الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 83860
تحميل: 5590


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83860 / تحميل: 5590
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قَبْلِكُمْ ) خبر هلاكهم و انقراضهم، فإنّ النبأ هو الخبر الّذي يعتنى بأمره فلا ينافي ما يتعقّبه من قوله:( لا يَعْلَمُهُمْ إلّا الله ) .

و ثانياً: أنّ قوله:( قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ ) ، من قبيل ذكر الأمثلة، و أنّ قوله:( لا يَعْلَمُهُمْ إلّا الله ) بيان لقوله:( مِنْ قَبْلِكُمْ ) و المراد بعدم العلم بهم لغير الله الجهل بحقيقة حالهم و عدم الإحاطة بتفاصيل تاريخ حياتهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( لا يَعْلَمُهُمْ إلّا الله ) اعتراضاً و إن كان ما ذكرناه أنسب للسياق، و أمّا احتمال أن يكون خبراً لقوله:( وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) كما ذكره بعضهم فسخافته ظاهرة، و أسخف منه تجويز بعضهم أن يكون حالاً من ضمير من بعدهم و كون قوله:( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ) خبراً لقوله:( وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) .

و قوله:( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) الظاهر أنّ المراد به أنّ رسلهم جاؤهم بحجج بيّنة تبيّن الحقّ و تجلّيه من غير أيّ إبهام و ريب فمنعوهم أن يتفوّهوا بالحقّ و سدّوا عليهم طريق التكلّم.

فالضميران في:( أَيْدِيَهُمْ ) و( أَفْواهِهِمْ ) للرسل، و ردّ أيديهم في أفواههم كناية عن إجبارهم على أن يسكتوا و يكفّوا عن التكلّم بالحقّ كأنّهم أخذوا بأيدي رسلهم و ردّوها في أفواههم إيذاناً بأنّ من الواجب عليكم أن تكفّوا عن الكلام، و يؤيّده قوله بعد:( وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) فإنّ دعوى الشكّ و الريب قبال الحجّة البيّنة و الحقّ الصريح الّذي لا يبقي مجالاً للشكّ لا تتحقّق إلّا من جاحد مكابر متحكّم مجازف لا يستطيع أن يسمع كلمة الحقّ فيجبر قائلها على السكوت و الصمت.

و للقوم في معنى الآية أقوال اُخر:

منها قول بعضهم المعنى أنّ الكفّار ردّوا أيديهم في أفواه الرسل تكذيباً لهم و ردّاً لما جاؤا به، فالضمير الأوّل للكفّار و الثاني للرسل، و فيه أنّه مستلزم لاختلاف مرجع الضميرين من غير قرينة ظاهرة.

و منها: أنّ المراد أنّ الكفّار وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم مومين به إلى

٢١

الرسل أن اسكتوا كما يفعله الواحد من الناس مع غيره إذا أراد إسكاته فالضميران معاً للكفّار.

و منها: أنّ المعنى عضّوا أصابعهم من شدّة الغيظ من استماع دعوة الرسل، فالضميران للكفّار كما في الوجه السابق و فيه أنّه كناية بعيدة غير مفهومة من اللفظ.

و منها: أنّ المراد بالأيدي الحجج و هي إمّا جمع اليد بمعنى الجارحة لكون الحجّة بمنزلة اليد الّتي بها البطش و الدفع، و إمّا جمع اليد بمعنى النعمة لكون حجج الرسل نعماً منهم على الناس و المعنى أنّهم ردّوا حجج الرسل إلى أفواههم الّتي خرجت منها.

و قريب من هذا الوجه قول بعضهم: إنّ المراد بالأيدي نعم الرسل و هي أوامرهم و نواهيهم و الضميران أيضاً للرسول، و المعنى أنّهم كذّبوا الرسل في أوامرهم و نواهيهم.

و قريب منه أيضاً قول آخرين: إنّ المراد بالأيدي النعم، و ضمير( أَيْدِيَهُمْ ) للرسل، و( فِي ) في قوله( فِي أَفْواهِهِمْ ) بمعنى الباء و الضمير للكفّار و المعنى كذّب الكفّار بأفواههم نعم الرسل و هي حججهم.

و أنت خبير بأنّ هذه معان بعيدة عن الفهم يجلّ كلامه تعالى أن يحمل عليها و على أمثالها.

و أمّا قوله:( وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) فهو نحو بيان لقوله:( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) و الجملة الاُولى أعني قولهم:( إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) إنكار للشريعة الإلهيّة الّتي هي متن الرسالة، و الجملة الثانية أعني قولهم:( وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ ) إلخ إنكار لما جاؤا به من الحجج و البيّنات و إظهار ريب فيما كانوا يدعون إليه و هو توحيد الربوبيّة.

قوله تعالى: ( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي الله شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) أصل الفطر على ما ذكره

٢٢

الراغب الشقّ طولا يقال: فطرت الشي‏ء فطراً أي شققته طولا، و أفطر الشي‏ء فطوراً و انفطر انفطاراً أي قبل الفطر، و استعمل في القرآن فيما انتسب إليه تعالى بمعنى الإيجاد بنوع من العناية كأنّه تعالى شقّ العدم شقّا فأظهر من بطنه الأشياء فهي ظاهرة ما أمسك هو تعالى على شقّي العدم موجودة ما كان ممسكاً لها و لو ترك الإمساك لانعدمت و زالت كما قال تعالى:( إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) فاطر: ٤١.

و على هذا فتفسير الفطر بالخلق الّذي هو جمع الأجزاء و الأبعاض كما وقع في بعض العبارات ليس على ما ينبغي، و يؤيّد ذلك أنّ الفطر لو كان بمعنى الخلق لكان البرهان الّذي اُشير إليه بقوله:( فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) مسوقاً لإثبات وجود الخالق فكان أجنبيّاً عن المقام لأنّ الوثنيّة لا تنكر وجود خالق للعالم و أنّه هو الله عزّ اسمه لا غير، و إنّما ينكرون توحيد الربوبيّة و العبادة و هو أن يكون الله سبحانه هو الربّ المعبود لا غير، و البرهان على كونه تعالى خالقاً للسماوات و الأرض لا ينفع فيه شيئاً.

و كيف كان فقوله:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي الله شَكٌّ ) إلخ، كلام قوبل به قولهم:( وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) و قد عرفت أنّ قولهم هذا يتضمّن إنكارين: إنكارهم للرسالة و تشكّكّهم في توحيد الربوبيّة فكلام الرسل المورد جوابا منهم عن قولهم بالمقابلة متضمّن لجزءين.

فقولهم:( أَ فِي الله شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) برهان على توحيد الربوبيّة إذ لو سيق لمجرّد الإنكار على الكفّار من غير إشارة إلى برهان لم يكن حاجة إلى ذكر الوصف( فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، ففي ذكره دلالة على أنّه مزيل كلّ شكّ و ريب عنه تعالى.

و ذلك أنّا نرى في أوّل ما نعقل أنّ لهذا العالم المشهود الّذي هو مؤلّف من أشياء كثيرة كلّ واحد منها محدود في نفسه متميّز من غيره وجوداً، و ليس وجوده و لا وجود شي‏ء من أجزائه من نفسه و قائماً بذاته و إلّا لم يتغيّر و لم ينعدم فوجوده

٢٣

و وجود أجزائه و كذا كلّ ما يرجع إلى الوجود من الصفات و الآثار من غيرها و لغيرها و هذا الغير هو الّذي نسمّيه( الله ) عزّ اسمه.

فهو تعالى الّذي يوجد العالم و كلّ جزء من أجزائه و يحدّه و يميّزه من غيره فهو في نفسه موجود غير محدود و إلّا لاحتاج إلى آخر يحدّده فهو تعالى واحد لا يقبل الكثرة لأنّ ما لا يحدّ بحدّ لا يقبل الكثرة.

و هو بوحدته يدبّر كلّ أمر كما أنّه يوجده لأنّه هو المالك لوجودها و لكلّ أمر يرجع إلى وجودها، و لا يشاركه غيره في شي‏ء لأنّ شيئاً من الموجودات غيره لا يملك لنفسه و لا لغيره فهو تعالى ربّ كلّ شي‏ء لا ربّ غيره، كما أنّه موجد كلّ شي‏ء لا موجد غيره.

و هذا برهان تامّ سهل التناول حتّى للأفهام البسيطة يناله الإنسان الّذي يذعن بفطرته أنّ للعالم المشهود حقيقة و واقعيّة من غير أن يكون وهما مجرّداً كما يبديه السفسطة و الشكّ، و يثبت به توحّد الاُلوهيّة و الربوبيّة و لذلك تمسّك به في هذا المقام الّذي هو مقام خصام الوثنيّة.

و من هنا يظهر فساد زعم من زعم أنّ قوله:( أَ فِي الله شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) حجّة مسوقة لإثبات خالق للعالم، و كذا قول من قال: إنّه دليل اتّصال التدبير لتوحيد الربوبيّة بل هو برهان عليه تعالى من جهة قيام وجود كلّ شي‏ء و آثار وجوده به من كلّ جهة فينتج توحّده في الربوبيّة و يزول به ما أيّدوه من الشكّ بقولهم:( وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) .(١)

ثمّ قولهم:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إشارة إلى برهان النبوّة الّتي أنكروها بقولهم:( إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) يريدون به دين الرسل و الشريعة السماويّة بالوحي.

و بيانه أنّ من سنّته تعالى الجارية هداية كلّ شي‏ء إلى كماله و سعادته

__________________________________________________

(١) فهو قريب من مضمون قوله تعالى:( قُلْ أَفَاتّخَذْتُم مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِم نَفْعاً ولاَ ضَرّاً ) الرعد:١٦ و قد تقدّم.

٢٤

النوعيّة، و الإنسان أحد هذه الأنواع المشمولة للهداية الإلهيّة فمن الواجب في العناية الإلهيّة أن يهتدي إلى سعادة حياته. و لكن له حياة خالدة غير محدودة بالدنيا و لا منقطعة بالموت، و سعادته في الحياة أن يعيش في الدنيا عيشة مطمئنّة على أساس تعديل قواه في التمتّع من أمتعة الحياة من مأكول و مشروب و لباس و نكاح و غير ذلك و هي الأعمال الصالحة، و في الآخرة أن يعيش على ما اكتسبه من الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

و هو و إن كان مجهّزاً بفطرة تذكّره حقّ الاعتقاد و صالح العمل لكنّه مجبول من جهة اُخرى على العيشة الاجتماعيّة الّتي تدعوه إلى اتّباع الأهواء و الظلم و الفسق، فمجرّد ذكرى الفطرة لا يكفي في حمله على سنّة حقّة عادلة تحصّل له الاستقامة في الاعتقاد و العمل، و إلّا لم يفسد المجتمع الإنسانيّ و لا واحد من أجزائه قطّ و هم مجهّزون بالفطرة.

فمن الواجب في العناية أن يمدّ النوع الإنسانيّ مع ما له من الفطرة الداعية إلى الصلاح و السعادة بأمر آخر تتلقّى به الهداية الإلهيّة و هو النبوّة الّتي هي موقف إنسانيّ طاهر ينكشف له عنده الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح بوحي إلهيّ و تكليم غيبيّ يضمن اتّباعه سعادة الفرد و المجتمع في الدنيا و الآخرة.

أمّا سعادة الدنيا فلمّا تقدّم كراراً أنّ بين المعاصي و المظالم و بين النكال و العقوبة الإلهيّة الّتي تنتهي إلى الهلاك ملازمة فلو لم يفسد المجتمع و داموا على الصلاح الفطريّ لم يختر منهم الهلاك و لم يفاجئهم النكال و عاشوا ما قدّر لهم من الآجال الطبيعيّة. و العيشة المغبوطة.

و أمّا سعادة الآخرة فلأنّ اتّباع الدعوة الإلهيّة و بعبارة اُخرى الإيمان و التقوى يحلّيان النفس بالهيأة الصالحة و يذهبان بدرن النفس الّذي هو الذنوب بمقدار الاتّباع.

فربوبيّته تعالى لكلّ شي‏ء المستوجبة لتدبيرها أحسن تدبير و هدايته كلّ نوع إلى غايته السعيدة تستدعي أن تعني بالناس بإرسال رسل منهم إليهم و دعوته

٢٥

الناس بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح ليتمّ بذلك سعادتهم في الدنيا و الآخرة، أمّا في الدنيا فبالتخلّص عن النكال و العقوبة القاضية عليهم، و أمّا في الآخرة فبالمغفرة الإلهيّة بمقدار ما تلبّسوا به من الإيمان و العمل الصالح.

إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أنّ قوله تعالى حاكيا عن الرسل:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إشارة منهمعليه‌السلام إلى حجّة النبوّة العامّة و أنّ قوله:( لِيَغْفِرَ لَكُمْ ) إلخ، إشارة إلى غاية الدعوة الاُخرويّة و قوله:( وَ يُؤَخِّرَكُمْ ) إلخ إشارة إلى غايتها الدنيويّة، و قدّم ما للآخرة على ما للدنيا لأنّ الآخرة هي المقصودة بالذات و هي دار القرار.

و قد نسبوا الدعوة في كلامهم إلى الله سبحانه للتنبيه لما هو الحقّ تجاه قول الكفّار( تَدْعُونَنا إِلَيْهِ ) حيث نسبوها إلى الرسل، و قوله:( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) ظاهر في التبعيض، و لعلّه للدلالة على أنّ المغفرة على قدر الطاعة، و المجتمع الإنسانيّ لا يخلو عن المعصية المستوجبة للمؤاخذة البتّة، فالمغفور على أيّ حال بعض ذنوب المجتمع لا جميعها فافهم ذلك.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ المراد به أنّه يغفر حقوق الله لا حقوق الناس، و ردّ بأنّه صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

و ربّما قيل: إنّ( مِنْ ) زائدة و اُيّد بقوله تعالى في موضع آخر:( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) بدون من. و فيه أنّ من إنّما يزاد في النفي دون الإثبات كقولهم: ما جاءني من رجل و تدخل على النكرة دون المعرفة كما قيل. على أنّ مورد الآيتين مختلف فإنّ قوله:( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) الظاهر في مغفرة الجميع إنّما هو في مورد الإيمان و الجهاد و هو قوله:( تُؤْمِنُونَ بِالله وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ - إلى أن قال -يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) الصف: ١٢ و الّذي حكاه الله عن نوحعليه‌السلام في مثل المقام و هو أوّل هؤلاء الرسل المذكورين في الآية قوله:( أَنِ اعْبُدُوا الله وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ

٢٦

إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) نوح: ٤ و هو يوافق الآية الّتي نحن فيها فالتبعيض لا مفرّ منه ظاهراً.

و ممّا قيل في توجيه الآية أنّ المراد بالبعض الكلّ توسّعاً، و من ذلك أنّ المراد مغفرة ما قبل الإيمان من الذنوب و أمّا ما بعد ذلك فمسكوت عنه، و من ذلك أنّ المراد مغفرة الكبائر و هي بعض الذنوب إلى غير ذلك، و هذه وجوه ضعيفة لا يعبؤ بها.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف: فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله:( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) ؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلّا في خطاب الكافرين بقوله:( وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) ( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ الله وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) ، و قال في خطاب المؤمنين:( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ - إلى أن قال -يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) و غير ذلك ممّا يقفك عليه الاستقراء، و كأنّ ذلك للتفرقة بين الخطابين، و لئلّا يسوّي بين الفريقين في الميعاد. انتهى.

و كأنّ مراده أنّ المغفور من الذنوب في الفريقين واحد و هو جميع الذنوب، إلّا أنّ تشريف مقام الإيمان أوجب أن يصرّح في المؤمنين بمغفرة الجميع، و يقتصر في وعد الكفّار على مغفرة البعض و السكوت عن الباقي، و مغفرة بعضها لا تنافي مغفرة البعض الآخر، فليكن هذا مراده و إلّا فمجرّد التفرقة بين الخطابين لا ينتج ارتكاب مخالفة الواقع بتاتا.

و قوله:( وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي لا يعاجلكم بالعقوبة و الهلاك و يؤخّركم إلى الأجل الّذي لا يؤخّر و قد سمّاه لكم و لا يبدّل القول لديه، و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأنعام أنّ الأجل أجلان: أجل موقوف معلّق، و أجل مسمّى لا يؤخّر.

و من الدليل على هذا الّذي ذكرناه قول نوح لقومه في هذا المقام على ما حكاه الله سبحانه:( وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ الله إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) نوح: ٤.

٢٧

قوله تعالى: ( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) قد تقدّم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب أنّ الآية المعجزة حجّة عامّة على نبوّة النبيّ لا حجّة عامّيّة و خاصّة الوحي و النبوّة الّتي هي نوع اتّصال بالغيب أمر خارق للعادة الجارية بين أفراد الإنسان لا يجدونها من أنفسهم فعلى من يدّعيها الإثبات و لا طريق إلى إثباتها إلّا بالإتيان بخارق عادة آخر يدلّ على صحّة هذا الاتّصال الغيبيّ لأنّ حكم الأمثال واحد، و إذا جاز أن تخترق العادة بشي‏ء جاز أن تخترق بما يماثله.

و الرسلعليه‌السلام لما احتجّوا على كفّار اُممهم في النبوّة العامة بقولهم:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) عادت الكفّار إليهم بطلب الدليل منهم على ما يدّعونه من النبوّة لأنفسهم معتذرين في ذلك بقولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) ، ثمّ صرّحوا بما يطلبونه من الدليل و هو الآية المعجزة بقولهم:( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

فالمعنى سلّمنا أنّ من مقتضى العناية الإلهيّة أن يدعونا إلى المغفرة و الرحمة، لكنّا لا نسلّم لكم أنّ هذه الدعوة قائمة بكم كما تدّعون فإنّكم بشر مثلنا لا تزيدون علينا بشي‏ء، و لو كان مجرّد البشريّة يوجب ذلك لكنّا وجدناه من أنفسنا و نحن بشر، فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه فأتونا بسلطان مبين أي ببرهان قاطع يتسلّط على عقولنا و يضطرّنا إلى الإذعان بنبوّتكم و هو آية معجزة غيبيّة تخرق العادة كما أنّ ما تدّعونه خارق مثلها.

و بهذا البيان يظهر أوّلاً أنّ كلامهم هذا من قبيل منع الدعوى، و قولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) سند المنع، و قولهم:( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) تصريح بطلب الدليل.

و ثانياً أنّ قولهم:( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) من قبيل الاعتراض الواقع بين المنع و سنده و معناه أنّكم لما كنتم بشراً مثلنا لا فضل لكم علينا بشي‏ء فلا وجه لأن نقبل منكم ما لا نجده من أنفسنا و لا نعهده من أمثالنا، و

٢٨

الّذي نعهده من أمثال هذه الاُمور أنّها إنّما تظهر عن أغراض و مطامع دنيويّة مادّيّة فليس إلّا أنّكم تريدون أن تصرفونا عن سنّتنا القوميّة و طريقتنا المثلى.

قوله تعالى: ( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ الله يَمُنُّ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ ) إلى آخر الآية جواب الرسل عمّا أوردوه على رسالتهم بأنّكم بشر مثلنا فلستم ذوي هويّة ملكوتيّة حتّى تتّصلوا بالغيب فإن كنتم صادقين في دعواكم هذه القدرة الغيبيّة فأتونا بسلطان مبين.

و محصّل الجواب أنّ كوننا بشراً مثلكم مسلّم لكنّه يوجب خلاف ما استوجبتموه أمّا قولكم إنّ كونكم بشراً مثلنا يوجب أن لا تختصّوا بخصيصة لا نجدها من أنفسنا و هي الوحي و الرسالة فجوابه: أنّ المماثلة في البشريّة لا توجب المماثلة في جميع الكمالات الصوريّة و المعنويّة الإنسانيّة كما أنّ اعتدال الخلقة و جمال الهيئة و كذا رزانة العقل و إصابة الرأي و الفهم و الذكاء كمالات صوريّة و معنويّة توجد في بعض أفراد الإنسان دون بعض، فمن الجائز أن ينعم الله بالوحي و الرسالة على بعض عباده دون بعض فإنّ الله يمنّ على من يشاء منهم.

و أمّا قولكم:( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) فإنّه مبنيّ على كون النبيّ ذا شخصيّة ملكوتيّة و قدرة غيبيّة فعّالة لما تشاء، و ليس كذلك فما النبيّ إلّا بشر مثلكم يوحى إليه بالرسالة و ليس له من الأمر شي‏ء، و ما كان له أن يأتي بآية من عنده إلّا أن يشاء الله ذلك و يأذن فيه.

فقوله:( إِنْ نَحْنُ إلّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) تسليم من الرسل لقولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) لاستنتاج خلاف ما استنتجوه منه، و قوله:( وَ لكِنَّ الله يَمُنُّ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ ) إشارة إلى مقدّمة بانضمامها يستنتج المطلوب، و قوله:( وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إلّا بِإِذْنِ الله ) جواب منهم استنتجوه من كونهم بشراً مثلهم.

و تذييل هذا الكلام بقولهم:( وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) للإشارة إلى ما يجري مجرى حجّة ثانية على إرجاع الأمر كلّه - و منه أمر الآية المعجزة - إلى الله و هي حجّة خاصّة بالمؤمنين، و ملخّصها أنّ الإيمان بالله سبحانه يقتضي منهم أن

٢٩

يذعنوا بأنّ الإتيان بالآية إنّما هو إلى الله لأنّ الحول و القوّة له خاصّة لا يملك غيره من ذلك شيئاً إلّا بإذنه.

و ذلك لأنّه هو الله عزّ شأنه، فهو الّذي يبدأ منه و ينتهي إليه و يقوم به كلّ شي‏ء فهو ربّ كلّ شي‏ء المالك لتدبير أمره لا يملك شي‏ء أمراً إلّا بإذنه فهو وكيل كلّ شي‏ء القائم بما يرجع إليه من الأمر، فعلى المؤمن أن يتّخذ ربّه وكيلاً في جميع ما يرجع إليه حتّى في أعماله الّتي تنسب إليه لما أنّ القوّة كلّها له سبحانه و على الرسول أن يذعن بأن ليس له الإتيان بآية معجزة إلّا بإذن الله.

و الآية ظاهرة في أنّ الرسلعليه‌السلام لم يدّعوا امتناع إتيانهم بالآية المعجزة المسمّاة سلطاناً مبينا، و إنّما ادّعوا امتناع أن يستقلّوا بذلك من غير حاجة فيه إلى إذن الله سبحانه و احتجّوا على ذلك أوّلاً، و ثانياً.

قوله تعالى: ( وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى‏ ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) ما استفهاميّة و الاستفهام للإنكار، و قوله:( وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا ) حال من الضمير في( لَنا ) و سبل الأنبياء و الرسل الشرائع الّتي كانوا يدعون إليها، قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ ) يوسف: ١٠٨ و المعنى ما الّذي نملكه من العذر في أن لا نتوكّل على الله و الحال أنّه تعالى هدانا سبلنا و لم يكن لنا صنع في هذه النعمة و السعادة الّتي من بها علينا فإذا كان سبحانه فعل بنا هذا الفعل الّذي هو كلّ الخير فمن الواجب أن نتوكّل عليه في سائر الاُمور.

و هذا في الحقّيقة حجّة ثانية على وجوب التوكّل عليه و إلقاء الزمام إليه سلك فيها من طريق الآثار الدالّة على وجوب التوكّل عليه كما أنّ الحجّة السابقة سلك فيها من النظر في نفس المؤثّر، و تقرير الحجّة أنّ هدايته تعالى إيّانا إلى سبلنا دليل على وجوب التوكّل عليه لأنّه لا يخون عباده و لا يريد بهم إلّا الخير و مع وجود الدليل على التوكّل لا معنى لوجود دليل على عدم التوكّل يكون عذراً لنا فيه فلا سبيل لنا إلى عدم التوكّل عليه تعالى.

٣٠

فقوله تعالى:( وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) يجري مجرى اللمّ، و قوله:( وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا ) مجرى الإنّ فتدبّر في هذا البيان العذب و الاحتجاج السهل الممتنع الّذي قدّمه القرآن الكريم إلى متدبّريه في أوجز لفظ.

و قوله:( وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى‏ ما آذَيْتُمُونا ) من تفريع الصبر على ما بيّن من وجوب التوكّل عليه أي إذا كان من الواجب أن نتوكّل عليه و نحن مؤمنون به و قد هدانا سبلنا فلنصبرنّ على إيذائكم لنا في سبيل الدعوة إليه متوكّلين عليه حتّى يحكم بما يريد و يفعل ما يشاء من غير أن نأوي في ذلك إلى ما عندنا من ظاهر الحول و القوّة.

و قوله:( وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) كلام مبنيّ على الترقّي أي كلّ من تلبّس بالتوكّل فعليه أن يتوكّل على الله سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن إذ لا دليل غيره غير أنّ المتوكّل بحقيقة التوكّل لا يكون إلّا مؤمناً فإنّه مذعن أنّ الأمر كلّه لله فلا يسعه إلّا أن يطيعه فيما يأمر و ينتهي عمّا ينهى و يرضى بما رضي به و يسخط عمّا سخط عنه و هذا هو الإيمان.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) هذا تهديد منهم بعد ما عجزوا في مناظرتهم و خسروا في محاجّتهم، و الخطاب في قولهم:( لَنُخْرِجَنَّكُمْ ) إلخ للرسل و الّذين آمنوا معهم فما كانوا ليرضوا أن يعود الرسل في ملّتهم و يبقى أتباعهم على دين التوحيد. على أنّ الله سبحانه صرّح بذلك في قصص بعضهم كقوله في شعيب:( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) الأعراف: ٨٨.

و قوله:( أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) ( عاد ) من الأفعال الناقصة بمعنى الصيرورة و هي الحيلولة من حال إلى حال سواء كان عليها سابقا أو لا و من الدليل عليه - كما قيل - قوله:( فِي مِلَّتِنا ) و لو كان بمعنى الرجوع إلى ما كان لتعيّن أن يقال: إلى ملّتنا.

٣١

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنّ ظاهر الآية أنّ الرسل كانوا قبل الرسالة في ملّتهم فكلّفهم الكفّار أن يعودوا إلى ما كانوا عليه.

على أنّ خطابهم لم يكن للرسل خاصّة بل لهم و لمن آمن بهم ممّن كان على ملّة الكفّار من قبل فالخطاب لهم و لرسلهم بالعود إلى ملّتهم على تقدير كون العود بمعنى الرجوع، إنّما هو من باب التغليب.

و من لطيف الصناعة في الآية دخول لام القسم و نون التأكيد على طرفي الترديد:( لنخرجنكم أو لتعودن) مع أنّ أو للاستدراك و تفيد معنى الاستثناء و لا معنى لأن يقال: إلّا أن تعودوا و الله في ملّتنا، إلّا أنّ عودهم لما كان بإجبار من الكفّار كان في معنى الإعادة و عاد قوله:( لَتَعُودُنَّ ) طرف الترديد و صحّ دخول اللّام و النون و آل المعنى إلى قولنا: و الله لنخرجنّكم من أرضنا أو نعيدنّكم في ملّتنا.

قوله تعالى: ( فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ ربّهم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) إلى آخر الآية، ضمير الجميع الأوّل و الثاني للرسل و الثالث للّذين كفروا بدلالة السياق، و التعبير عنهم بالظالمين للإشارة إلى سببيّة ظلمهم للإهلاك فإنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّيّة كما أنّ قوله:( ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ ) مشعر بعلّيّة الخوف للإسكان.

و قوله:( مَقامِي ) مصدر ميميّ اُريد به قيامه تعالى على الأمر كلّه أو اسم مكان اُريد به مرتبة قيمومته تعالى للأمر كلّه، و المراد من وعيده تعالى ما أوعد به المخالفين عن أمره من العذاب.

فالمراد بالخوف من مقامه تعالى تقواه بما أنّه الله القائم بأمر عباده و المراد بالخوف من وعيده تقواه بما أنّه الله الّذي حذّر عباده من مخالفة أمره بلسان أنبيائه و رسله فيعود على أيّ حال إلى التقوى و ينطبق على قول موسى لقومه:( اسْتَعِينُوا بِالله وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨ كما أشار إليه في الكشّاف.

و المعنى فأوحى ربّ الرسل إليهم - و قد اُخذت صفة الربوبيّة الخاصّة بهم

٣٢

لمكان توكّلهم الجالب للرحمة و العناية - و اُقسم لنهلكنّ هؤلاء المهدّدين لكم بظلمهم و لنسكنّنكم هذه الأرض الّتي هدّدوكم بالإخراج منها و نورثكم إيّاها لصفة مخافتكم منّي و من وعيدي و كذلك نفعل فنورث الأرض عبادنا المتّقين.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) الاستفتاح طلب الفتح و النصر. و الخيبة انقطاع الرجاء و الخسران و الهلاك، و العنيد هو اللجوج و منه المعاند.

و الضمير في( وَ اسْتَفْتَحُوا ) للرسل أي طلبوا النصر من الله لما انقطعت بهم الأسباب من كلّ جانب و بلغ بهم ظلم الظالمين و تكذيب المعاندين كقول نوح فيما حكاه الله:( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) القمر: ١٠ و يمكن رجوع الضمير إلى الرسل و الكفّار جميعاً فإنّ الكفّار أيضاً كانوا يصرّون على أن يأتيهم الرسل بما يقضي بينهم كقولهم:( مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ ) الم السجدة: ٢٨( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ ) يس: ٤٨ و على هذا التقدير يكون المعنى: و استفتح الرسل و الكفّار جميعاً، و كانت الخيبة للجبّارين و هو عذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى‏ مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) إلى آخر الآيتين. الصديد القيح السائل من الجرح، و هو بيان للماء الّذي يسقونه في جهنّم. و التجرّع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار، و الإساغة إجراء الشراب في الحلق يقال: ساغ الشراب و أسغته أنا كذا في المجمع و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِربّهم أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) إلى آخر الآية، يوم عاصف شديد الريح تمثيل لأعمال الكفّار من حيث تترتّب نتائجها عليها و بيان أنّها حبط باطلة لا أثر لها من جهة السعادة فهو كقوله تعالى:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) الفرقان: ٢٣ فأعمالهم كذرّات من الرماد اشتدّت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته و لم يبق منه شيئاً هذا مثلهم من جهة أعمالهم.

و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى تقدير شي‏ء في الكلام و إرجاعه إلى مثل

٣٣

قولنا: مثل أعمال الّذين كفروا إلخ، و الظاهر أنّ الآية ليست من تمام كلام موسى بل هي كالنتيجة المحصّلة من كلامه المنقول.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من اُعطي الشكر اُعطي الزيادة يقول الله عزّوجلّ:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي زهير يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما اُعطي أحد أربعة فمنع أربعة: ما اُعطي أحد الشكر فمنع الزيادة لأنّ الله يقول:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) ، و ما اُعطي أحد الدعاء فمنع الإجابة لأنّ الله يقول:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) و ما اُعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأنّ الله يقول:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ) و ما اُعطي أحد التوبة فمنع التقبّل لأنّ الله يقول:( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) الشورى: ٢٥.

و فيه، أخرج أبونعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس عن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين قال: لما قال له سفيان الثوريّ: لا أقوم حتّى تحدّثني قال جعفر: أمّا إنّي اُحدّثك و ما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها و دوامها فأكثر من الحمد و الشكر عليها فإنّ الله تعالى قال في كتابه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) و إذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإنّ الله تعالى قال في كتابه:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ - يعني في الدنيا و الآخرة(١) -وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) .

يا سفيان إذا حزنك أمر من سلطان أو غيره فأكثر من لا حول و لا قوّة إلّا

________________________________________________________

(١) كذا في النسخة و الظاهر أن يكون قوله: و الآخرة زائداً و أن يقع يعني في الآخرة بعد قوله: أنهاراً.

٣٤

بالله فإنّها مفتاح الفرج و كنز من كنوز الجنّة.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: شكر كلّ نعمة و إن عظمت أن تحمد الله‏

و فيه، بإسناده عن حماد بن عثمان قال: خرج أبوعبداللهعليه‌السلام من المسجد و قد ضاعت دابّته فقال: لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ الله حقّ شكره فما لبث أن اُتي بها فقال: الحمد لله. فقال قائل له: جعلت فداك أ لست قلت: لأشكرنّ الله حقّ شكره؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : أ لم تسمعني قلت: الحمد لله؟

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم، قلت: و ما هو؟ قال: الحمد لله، على كلّ نعمة عليه في أهل و مال، و إن كان فيما أنعم الله عليه في ماله حقّ أدّاه، و منه قوله عزّوجلّ:( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) و منه قوله:( أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) ، و قوله:( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي ولّاد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : أ رأيت هذه النعمة الظاهرة علينا من الله أ ليس إن شكرناه عليها و حمدناه زادنا كما قال الله في كتابه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) ؟ فقال: نعم من حمد الله على نعمه و شكره و علم أنّ ذلك منه لا من غيره زاد الله نعمه.

أقول: و الروايتان الأخيرتان تفسّران الشكر أحسن تفسير، و ينطبق عليهما ما قدّمناه في البيان أنّ الشكر إظهار النعمة اعتقاداً و قولاً و فعلاً، و يؤيّده إطلاق قوله تعالى:( وَ أمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) الضحى: ١١.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي رفعه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال: من آذى جاره طمعا في مسكنه ورثه الله داره. و هو قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ - إلى قوله -فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ ربّهم لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) .

٣٥

و في التفسيرين المجمع، و روح المعاني، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من آذى جاره أورثه الله داره.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال: قال رجل لعليّ بن أبي طالب: أنا أنسب الناس. قال: إنّك لا تنسب الناس. قال: بلى. فقال له عليّ: أ رأيت قوله تعالى:( وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً ) ؟ قال أنا أنسب ذلك الكثير. قال: أ رأيت قوله:( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إلّا الله ) فسكت.

و في المجمع، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : الصديد هو الدم و القيح من فروج الزواني في النار.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و النسائيّ و ابن أبي الدنيا في صفة النار و أبويعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و أبونعيم في الحلية و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في البعث و النشور عن أبي أمامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( وَ يُسْقى‏ مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ ) قال: يقرّب إليه فيتكرّهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتّى يخرج من دبره يقول الله تعالى:( وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) و قال:( وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) .

و في تفسير القمّيّ، في الآية قال: قال: يقرّب إليه فيتكرّهه فإذا دنا منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شرب تقطّعت أمعاؤه و مزقت تحت قدميه و إنّه ليخرج من أحدهم مثل الوادي صديد و قيح.الحديث.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : العنيد المعرض عن الحقّ.

٣٦

( سورة إبراهيم الآيات ١٩ - ٣٤)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ( ١٩) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ( ٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ  قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ  سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ( ٢١) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ  وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم  مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ  إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ  إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ  تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ( ٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ( ٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا  وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( ٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ( ٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ  وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ  وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ( ٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ

٣٧

دَارَ الْبَوَارِ ( ٢٨ ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا  وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( ٢٩ ) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ  قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( ٣٠ ) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ( ٣١ ) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ  وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ  وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ( ٣٢ ) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ  وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( ٣٣ ) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ  وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا  إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( ٣٤ )

( بيان)

تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة بعد مرّة بقوله:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ ) ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا ) ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْراً ) .

يذكّر تعالى بها أنّ الخلقة مبنيّة على الحقّ فهم سيبرزون جميعاً فالّذين ساروا بالحقّ و آمنوا بالحقّ و عملوا الحقّ ينالون السعادة و الجنّة، و الّذين اتّبعوا الباطل و عبدوا الشيطان و أطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غروراً بظاهر عزّتهم و قدرتهم لزمهم شقاء لازم و تبرّء منهم متبوعوهم من الجنّ و الإنس و لله العزّة و الحمد.

ثم يذكّر أنّ هذا التقسّم إلى فريقين إنّما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين: سلوك هدى و سلوك ضلال، و الّذي يلزمه الهدى هو المؤمن و الّذي يلزمه الضلال هو الظالم و القاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء و له العزّة و الحمد.

٣٨

ثمّ يذكّر بالاُمم الماضية الهالكة و ما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد و يعاتب الإنسان بظلمه و كفره بالنعم الإلهيّة الّتي ملأت الوجود و إن تعدّوها لا تحصوها.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ ) المراد بالرؤية هو العلم القاطع، فإنّه الصالح لأن يتعلّق بكيفيّة خلق السماوات و الأرض دون الرؤية البصريّة.

ثمّ الفعل الحقّ و يقابله الباطل هو الّذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود أنّ كلّ واحد من الأنواع من أوّل تكوّنه متوجّه إلى غاية مؤجّلة لا بغية له دون أن يصلّ إليها ثمّ البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته و يصلح به في حدوثه و بقائه كالعناصر الأرضيّة الّتي ينتفع بها النبات، و النبات الّذي ينتفع به الحيوان و هكذا قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحقّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: ٣٩ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ص: ٢٧.

فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة و تنال غاية بعد غاية حتّى تتوقّف في غاية لا غاية بعدها، و ذلك رجوعها إلى الله سبحانه، قال تعالى:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: ٤٢.

و بالجملة الفعل إنّما يكون فعلاً حقّاً إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله و غاية يسلك بالفعل إليها، و أمّا إذا كان فعلاً لا يقصد به إلّا نفسه من غير أن يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل، و إذا كان الفعل الباطل ذا نظام و ترتيب فهو الّذي يسمّى لعباً كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظّمة مرتّبة لا غاية لهم وراءها و لا أنّ لهم همّا إلّا إيجاد ما تخيّلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.

و فعله تعالى ملازم للحقّ مصاحب له فخلق السماوات و الأرض يخلف عالماً باقياً بعد زواله، و لو لم يكن كذلك كان باطلاً لا أثر له و لا خلف يخلفه، و كان العالم

٣٩

المشهود بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتّخذه لحاجة منه إليه كالتنفّس من كرب و سأمة و التفرّج من همّ أو التخلّص من وحشة وحدة و نحو ذلك و هو سبحانه العزيز الحميد لا تمسّه حاجة و لا يذلّه فقر و فاقة.

و بما مرّ يظهر أنّ الباء في قوله:( بِالحقّ ) للمصاحبة و أنّ قول بعضهم: إنّ الباء للسببيّة أو الآلة و أنّ المعنى كيف خلقها بقوله الحقّ أو للغرض الحقّ ليس على ما ينبغي.

قوله تعالى: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ ما ذلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ) أي بشاقّ صعب و الخطاب لعامّة البشر بجعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثالاً لهم يمثّلون به لأنّ الخطاب متوجّه إليه في قوله قبل و بعد:( أَ لَمْ تَرَ ) ( وَ ما ذلِكَ ) .

قد تقدّم أنّ كون الخلقة بالحقّ هو مقتضى كونه تعالى عزيزاً غنيّاً بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك و أمكن صدور اللعب منه تعالى و كان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا لا يقصد به إلّا حدوث و فناء كان ذلك لشوق خياليّ منه إليه و حاجة داخليّة كتنفيس كرب و تفريج همّ أو اُنس عن وحشة و سأمة و نحو ذلك و غناه تعالى بالذات يدفع ذلك.

و لعلّ هذه النكتة هي الّتي أوجبت تعقيب قوله:( أَنَّ الله خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) بقوله:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) إلخ فقوله:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) إلخ، في موضع البيان لما تقدّمه و المعنى أ لم تعلم أنّ الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزّة منه و غنى و أنّه إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك عليه تعالى بعزيز و هو الله عزّ اسمه له الأسماء الحسنى و كلّ العزّة و الكبرياء.

و بهذا يظهر أنّ وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله:( عَلَى الله ) للدلالة على الحجّة و أنّ عدم عزّة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عزّ اسمه.

فإن قلت: لو كان الإتيان بقوله:( إِنْ يَشَأْ ) إلخ، للدلالة على غناه المطلق و عدم كونه لاعبا بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) و ترك قوله:( وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) فإنّ إذهاب القديم و الإتيان بجديد لا ينفي اللعب

٤٠