الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 87245 / تحميل: 6107
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وبعد أشهر من القراءة والبحث عن الحقيقة والحوارات الطويلة حدث أمر أعتبره العامل المفصلي في اعتناقي للإسلام. كنت واقفة في غرفة ابني أحاول أن أصلي. وكان أمامي كتاب عن الإسلام مفتوح على فصل «كيفية الصلاة». وقفت هناك أصارع نفسي. لم أكن قد اعتدت الصلاة مباشرة؟. طيلة حياتي علموني أن أصلي ليسوع وهو سيوصل صلاتي إلى الله... لذا خشيت أنني أقوم بأمر خطأ، ولم أشأ أن يغضب يسوع عليّ! وفي تلك اللحظة، خطرت لي فكرة كموجة عاتية. هل يعقل أن الله سيغضب إذا أردت أن أكون أكثر قرباً منه؟ وهل يعقل أن يسوع سيستاء مني إذا حاولت أن أكون أكثر قرباً من الله..؟ أليس ذلك ما يريدني أن أفعله؟ إن الله.. أعلم بنيتي. حتى هذا اليوم، لا زلت أعتقد أن الله.... كان يتحدث إليّ - بهذه القوة كان الشعور والصوت الذي شعرت به في داخلي. ممَّ كنت أخشى؟ كيف يمكنني أن لا أعتنق الإسلام؟ في تلك اللحظة بكيت طويلاً.

كان ذلك ما احتجت سماعه. وعلمت حينها أنه يجب أن أدخل في الإسلام. شعرت بأن ذلك هو الأمر الصائب وما خلا ذلك أمور غير مهمة.

وبعد أن نطقت بالشهادتين أمام المدرسة كلها أصبحت إنسانة أخرى. لم يعد لديَّ ذلك الشعور بعدم الانتماء وبماذا أؤمن، فقد تحرّرت من القلق الذي كان لديَّ من قبل وولىَّ إلى غير رجعة. وعلمت أنني قد اتخذت القرار الصائب.

لم أكن قط على هذا القدر من القرب من الله.. كما أصبحت بعد أن اعتنقت الإسلام. الحمد لله.. أنا إنسانة محظوظة. وأشكركم على السماح لي بمشاطرتكم تجربتي.

٢٢١

بعد رحلة طويلة من البحث والإبحار في عالم الأفكار والأديان:

سفينة المسلم الهندي نيرڤان تحطّ بأمان على شاطئ الإِسلام

· قصة أخرى مشوّقة من قصص المهتدين للإِسلام، ذات دلالات وإيحاءات غنية بالتجارب الإنسانية والمشاعر الإيمانية الفياضة، يسردها بإيجاز للقرّاء المعتنق الجديد للإِسلام، الأخ الهندي نيرفان، بعدما غمرته أنوار الهداية الإلهية وأنقذته من مهاوي التيه والشك والضلال.

متى وكيف بدأت القصة كلها؟ وهل بدأت فعلاً أم كانت مجرد يقظة روحية؟ إنه إدراك للحقيقة التي طالما كانت كامنة في داخلي؟

إسمي نيرڤان، من التابعية الهندية. لقد وُلدت لعائلة مختلطة، فأبي هندوسي وأمي مسلمة. منذ طفولتي أذكر بوضوح أنني لم أتلقَّ أي تربية دينية من أي نوع كانت. فأبي لم يكن هندوسياً متديناً، فيما تخلت أمي عن الإِسلام، لذا فقد تربيتُ في ما يمكن وصفه بالـ «خواء» الديني والروحي، بيد أنني سأظل ممتناً لأبويَّ لزرعهما فيّ القيم الأخلاقية التي ستظل ترشدني طيلة حياتي. فمع أن عائلتي لم تكن متدينة، إلا أنها ربتني على مبادئ أخلاقية جيّدة تتمثّل في طاعة الأبوين، والصدق، والامتناع عن السرقة، وخدمة الناس كان حجر الزاوية لحياتنا اليومية.

أدركت مؤخراً خلال فترة المراهقة أنه كانت تجول في خلدي ألغاز الوجود: ما هي الغاية من الحياة على الأرض؟ هل الموت هو نهاية كل شيء؟ هل هناك إله؟ وقد تحرك شيء ما في أعماقي موجِّهاً عقلي نحو سعي دؤوب طلباً للحقيقة. كنت بحاجة إلى أجوبة منطقية واضحة وشاملة عن كل تلك الأسئلة التي أرّقت حياتي وحيّرت لُبّي. وعزمتُ على خوض المغامرة، مع أنها متاهة معقدة حول اللاهوت، وطقوس الغابرين، والفلسفة.

٢٢٢

إنطلاقاً من الإلحاد، شققت طريقي إلى البوذية، والمسيحية، والهندوسية، إلا أنني لم أجد أي طمأنينة في أي منها. تملّكني شعور بأن الحقيقة موجودة في مكان ما، ربما أمام عينيّ، إلا أنها لا تزال تراوغني. وفي مرحلة معينة، تخليت عن البحث وتملّكني اليأس. فَلُذت بنيتشه، وسارتر، وكانط، وهاديجر، وماركس، وفرويد، وأندريه جيد، وكريشنامورتي... ولَكَم بدا الإلحاد أكثر إغراءً لي! أقوال مثل «الله قد مات»، «الدين أفيون الجماهير»، «الأديان تنبع من الخوف الفطري من الأب في المجتمعات البدائية». كنت أحيا وأموت بكتب نيتشه وموسيقى مارلين مانسون. حتى أنني أخذتُ أقرأ «الكتاب الشيطاني المقدس» وأصبحتُ مهتماً بالويكا أو الوثنية. وقد قادني هذا الأمر إلى اكتشاف الميثولوجيا الإسكندناڤية، وآلهة الرومان والإغريق... بَيْدَ أن ظمأي للروحانية والحقيقة النهائية لم يتوقف.

عندئذٍ حصلت المعجزة! فذات يوم جمعة، قرّرت أن أذهب مع صديق مسلم إلى صلاة الجمعة لمجرد التسلية. لم يكن في نيتي أن أصلّي هناك، فقد كنت مجرد فضولي فيما يتعلق بالممارسات الدينية في الإِسلام. الدين الوحيد الذي لم أبحث فيه - لقد استمعنا إلى خطبة الإمام وأديتُ حركات الصلاة من خلال تقليدي لصديقي (القيام، والركوع والسجود). عند هذه النقطة، عشتُ تجربة سماوية روحية غريبة. لم أسمع أي صوت، ولم أرَ أي نور... شعرتُ فقط بعاطفة سماوية وكأنها تجذبني. وكلما لامست جبهتي الأرض، كنت أشعر وكأنها لا تريد أن تفارقها. لقد أرسل الله هدايته إليّ. ولن أعود لحالي السابق بعد الآن أبداً.

وبعد الصلاة، سألني صديقي عن شعوري، فلم أجبه، لأن لغة البشر لا يمكن أن تعبّر عن تلك العاطفة بشكلٍ كافٍ. ذلك الإحساس بالحبور تملّك عقلي لأيام، وكان يشير إلى اتجاه واضح جداً: «الإِسلام»، فتساءلت «هل أنخرط في البحث من جديد؟» كانت قوة خفية ما تدفعني إلى الأمام وترشدني للقيام بذلك. وبعد فترة قصيرة، ألفيت نفسي غارقاً في مطالعة الكتب الإِسلامية ومعجباً بأركان الإيمان الخمسة، والعقائد، والمعجزات العلمية في القرآن، والكمال الرياضي. وشرعتُ في الصلاة بحماسة والدراسة الجادة للقرآن، ولكن القصة لم تنته هنا.

٢٢٣

لقد سقطتُ مرات عديدة في بحور الشك، والشيطان يطاردني بإغراءاته. أمضيت ليالٍ طويلة أرقاً متسائلاً إذا ما كنت على الصراط المستقيم، وهل كنت أتصرف بتهور أم لا؟ حتى أنني بلغتُ حافة الارتداد وتملّكتني رغبة بالتخلي عن كل شيء. وتزامن ذلك مع مشاكل واجهتها في المنزل لكون عائلتي غير مسلمة، مما جعل ترك الإِسلام يروق لي، فتركتُ الصلاة، المعراج الشريف، وأصبحتُ أناظر المسلمين حول معتقداتهم وأساعد المواقع المعادية للإِسلام على شبكة الإنترنت. إلا أن شيئاً ما في قلبي ما كان ليتركني أتخلى عن الله. وأدركت أن تلك الأوقات العصيبة كانت فترة ابتلاء لي، فهل أنجح أم أفشل؟ أخذت أصلّي ليل نهار، وأتوسل إلى الله طالباً العون. شعرت بالخجل لأنني شككت في كلمة الله وتركتُ نفسي تتأثر بالحملات المعادية للإِسلام. شعرتُ بالغثيان لأنني كنت ضحية الشك في كل مرة، وتوسلت إلى الله طالباً الغفران. ولكن في النهاية غمرني النور.

شيئاً فشيئاً، قوّى الله تعالى إيماني وجعلني أصمد. واجهتُ النقد والقسوة من الآخرين بالصبر والسكينة، فلم أجادل أو أغتاظ قط. وإذا ما غمرتني الكآبة، توجهت إلى الله للهداية والعون. لقد عدت إلى دين الفطرة، فماذا هناك لأخافه، وأدركت أن المغامرة لم تنته... بل هي قد بدأت. رحلة فاتنة في أرجاء معجزات وأطايب الإِسلام.

لم أبلغ نهاية الطريق بعد، ولكنني الآن في حالة سلام مع نفسي ومع الله تعالى.

٢٢٤

الهداية إلى الصراط المستقيم

بقلم الأخت زهراء (جويس سلوتر) سابقاً

· الأخت الأميركية جويس سلوتر (زهراء) لاح لها شعاع الإِسلام في مراحل عديدة مرّت بها خلال حياتها وتجاربها الدينية السابقة، وظل يلاحقها حتى عمّها أخيراً سنا بريقه الساطع. فاهتدت إلى الصراط المستقيم، كما تقول في قصَّتها التالية التي بعثت بها إلى المجلة، وهي تعمل حالياً على إرساء دعائم الإِسلام ونشره في منطقتها في ولاية ميشغان إلى جانب أخواتها في منظمة المسلمات الأميركيات.

لقد وُلدت في تشرين الثاني/نوڤمبر 1947م من أبوين أميركيين، وقد رباني أهلي تربية كاثوليكية وكانت أمي قد اعتنقت الكاثوليكية قبل زواجها بأبي. وهي تنحدر من سلالة من البروتستانت المحافظين جداً وقد درس العديد من أفراد عائلتها في معهد مودي للكتاب المقدس، كما كان بعض أفراد عائلتها من اليهود، وقد شرحت لي أمي بعض الشرائع اليهودية.

ولطالما كنت مهتمة منذ الصغر بثقافات الآخرين. حيث كنت شغوفة بدراسة المعتقدات والممارسات الدينية المختلفة.

وقد أقنعتني عناصر التشابه في العديد من الممارسات والمعتقدات الدينية بأن هناك معتقداً أصلياً تم نسيانه وتغييره عبر الزمن.

لقد تعلمتُ في مدرسة كاثوليكية حتى المرحلة الثانوية. وقد فكرتُ بدايةً في أن أصبح ملتزمة دينياً، غير أنني لم أوفق لذلك مع أنني كنت أواظب على حضور الصلاة في الكنيسة بقلب مؤمن وأتلقى التعاليم الكنسية في الوقت المحدد.

في ذلك الوقت، تعرّفت لأول مرة على الإِسلام، حيث كنت قد بدأتُ بدراسة اللغة الإسبانية في المدرسة الثانوية. وكما هو معلوم فإن شبه الجزيرة الإيبيرية تأثرت إلى حد بعيد بالثقافة الإِسلامية منذ التواجد الإِسلامي في الأندلس.

وللأسف فإنني لدى شروعي في دراستي الجامعية تركتُ ممارساتي الدينية. حتى خلال العديد من المشاكل أثناء زواجي الأول، لم أذهب للصلاة في الكنيسة. كنت أتلو صلاتي بمفردي وأقرأ في الوقت عينه عن الأديان المختلفة.

٢٢٥

وبعدما مررتُ بمرحلة مليئة بالقلق. بدأتُ بالذهاب مجدداً إلى الكنيسة ومررتُ بتجربة «الولادة الجديدة». وهذه هي مرحلة قرب خاص من الله تعالى.

بَيْدَ أن الله تعالى كان قد رسم لي خطة أخرى ليقرّبني منه أكثر، أو هكذا يبدو الأمر لي عندما أعود بالذاكرة. لقد تصادقت ابنتي مع فتاة إيرانية في المدرسة. وقد التقيتُ بأهل تلك الفتاة وتعرفتُ على ثقافتهم. عندها اشتريتُ لأول مرة ترجمة للقرآن الكريم. وبعد حوالى عام انتقلنا إلى سكن آخر، حيث التقيت بإحدى صديقاتي التي كانت متزوجة من إيراني. ومجدداً تعرّفت أكثر على الثقافة الإيرانية وكيفية طهو بعض الأطباق الإيرانية. ومع أن صديقتي لم تكن مسلمة، إلا أنها حدثتني عن الإِسلام، ومجدداً شدّ ذلك اهتمامي. في العام 1997م بدأ يساورني شعور بأن الله تعالى يريدني أن أقوم بأمر ما، شيء أكثر من مجرد إطاعة تعاليم الكنيسة وقوانين البلاد. شعرتُ بأن عليّ أن أبدأ بتعلم قيادة سيارتي بمفردي إلى أماكن بعيدة، لذا كنت أذهب إلى أوماها في نبراسكا للعمل هناك طيلة أسبوع. وذهبتُ للاعتراف في فترة عيد الميلاد وأخبرتُ الكاهن بشعوري بأن لديَّ مهمة خاصة. أعتقد أنه ظن أنني إنسانة «غريبة الأطوار». ثم في كانون الثاني/يناير 1998م، توفي زوجي الثاني إثر ذبحة قلبية. كان عمره 46 عاماً فقط. وعندئذٍ أصبحت قريبة جداً من الله تعالى وقد منحني ذلك قدراً كبيراً من الراحة.

أمضيتُ قسماً كبيراً من وقتي باحثة عما عليّ القيام به لنفسي في ذلك الحين. أصبحتُ نشطة جداً في الكنيسة كالمساعدة في جمع التبرعات لبناء مدرسة، وقد تم انتخابي عضواً في مجلس الرعية. وعبر كنيستي التقيتُ أشخاصاً من سائر أنحاء العالم. وقد تمكنتُ من السفر إلى الهند وإسبانيا.

وفي الهند رأيتُ الناس من جميع الأديان يعيشون معاً منسجمين.

٢٢٦

وفي أيار/مايو 2001م قررت أخيراً الإصغاء لنداء الله وركزت على الصلاة من أجل السلام في العالم. وقد شعرتُ على امتداد السنوات أن لديَّ حافزاً قوياً للعمل من أجل السلام في العالم. وقد بدت تلك مهمة مستحيلة.

في الأعوام القليلة التالية واصلت حياتي كما في السابق، كنت أقرأ عن الأديان الأخرى واستمريت في الأنشطة التطوعية. في العام 2003م بدأتُ بحضور سلسلة من المحاضرات عن الإِسلام في مسجد في بلومنغتون. وبعد أن انتهت السلسلة بدأتُ بحضور جلسات في منزل إحدى الأخوات إلا أنني انتقلت بعد ذلك، لذا توقفتُ عن حضورها. عرفت بأنني سأصبح مسلمة إلا أنني لم أرد أن أستسلم وأتغير. لقد اشتريتُ نسخة من القرآن الكريم ترجمها يوسف علي وقرأتها كلها. وقد قرأتُ سيرة النبي محمد (ص) وكتباً عن الإِسلام. وعندما نفق كلبي، لم أحضر كلباً آخر بل قطة لأنني عرفتُ أن معظم المسلمين يعتقدون أن الكلاب نجسة.

حلّ العام 2006م وتلقيتُ المزيد من الإشارات من الله تعالى ذات مرة كنت وصديقة لي نتحدّث عن المشاكل في العالم الإِسلامي، فقالت لي إننا من غير المسلمين ولا يمكن لنا أن نكون ممن يحمل السلام للعالم الإِسلامي. واتفقنا أن ذلك يحدث فقط من خلال المسلمين أنفسهم. وأدركتُ أنني إذا ما أردت العمل من أجل السلام في العالم فإنه عليّ أن أصبح مسلمة، إلا أن نفسي الضعيفة لم ترغب بالتغيير. وقد تجاهلتُ المزيد من الإلهامات الإلهية التي وصلت إليّ عبر أشخاص في مجموعة دراسة الكتاب المقدس التي كنت أنتمي إليها. إحدى السيدات كانت تقول للجميع باستمرار إن علينا أن نستسلم لمشيئة الله أليس ذلك ما يتضمنه الإِسلام؟ سيدة أخرى قالت اختاروا طريقاً والتزموا به. أليس الإِسلام هو الصراط المستقيم؟ لقد حاولت خلال أعوام أن أحصل على شيء يربطني أكثر بالكنيسة الكاثوليكية، وتقدمت بطلبات لعدة وظائف في أبرشيتنا، إلا أنهم لم يجدوني ملائمة للوظيفة. أعرف أن الله تعالى بمشيئته قد حال دون توظيفي كي أكون حرة أكثر من أجل الإِسلام. ومع ذلك، لم أكن أخال نفسي عنيدة إلا أنني كنت كذلك فعلاً، لم أشأ التخلّي في هذا الوقت عن شرب الكحول وأكل لحم الخنزير ومن ثَمَّ المواظبة على الصلاة اليومية، والالتزام باللباس الشرعي الإِسلامي.

٢٢٧

أخيراً، وخلال حضوري دروساً جامعية، قررت التوقف عن شرب الكحول. وعندما تمكّنتُ من القيام بذلك، عرفتُ أنني قادرة على القيام بأي شيءٍ آخر. ورغم ذلك استمر خوفي من تلك الخطوة. إلى أن دعوت الله تعالى أن يهيء لي معلماً إذا أرادني أن أعتنق الإِسلام. وبما أنني كنت أدرس في جامعة كاثوليكية كنت متأكدة أن معلماً كهذا لن يظهر أبداً.

ولكن الله تعالى يقول في (سورة يس آية 82):﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئًا أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ ﴿82﴾ ﴾ . فقد جاءني المعلم المسلم إلى صف اللاهوت المسيحي الذي كنت أتابع فيه، عندها، أدركتُ أنه لا مكان للتردد بعد الآن، فأدّيت الشهادة لله ولرسوله بعد فترة قصيرة. أعرف الآن أن عليّ الاستمرار في كفاحي كي أكون مسلمة صالحة عاملة ولكني أعرف أني بعون الله وبمساعدة إخواني وأخواتي المسلمين سأظل على الصراط المستقيم.

٢٢٨

(سيريل سفراك)

الشاب الفرنسي المهتدي للإِسلام

هكذا استنار قلبي بنور الإِسلام المتجلّي بالنبي الأكرم (ص) والمتجسّد بنهج أهل البيت (عليهم السلام)

«سيريل سفراك» شاب أخلص قلبه لله منذ طفولته، فأكرمه تعالى بنعمة الإِسلام في شبابه، وبرحمته أصبح شاباً مسلماً فخوراً بانتمائه الجديد رغم انتقادات الكثيرين من حوله لكونه فرنسياً اعتنق الإِسلام.

لكن قلب «سيريل» مطمئن بالإيمان مستنير بكلمة الحق التي تجلت في دين محمد (ص) وتجسدت في نهج آل البيت (عليهم السلام) ، وهو هنا يروي عبر مجلة (نور الإِسلام) قصة هذا التحول نحو الإِسلام الذي يراه: الحب الخالص لله.

يقول «سيريل»: وُلدت عام 1975م في أُسرة لا يؤمن أفرادها حقاً بوجوده تعالى. لم يلق تناولي للقربانة الأولى التي تمثل دخولي إلى الديانة المسيحية أي اعتراض بينهم ولا أي تشجيع. التحقتُ صغيراً بصفوف التعليم الديني. كنت متحمساً جداً فرحاً بما أتلقاه من تعاليم؛ خاصة عندما يتعلق الموضوع بالمسيح (ع) ، كانت معلومات سطحية بعض الشيء، لكنها كانت كافية لتغذي حلم كاهن صغير لا زال في سن الثانية عشر... صرتُ أقرأ التوراة والإنجيل بارتياح كبير حتى تعمّقتُ في قراءتهما، فبدا لي وقتذاك شرخاً كبيراً بين تعاليم الكتب المقدسة والدروس الكنسية، وبدأتُ أطرح على نفسي أسئلة جمة كتحريم زواج رجل الدين، مع أن الزواج خطوة مباركة يحثُّ عليها الدين، أو انتشار الأيقونات والمنحوتات كرموز دينية. حتى في الكنائس. مع أن ذلك لا يتناسب مع ما نص عليه الكتاب المقدس... كثرة الأسئلة، وكثرة التناقضات، دفعت بي إلى التمسك بإيماني (بديني) في حين أسقطت من اهتماماتي تعاليم الكنيسة، فكانت علاقتي بالله مباشرة لا تمر عبر كنيسة ولا تحدها سلطة دينية، هذا الخط الذي رسمته في سن الخامسة عشر، أخلصت له سنين طويلة.

٢٢٩

أذكر أني حين تعرفتُ إلى أصدقاء من «شهود يهوه» كنت أحاججهم بإيماني بالإنجيل، كانت أسئلتهم تحثني على البحث لاستخلاص الأجوبة، ولكن ما تعلمته من خصمي أن العقل هو السبيل لمعرفة الله «وهذا لا زال منهجاً في حياتي الدينية».

خلال أعوام دراستي الجامعية (كنت قد اخترت دراسة علم النفس) تعرفت على صديق سرعان ما صار بمثابة أخ لي، كان يجمعنا، عدا السكن الجامعي، سهرات قضيناها معاً تبادلنا فيها الآراء وأخرى ناقشنا فيها أفكاراً فلسفية لا حدود لها.

كان صديقي مسلماً، يصوم شهر رمضان لا أكثر، لكن إيمانه الداخلي كان يحاكي قناعاتي التي كونتها عن الله، ولما كنت أفتقر إلى كثير من المعلومات حول ديانته (الإِسلام) قدم لي مرة كتاب «القرآن» وعلمني كيفية الوضوء شارحاً لي ضرورة القيام به عند قراءة القرآن. ظل الكتاب على طاولتي شهوراً لم أفتحه، كنت أشعر أني لست جديراً بفتحه، وغاب صديقي عني فجأة.. واختفى! صدفة أخرى جمعتني بسيدة مغربية دعتني لحضور حلقات دينية كانت تعقد في شهر رمضان، بدا لي الحديث عن الإِسلام جلياً، فبادرتُ أطرح أسئلتي وأتعرف أكثر فأكثر على الإِسلام، ولا أنسى أني سمعتُ لأول مرة في حياتي عن الصهيونية العالمية وكان عمري قد تجاوز السابعة والعشرين.... وبدأتُ رحلة البحث عن الحقيقة: صرتُ أنهل من هذا العلم الواسع لأجد الأجوبة الشافية لأسئلتي، وأستغرقُ في البحث والتفكير فتمضي ليالٍ تلو أخرى والتساؤلات تكبر في داخلي، فأرويها بالمعرفة والتزود، ويقيني بوجود دين يجيب على أسئلتي (تطلعاتي وأفكاري) يتأكد يوماً بعد يوم، فعرفت أن الدين الإِسلامي هو آخر الديانات السماوية، وأن الله هو الرب الأوحد لكل هذه الديانات، فاعتقدتُ بذلك، وصرتُ أرى الإِسلام مُكمّلاً لها. ذات يوم تجرأت وفتحت القرآن، ومن قراءتي لأول آياته، تعلقت بكتابي، وصرت أقرأ وأزداد تعلقاً وأتمنى أن أصل إلى آخر صفحاته. فهمتُ أن المسلم يؤمن بوجود المسيح كرسول كريم وهذه الحقيقة لعيسى (ع) لاقت صورة رسمتها سابقاً في داخلي للمسيح الذي آمنت بوجوده على طريقتي (على فطرتي)، وتوضحت أكثر. اعتقدت ببعثة محمد (ص) خاتماً للرسل، صرتُ أراني مسلماً بشكلٍ عفوي وتلقائي؛ فكيف أتعبد؟ تودّدتُ لجار لي، سوري علوي، كنا نتحاور وحين يصعب سؤالي عليه، كان يتصل بأستاذه في سوريا ويجيبني، حدثني كثيراً عن الإمام علي (ع) ، شخصية جذبتني بعفوية، لكن مبالغات جاري وصديقي لم تخفَ عليّ.

٢٣٠

نهج أهل البيت(عليهم السلام) :

واصلت البحث وتعمقت أكثر، وكان طريق أهل البيت بالنسبة لي هو المنهج السليم والنيّر، فخيانة يهوذا في الدين المسيحي حادثة تعيد نفسها بعد وفاة النبي (ص) وانقلاب بعض الأصحاب عليه، وهذه الخيانات يحذرنا منها القرآن الكريم في مواضع عدة، والنبي محمد (ص) الذي تأذى أكثر من كل الأنبياء في حياته، لم يرحمه أتباعه من بعده، فالتيار جرف كثيراً من المسلمين وقلة منهم تمسك بوصاياه. هنا، يرشدنا العقل إلى السبيل القويم، إلى نهج آل محمد (ص) ، ولمَ كان أتباعه الخلّص قلة تفانوا لأجله وما زالوا.

أصداء:

كان لاعتناقي الإِسلام صدى كبيراً لدى مَن حولي: أصدقائي وزملائي في الجامعة على وجه الخصوص. أحدهم (والذي جمعتني به صلة قرابة لاحقاً: صار أخ زوجتي) كان يأتي إليّ يحدثني عن الإِسلام، ونصلي معاً، ويصحح لي ما تعلمته، ويوضح لي الأحكام الشرعية، فصرت أتبع المدرسة الجعفرية. (مدرسة الإمام الصادق (ع) ):

وصارت تعقد في غرفتي حلقات الحوار والنقاشات الفلسفية والتي غالباً ما جمعت الكثير من الشبان والشابات، فكانت فرصتي للتعرف على زوجتي التي كانت وما زالت بالنسبة لي لطفاً إلهياً مباركاً أنار دربي؛ إذ كان لها الفضل أولاً في تعليمي حفظ بعض السور، وكذلك أداء الصلاة باللغة العربية. وفجأة ظهر صديقي وأخي الذي افتقدته طويلاً، أطل هذه المرة بحلة جديدة، فقد التزم دينياً واصطحبني إلى المسجد لأول مرة وشرح لي أحكام صلاة الجماعة، وتزوج هو أيضاً، وكلانا رزق بطفلة، فكبرت عائلتانا في نور الإِسلام.

إلهي وسيدي الذي أدعوه كلما شئت لحاجتي، وأخلو به حيث شئت لسري... الحمد لك والشكر لك على ما خلقتني وسوّيتني، وربّيتني وأعطيتني حمداً دائماً لا ينقطع أبداً.. اللّهمّ املأ قلبي حباً لك وخشية منك وتصديقاً لك وإيماناً بك.

٢٣١

قصة إسلام الشاب الأرجنتيني

«محمد عيسى غارسيا»

من آثار السمعة الحسنة التي حققها مسلمو الأرجنتين هي ظاهرة إسلام العديد من المواطنين من أصل أرجنتيني نظراً للقِيَم النبيلة التي لمسوها في الدين الإِسلامي والطابع الأخلاقي السليم لسلوك المهاجرين المسلمين.

في هذا الإطار تلقينا من الأخ الكاتب مجاهد شرارة المقيم في الأرجنتين قصة شيقة عن (محمد عيسى غارسيا) وهو شاب أرجنتيني وجد سعادته كما يقول في الإِسلام بعد بحث طويل عن الحقيقة مقتفياً آثار الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رض)

حكاية محمد عيسى أنه ولد لأبوين نصرانيين وقد أمضى طفولته في التردد على الكنيسة، ولمّا بلغ العاشرة من عمره أنهضته نفسه البريئة إلى بداية رحلة جديدة للتأمل في الكون الذي حوله، ورغم صغر سنّه وقصور ذهنه على الاستدلال إلّا أن فطرته لم تكن لتتقبّل عقيدة التثليث فقد كان يميل ببراءته إلى أن عيسى بن مريم (ع) شخصية عظيمة وليس إلهاً، وهذه المسألة هي التي فتحت باب المناقشات والتساؤلات بينه وبين أهله في البيت ومع قساوسة الكنيسة التي يتردد إليها.

لم يجد محمد عيسى غارسيا وهو الطفل البريء جواباً شافياً على تساؤلاته المبكّرة وما يجيش في نفسه، وازدادت حيرته وقلقه عندما لم يعر أهله والكنيسة اهتماماً بسؤاله نظراً لصغر سنّه.

مرّت الأعوام بمحمد عيسى حتى بلغ الخامسة عشر وهو يحمل في نفسه تلك الأسئلة، ودخل الثانوية العامة، وتلقى في أثناء دراسته كلاماً سطحياً عن الإِسلام ومغلوطاً في الكثير من الأحيان، فالكتاب المدرسي يذكر أن المسلمين يعبدون الحجر الأسود ويسجدون للكعبة مصحوباً بصور للمسلمين وهم يصلون ويسجدون ويطوفون حول الكعبة.

٢٣٢

كبر محمد عيسى وكبرت معه حيرته فهو الآن شاب بإمكانه أن يحلّل ويستدل فقد قوِيَ تمسّكه وولعه بالبحث عن الحقيقة. وفي ليلة من ليالي شهر أكتوبر عام 1989 ضاقت به نفسه فالسؤال ما زال يتردد داخله، من هو خالق الكون؟! ووقف في جنح الليل ينظر إلى السماء هاتفاً: «يا أنت الذي خلقتني اهدني للحق وإلّا خذ روحي فإني أعيش حياة ضالة» وانهمرت من عينيه دموع الحيرة ثم استسلم للنوم. وفي الصباح استيقظ على طرق الباب فوجد محمد رجلاً مشرق الوجه يطلب منه أن يحدِّثه لبعض الوقت، وبدأ حديثه بقوله: أنا «ماشوركا»، مسلم جئت لأحدثك عن الإِسلام. وأخذ ماشوركا يحدّثه عن الله ووحدانيته وعظمته وكيف أنه يستحق العبادة ومنزّه عن كل نقص.

انشرح قلب محمد عيسى غارسيا لهذه الكلمات، ونظر إلى السماء متذكراً ما دعا به في الليلة الماضية، وشعر برحمة الله تحفه ونفحات الإيمان تتدافع في قلبه. دام حديث ماشوركا معه ثلاث ساعات بعدها استأذن لصلاة الجمعة. وقبل أن ينصرف طلب غارسيا أن يرافقه إلى المسجد، فقد وجد ضالته ولن يتركها تضيع من بين يديه، واستمع للخطبة التي تحدثت عن الإِسلام. وما إن فرغ المصلّون من الصلاة حتى توجه محمد غارسيا إلى ماشوركا مخاطباً: أريد أن أسلم، ماذا أفعل؟ فقال له: عليك بنطق الشهادتين ثم الاغتسال. ففعل محمد غارسيا ما طلب منه فكبّر المصلّون فرحاً بإسلامه.

طريق الأهل الشائك والهجرة إلى الحقيقة:

تعلّم محمد عيسى غارسيا في المدرسة والبيت الحرية في أن يعتقد ما يريد دون أن يؤثر ذلك في حياة الأسرة، لكن ما حدث بعد إسلامه كان خلاف ذلك، فقد واجهته المصاعب من جميع الجهات؛ فوالدته غضبت منه غضباً شديداً وتوعدته رغم حبها الجمّ له، وقام والده بطرده من المنزل وهو ما زال طالباً لم يتعدَّ 18 عاماً، فخرج حزيناً من بيته مصدوماً من أهله الذين طالما تغنوا بالحرية في المعتقد والسلوك.

٢٣٣

ليس لمحمد عيسى غارسيا أحد يلجأ إليه سوى «ماشوركا» الذي احتضنه ووفر له عملاً بسيطاً في شركة لتصنيع البلاستيك، ومأوى في بيته كي يعيش فيه. ظل محمد عيسى يعمل ويتردد إلى المسجد كي يتعلم العربية وتعاليم الإِسلام، كان جلّ همّه أن يستزيد من المعرفة وينهل من نهج نبي الإِسلام (ص)

رغب محمد عيسى أن يتعلم سيرة النبي (ص) فأقبل على كتاب السيرة النبوية «لمارتن لينكس»، وكلما قرأ عن الاضطهاد الذي تعرض له النبي وكيف صبر عليه، ازداد صلابة في مواجهة الحياة الصعبة التي يعيشها، وبعد فترة اجتهد محمد عيسى في حفظ القرآن والأحاديث النبوية حتى حفظ جزء «عم» و«الأربعون النووية».

ظلّت نفس محمد عيسى تهفو لزيارة البيت الحرام والوقوف أمام مقام الرسول (ص) حتى أتت فرصة الحج عام 1993 ووقف أمام الكعبة يصلّي معلناً أنه لا يسجد لها ولا يعبد الحجر الأسود بل يسجد ويعبد الله وحده.

بعد الحج عزم محمد عيسى على التخصص في علم الحديث بعدما تعلّم اللغة العربية، وكانت ترافقه أمنية في أن يهدي الله أُمه للإِسلام فأخذ يراسلها ويكتب إليها ويتصل بها بين الحين والحين، وفي إحدى المرات فاجأته أُمه بقولها: «لقد أسلمتُ يا محمد» حينها طار قلب محمد فرحاً لإِسلام أُمه.

عاد محمد عيسى عام 2004 إلى الأرجنتين بعد رحلة استغرقت إحدى عشر عاماً، حفظ خلالها عشرة أجزاء من القرآن الكريم وأتقن اللغة العربية، آنذاك حمل محمد عيسى لواء الدعو إلى الله وتبصير الناس بالله وبالإِسلام لكنه واجه ظروفاً صعبة، ولكن من براثن الظلام يتولد الضوء، فكثير من الأرجنتينيين بدأوا يسألونه عن الإِسلام وهو يشرح لهم حقيقة الافتراءات التي ألصقت بهذا الدين الحنيف، حتى أسلم على يديه 70 رجلاً وامرأة خصصوا لهم مكاناً للصلاة في حيّهم، ويقوم محمد عيسى بتدريس العربية للمسلمين الجدد وتعليمهم قراءة القرآن وتعاليم الإِسلام.

٢٣٤

أصبحت الدعوة إلى الإِسلام هي الشغل الشاغل لمحمد عيسى وتطورت أساليبه في التبليغ، فنظراً إلى أنه يجيد اللغة العربية والإسبانية اتجه إلى الترجمة عندما وجد ندرة في الكتب الإِسلامية باللغة الإسبانية، فعمل مديراً لقسم اللغة الإسبانية في الدار العالمية للكتاب الإِسلامي، وقد ترجم حتى الآن أكثر من سبعين كتاباً إسلامياً من العربية إلى الإسبانية، ويناشد محمد عيسى الجميع الحكومات والمؤسسات الإسلامية أن يدعموا الدعوة والتبليغ في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية، وأن تزيد حركة الترجمة وتتسع حتى تشمل جميع الكتب التي تحتضن العلوم الشرعية.

وليس غريباً أن يلوم المسلم الأرجنتيني محمد عيسى المسلمين على تقصيرهم في تبليغ رسالة الإِسلام في أمريكا اللاتينية، بعدما اطلع على عظمة الإِسلام ونجاعته في سعادة الإنسان في هذا العصر، فالمسلمون بنظره لا يقدّرون إسلامهم حق قدره. ويضيف محمد عيسى غارسياً قائلاً: «كثير من الدعاة يسافرون إلى أماكن أخرى من العالم مقابل عدد قليل جداً يأتي إلينا للدعوة إلى الله، وهذا يحزنني كثيراً، فالناس هنا في الأرجنتين، متقبلون للإِسلام ولكنهم يحتاجون إلى من يرشدهم إليه».

نداء إلى المسلمين:

وفي نهاية حديثه معنا قال: «60% من الأرجنتينيين الذين أسلموا تعرفوا على الإِسلام من خلال مواقع الإنترنت، وهناك مواقع إسبانية عن الإِسلام وكذلك منتديات للحوار باللغة الإسبانية، لذلك أناشد الشباب المسلم العربي أن يتعلم اللغة الإسبانية يدخل إلى هذه المواقع ليدعوا إلى الله، أرجو أن تهتموا بأمور المسلمين الجدد في أمريكا اللاتينية ونحن نرحب بكم جميعاً ونود أن نستقبلكم في بيوتنا».

٢٣٥

قصّة قسيس روسي

اعتنق الإسلام بعد صراع ضد الإلحاد :

من هو القسيس المسيحي الروسي الذي اعتنق الإسلام وما هي قصة الشيخ الذي دخل عليه إلى قلب الكنيسة وكان كلامه بمثابة دعوة للهدى، وماذا يفعل بولوسين ورفاقه لنصرة الإسلام في روسيا؟

قال الدكتور في الفلسفة والعلوم السياسية علي فيتشسلاف بولوسين: «لقد تربيت في عائلة غير مؤمنة ولكنني كنت أدرك بإحساسي وجود الله الذي أتوجه إليه في كل ضائقة وسرعان ما تنفرج».

وأضاف بولوسين الذي وضع عدداً من المؤلفات حول علوم الدنيا والآخرة أبرزها كتابه «الخرافات والدين والدولة» الذي صدر في موسكو في عام 9991م إنه التحق بكلية الفلسفة في جامعة موسكو من أجل الوصول إلى معرفة حقيقة الله (سبحانه وتعالى) حيث تخرَّج بعد أن أمعن في دراسة المسيحية الأرثوذكسية وقال «اكتشفت الكثير من التناقضات فيها».

وإبان العهد السوفياتي حيث كانت الشيوعية تمثل الإيديولوجية الرسمية للدولة وكانت الكنيسة الأرثوذكسية تمثل البديل الوحيد الموجود التحق بولوسين بمدرسة الرهبان وأصبح قسيساً في عام 3891م. وأقر بولوسين بأن وضعه كراهب كان يشكِّل رمزاً للصراع ضد الإلحاد وفي الوقت نفسه فإن مقامه كراهب كان يفرض عليه ممارسة طقوس تلبية لاحتياجات الناس المؤمنين التي يقول إنه «لم يقتنع بها مما خلق لديه ازدواجية بين الإيمان الشخصي والواجب الديني الاجتماعي ويعتقد بولوسين أن شكوكه ومواقفه التي لم يكن قادراً على إخفائها كانت السبب وراء إبعاده إلى آسيا الوسطى للخدمة في إحدى الكنائس في طاجكستان «حيث تعرفت لأول مرة وبصورة مباشرة على المسلمين والإسلام الذي بدأت أشعر بانشداد إليه».

وروى بولوسين أن شيخاً وقوراً دخل عليه إلى قلب الكنيسة التي كان يرعى أمورها وبدون أن يقدِّم نفسه «سألني عدة أسئلة أجبته عليها وبعدها قال لي إنك تنظر إلى الأمور بعيون مسلم وستكون إن شاء الله من المسلمين».

٢٣٦

وقال بولوسين: «بدا هذا الأمر عجيباً وغريباً إذ دخل الشيخ إلى قلب الكنيسة بكل احترام ولكنه غير آبه بأي مكروه قد يتعرض إليه ليدعو راعي الكنيسة إلى الإسلام، والعجيب في الأمر أن هذه الدعوة دخلت إلى روحي ولم تلقَ مني أي مقاومة».

وأضاف: إن الأمر الأكثر عجباً أنني لم أرَ هذا الشيخ قبل هذه الحادثة ولا بعدها وبعد وقت أدركت أن مجيئه إليّ كان مثابة «دعوة للهدى».

وبعد آسيا الوسطى تولى بولوسين رعاية كنيسة مهجورة أعيد ترميمها في مدينة كالوغا حيث يعترف بأنه بدأ فيها ممارسة قناعته بالإيمان بعيداً عن الطقوس التي لم يكن يؤمن بها.

وبفضل العلاقة الطيبة التي ارتسمت بينه وبين رواد الكنيسة سارع الناس في سنوات الانفتاح والانعتاق الديني التي دشنتها البيرسترويكا إلى ترشيحه لعضوية البرلمان الروسي في عام 0991م حيث أصبح نائباً في البرلمان وترأس لجنة برلمانية لحرية العقيدة وتفرغ للعمل النيابي بعد أن تقدم بطلب رسمي إلى الكنيسة حرره من التزاماته الشكلية الدينية.

وأضاف أن فترة عمله في البرلمان تُوِّجت بإقرار قانون حول الأديان منح الكثير من التسهيلات للمسلمين وظل العمل به مستمراً حتى عام 7991م.

ويعترف بولوسين أنه انكب في بداية التسعينيات على دراسة المصادر التاريخية القديمة للمسيحية في محاولة للوقوف على تفسيرات للشكوك التي انطوت عليها نفسه ولكن هذه الدراسة المتعمقة زادت شكوكه وعمقتها «حسب قوله».

واستطرد بأن عام 5991م كان عام التحول في قناعاته الدينية حيث توقف تماماً عن ممارسة عمله في الكنيسة وانتقل لدراسة الإسلام وقال: «لكن قراءة القرآن بالترجمة الروسية التي أعدها أغناتي كراتشكوفسكي شوهت المعاني السامية للقرآن التي لم تتضح بأبعادها العظيمة إلّا بعد مراجعة ترجمة عصرية للمعاني القرآنية والمؤلفات الإسلامية حول المسيح واستماعي إلى سلسلة محاضرات حول الدين الإسلامي حيث لم يبقَ لديّ أي شك في اعتناق الإسلام.

٢٣٧

وقال بولوسين «أعلنت إسلامي سراً ولم يكن يعلم به أحد سوى شخصين، وانطوى هذا القرار على خطر يتهدد حياتي وحياة زوجتي التي سبقتني إلى الإسلام وظللت على هذا الحال حتى العام الماضي حيث نطقت علناً بالشهادتين في حديث أدليت به لصحيفة «المسلمون» واتخذت لنفسي اسم علي وزوجتي علية».

ورداً على النظريات الغربية التي ترى أن الصراع بين الأديان والحضارات يبدو حتمياً أعرب بولوسين عن قناعته بأن روسيا تشكل نموذجاً يحتذى للتعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية بالرغم من بعض الفترات التاريخية التي ألحقت فيها الدولة أذى بالمسلمين كما حدث في العهد القيصري إبان حكم إيفان الرهيب وغيرها.

وحذر بولوسين من وجود أطراف خارجية تسعى لإثارة النعرات الدينية في روسيا من أجل تقويض الوحدة الوطنية وإضعاف الدولة الروسية.

ويتهم بولوسين الصهيونية بأنها صاحبة المصلحة الأولى في الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين في روسيا.

ودحض بولوسين بقوة محاولة إضفاء صفة الإرهاب على الإسلام قائلاً إن الأصولية اليهودية تشكل قمة التطرف لأنها تندرج في الإطار الإيديولوجي للصهيونية وتقوم على الخرافات التي كانت قائمة قبل ثلاثة آلاف عام.

وتساءل «كيف يتحدثون عن الأصولية الإسلامية وكلنا نعرف إن الأصولية اليهودية هي التي أقامت دولة على حساب شعب آخر استناداً إلى روايات خرافية وما زالت تسعى لإقامة دولة إسرائيل الكبرى على حساب الأمة العربية جمعاء».

وعن المهام الملحَّة التي يقوم بها بولوسين لنصرة الإسلام في روسيا قال إن المهمة الملحة تتمثل في «تقديم صورة صحيحة عن الإسلام للمواطنين الروس على جميع الأصعدة بما في ذلك أجهزة الدولة الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية».

وأضاف أننا نقوم بنشر صورة الإسلام المشرقة بصفته ديناً قائماً على المحبة والتعايش السلمي وسط المثقفين الروس وبدأنا بإصدار نشرة الصراط المستقيم التي تتضمن مقالات تطرح نظرة عصرية وحديثة للإسلام في روسيا وموقف المسلمين إزاء معضلات ومشكلات المجتمع الروسي.

٢٣٨

وذكر بولوسين الذي يعمل في الوقت الحاضر مستشاراً لدى رئيس الإدارة الدينية لمسلمي الجزء الأوروبي من روسيا أنه يعمل مع فريق من المسلمين الروس على وضع أسس لبرنامج اجتماعي للمسلمين الروس من أجل طرحه في الأوساط الروسية الرسمية والاجتماعية.

٢٣٩

الأخ الإسباني يوسف فرنانديز

يقول:

· أدركت أن الإسلام هو ما كنت أنتظره منذ فترة طويلة، فهو نهج حياة واضح لا يكتنفه غموض أو أسرار.

· قبل الإسلام كنت شخصاً عصبياً متشائماً لا يرى معنى لوجوده.. وقد أصبحت بعده إنساناً هادئاً وحيوياً وإيجابياً.

· في إسبانيا آفاق الدعوة إلى الإسلام جيّدة على الرغم من أن العمل في هذا المجال ليس كافياً.

يوسف فرنانديز.. أخ مسلم غربي آخر يروي قصّة تحوّله المشوّقة إلى جمال أنوار الإسلام، بعد رحلة طالت مع العقائد والأفكار السائدة في عالم الغرب، التي لم تشفِ غليله، ولم توفّر له قناعة بسلامتها وطمأنينة بصلاحيتها.. وقد تفضّل مشكوراً بالكتابة عن قصّة اعتناقه للإسلام، ليطّلع عليها قرّاء المجلة وكل من هو متيقِّن بعظمة هذا الدين الحنيف.

لقد وُلدت في العام 5691 في أستورياس، وهي منطقة في شمال إسبانيا زُعم أنها مهد الكاثوليكية الوطنية، أي العقيدة السياسية والدينية التي سادت في إسبانيا طيلة خمسة قرون. تقول أساطير الفكر الرسمي القديم إن المسلمين الذين جاؤوا في العام 711 ميلادي إلى إسبانيا عن طريق مضيق جبل طارق واستولوا على معظم أنحاء شبه الجزيرة الأيبيرية في سبع سنوات فقط، قد هُزموا من قبل الملك بيلايو وبعض أتباع المسيحية في كوفادونغا، وهي معقل جبلي في أستورياس. وقد قيل إن ذلك آذن ببدء الـatsiuqnoceR (الاسترداد) أي الحرب المسيحية المقدسة التي استمرت ثمانية قرون لفتح شبه الجزيرة بأكملها والقضاء على الدول الإسلامية فيها. وفي الثاني من كانون الثاني/يناير 2941، سقطت غرناطة؛ وقد مثل هذا التاريخ نهاية العصر الإسلامي المشرق في الأندلس.

بعد ذلك، أصبحت إسبانيا دولة كاثوليكية رسمية وذلك حتى وفاة الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو في العام 5791. وفي عام 8791، تمت المصادقة على أول دستور ديمقراطي، وبعد ذلك بعامين صدر أول قانون للحرية الدينية.

نظراً لهذه الحقائق التاريخية، كان من المفترض أن تكون أستورياس مكاناً من الصعب أن يكتشف المرء الإسلام فيه، لا سيما وأن الهويتين الأستورية والإسبانية قد تم ربطهما بالكاثوليكية الوطنية لفترة طويلة.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

عن الخدعة باليمين بعد النهي الضمنيّ عنه في الآية السابقة، و قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) تفريع على المنهيّ عنه دون النهي أي يتفرّع على اتّخاذها دخلاً أن تزلّ قدم بعد ثبوتها إلخ، و زلّة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد و التوكيد و الزوال عن الموقف الّذي ارتكز فيه فإنّ ثبات الإنسان و استقامته على ما عزم عليه و اهتمّ به من كرائم الإنسانيّة و اُصول فضائلها و عليه بناء الدين الإلهيّ، و حفظ اليمين على توكيده قدم من الأقدام الّتي يتمّ بها هذا الأصل الوسيع، و كأنّه لذلك جي‏ء بالقدم نكرة في قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ ) إلخ.

و قوله:( وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) معطوف على قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ ) إلخ، و بيان نتيجته كما أنّه بيان نتيجة و عاقبة لقوله:( لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا ) و بذلك يظهر أنّ قوله:( بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) بمنزلة التفسير لقوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) .

و المراد بالصدود عن سبيل الله الإعراض و الامتناع عن السنّة الفطريّة الّتي فطر الله الناس عليها و دعت الدعوة النبويّة إليها من التزام الصدق و الاستقامة و رعاية العهود و المواثيق و الأيمان و التجنّب عن الدغل و الخدعة و الخيانة و الكذب و الزور و الغرور.

و المراد بذوق السوء العذاب، و قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) حال عن فاعل( تَذُوقُوا ) و يمكن أن يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيّئة في الدنيا، و قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) إخباراً عمّا يحلّ بهم في الآخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة.

فالمعنى: و لا تتّخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتّى يؤدّيكم ذلك إلى الزوال عمّا ثبتّم عليه و نقض ما أبرمتموه، و فيه إعراض عن سبيل الله الّذي هو التزام الفطرة و التحرّز عن الغدر و الخدعة و الخيانة و الدغل و بالجملة الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، و يؤدّيكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء و الشقاء في حياتكم الدنيا و لكم عذاب عظيم في الاُخرى.

٣٦١

و ذكر بعضهم: أنّ الآية مختصّة بالنهي عن نقض بيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما استقرّت عليه السنّة في صدر الإسلام، و أنّ الآية نزلت في الّذين بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نصرة الإسلام و أهله فنهاهم الله عن نقض تلك البيعة، و على هذا فالمراد بالصدّ عن سبيل الله صرف الناس و منعهم عن اتّباع دين الله كما أنّ المراد بزلّة قدم بعد ثبوتها الردّة بعد الإسلام و الضلال بعد الرشد.

و فيه أنّ السياق لا يساعد على ذلك، و على تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي عموم الآية.

قوله تعالى: ( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلًا إنّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) قال في المفردات:، كلّ ما يحصل عوضا عن شي‏ء فهو ثمنه، انتهى.

و الظاهر أنّ الآية نهي عن نقض العهد بعد ما تقدّم الأمر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الأيمان، و الآية مطلقة، و المراد بعهد الله العهد الّذي عوهد به الله مطلقاً، و المراد بالاشتراء به ثمناً قليلاً بقرينة ذيل الآية أن يبدّل العهد من شي‏ء من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمّى المبدل منه ثمنا لأنّه عوض كما تقدّم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) و قد وجّهه بأنّ الّذي عندكم أي في الحياة الدنيا الّتي هي حياة مادّيّة قائمة على أساس التبدّل و التحوّل منعوتة بنعت الحركة و التغيّر زائل نافد، و ما عند الله سبحانه ممّا يعد المتّقين منكم باق لا يزول و لا يفنى و الباقي خير من النافد بصريح حكم العقل.

و اعلم أنّ قوله:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) على ما في لفظه من الإطلاق قاعدة كلّيّة غير منقوضة باستثناء، تحتها جزئيّات كثيرة من المعارف الحقيقيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مرّ مخالفة هوى النفس في نقضه و الاسترسال فيما تشتهيه، صرف الكلام عن ذكر أجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر أجر مطلق

٣٦٢

الصابرين في جنب الله.

فقوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ ) وعد مؤكّد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنّه يجب أن يكون صبراً في جنب الله و لوجه الله فإنّ السياق لا يساعد على غيره.

و قوله:( بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الباء للمقابلة كما في قولنا: بعت هذا بهذا، و ليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بأن يميّز الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسّمها إلى حسن و أحسن ثمّ يجزيهم بأحسنها و يلغي الحسن كما ذكره بعضهم فإنّ المقام لا يؤيّده، و آيات الجزاء تنفيه و الرحمة الواسعة الإلهيّة تأباه.

و ليس المراد به الواجبات و المستحبّات من أعمالهم قبال المباحات الّتي أتوا بها فإنّها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.

فإنّ الكلام ظاهر في أنّ المراد بيان الأجر على الأعمال المأتيّ بها في ظرف الصبر ممّا يرتبط به ارتباطاً، و واضح أنّ المباحات الّتي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثمّ اختيار الأحسن من بينها.

على أنّه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما أتى به من المباحات حتّى يبيّن له أنّ الثواب في مقابل ما أتى به من الواجبات و المستحبّات الّتي هي أحسن ممّا أتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركاً زائداً.

و من هنا يظهر أن ليس المراد به النوافل بناء على عدم الإلزام فيها فتكون أحسن ما عمل فإنّ كون الواجب مشتملاً من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعيّة بحيث لا يرتاب فيه.

بل المراد بذلك أنّ العمل الّذي يأتون به و له في نوعه ما هو حسن و ما هو أحسن فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة الّتي يصلّيها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة و إن كانت ما صلّاها غير أحسن و بالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في

٣٦٣

العمل و لا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيّات المقتضية لخسّته و رداءته كما يفيده قوله تعالى:( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

و يستفاد من الآية أنّ الصبر في الله يوجب كمال العمل و في قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ ) إلخ، التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير كما قيل، و الّذي أظنّه أنّه رجوع إلى السياق السابق في الآيات و كان سياق التكلّم مع الغير، و إنّما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) و الوجه فيه أنّ هذه الآية و ما بعدها من الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدّة من الأوامر و النواهي الإلهيّة، و الأنسب بالأمر و النهي أن يستنداً إلى أعظم مقامات مصدرهما و أقواها ليتأيّداً بذلك، و هذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال: إنّ الملك يأمر بكذا و إنّ مولاك يقول لك كذا، و لا يقال: فلان بن فلان يأمر أو يقول.

فكان من الأنسب أن يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة، و يقال بالالتفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) إلخ. و لذلك استمرّ السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضاً فقيل:( وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ) إلخ،( إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ ) إلخ،( وَ لَوْ شاءَ اللهُ ) إلخ،( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ) إلخ،( وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) .

ثمّ رجع إلى السياق السابق و هو التكلّم مع الغير فقال:( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) و جرى على ذلك حتّى إذا بلغ قوله:( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ) و هو حكم التفت ثانياً فقال:( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) و أحسن ما يجلّي المعنى الّذي ذكرناه قوله تعالى بعده:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) حيث جمع بين الأمرين فأسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلّم و الأعلميّة إلى الله عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) إلى آخر الآية. وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملاً صالحاً و بشرى للإناث أنّ الله لا يفرّق بينهنّ و بين الذكور في قبول إيمانهنّ و لا أثر عملهنّ الصالح الّذي هو الإحياء بحياة طيّبة و الأجر بأحسن العمل على الرغم ممّا بنى عليه أكثر الوثنيّة

٣٦٤

و أهل الكتاب من اليهود و النصارى من حرمان المرأة من كلّ مزيّة دينيّة أو جلّها و حطّ مرتبتها من مرتبة الرجل و وضعها وضعاً لا يقبل الرفع البتّة.

فقوله:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) حكم كلّي من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحاً أيّ من كان و قد قيّده بكونه مؤمناً و هو في معنى الاشتراط فإنّ العمل ممّن ليس مؤمناً حابط لا يترتّب عليه أثر، كما قال تعالى:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) المائدة: ٥، و قال:( وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) هود: ١٦.

و قوله:( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) الإحياء إلقاء الحياة في الشي‏ء و إفاضتها عليه فالجملة بلفظها دالّة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الّذي يعمل صالحاً بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامّة، و ليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه و تبديل الخبيثة من الطيّبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، و لو كان كذلك لقيل: فلنطيّبنّ حياته.

فالآية نظيرة قوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢، و تفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائيّة جديدة.

و ليس من التسمية المجازيّة لأنّ الآيات المتعرّضة لهذا الشأن ترتّب عليه آثار الحياة الحقيقيّة كقوله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢، و كقوله في آية الأنعام المنقولة آنفاً:( وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فإنّ المراد بهذا النور العلم الّذي يهتدي به الإنسان إلى الحقّ في الاعتقاد و العمل قطعاً.

و كما أنّ له من العلم و الإدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحقّ و إماطة الباطل ما ليس لغيره، و قد قال سبحانه:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧، و قال:( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) المائدة: ٦٩.

و هذا العلم و القدرة الحديثان يمهّدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها

٣٦٥

فيقسّمها قسمين: حقّ باق و باطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الّذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتانة و يعتزّ بعزّة الله فلا يستذلّه الشيطان بوساوسه و لا النفس بأهوائها و هوساتها و لا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها و فناء نعمتها.

و يتعلّق قلبه بربّه الحقّ الّذي هو يحقّ كلّ حقّ بكلماته فلا يريد إلّا وجهه و لا يحبّ إلّا قربه و لا يخاف إلّا سخطه و بعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلّدة لا يدبر أمرها إلّا ربّه الغفور الودود، و لا يواجهها في طول مسيرها إلّا الحسن الجميل فقد أحسن كلّ شي‏ء خلقه، و لا قبيح إلّا ما قبّحه الله من معصيته.

فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء و الكمال و القوّة و العزّة و اللذّة و السرور ما لا يقدّر بقدر، و كيف لا؟ و هو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها و نعمة باقية لا نفاد لها و لا ألم فيها و لا كدورة تكدّرها، و خير و سعادة لا شقاء معها، هذا ما يؤيّده الاعتبار و ينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

فهذه آثار حيويّة لا تترتّب إلّا على حياة حقيقيّة غير مجازيّة، و قد رتّبها الله سبحانه على هذه الحياة الّتي يذكرها و يخصّها بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات فهي حياة حقيقيّة جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.

و ليست هذه الحياة الجديدة المختصّة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة و إن كانت غيرها فإنّما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدّد بها الإنسان، كما أنّ الروح القدسيّة الّتي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلّا ارتفاع الدرجة دون تعدّد الشخصيّة.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و هو حقيقة قرآنيّة و به يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله:( حَياةً طَيِّبَةً ) كأنّها - كما اتّضح - حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في أثرها.

و للمفسّرين في الآية وجوه من التفسير:

منها: أنّ الحياة الطيّبة هي الحياة الّتي تكون في الجنّة فلا موت فيها و لا

٣٦٦

فقر و لا سقم و لا أيّ شقاء آخر.

و منها: أنّها الحياة الّتي تكون في البرزخ و لعلّ التخصيص من حمل ذيل الآية على جنّة الآخرة.

و منها: أنّها الحياة الدنيويّة المقارنة للقناعة و الرضا بما قسّم الله سبحانه فإنّها أطيب الحياة.

و منها: أنّها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.

و منها: أنّها رزق يوم بيوم.

و وجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبّر فلا نطيل بإيرادها.

و قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) تقدّم الكلام فيه في الآية السابقة، و في معنى الآية قوله تعالى:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجنّة يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: ٤٠.

قوله تعالى: ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) الاستعاذة طلب المعاذ، و المعنى: إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة الماُمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرء و قد اُمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرء، و أمّا قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس و ليس بنفسها إلّا بنوع من المجاز، و قد قال سبحانه: استعذ بالله، و لم يقل: قل أعوذ بالله.

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد بالقراءة إرادتها فهي مجاز مرسل من قبيل إطلاق المسبّب و إرادة السبب لا يخلو عن تساهل.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) في مقام التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنّه ليس له سلطان على من آمن بالله و توكّل عليه.

و يظهر من الآية أوّلاً: أنّ الاستعاذة بالله توكّل عليه فإنّه سبحانه بدّل الاستعاذة في التعليل من التوكّل و نفى سلطانه عن المتوكّلين.

٣٦٧

و ثانياً: أنّ الإيمان و التوكّل ملاك صدق العبوديّة كقوله تعالى لإبليس:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فنفى سلطانه عن عباده و قد بدّل العباد في هذه الآية من الّذين آمنوا و على ربّهم يتوكّلون، و الاعتبار يساعد عليه فإنّ التوكّل و هو إلقاء زمام التصرّف في اُمور نفسه إلى غيره و التسليم لما يؤثره له منها أخصّ آثار العبوديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ضمائر الإفراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الّذين يتّخذونه وليّا لهم يدبّر اُمورهم كما يريد، و هم يطيعونه، و في الّذين يشركون به إذ يتّخذونه وليّا من دون الله و ربّا مطاعا غيره فإنّ الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و بذلك يظهر أوّلاً: أنّ ذيل الآية يفسّر صدرها، و أنّ تولّي من لم يأذن الله في تولّيه شرك بالله و عبادة لغيره.

و ثانياً: أنّ لا واسطة بين التوكّل على الله، و تولّي الشيطان و عبادته، فمن لم يتوكّل على الله فهو من أولياء الشيطان.

و ربّما قيل: إنّ ضمير الإفراد في قوله:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) راجع إليه تعالى، و تفيد الآية حينئذ أنّ سلطانه على طائفتين: المشركين و الّذين يتولّونه من الموحّدين هذا: و لزوم اختلاف الضمائر يدفعه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) إشارة إلى النسخ و حكمته، و جواب عمّا اتّهموهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من الافتراء على الله، و الظاهر من سياق الآيات أنّ القائلين هم المشركون و إن كانت اليهود هم المتصلّبين في نفي النسخ و من المحتمل أن تكون الكلمة ممّا تلقّفه المشركون من اليهود فكثيراً ما كانوا يراجعونهم في أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) قال في المفردات:، الإبدال و التبديل

٣٦٨

و التبدّل و الاستبدال جعل شي‏ء مكان آخر، و هو أعمّ من العوض فإنّ العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأوّل، و التبديل قد يقال للتغيير مطلقا و إن لم يأت ببدله قال تعالى:( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) - إلى أن قال - و قال تعالى:( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) ( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) و( بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) ( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) انتهى موضع الحاجة.

فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أنّ مفعوله الأوّل هو المأخوذ و المطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً ) مَكانَ آيَةٍ معناه وضعنا الآية الثانية مكان الاُولى بالتغيير فكانت الثانية المبدّلة هي الباقية المطلوبة.

و قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) كناية عن أنّ الحقّ لم يتعدّ مورده و أنّ الّذين أنزله هو الحقّيق بأن ينزّل فإنّ الله أعلم به منهم، و الجملة حاليّة.

و قوله:( قالُوا إنّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) القول للمشركين يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتهّمونه بأنّه يفتري على الله الكذب فإنّ تبديل قول مكان قول، و الثبات على رأي ثمّ العدول عنه ممّا يتنزّه عنه ساحة ربّ العزّة.

و قد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا: افتريت في هذه التبديل و النسخ بل قالوا:( إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) فقصروهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الافتراء، و أتوا بالجملة الاسميّة و سمّوه مفتريا، و قد بنوا ذلك على أنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ واحد و هو يسند الجميع إلى ربّه و يقول: إنّما أنا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس إلّا مفتريا.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر هؤلاء المشركين الّذين يتّهمونك بقولهم:( إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) لا يعلمون حقيقة هذا التبديل و الحكمة المؤدّية إليه على ما سينكشف في الجواب أنّ الأحكام الإلهيّة تابعة لمصالح العباد و من المصالح ما يتغيّر بتغيّر الأوضاع و الأحوال و الأزمنة فمن الواجب أن يتغيّر الحكم

٣٦٩

بتغيّر مصلحته فينسخ الحكم الّذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.

فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر و أمّا الأقلّ منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر و لو إجمالاً غير أنّهم مستكبرون على الحقّ معاندون له و إنّما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحقّ.

قوله تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحقّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) قد تقدّمت في أوّل السورة إشارة إلى معنى الروح، و القدس الطهارة و النزاهة و الظاهر أنّ الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادّة نزيهة عن الخطإ و الغلط و الضلال، و هو المسمّى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين، و في موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: ١٩٤، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنّه نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧.

فقوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) أمر بالجواب و الأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعاً إلى القرآن من جهة كونه ناسخاً أي الآية الناسخة، و يمكن أن يكون راجعاً إلى مطلق القرآن، و في التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.

و كان من طبع الكلام أن يقال: من ربّي لكن عدل عنه إلى قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) للدلالة على كمال العناية و الرحمة في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنّه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن، و ليدلّ على أنّ المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرّد التلفّظ بهذه الألفاظ فافهم.

و قوله:( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) التثبيت تحكيم الثبات و تأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنّهم بأصل إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر ثبتوا على الحقّ و بتجدّد الحكم حسب تجدّد المصلحة يؤتون ثباتاً على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأوّل بالمضيّ

٣٧٠

على أعمال لا تطابق مصلحة الوقت فإنّ من الواضح أنّ من أمر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فأخذ بسلوكه عن إيمان بالآمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطؤ أو في ليل أو نهار ثمّ تغيّر نحو المصلحة فلو لم يغيّر الأمر الهادي نحو السلوك و استمرّ على أمره السابق لضعف إيمان السالك و انسلب أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة و يضمن السعادة زاد إيمانه ثباتاً على ثبات.

ففي تنزيل القرآن بالنسخ و تجديد الحكم حسب تجدّد المصلحة تثبيت للّذين آمنوا و إعطاء لهم ثباتاً على ثبات.

و قوله:( وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) و هم الّذين يسلّمون الحكم لله من غير اعتراض فالآية الناسخة بالنسبة إليهم إراءة طريق و بشارة بالسعادة و الجنّة.

و تفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين و الهدى و البشرى بالمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان و الإسلام من الفرق فالإيمان للقلب و نصيبه التثبّت في العلم و الإذعان و الإسلام في ظاهر العمل و مرحلة الجوارح و نصيبها الاهتداء إلى واجب العمل، و البشرى بأنّ الغاية هي الجنّة و السعادة.

و قد مرّ بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) البقرة: ١٠٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) افتراء آخر منهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) و هو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم و ما ورد في الجواب عنه أنّه كان هناك رجل أعجميّ غير فصيح في منطقه عنده شي‏ء من معارف الأديان و أحاديث النبوّة ربّما لاقاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتّهموه بأنّه يأخذ ما يدّعيه وحياً منه و الرجل هو الّذي يعلّمه و هو الّذي حكاه الله تعالى من قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) و في القول إيجاز، و تقديره: إنّما يعلّمه بشر و ينسب ما تعلّمه منه إلى الله افتراء عليه، و هو ظاهر.

و من المعلوم أنّ الجواب عنه بمجرّد أنّ لسان الرجل أعجميّ و القرآن

٣٧١

عربيّ مبين لا يحسم مادّة الشبهة من أصلها لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجميّ ثمّ يسبكها هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببلاغة منطقه في قالب العربيّة الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) حيث عبّروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين و الإملاء، و التعليم أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ - إلى قوله -مُبِينٌ ) ليس وحده جواباً عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.

و ملخّص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أنّ ما اتّهمتموه به أنّ بشراً يعلّمه ثمّ هو ينسبه إلى الله افتراء إن أردتم أنّه يعلّمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه و أنّ القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه أنّ هذا الرجل لسانه أعجميّ و هذا القرآن عربيّ مبين.

و إن أردتم أنّ الرجل يعلّمه معاني القرآن - و اللفظ لا محالة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه أنّ الّذي يتضمّنه القرآن معارف حقّة لا يرتاب ذو لبّ فيها و تضطرّ العقول إلى قبولها قد هدى الله النبيّ إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ لو لم يكن مؤمناً لم يهده الله و الله لا يهدي من لا يؤمن بآياته و إذ كان مؤمناً بآيات الله فهو لا يفتري على الله الكذب فإنّه لا يفتري عليه إلّا من لا يؤمن بآياته، فليس هذا القرآن بمفترى، و لا مأخوذاً من بشر و منسوباً إلى الله سبحانه كذباً.

فقوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) جواب عن أوّل شقّي الشبهة و هو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذاً من بشر على نحو التلقين، و المعنى: أنّ لسان الرجل الّذي يلحدون أي يميلون إليه و ينوونه بقولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) أعجميّ أي غير فصيح بيّن و هذا القرآن المتلوّ عليكم لسان عربيّ مبين و كيف يتصوّر صدور بيان عربيّ بليغ من رجل أعجميّ اللسان؟

و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقّي الشبهة و هو أن يتعلّم منه المعاني ثمّ ينسبها إلى الله افتراء.

٣٧٢

و المعنى: أنّ الّذين لا يؤمنون بآيات الله و يكفرون بها لا يهديهم الله إليه و إلى معارفه الحقّة الظاهرة و لهم عذاب أليم، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمن بآيات الله لأنّه مهديّ بهداية الله، و إنّما يفتري الكذب و ينسبه إلى الله الّذين لا يؤمنون بآيات الله و اُولئك هم الكاذبون المستمرّون على الكذب، و أمّا مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمن بآيات الله فإنّه لا يفتري الكذب و لا يكذب فالآيتان كنايتان عن أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهدي بهداية الله مؤمن بآياته و مثله لا يفتري و لا يكذب.

و المفسّرون قطعوا الآيتين عن الآية الاُولى و جعلوا الآية الاُولى هي الجواب الكامل عن الشبهة و قد عرفت أنّها لا تفي بتمام الجواب.

ثمّ حملوا قوله:( وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) على التحدّي بإعجاز القرآن في بلاغته، و أنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أنّ القرآن معجز في بلاغته و لا أثر عن التحدّي، و نهاية ما فيه أنّه عربيّ مبين لا وجه لأن يفصح عنه و يلفظه أعجميّ.

ثمّ حملوا الآيتين التاليتين على تهديد اُولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالافتراء، و وعيدهم بالعذاب الأليم، و قلب الافتراء و الكذب إليهم بأنّهم أولى بالافتراء و الكذب بما أنّهم لا يؤمنون بآيات الله فإنّ الله لم يهدهم.

ثمّ تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حقّ المعنى.

و قد عرفت أنّ ذلك يؤدّي إلى عدم كفاية الجواب في حسم الإشكال من أصله.

٣٧٣

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال: كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ - إلى قوله -تَذَكَّرُونَ ) .

أقول: و رواه أيضاً عن ابن عبّاس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه.

و في المجمع، و جاءت الرواية أنّ عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام و لم يقرّ الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمّله فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً فلمّا سري عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا أنا اُحدّثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فقرأها عليّ إلى آخرها فقرّ الإسلام في قلبي.

و أتيت عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتّبعوا محمّداً ترشدوا فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق، و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمّد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربّه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى‏ قَلِيلًا وَ أَكْدى) الحديث.

و فيه، عن عكرمة قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخي أعد فأعاد فقال: إنّ له لحلاوة و إنّ له لطلاوة و إنّ أعلاه لمثمر و إنّ أسفله لمعذق و ما هو قول البشر.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: ليس لله في عباده أمر إلّا العدل و الإحسان.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن عمرو بن عثمان قال: خرج عليّعليه‌السلام على أصحابه و هم يتذاكرون المروءة فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا أميرالمؤمنين في أيّ موضع؟ فقال: في قوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ

٣٧٤

بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضّل.

أقول: و رواه العيّاشيّ عن عمرو بن عثمان العاصي عنهعليه‌السلام ، و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن النجّار في تاريخه من طريق العكلّي عن أبيه عنهعليه‌السلام و لفظه: مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدّثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أ و ما كفاكم الله عزّوجلّ ذاك في كتابه إذ يقول الله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضّل.

أقول: و قد ورد في عدّة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين و تفسير الإحسان بالولاية: و في اُخرى إرجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) الآية، قال: قالعليه‌السلام : القنوع.

و في المعاني، بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قيل له: إنّ أبا الخطّاب يذكر عنك أنّك قلت: إذا عرفت الحقّ فاعمل بما شئت، فقال: لعن الله أبا الخطّاب و الله ما قلت هكذا و لكنّي قلت له: إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت من خير يقبل منك إنّ الله عزّوجلّ يقول:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجنّة يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) و يقول:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) .

أقول: و هو ما قدّمناه في معنى الآية.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ - إلى قوله -يَتَوَكَّلُونَ ) فقال: يا محمّد يسلّط و الله من المؤمن على بدنه و لا يسلّط على دينه قد سلّط على أيّوب فشوّه خلقه و لم يسلّط على دينه، و قد يسلّط من المؤمنين على أبدانهم و لا يسلّط على دينهم.

قلت له: قوله عزّوجلّ:( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: الّذين هم بالله مشركون يسلّط على أبدانهم و على أديانهم.

أقول: و رواه العيّاشيّ عن أبي بصير عنهعليه‌السلام . و إرجاع ضمير( بِهِ ) إلى

٣٧٥

الله أحد المعنيين في الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عبّاس: في قوله:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) قال: قالوا: إنّما يعلّم محمّداً عبدة بن الحضرميّ و هو صاحب الكتب، فقال الله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن عزامة الصيرفي عمّن أخبره عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها و ليست بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى(١) :( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ) و هو لسان أبي فكيهة مولى بني الحضرميّ كان( أعجميّ ) اللسان و كان قد اتّبع نبيّ الله و آمن به، و كان من أهل الكتاب فقالت قريش: هذا و الله يعلّم محمّداً علمه بلسانه، يقول الله:( وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

أقول: و الروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية أنّه أبو فكيهة مولى بني الحضرميّ، و في الرواية السابقة أنّه عبدة بن الحضرميّ، و عن قتادة أنّه عبدة بن الحضرميّ و كان يسمّى مقيص، و عن السديّ أنّه كان عبداً لبني الحضرميّ نصرانيا، كان قد قرأ التوراة و الإنجيل يقال له أبوبشر، و عن مجاهد أنّه ابن الحضرميّ كان أعجميّا يتكلّم بالروميّة، و عن ابن عبّاس أيضاً في رواية أنّه كان قينا بمكة اسمه بلعام و كان عجميّ اللسان فكان المشركون يرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل عليه و يخرج من عنده فقالوا: إنّما يعلّمه بلعام.

و المتيقّن من مضامينها أنّه كان رجلاً روميّاً مولى لبني الحضرميّ يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنّه يعلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الضحّاك

__________________________________________________

(١) هذا الّذيل مذكور في تفسير البرهان نقلاً عن العيّاشيّ لكنّه غير موجود في النسخة المطبوعة أخيراً من التفسير.

٣٧٦

في الآية قال: كانوا يقولون: إنّما يعلمه سلمان الفارسيّ، فأنزل الله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ) .

أقول: و هو لا يلائم كون الآية مكّيّة.

و فيه، أخرج ابن الخرائطي في مساوي الأخلاق و ابن عساكر في تاريخه عن عبدالله بن جراد: أنّه سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثمّ أتبعها نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن العبّاس بن الهلال عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أنّه ذكر رجلاً كذّاباً ثمّ قال: قال الله:( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

٣٧٧

( سورة النحل الآيات ١٠٦ - ١١١)

مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٠٦ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ١٠٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( ١٠٨ ) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٠٩ ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١٠ ) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١١١ )

( بيان)

في الآيات وعيد على الكفر بعد الإيمان و هو الارتداد و وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله، و فيها تعرّض لحكم التقيّة.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الاطمئنان السكون و الاستقرار، و الشرح البسط، قال في المفردات: أصل الشرح بسط اللحم و نحوه، يقال: شرحت اللحم و شرّحته، و منه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهيّ و سكينة من جهة الله و روح منه، قال تعالى:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) ( أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) ( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ ) و شرح المشكل من الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه. انتهى.

٣٧٨

و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) شرط جوابه قوله:( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ) و عطف عليه قوله:( وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) و ضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط( مَنْ ) لكونه بحسب المعنى كلّيّا ذا أفراد.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) استثناء من عموم الشرط و المراد بالإكراه الإجبار على كلمة الكفر و التظاهر به فإنّ القلب لا يقبل الإكراه و المراد أستثني من اُكره على الكفر بعد الإيمان فكفر في الظاهر و قلبه مطمئنّ بالإيمان.

و قوله:( وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ) أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى و وعاه، و الجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فإنّ المعنى ما اُريد بقولي:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) من اُكره و قلبه مطمئنّ بالإيمان و لكن اُريد به من شرح بالكفر صدراً، و في مجموع الاستثناء و الاستدراك بيان كامل للشرط، و هذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط و الجزاء و عدم تأخيره إلى أن تتمّ الشرطيّة.

و قيل: قوله:( مَنْ كَفَرَ ) بدل من( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ ) في الآية السابقة، و قوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) جملة معترضة، و قوله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) استثناء من ذلك و قوله:( وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ ) مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله:( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ) .

و المعنى - على هذا - إنّما يفتري الكذب الّذين كفروا من بعد إيمانهم إلّا من اُكره و قلبه مطمئن بالإيمان و عند ذلك تمّ الكلام ثمّ بدء فقال: و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.

و الذوق السليم يكفي مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) بيان لسبب حلول غضب الله بهم و ثبوت العذاب العظيم عليهم و هو أنّهم اختاروا الحياة الدنيا و هي الحياة المادّيّة الّتي لا غاية لها إلّا التمتّع

٣٧٩

الحيوانيّ و الاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة الّتي هي حياة دائمة مؤبّدة في جوار ربّ العالمين و هي غاية الحياة الإنسانيّة.

و بعبارة اُخرى هؤلاء لم يريدوا إلّا الدنيا و انقطعوا عن الآخرة و كفروا بها و الله لا يهدي القوم الكافرين و إذ لم يهدهم الله ضلّوا عن طريق السعادة و الجنّة و الرضوان فوقعوا في غضب من الله و عذاب عظيم.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) إشارة إلى أنّ اختيار الحياة الدنيا على الآخرة و الحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الّذي يوصف به الّذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و الّذين يسمّون غافلين.

فإنّهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم و حرمانهم من الاهتداء إلى الاُخرى انقطعوا عن الآخرة و تعلّقوا بالدنيا و جعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسّهم و عقلهم فيها دون أن يتعدّياها إلى ما وراءها و هو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به و لا يسمعون عظة يتّعظون بها و لا يعقلون حجّة يهتدون بها إلى الآخرة.

فهم مطبوع على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فلا تنال قلوبهم و لا سمعهم و أبصارهم ما يدلّهم على الآخرة، و هم غافلون عنها لا يتنبّهون لشي‏ء من أمرها.

فظهر أنّ ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرّف لما في هذه الآية من الطبع و من الغفلة فعدم هداية الله إيّاهم إثر ما تعلّقوا بالدنيا هو معنى الطبع و الغفلة، و الطبع صنع إلهيّ منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة و الغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.

قوله تعالى: ( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) لأنّهم ضيّعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في اُخراهم، و قد وقع في نظير المقام من سورة هود:( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) هود: ٢٢، و لعلّ وجه التشديد هناك أنّه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك أنّهم صدّوا عن سبيل الله فراجع.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409