الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 83881
تحميل: 5590


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83881 / تحميل: 5590
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأعراف: ٣٤ و قال:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ١٤.

قوله تعالى: ( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبّون البنين و يستحسنونهم.

فقوله:( وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) يعني البنات و قوله:( وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنّة على تقدير صحّة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: ٥٠ و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجي‏ء من معناه.

و قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي المقدّمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدّم و الإفراط الإسراف في التقدّم كما أنّ التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الّذي يسبق السيّارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدّمه.

و لما كان قولهم كذبا و افتراء إنّ لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنّهم سبقوا ربّهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أنّ لهم النار و أنّهم مقدّمون إليها حقّاً و ذلك قوله:( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ظاهر السياق أنّ المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليّا لهم يومئذ اتّفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات الّتي توعد بالعذاب.

٣٠١

و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى اُمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممّن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزيّن لهم الشيطان أعمالهم فاتّبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليّهم اليوم و هم متّفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.

و جوّز الزمخشريّ على هذا الوجه أن يكون ضمير( وَلِيُّهُمُ ) لقريش و المعنى أنّ الشيطان زيّن للاُمم الماضين أعمالهم و هو اليوم وليّ قريش و يبعّده لزوم اختلاف الضمائر.

و يمكن أن يكون المراد بالاُمم الاُمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد باليوم مدّة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.

و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.

و أقرب الوجوه أوّلها ثمّ التالي فالتالي و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالّذي اختلفوا فيه هو الحقّ من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبيين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجّة، و الدليل على هذا الّذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقّة و الأحكام الإلهيّة و ما أنزلنا عليك الكتاب إلّا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحقّ الّذي اختلف فيه فيتمّ لهم الحجّة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحقّ و يرحمهم بالإيمان به و العمل.

٣٠٢

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الذكر محمّد و نحن أهله المسؤلون‏. الحديث.

أقول: يشيرعليه‌السلام إلى قوله تعالى:( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا ) الطلاق: ١١ و في معناه روايات كثيرة.

و في تفسير البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال جلّ ذكره:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمّدعليه‌السلام أمر الله عزّوجلّ بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهّال و سمّى الله عزّوجلّ القرآن ذكراً فقال تبارك و تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) و قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ‏ ) .

أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأنّ الذكر هو القرآن و أنّهم أهله لكونهم قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرّح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث اُخر.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول الله تعالى:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أنّهم اليهود و النصارى فقال: إذاً يدعونكم إلى دينهم قال ثمّ قال: بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر و نحن المسؤلون. قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : الذكر القرآن.

أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضاعليه‌السلام في مجلس المأمون.

و قد مرّ أنّ الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيّين المحيلين للرسالة اُمروا أن يسألوا أهل الذكر و هم أهل الكتب السماويّة: هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحي إليهم؟ و من المعلوم أنّ المشركين لما كانوا

٣٠٣

لا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لأنّهم لم يكونوا يقرّون للقرآن أنّه ذكر من الله فتعيّن أن يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب و خاصّة اليهود.

و أمّا إذا اُخذ قوله:( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) في نفسه مع قطع النظر عن المورد و من شأن القرآن ذلك - و من المعلوم أنّ المورد لا يخصّص بنفسه - كان القول عامّاً من حيث السائل و المسؤل و المسؤل عنه ظاهراً فالسائل كلّ من يمكن أن يجهل شيئاً من المعارف حقيقيّة و المسائل من المكلّفين، و المسؤل عنه جميع المعارف و المسائل الّتي يمكن أن يجهله جاهل، و أمّا المسؤل فإنّه و إن كان بحسب المفهوم عامّاً فهو بحسب المصداق خاصّ و هم أهل بيت النبيّعليه‌السلام .

و ذلك أنّ المراد بالذكر إن كان هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر، و إن كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقومه - و هم قومه أو المتيقّن من قومه - فهم أهله و خاصّته و هم المسؤلون و قد قارنهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن‏ و أمر الناس بالتمسّك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض‏. الحديث.

و من الدليل على أنّ كلامهمعليه‌السلام من الجهة الّتي ذكرناها عدم تعرّضهم لشي‏ء من خصوصيّات مورد الآية.

و ممّا قدّمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أنّ المشركين الّذين اُمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يقبلون من أهل بيته؟.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله و قد قال الله( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه.

٣٠٤

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ - إلى قوله -بِمُعْجِزِينَ ) قال: قالعليه‌السلام : إذا جاؤا و ذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ ) قال: قال: على تيقّظ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال: واجباً.

و في المعاني، بإسناده عن حنّان بن سدير عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام :( وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الّذي لا يشبهه شي‏ء و لا يوصف و لا يتوهّم‏.

و في الدرّ المنثور في قوله:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ) الآية أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ الله يؤاخذني و عيسى بن مريم بذنوبنا - و في لفظ: بما جنت هاتان الإبهام و الّتي تليها - لعذّبنا ما يظلمنا شيئاً.

أقول: و الحديث مخالف لما يثبته الكتاب و السنّة من عصمة الأنبياءعليهم‌السلام و لا وجه لحملة على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه.

٣٠٥

( سورة النحل الآيات ٦٥ - ٧٧)

وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( ٦٥ ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ ( ٦٦ ) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٦٧ ) وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( ٦٨ ) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا  يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( ٦٩ ) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ  وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا  إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( ٧٠ ) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ  فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ  أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ( ٧١ ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ  أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ( ٧٢ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٧٣ ) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ  إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٧٤ ) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ

٣٠٦

وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا  هَلْ يَسْتَوُونَ  الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ  هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ  وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٧٧)

( بيان)

رجوع بعد رجوع إلى عدّ النعم و الآلاء الإلهيّة و استنتاج التوحيد و البعث منها و الإشارة إلى مسألة التشريع و هي النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) إلخ، يريد إنبات الأرض بعد ما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الّذي هو المطر فتأخذ اُصول النباتات و بذورها في النمو بعد سكونها، و هي حياة من سنخ الحياة الحيوانيّة و إن كانت أضعف منها، و قد اتّضح بالأبحاث الحديثة أنّ للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان و إن اختلفتا صورة و أثراً.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فإنّ العاقل الطالب للحقّ إذا سمع ما يتوقّع فيه الحقّ أصغى و استمع إليه ليعيه و يحفظه، قال تعالى:( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ١٨.

فإذا ذكّر من فيه قريحة قبول الحقّ حديث إنزال الله المطر و إحيائه الأرض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث و أنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) إلخ الفرث هو الثفل الّذي ينزل إلى

٣٠٧

الكرش و الأمعاء فإذا دفع فهو سرجين و ليس فرثا، و السائغ اسم فاعل من السوغ يقال: ساغ الطعام و الشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.

و قوله:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) أي لكم في الإبل و البقر و الغنم لأمراً أمكنكم أن تعتبروا به و تتّعظوا ثمّ بين ذلك الأمر بقوله:( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلخ، أي بطون ما ذكر من الأنعام أخذ الكثير شيئاً واحداً.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ ) الفرث في الكرش و ألبان الأنعام مكانها مؤخّر البطن بين الرجلين، و الدم مجراه الشرايين و الأوردة و هي محيطة بهما جميعاً فأخذ اللبن شيئاً هو بين الفرث و الدم كأنّه باعتبار مجاورته لكلّ منهما و اجتماع الجميع في داخل الحيوان و هذا كما يقال، اخترت زيدا من بين القوم و دعوته و أخرجته من بينهم إذا اجتمع معهم في مكان واحد و جاورهم فيه و إن كان جالساً في حاشية القوم لا وسطهم، و المراد بذلك أنّي ميّزته من بينهم و قد كان غير متميّز.

و المعنى: نسقيكم ممّا في بطونه لبناً خارجاً من بين فرث و دم خالصاً غير مختلط و لا مشوب بهما و لا مستصحب لشي‏ء من طعمهما و رائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر و ذريعة إلى العلم بكمال القدرة و نفوذ الإرادة، و أنّ الّذي خلّص اللبن من بين فرث و دم لقادر على أن يبعث الإنسان و يحييه بعد ما صار عظاماً رميماً و ضلّت في الأرض أجزاؤه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) إلى آخر الآية، قال في المفردات: السكر - بضمّ السين - حالة تعرض بين المرء و عقله - إلى أن قال - و السكر - بفتحتين - ما يكون منه السكر، قال تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) انتهى.

و قال في المجمع: السكر في اللغة على أربعة أوجه: الأوّل ما أسكر من الشراب، و الثاني ما طعم من الطعام، قال الشاعر:( جعلت عيب الأكرمين سكراً) أي جعلت ذمّهم طعما لك، و الثالث السكون و منه ليلة ساكرة أي ساكنة، قال الشاعر:( و ليست بطلق و لا ساكرة) و يقال: سكرت الريح سكنت، قال:( و جعلت عين

٣٠٨

الحرور تسكر) ، و الرابع المصدر من قولك: سكر سكراً و منه التسكير التحيير في قوله:( سكرت أبصارنا) انتهى. و الظاهر أنّ الأصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك، و سائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة و التوسّع.

و قوله:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ ) إمّا جملة اسميّة معطوفة على قوله:( وَ اللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) كقوله في الآية السابقة:( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) ، و التقدير: و من ثمرات النخيل و الأعناب ما - أو(١) شي‏ء -( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، قالوا: و العرب ربّما يضمر ما الموصولة كثيراً، و منه قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) الدهر: ٢٠، و التقدير رأيت ما ثمّ، أو التقدير و من ثمرات النخيل و الأعناب شي‏ء تتّخذون منه، بناء على عدم جواز حذف الموصول و إبقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريّون من النحاة.

و إمّا جملة فعليّة معطوفة على قوله:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) ، كما في الآية التالية:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) و التقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل و الأعناب، و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) إلخ، بدل منه أو استئناف كأنّ قائلاً يقول: ما ذا نستفيد منه فقيل:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) ، و إفراد ضمير( مِنْهُ ) بتأويل المذكور كقوله:( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) في الآية السابقة.

و قوله:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) أي تتّخذون ممّا ذكر من ثمرات النخيل و الأعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و غير ذلك ممّا يقتات به.

و لا دلالة في الآية على إباحة استعمال السكر و لا على تحسين استعماله إن لم تدلّ على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن و إنّما الآية تعدّ ما ينتفعون به من ثمرات النخيل و الأعناب و هي مكّيّة تخاطب المشركين و تدعوهم إلى التوحيد.

و على هذا فالآية لا تتضمّن حكماً تكليفيّاً حتّى تكون منسوخة أو غير منسوخة

__________________________________________________

(١) الترديد مبنيّ على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.

٣٠٩

و به يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.

و قد أغرب صاحب روح المعاني إذ قال: و تفسير السكر بالخمر هو المرويّ عن ابن مسعود و ابن عمر، و أبي رزين و الحسن و مجاهد و الشعبيّ و النخعيّ و ابن أبي ليلى و أبي ثور و الكلبيّ و ابن جبير مع خلق آخرين، و الآية نزلت في مكّة و الخمر إذ ذاك كانت حلالاً يشربها البرّ و الفاجر، و تحريمها إنّما كان بالمدينة اتّفاقاً، و اختلفوا في أنّه قبل اُحد أو بعدها و الآية المحرّمة لها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) ، على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها و روى ذلك غير واحد ممّن تقدّم كالنخعيّ و أبي ثور و ابن جبير.

و قيل: نزلت قبل و لا نسخ بناء على ما روي عن ابن عبّاس أنّ السكر هو الخلّ بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أنّ السكر المطعوم المتفكّه به كالنقل و أنشد:( جعلت أعراض الكرام سكراً) - إلى أن قال - و إلى عدم النسخ ذهب الحنفيّون و قالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة و استدلّوا عليه بأنّ الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك، و لا يقع الامتنان إلّا بمحلّل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيّذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.

أمّا ما ذكره في الخمر فقد فصّلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة، و أقمنا الشواهد هناك على أنّ الخمر كانت محرّمة قبل الهجرة و كان الإسلام معروفاً بتحريمها و تحريم الزنا عند المشركين عامّتهم، و أنّ تحريمها نزل في سورة الأعراف و قد نزلت قبل سورة النحل قطعاً، و في سورتي البقرة و النساء و قد نزلتا قبل سورة المائدة.

و أنّ الّتي نزلت في المائدة إنّما نزلت لتشديد الحرمة و زجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلّفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات و هو الّذي يشير إليه

٣١٠

بقوله: يشربها البرّ و الفاجر و في لفظ الآيات دلالة على ذلك إذ يقول:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

و أمّا ما نقله عن ابن عبّاس أنّ السكر في لغة الحبشة بمعنى الخلّ فلا معوّل عليه، و استعمال اللفظ غير العربيّ و إن كان غير عزيز في القرآن كما قيل في إستبرق و جهنّم و زقّوم و غيرها لكنّه إنّما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو إبهام، و أمّا في مثل السكر و هو في اللغة العربيّة الخمر و في الحبشيّة الخلّ فلا و كيف يجوز أن ينسب إلى أبلغ الكلام أنّه ترك الخلّ و هو عربيّ جيّد و استعمل مكانه لفظة حبشيّة تفيد في العربيّة ضدّ معناها؟

و أمّا ما نسبه إلى أبي عبيدة فقد تقدّم ما عليه في أوّل الكلام فراجع.

و أمّا ما نسبه إلى الحنفيّة من أنّ المراد بالسكر النبيذ و أنّ الآية تدلّ على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حدّ الإسكار لمكان الامتنان ففيه أنّ الآية لا تدلّ على أكثر من أنّهم يتّخذون منه سكراً، و أمّا الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الآية و إنّما عدّ من النعم ثمرات النخيل و الأعناب لا كلّ ما عملوا منها من حلال و حرام و لو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدالّ بمقابلته على نوع من العتاب على اتّخاذهم منه سكراً كما اعترف به البيضاويّ و غيره.

على أنّ ما في الآية من لفظ السكر غير مقيّد بكونه نبيذاً أو خمراً و لا قليلاً لا يبلغ حدّ الإسكار و لا غيره فلو كان اتّخاذ السكر متعلّقاً للامتنان الدالّ على الجواز لكانت الآية صريحة في حلّيّة الجميع ثمّ لم يقبل النسخ أصلاً فإنّ لسان الامتنان لا يقبل أمداً يرتفع بعده، كيف يجوز أن يعدّ الله شيئاً من نعمه و يمتنّ على الناس به ثمّ يعدّه بعد برهة رجساً و من عمل الشيطان كما في آية المائدة إلّا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) حثّا على التعقّل و الإمعان في أمر النبات و ثمراته.

قوله تعالى: ( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) إلى

٣١١

آخر الآيتين، الوحي - كما قال الراغب - الإشارة السريعة و ذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرّد عن التركيب أو بإشارة و نحوها، و المحصّل من موارد استعماله أنّه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي و كذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كلّ ذلك من الوحي، و قد استعمل في كلامه تعالى في كلّ من هذه المعاني كقوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) الآية، و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) القصص: ٧، و قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: ١٢١، و قوله:( فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ) مريم: ١١، و من الوحي التكليم الإلهيّ لأنبيائه و رسله، قال تعالى:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْياً ) الشورى: ٥١، و قد قرّر الأدب الدينيّ في الإسلام أن لا يطلق الوحي على غير ما عند الأنبياء و الرسل من التكليم الإلهيّ.

قال في المجمع: و الذلل جمع الذلول، يقال: دابّة ذلول بين الذلّ و رجل ذلول بيّن الذلّ و الذلّة. انتهى.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) أي ألهمه من طريق غريزته الّتي أودعها في بنيته، و أمر النحل و هو زنبور العسل في حياته الاجتماعيّة و سيرته و صنعته لعجيب، و لعلّ بداعة أمره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ ) .

و قوله:( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ) هذا من مضمون الوحي الّذي اُوحي إليه، و الظاهر أنّ المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.

و قوله:( ثُمَّ كُلِي مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) الأمر بأن تأكل من كلّ الثمرات مع أنّها تنزل غالباً على الأزهار إنّما هو لأنّها إنّما تأكل من موادّ الثمرات أوّل ما تتكوّن في بطون الأزهار و لما تكبر و تنضج.

و قوله:( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ) تفريعه على الأمر بالأكل يؤيّد أنّ

٣١٢

المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيّأته من العسل المأخوذ من الثمرات و إضافة السبل إلى الربّ للدلالة على أنّ الجميع بإلهام إلهيّ.

و قوله:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) إلخ، استئناف بعد ذكر جملة ما اُمرت به يبيّن فيه ما يترتّب على مجاهدتها في امتثال أمر الله سبحانه ذللا و هو أنّه يخرج من بطونها أي بطون النحل( شَرابٌ ) و هو العسل( مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) بالبياض و الصفرة و الحمرة الناصعة و ما يميل إلى السواد( فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) من غالب الأمراض.

و تفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة الّتي بنت حياتها على مدنيّة عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها و لا يحاط بدقائقها ثمّ الّذي تهيّؤه ببالغ مجاهدتها و ما يشتمل عليه من الخواصّ خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظانّ تحقيقه.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و قد اختلف التعبير بذلك في هذه الآيات فخصّ الآية في إحياء الأرض بعد موتها بقوم يسمعون، و في ثمرات النخيل و الأعناب بقوم يعقلون، و في أمر النحل بقوم يتفكّرون.

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ النظر في أمر الموت و الحياة بحسب طبعه من العبرة و الموعظة، و هي بالسمع أنسب، و النظر في الثمرات من حيث ما ينفع الإنسان في وجوده من السير البرهاني من مسلك اتّصال التدبير و ارتباط الأنظمة الجزئيّة و رجوعها إلى نظام عامّ واحد لا يقوم إلّا بمدبّر واحد و هو للعقل أنسب، و أمر النحل في حياتها يتضمّن دقائق عجيبة لا تنكشف للإنسان إلّا بالإمعان في التفكّر فهو آية للمتفكّرين.

و قد أشرنا سابقاً إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات، و عمدتها في هذه الآيات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم و إشفاقا بحالهم و هم لا يعلمون، و الإعراض عن مخاطبتهم لكفرهم و جحودهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلّب بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين فيتحوّل منه إليهم و منهم إليه.

٣١٣

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شيئاً ) إلخ، الأرذل اسم تفضيل من الرذالة و هي الرداءة و الرذل الدون و الردي‏ء، و المراد بأرذل العمر بقرينة قوله:( لِكَيْ لا يَعْلَمَ ) إلخ، سنّ الشيخوخة و الهرم الّتي فيها انحطاط قوى الشعور و الإدراك، و هي تختلف باختلاف الأمزجة و تبتدئ على الأغلب من الخمس و السبعين.

و المعنى: و الله خلقكم معشر الناس ثمّ يتوفّاكم في عمر متوسّط و منكم من يردّ إلى سنّ الهرم فينتهي إلى أن لا يعلم بعد علم شيئاً لضعف القوى، و هذا آية أنّ حياتكم و موتكم و كذا شعوركم و علمكم ليست بأيديكم و إلّا اخترتم البقاء على الوفاة و العلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه و قدرته تعالى، و لهذا علّله بقوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ اللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) إلى آخر الآية، فضل بعض الناس على بعض في الرزق و هو ما تبقى به الحياة ربّما كان من جهة الكميّة كالغنيّ المفضّل بالمال الكثير على الفقير، و ربّما كان من جهة الكيفيّة كأن يستقلّ بالتصرّف فيه بعضهم و يتولّى أمر الآخرين مثل ما يستقلّ المولى الحرّ بملك ما في يده و التصرّف فيه بخلاف عبده الّذي ليس له أن يتصرّف في شي‏ء إلّا بإذنه و كذا الأولاد الصغار بالنسبة إلى وليّهم و الأنعام و المواشي بالنسبة إلى مالكها.

و قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى‏ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) قرينة على أنّ المراد هو القسم الثاني من التفضيل و هو أنّ بعضهم فضّل بالحرّيّة و الاستقلال بملك ما رزق و ليس يختار أن يردّ ما رزق باستقلاله و حرّيته إلى من يملكه و يملك رزقه، و لا أن يبذل له ما اُوتيه من نعمة حتّى يتساويّاً و يتشاركاً فيبطل ملكه و يذهب سودده.

فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها و لا برادّين لها على غيرهم، و ليست إلّا من الله سبحانه فإنّ أمر المولويّة و الرقّيّة و إن كان من الشؤون الاجتماعيّة الّتي ظهرت عن آراء الناس و السنن الاجتماعيّة الجارية في مجتمعاتهم لكن له اُصول طبيعيّة

٣١٤

تكوينيّة هي الّتي بعثت آراءهم على اعتباره كسائر الاُمور الاجتماعيّة العامّة.

و من الشاهد على ذلك أنّ الاُمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بإلغاء سنّة الاسترقاق ثمّ اتّبعتهم سائر الاُمم من الشرقيّين و غيرهم و هم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية و إن ألغوا صورتها، و يجرون مسمّاها و إن هجروا اسمها(١) و لن يزالوا كذلك فليس في وسع الإنسان أن يسدّ باب المغالبة، و قد قدّمنا كلاماً في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.

و كون هذا المعنى نعمة من الله إنّما هو لأنّ من صلاح المجتمع الإنسانيّ أن يتسلّط بعضهم على بعض فيصلح القويّ الضعيف بصالح التدبير و يكمّله.

و على هذا فقوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) متفرّع على المنفي في قوله:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ ) دون النفي، و المعنى: ليسوا برادّي رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين و في ذلك ذهاب مولويّتهم، و يحتمل أن يكون جملة استفهامية حذفت منها أداة الاستفهام و فيها إنكار أن يكون المفضّلون و المفضّل عليهم في ذلك متساويين، و لو كانوا سواء لم يمتنع المفضّل من أن يردّ رزقه على من فضل عليه فإنّ في ذلك دلالة على أنّها نعمة خصّه الله بها.

و لذلك عقّبه ثانياً بقوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) و هو استفهام توبيخيّ كالمتفرّع لما تقدّمه من الاستفهام الإنكاريّ، و المراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.

و المعنى - و الله أعلم - و الله فرّق بينكم بأن فضّل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حرّ مستقلّ في التصرّف فيه، و بعضكم عبد تبع له لا يتصرّف إلّا عن إذن فليس الّذين فضّلوا برادّي رزقهم الّذي رزقوه على سبيل الحرّيّة و الاستقلال على ما ملكت أيمانهم حتّى يكون هؤلاء المفضّلون و المفضّل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختصّ بالمفضّلين أ فبنعمة الله يجحدون؟.

__________________________________________________

(١) و إنّما نقلوا حكم الاسترقاق ممّا بين الفرد و الفرد إلى ما بين المجتمع و المجتمع و سموه بغير اسمه.

٣١٥

هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفّت به من القرائن، و السياق سياق تعداد النعم، و ربّما قرّر معنى الآية على وجه آخر:

فقيل: المعنى أنّهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم و أزواجهم حتّى يكونوا في ذلك سواء و يرون ذلك نقصا لأنفسهم فكيف يشركون عبيدي في ملكي و سلطاني و يعبدونهم و يتقرّبون إليهم كما يعبدونني و يتقرّبون إلي، كما فعلوا في عيسى بن مريمعليه‌السلام ؟

قالوا: و الآية على شاكلة قوله تعالى:( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) الروم: ٢٨ قالوا: و الآية نزلت في نصارى نجران.

و فيه أنّ سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة و التوبيخ فلا أثر فيها منه.

على أنّ الآية ممّا نزلت بمكّة و أين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ستّ من الهجرة أو بعدها؟ و قياس هذه الآية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين، فسياق هذه الآية سياق الاحتجاج بذكر النعمة و سياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك.

و قيل: إنّ المعنى فهؤلاء الّذين فضّلهم الله في الرزق من الأحرار لا يرزقون مماليكهم و عبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملّاك و المماليك فإنّ الّذي ينفقه المولى على مملوكه إنّما ينفقه ممّا رزقهم الله فالله رازقهم جميعاً فهم فيه سواء.

و محصّله أنّ قوله:( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) حالّ محلّ إضراب مقدّر و التقدير أنّ الموالي ليسوا برادّي رزق أنفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدي مواليهم و هم سواء في الرزق من الله.

و فيه أنّ ما قرّر من المعنى مقتضاه أن يبطل التسوية أخيراً حكم التفضيل أوّلاً، و لا يستقيم عليه مدلول قوله:( أَ فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) .

و قيل: المراد أنّ الموالي ليسوا برادّي ما بأيديهم من الرزق على مواليهم

٣١٦

حتّى يستووا في التمتّع منه.

و فيه أنّه يعود حينئذ إلى أنّ الإنسان يمنع غيره من أن يتسلّط على ما ملكه من الرزق، و حينئذ يكون تخصيص ذلك بالعبيد مستدركاً زائداً، و لو وجه بأنّه إنّما لا يردّه عليه لمكان تسلّطه على عبيده رجع إلى ما قدّمناه من المعنى، و لكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكيّة المولى لعبده و لما عنده من الرزق.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) إلى آخر الآية. قال في المفردات: قال الله تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) جمع حافد و هو المتحرّك المسرع بالخدمة أقارب كانوا أو أجانب. قال المفسّرون: هم الأسباط و نحوهم و ذلك أنّ خدمتهم أصدق - إلى أن قال - قال الأصمعيّ: أصل الحفد مداركة الخطو. انتهى.

و في المجمع: و أصل الحفد الإسراع في العمل - إلى أن قال - و منه قيل للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة. انتهى. و المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين لمكان قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) و لذا فسّر بعضهم قوله:( بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) بصغار الأولاد و كبارهم، و بعضهم بالبنين و الأسباط و هم بنو البنين.

و المعنى: و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً تألفونها و تأنسون بها، و جعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين و حفدة و أعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم و تدفعون بهم عن أنفسكم المكاره و رزقكم من الطيّبات و هي ما تستطيبونه من أمتعة الحياة و تنالونه بلا علاج و عمل كالماء و الثمرات أو بعلاج و عمل كالأطعمة و الملابس و نحوها، و( مِنْ ) في( مِنَ الطَّيِّباتِ ) للتبعيض و هو ظاهر.

ثمّ وبّخهم بقوله:( أَ فَبِالْباطِلِ ) و هي الأصنام و الأوثان و من ذلك القول بالبنات لله، و الأحكام الّتي يشرّعها لهم أئمّتهم أئمّة الضلال( يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) و النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم و جعل البنين و الحفدة من أزواجهم فإنّ ذلك من أعظم النعم و أجلاهاً لكونه أساساً تكوينيّاً يبتني عليه المجتمع البشريّ، و يظهر به فيهم حكم التعاون و التعاضد بين الأفراد، و ينتظم به لهم أمر

٣١٧

تشريك الأعمال و المساعي فيتيسّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا و الآخرة.

و لو أنّ الإنسان قطع هذا الرابط التكوينيّ الّذي أنعم الله به عليه و هجر هذا السبب الجميل، و إن توسّل بأيّ وسيلة غيره لتلاشى جمعه و تشتّت شمله و في ذلك هلاك الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) عطف على موضع الجملة السابقة و المعنى يكفرون بنعمة الله و يعبدون من دون الله ما لا يملك إلخ.

و قد ذكروا أنّ( رِزْقاً ) مصدر و( شيئاً ) مفعوله و المعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئاً و قيل: الرزق بمعنى المرزوق و( شيئاً ) بدل منه، و قيل: إنّ( شيئاً ) مفعول مطلق و التقدير: لا يملك شيئاً من الملك. و خير الوجوه أوسطها.

و يمكن أن يقال:( مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شيئاً ) بدل من( رِزْقاً ) و هو من بدل الكلّ من البعض يفيد معنى الإضراب و الترقّي، و المعنى و يعبدون ما لا يملك لهم رزقاً بل لا يملك لهم في السماوات و الأرض شيئاً.

و قوله:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) أي و لا يستطيعون أن يملكوا رزقاً و شيئاً و يمكن أن يكون منسيّ المتعلّق جارياً مجرى اللازم أي و لا استطاعة لهم أصلاً.

و قد اجتمع في الآية رعاية الاعتبارين في الأصنام فإنّها من جهة أنّها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضّة غير عاقلة و بهذا الاعتبار قيل:( ما لا يَمْلِكُ ) إلخ، و من جهة أنّهم يعدّونها آلهة دون الله و يعبدونها و العبادة لا تكون إلّا لعاقل منسلكة - على زعمهم - في سلك العقلاء، و بهذا الاعتبار قيل:( وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ) .

و في الآية رجوع إلى التخلّص لبيان الغرض من تعداد النعم و هو التوحيد و إثبات النبوّة بمعنى التشريع و المعاد يجري ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في أولاها عن ضربّهم الأمثال لله سبحانه، و يضرب في الثانية مثلاً تبيّن به وحدانيّته تعالى في ربوبيّته، و في الثالثة مثلاً يتبيّن به أمر النبوّة و التشريع، و يتعرّض في الرابعة لأمر المعاد.

٣١٨

قوله تعالى: ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الظاهر السابق إلى الذهن أنّ المراد بضرب الأمثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيليّة و هي إجراء الأوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم: إنّ له بنات كالإنسان، و إنّ الملائكة بناته، و إنّ بينه و بين الجنّة نسباً و صهراً، و إنّه كيف يحيي العظام و هي رميم إلى غير ذلك، و هذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى، و قد تقدّم في خلال الآيات السابقة قوله:( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ ) .

فالمعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبّهونه بغيره و تقيسونه إلى خلقه لأنّ الله يعلم و أنتم لا تعلمون حقائق الاُمور و كنهه تعالى.

و قيل: المراد بالضرب الجعل، و بالأمثال ما هو جمع المثل بمعنى الندّ، فقوله:( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) في معنى قوله في موضع آخر:( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) البقرة: ٢٢، و هو معنى بعيد.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلى آخر الآية، ما في الآية من المثل المضروب يفرض عبداً مملوكاً لا يقدر على شي‏ء، و آخر رزق من الله رزقاً حسناً ينفق منه سرّاً و جهراً ثمّ يسأل هل يستويان؟ و اعتبار التقابل بين المفروضين يعطي أنّ كلّا من الطرفين مقيّد بخلاف ما في الآخر من الوصف مع تبيين الأوصاف بعضها لبعض.

فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه و لا لشي‏ء من متاع الحياة و هو غير قادر على التصرّف في شي‏ء من المال، و الّذي فرض قباله حرّ يملك نفسه و قد رزقه الله رزقاً حسناً و هو ينفق منه سرّاً و جهراً على قدرة منه على التصرّف بجميع أقسامه.

و قوله:( هَلْ يَسْتَوُونَ ) سؤال عن تساويهما، و من البديهيّ أنّ الجواب هو نفي التساوي و يثبت به أنّ الله سبحانه و هو المالك لكلّ شي‏ء المنعم بجميع النعم لا يساوي شيئاً من خلقه و هم لا يملكون لا أنفسهم و لا غيرهم و لا يقدرون على شي‏ء من التصرّف فمن الباطل قولهم: إنّ مع الله آلهة غيره و هم من خلقه.

٣١٩

و التعبير بقوله:( يَسْتَوُونَ ) دون أن يقال: يستويان للدلالة على أنّ المراد من ذلك الجنس من غير أن يختصّ بمولى و عبد معيّنين كما قيل.

و قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي له عزّ اسمه جنس الحمد و حقيقته و هو الثناء على الجميل الاختياريّ لأنّ جميل النعمة من عنده و لا يحمد إلّا الجميل فله تعالى كلّ الحمد كما أنّ له جنسه فافهم ذلك.

و الجملة من تمام الحجّة و محصّلها أنّه لا يستوي المملوك الّذي لا يقدر أن يتصرّف في شي‏ء و ينعم بشي‏ء، و المالك الّذي يملك الرزق و يقدر على التصرّف فيه فيتصرّف و ينعم كيف شاء، و الله سبحانه هو المحمود بكلّ حمد إذ ما من نعمة إلّا و هي من خلقه فله كلّ صفة يحمد عليها كالخلق و الرزق و الرحمة و المغفرة و الإحسان و الإنعام و غيرها، فله كلّ ثناء جميل، و ما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شي‏ء فهو سبحانه الربّ وحده دون غيره.

و قد قيل: إنّ الحمد في الآية شكر على نعمه تعالى، و قيل: حمد على تمام الحجّة و قوّتها، و قيل: تلقين للعباد و معناه قالوا: الحمد لله الّذي دلّنا على توحيده و هدانا إلى شكر نعمه، و هي وجوه لا يعبأ بها.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر المشركين لا يعلمون أنّ النعمة كلّها لله لا يملك غيره شيئاً و لا يقدر على شي‏ء بل يثبتون لأوليائهم شيئاً من الملك و القدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعاً و خوفاً، هذا حال أكثرهم و أمّا أقلّهم من الخواصّ فإنّهم على علم من الحقّ لكنّهم يحيدون عنه بغياً و عناداً.

و قد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الآية مثل مضروب في الله سبحانه و فيمن يزعمونه شريكاً له في الربوبيّة، و قيل: إنّها مثل تمثّل به حال الكافر المخذول و المؤمن الموفّق فإنّ الكافر لإحباط عمله و عدم الاعتداد بأعماله كالعبد المملوك الّذي لا يقدر على شي‏ء فلا يعدّ له إحسان و إن أنفق و بالغ بخلاف المؤمن الّذي يوفّقه الله لمرضاته و يشكر مساعيه فهو ينفق ممّا عنده من الخير سرّاً و جهراً.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الاحتجاج الّذي للآيات، و قد تقدّم أنّ الآية إحدى

٣٢٠