، و إنّ بينه و بين الجنّة نسباً و صهراً، و إنّه كيف يحيي العظام و هي رميم إلى غير ذلك، و هذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى، و قد تقدّم في خلال الآيات السابقة قوله:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ ) .

فالمعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبّهونه بغيره و تقيسونه إلى خلقه لأنّ الله يعلم و أنتم لا تعلمون حقائق الاُمور و كنهه تعالى.

و قيل: المراد بالضرب الجعل، و بالأمثال ما هو جمع المثل بمعنى الندّ، فقوله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) في معنى قوله في موضع آخر:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) البقرة: ٢٢، و هو معنى بعيد.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية، ما في الآية من المثل المضروب يفرض عبداً مملوكاً لا يقدر على شي‏ء، و آخر رزق من الله رزقاً حسناً ينفق منه سرّاً و جهراً ثمّ يسأل هل يستويان؟ و اعتبار التقابل بين المفروضين يعطي أنّ كلّا من الطرفين مقيّد بخلاف ما في الآخر من الوصف مع تبيين الأوصاف بعضها لبعض.

فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه و لا لشي‏ء من متاع الحياة و هو غير قادر على التصرّف في شي‏ء من المال، و الّذي فرض قباله حرّ يملك نفسه و قد رزقه الله رزقاً حسناً و هو ينفق منه سرّاً و جهراً على قدرة منه على التصرّف بجميع أقسامه.

و قوله:( هَلْ يَسْتَوُونَ ) سؤال عن تساويهما، و من البديهيّ أنّ الجواب هو نفي التساوي و يثبت به أنّ الله سبحانه و هو المالك لكلّ شي‏ء المنعم بجميع النعم لا يساوي شيئاً من خلقه و هم لا يملكون لا أنفسهم و لا غيرهم و لا يقدرون على شي‏ء من التصرّف فمن الباطل قولهم: إنّ مع الله آلهة غيره و هم من خلقه.

٣١٩

و التعبير بقوله:( يَسْتَوُونَ ) دون أن يقال: يستويان للدلالة على أنّ المراد من ذلك الجنس من غير أن يختصّ بمولى و عبد معيّنين كما قيل.

و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي له عزّ اسمه جنس الحمد و حقيقته و هو الثناء على الجميل الاختياريّ لأنّ جميل النعمة من عنده و لا يحمد إلّا الجميل فله تعالى كلّ الحمد كما أنّ له جنسه فافهم ذلك.

و الجملة من تمام الحجّة و محصّلها أنّه لا يستوي المملوك الّذي لا يقدر أن يتصرّف في شي‏ء و ينعم بشي‏ء، و المالك الّذي يملك الرزق و يقدر على التصرّف فيه فيتصرّف و ينعم كيف شاء، و الله سبحانه هو المحمود بكلّ حمد إذ ما من نعمة إلّا و هي من خلقه فله كلّ صفة يحمد عليها كالخلق و الرزق و الرحمة و المغفرة و الإحسان و الإنعام و غيرها، فله كلّ ثناء جميل، و ما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شي‏ء فهو سبحانه الربّ وحده دون غيره.

و قد قيل: إنّ الحمد في الآية شكر على نعمه تعالى، و قيل: حمد على تمام الحجّة و قوّتها، و قيل: تلقين للعباد و معناه قالوا: الحمد لله الّذي دلّنا على توحيده و هدانا إلى شكر نعمه، و هي وجوه لا يعبأ بها.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر المشركين لا يعلمون أنّ النعمة كلّها لله لا يملك غيره شيئاً و لا يقدر على شي‏ء بل يثبتون لأوليائهم شيئاً من الملك و القدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعاً و خوفاً، هذا حال أكثرهم و أمّا أقلّهم من الخواصّ فإنّهم على علم من الحقّ لكنّهم يحيدون عنه بغياً و عناداً.

و قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الآية مثل مضروب في الله سبحانه و فيمن يزعمونه شريكاً له في الربوبيّة، و قيل: إنّها مثل تمثّل به حال الكافر المخذول و المؤمن الموفّق فإنّ الكافر لإحباط عمله و عدم الاعتداد بأعماله كالعبد المملوك الّذي لا يقدر على شي‏ء فلا يعدّ له إحسان و إن أنفق و بالغ بخلاف المؤمن الّذي يوفّقه الله لمرضاته و يشكر مساعيه فهو ينفق ممّا عنده من الخير سرّاً و جهراً.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الاحتجاج الّذي للآيات، و قد تقدّم أنّ الآية إحدى

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409