الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 83900
تحميل: 5590


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83900 / تحميل: 5590
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن الخدعة باليمين بعد النهي الضمنيّ عنه في الآية السابقة، و قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) تفريع على المنهيّ عنه دون النهي أي يتفرّع على اتّخاذها دخلاً أن تزلّ قدم بعد ثبوتها إلخ، و زلّة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد و التوكيد و الزوال عن الموقف الّذي ارتكز فيه فإنّ ثبات الإنسان و استقامته على ما عزم عليه و اهتمّ به من كرائم الإنسانيّة و اُصول فضائلها و عليه بناء الدين الإلهيّ، و حفظ اليمين على توكيده قدم من الأقدام الّتي يتمّ بها هذا الأصل الوسيع، و كأنّه لذلك جي‏ء بالقدم نكرة في قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ ) إلخ.

و قوله:( وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) معطوف على قوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ ) إلخ، و بيان نتيجته كما أنّه بيان نتيجة و عاقبة لقوله:( لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا ) و بذلك يظهر أنّ قوله:( بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) بمنزلة التفسير لقوله:( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) .

و المراد بالصدود عن سبيل الله الإعراض و الامتناع عن السنّة الفطريّة الّتي فطر الله الناس عليها و دعت الدعوة النبويّة إليها من التزام الصدق و الاستقامة و رعاية العهود و المواثيق و الأيمان و التجنّب عن الدغل و الخدعة و الخيانة و الكذب و الزور و الغرور.

و المراد بذوق السوء العذاب، و قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) حال عن فاعل( تَذُوقُوا ) و يمكن أن يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيّئة في الدنيا، و قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) إخباراً عمّا يحلّ بهم في الآخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة.

فالمعنى: و لا تتّخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتّى يؤدّيكم ذلك إلى الزوال عمّا ثبتّم عليه و نقض ما أبرمتموه، و فيه إعراض عن سبيل الله الّذي هو التزام الفطرة و التحرّز عن الغدر و الخدعة و الخيانة و الدغل و بالجملة الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، و يؤدّيكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء و الشقاء في حياتكم الدنيا و لكم عذاب عظيم في الاُخرى.

٣٦١

و ذكر بعضهم: أنّ الآية مختصّة بالنهي عن نقض بيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما استقرّت عليه السنّة في صدر الإسلام، و أنّ الآية نزلت في الّذين بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نصرة الإسلام و أهله فنهاهم الله عن نقض تلك البيعة، و على هذا فالمراد بالصدّ عن سبيل الله صرف الناس و منعهم عن اتّباع دين الله كما أنّ المراد بزلّة قدم بعد ثبوتها الردّة بعد الإسلام و الضلال بعد الرشد.

و فيه أنّ السياق لا يساعد على ذلك، و على تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي عموم الآية.

قوله تعالى: ( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلًا إنّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) قال في المفردات:، كلّ ما يحصل عوضا عن شي‏ء فهو ثمنه، انتهى.

و الظاهر أنّ الآية نهي عن نقض العهد بعد ما تقدّم الأمر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الأيمان، و الآية مطلقة، و المراد بعهد الله العهد الّذي عوهد به الله مطلقاً، و المراد بالاشتراء به ثمناً قليلاً بقرينة ذيل الآية أن يبدّل العهد من شي‏ء من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمّى المبدل منه ثمنا لأنّه عوض كما تقدّم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) و قد وجّهه بأنّ الّذي عندكم أي في الحياة الدنيا الّتي هي حياة مادّيّة قائمة على أساس التبدّل و التحوّل منعوتة بنعت الحركة و التغيّر زائل نافد، و ما عند الله سبحانه ممّا يعد المتّقين منكم باق لا يزول و لا يفنى و الباقي خير من النافد بصريح حكم العقل.

و اعلم أنّ قوله:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) على ما في لفظه من الإطلاق قاعدة كلّيّة غير منقوضة باستثناء، تحتها جزئيّات كثيرة من المعارف الحقيقيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مرّ مخالفة هوى النفس في نقضه و الاسترسال فيما تشتهيه، صرف الكلام عن ذكر أجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر أجر مطلق

٣٦٢

الصابرين في جنب الله.

فقوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ ) وعد مؤكّد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنّه يجب أن يكون صبراً في جنب الله و لوجه الله فإنّ السياق لا يساعد على غيره.

و قوله:( بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الباء للمقابلة كما في قولنا: بعت هذا بهذا، و ليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بأن يميّز الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسّمها إلى حسن و أحسن ثمّ يجزيهم بأحسنها و يلغي الحسن كما ذكره بعضهم فإنّ المقام لا يؤيّده، و آيات الجزاء تنفيه و الرحمة الواسعة الإلهيّة تأباه.

و ليس المراد به الواجبات و المستحبّات من أعمالهم قبال المباحات الّتي أتوا بها فإنّها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.

فإنّ الكلام ظاهر في أنّ المراد بيان الأجر على الأعمال المأتيّ بها في ظرف الصبر ممّا يرتبط به ارتباطاً، و واضح أنّ المباحات الّتي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثمّ اختيار الأحسن من بينها.

على أنّه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما أتى به من المباحات حتّى يبيّن له أنّ الثواب في مقابل ما أتى به من الواجبات و المستحبّات الّتي هي أحسن ممّا أتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركاً زائداً.

و من هنا يظهر أن ليس المراد به النوافل بناء على عدم الإلزام فيها فتكون أحسن ما عمل فإنّ كون الواجب مشتملاً من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعيّة بحيث لا يرتاب فيه.

بل المراد بذلك أنّ العمل الّذي يأتون به و له في نوعه ما هو حسن و ما هو أحسن فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة الّتي يصلّيها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة و إن كانت ما صلّاها غير أحسن و بالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في

٣٦٣

العمل و لا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيّات المقتضية لخسّته و رداءته كما يفيده قوله تعالى:( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

و يستفاد من الآية أنّ الصبر في الله يوجب كمال العمل و في قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ ) إلخ، التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير كما قيل، و الّذي أظنّه أنّه رجوع إلى السياق السابق في الآيات و كان سياق التكلّم مع الغير، و إنّما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) و الوجه فيه أنّ هذه الآية و ما بعدها من الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدّة من الأوامر و النواهي الإلهيّة، و الأنسب بالأمر و النهي أن يستنداً إلى أعظم مقامات مصدرهما و أقواها ليتأيّداً بذلك، و هذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال: إنّ الملك يأمر بكذا و إنّ مولاك يقول لك كذا، و لا يقال: فلان بن فلان يأمر أو يقول.

فكان من الأنسب أن يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة، و يقال بالالتفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) إلخ. و لذلك استمرّ السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضاً فقيل:( وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ) إلخ،( إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ ) إلخ،( وَ لَوْ شاءَ اللهُ ) إلخ،( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ) إلخ،( وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) .

ثمّ رجع إلى السياق السابق و هو التكلّم مع الغير فقال:( وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) و جرى على ذلك حتّى إذا بلغ قوله:( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ) و هو حكم التفت ثانياً فقال:( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) و أحسن ما يجلّي المعنى الّذي ذكرناه قوله تعالى بعده:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) حيث جمع بين الأمرين فأسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلّم و الأعلميّة إلى الله عزّ اسمه.

قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) إلى آخر الآية. وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملاً صالحاً و بشرى للإناث أنّ الله لا يفرّق بينهنّ و بين الذكور في قبول إيمانهنّ و لا أثر عملهنّ الصالح الّذي هو الإحياء بحياة طيّبة و الأجر بأحسن العمل على الرغم ممّا بنى عليه أكثر الوثنيّة

٣٦٤

و أهل الكتاب من اليهود و النصارى من حرمان المرأة من كلّ مزيّة دينيّة أو جلّها و حطّ مرتبتها من مرتبة الرجل و وضعها وضعاً لا يقبل الرفع البتّة.

فقوله:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) حكم كلّي من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحاً أيّ من كان و قد قيّده بكونه مؤمناً و هو في معنى الاشتراط فإنّ العمل ممّن ليس مؤمناً حابط لا يترتّب عليه أثر، كما قال تعالى:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) المائدة: ٥، و قال:( وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) هود: ١٦.

و قوله:( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) الإحياء إلقاء الحياة في الشي‏ء و إفاضتها عليه فالجملة بلفظها دالّة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الّذي يعمل صالحاً بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامّة، و ليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه و تبديل الخبيثة من الطيّبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، و لو كان كذلك لقيل: فلنطيّبنّ حياته.

فالآية نظيرة قوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢، و تفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائيّة جديدة.

و ليس من التسمية المجازيّة لأنّ الآيات المتعرّضة لهذا الشأن ترتّب عليه آثار الحياة الحقيقيّة كقوله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢، و كقوله في آية الأنعام المنقولة آنفاً:( وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فإنّ المراد بهذا النور العلم الّذي يهتدي به الإنسان إلى الحقّ في الاعتقاد و العمل قطعاً.

و كما أنّ له من العلم و الإدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحقّ و إماطة الباطل ما ليس لغيره، و قد قال سبحانه:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧، و قال:( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) المائدة: ٦٩.

و هذا العلم و القدرة الحديثان يمهّدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها

٣٦٥

فيقسّمها قسمين: حقّ باق و باطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الّذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارّة الفتانة و يعتزّ بعزّة الله فلا يستذلّه الشيطان بوساوسه و لا النفس بأهوائها و هوساتها و لا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها و فناء نعمتها.

و يتعلّق قلبه بربّه الحقّ الّذي هو يحقّ كلّ حقّ بكلماته فلا يريد إلّا وجهه و لا يحبّ إلّا قربه و لا يخاف إلّا سخطه و بعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلّدة لا يدبر أمرها إلّا ربّه الغفور الودود، و لا يواجهها في طول مسيرها إلّا الحسن الجميل فقد أحسن كلّ شي‏ء خلقه، و لا قبيح إلّا ما قبّحه الله من معصيته.

فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء و الكمال و القوّة و العزّة و اللذّة و السرور ما لا يقدّر بقدر، و كيف لا؟ و هو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها و نعمة باقية لا نفاد لها و لا ألم فيها و لا كدورة تكدّرها، و خير و سعادة لا شقاء معها، هذا ما يؤيّده الاعتبار و ينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

فهذه آثار حيويّة لا تترتّب إلّا على حياة حقيقيّة غير مجازيّة، و قد رتّبها الله سبحانه على هذه الحياة الّتي يذكرها و يخصّها بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات فهي حياة حقيقيّة جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.

و ليست هذه الحياة الجديدة المختصّة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة و إن كانت غيرها فإنّما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدّد بها الإنسان، كما أنّ الروح القدسيّة الّتي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلّا ارتفاع الدرجة دون تعدّد الشخصيّة.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية الكريمة و هو حقيقة قرآنيّة و به يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله:( حَياةً طَيِّبَةً ) كأنّها - كما اتّضح - حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في أثرها.

و للمفسّرين في الآية وجوه من التفسير:

منها: أنّ الحياة الطيّبة هي الحياة الّتي تكون في الجنّة فلا موت فيها و لا

٣٦٦

فقر و لا سقم و لا أيّ شقاء آخر.

و منها: أنّها الحياة الّتي تكون في البرزخ و لعلّ التخصيص من حمل ذيل الآية على جنّة الآخرة.

و منها: أنّها الحياة الدنيويّة المقارنة للقناعة و الرضا بما قسّم الله سبحانه فإنّها أطيب الحياة.

و منها: أنّها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.

و منها: أنّها رزق يوم بيوم.

و وجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبّر فلا نطيل بإيرادها.

و قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) تقدّم الكلام فيه في الآية السابقة، و في معنى الآية قوله تعالى:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجنّة يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: ٤٠.

قوله تعالى: ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) الاستعاذة طلب المعاذ، و المعنى: إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة الماُمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرء و قد اُمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرء، و أمّا قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس و ليس بنفسها إلّا بنوع من المجاز، و قد قال سبحانه: استعذ بالله، و لم يقل: قل أعوذ بالله.

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد بالقراءة إرادتها فهي مجاز مرسل من قبيل إطلاق المسبّب و إرادة السبب لا يخلو عن تساهل.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ ربّهم يَتَوَكَّلُونَ ) في مقام التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنّه ليس له سلطان على من آمن بالله و توكّل عليه.

و يظهر من الآية أوّلاً: أنّ الاستعاذة بالله توكّل عليه فإنّه سبحانه بدّل الاستعاذة في التعليل من التوكّل و نفى سلطانه عن المتوكّلين.

٣٦٧

و ثانياً: أنّ الإيمان و التوكّل ملاك صدق العبوديّة كقوله تعالى لإبليس:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فنفى سلطانه عن عباده و قد بدّل العباد في هذه الآية من الّذين آمنوا و على ربّهم يتوكّلون، و الاعتبار يساعد عليه فإنّ التوكّل و هو إلقاء زمام التصرّف في اُمور نفسه إلى غيره و التسليم لما يؤثره له منها أخصّ آثار العبوديّة.

قوله تعالى: ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ضمائر الإفراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الّذين يتّخذونه وليّا لهم يدبّر اُمورهم كما يريد، و هم يطيعونه، و في الّذين يشركون به إذ يتّخذونه وليّا من دون الله و ربّا مطاعا غيره فإنّ الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و بذلك يظهر أوّلاً: أنّ ذيل الآية يفسّر صدرها، و أنّ تولّي من لم يأذن الله في تولّيه شرك بالله و عبادة لغيره.

و ثانياً: أنّ لا واسطة بين التوكّل على الله، و تولّي الشيطان و عبادته، فمن لم يتوكّل على الله فهو من أولياء الشيطان.

و ربّما قيل: إنّ ضمير الإفراد في قوله:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) راجع إليه تعالى، و تفيد الآية حينئذ أنّ سلطانه على طائفتين: المشركين و الّذين يتولّونه من الموحّدين هذا: و لزوم اختلاف الضمائر يدفعه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) إشارة إلى النسخ و حكمته، و جواب عمّا اتّهموهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من الافتراء على الله، و الظاهر من سياق الآيات أنّ القائلين هم المشركون و إن كانت اليهود هم المتصلّبين في نفي النسخ و من المحتمل أن تكون الكلمة ممّا تلقّفه المشركون من اليهود فكثيراً ما كانوا يراجعونهم في أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) قال في المفردات:، الإبدال و التبديل

٣٦٨

و التبدّل و الاستبدال جعل شي‏ء مكان آخر، و هو أعمّ من العوض فإنّ العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأوّل، و التبديل قد يقال للتغيير مطلقا و إن لم يأت ببدله قال تعالى:( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) - إلى أن قال - و قال تعالى:( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ ) ( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ) و( بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ) ( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) انتهى موضع الحاجة.

فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أنّ مفعوله الأوّل هو المأخوذ و المطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله:( وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً ) مَكانَ آيَةٍ معناه وضعنا الآية الثانية مكان الاُولى بالتغيير فكانت الثانية المبدّلة هي الباقية المطلوبة.

و قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) كناية عن أنّ الحقّ لم يتعدّ مورده و أنّ الّذين أنزله هو الحقّيق بأن ينزّل فإنّ الله أعلم به منهم، و الجملة حاليّة.

و قوله:( قالُوا إنّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) القول للمشركين يخاطبون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتهّمونه بأنّه يفتري على الله الكذب فإنّ تبديل قول مكان قول، و الثبات على رأي ثمّ العدول عنه ممّا يتنزّه عنه ساحة ربّ العزّة.

و قد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا: افتريت في هذه التبديل و النسخ بل قالوا:( إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) فقصروهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الافتراء، و أتوا بالجملة الاسميّة و سمّوه مفتريا، و قد بنوا ذلك على أنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ واحد و هو يسند الجميع إلى ربّه و يقول: إنّما أنا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس إلّا مفتريا.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي أكثر هؤلاء المشركين الّذين يتّهمونك بقولهم:( إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ) لا يعلمون حقيقة هذا التبديل و الحكمة المؤدّية إليه على ما سينكشف في الجواب أنّ الأحكام الإلهيّة تابعة لمصالح العباد و من المصالح ما يتغيّر بتغيّر الأوضاع و الأحوال و الأزمنة فمن الواجب أن يتغيّر الحكم

٣٦٩

بتغيّر مصلحته فينسخ الحكم الّذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.

فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر و أمّا الأقلّ منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر و لو إجمالاً غير أنّهم مستكبرون على الحقّ معاندون له و إنّما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحقّ.

قوله تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحقّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) قد تقدّمت في أوّل السورة إشارة إلى معنى الروح، و القدس الطهارة و النزاهة و الظاهر أنّ الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادّة نزيهة عن الخطإ و الغلط و الضلال، و هو المسمّى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين، و في موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: ١٩٤، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنّه نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧.

فقوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) أمر بالجواب و الأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعاً إلى القرآن من جهة كونه ناسخاً أي الآية الناسخة، و يمكن أن يكون راجعاً إلى مطلق القرآن، و في التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.

و كان من طبع الكلام أن يقال: من ربّي لكن عدل عنه إلى قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) للدلالة على كمال العناية و الرحمة في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنّه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن، و ليدلّ على أنّ المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرّد التلفّظ بهذه الألفاظ فافهم.

و قوله:( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) التثبيت تحكيم الثبات و تأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنّهم بأصل إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر ثبتوا على الحقّ و بتجدّد الحكم حسب تجدّد المصلحة يؤتون ثباتاً على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأوّل بالمضيّ

٣٧٠

على أعمال لا تطابق مصلحة الوقت فإنّ من الواضح أنّ من أمر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فأخذ بسلوكه عن إيمان بالآمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطؤ أو في ليل أو نهار ثمّ تغيّر نحو المصلحة فلو لم يغيّر الأمر الهادي نحو السلوك و استمرّ على أمره السابق لضعف إيمان السالك و انسلب أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة و يضمن السعادة زاد إيمانه ثباتاً على ثبات.

ففي تنزيل القرآن بالنسخ و تجديد الحكم حسب تجدّد المصلحة تثبيت للّذين آمنوا و إعطاء لهم ثباتاً على ثبات.

و قوله:( وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ) و هم الّذين يسلّمون الحكم لله من غير اعتراض فالآية الناسخة بالنسبة إليهم إراءة طريق و بشارة بالسعادة و الجنّة.

و تفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين و الهدى و البشرى بالمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان و الإسلام من الفرق فالإيمان للقلب و نصيبه التثبّت في العلم و الإذعان و الإسلام في ظاهر العمل و مرحلة الجوارح و نصيبها الاهتداء إلى واجب العمل، و البشرى بأنّ الغاية هي الجنّة و السعادة.

و قد مرّ بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) البقرة: ١٠٦ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) افتراء آخر منهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) و هو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم و ما ورد في الجواب عنه أنّه كان هناك رجل أعجميّ غير فصيح في منطقه عنده شي‏ء من معارف الأديان و أحاديث النبوّة ربّما لاقاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتّهموه بأنّه يأخذ ما يدّعيه وحياً منه و الرجل هو الّذي يعلّمه و هو الّذي حكاه الله تعالى من قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) و في القول إيجاز، و تقديره: إنّما يعلّمه بشر و ينسب ما تعلّمه منه إلى الله افتراء عليه، و هو ظاهر.

و من المعلوم أنّ الجواب عنه بمجرّد أنّ لسان الرجل أعجميّ و القرآن

٣٧١

عربيّ مبين لا يحسم مادّة الشبهة من أصلها لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجميّ ثمّ يسبكها هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببلاغة منطقه في قالب العربيّة الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من قولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) حيث عبّروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين و الإملاء، و التعليم أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ - إلى قوله -مُبِينٌ ) ليس وحده جواباً عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.

و ملخّص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أنّ ما اتّهمتموه به أنّ بشراً يعلّمه ثمّ هو ينسبه إلى الله افتراء إن أردتم أنّه يعلّمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه و أنّ القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه أنّ هذا الرجل لسانه أعجميّ و هذا القرآن عربيّ مبين.

و إن أردتم أنّ الرجل يعلّمه معاني القرآن - و اللفظ لا محالة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و هو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه أنّ الّذي يتضمّنه القرآن معارف حقّة لا يرتاب ذو لبّ فيها و تضطرّ العقول إلى قبولها قد هدى الله النبيّ إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ لو لم يكن مؤمناً لم يهده الله و الله لا يهدي من لا يؤمن بآياته و إذ كان مؤمناً بآيات الله فهو لا يفتري على الله الكذب فإنّه لا يفتري عليه إلّا من لا يؤمن بآياته، فليس هذا القرآن بمفترى، و لا مأخوذاً من بشر و منسوباً إلى الله سبحانه كذباً.

فقوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) جواب عن أوّل شقّي الشبهة و هو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذاً من بشر على نحو التلقين، و المعنى: أنّ لسان الرجل الّذي يلحدون أي يميلون إليه و ينوونه بقولهم:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) أعجميّ أي غير فصيح بيّن و هذا القرآن المتلوّ عليكم لسان عربيّ مبين و كيف يتصوّر صدور بيان عربيّ بليغ من رجل أعجميّ اللسان؟

و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقّي الشبهة و هو أن يتعلّم منه المعاني ثمّ ينسبها إلى الله افتراء.

٣٧٢

و المعنى: أنّ الّذين لا يؤمنون بآيات الله و يكفرون بها لا يهديهم الله إليه و إلى معارفه الحقّة الظاهرة و لهم عذاب أليم، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمن بآيات الله لأنّه مهديّ بهداية الله، و إنّما يفتري الكذب و ينسبه إلى الله الّذين لا يؤمنون بآيات الله و اُولئك هم الكاذبون المستمرّون على الكذب، و أمّا مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمن بآيات الله فإنّه لا يفتري الكذب و لا يكذب فالآيتان كنايتان عن أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهدي بهداية الله مؤمن بآياته و مثله لا يفتري و لا يكذب.

و المفسّرون قطعوا الآيتين عن الآية الاُولى و جعلوا الآية الاُولى هي الجواب الكامل عن الشبهة و قد عرفت أنّها لا تفي بتمام الجواب.

ثمّ حملوا قوله:( وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) على التحدّي بإعجاز القرآن في بلاغته، و أنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أنّ القرآن معجز في بلاغته و لا أثر عن التحدّي، و نهاية ما فيه أنّه عربيّ مبين لا وجه لأن يفصح عنه و يلفظه أعجميّ.

ثمّ حملوا الآيتين التاليتين على تهديد اُولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالافتراء، و وعيدهم بالعذاب الأليم، و قلب الافتراء و الكذب إليهم بأنّهم أولى بالافتراء و الكذب بما أنّهم لا يؤمنون بآيات الله فإنّ الله لم يهدهم.

ثمّ تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حقّ المعنى.

و قد عرفت أنّ ذلك يؤدّي إلى عدم كفاية الجواب في حسم الإشكال من أصله.

٣٧٣

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال: كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ - إلى قوله -تَذَكَّرُونَ ) .

أقول: و رواه أيضاً عن ابن عبّاس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه.

و في المجمع، و جاءت الرواية أنّ عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام و لم يقرّ الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمّله فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً فلمّا سري عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا أنا اُحدّثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فقرأها عليّ إلى آخرها فقرّ الإسلام في قلبي.

و أتيت عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتّبعوا محمّداً ترشدوا فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق، و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية فقال: إن كان محمّد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربّه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى‏ قَلِيلًا وَ أَكْدى) الحديث.

و فيه، عن عكرمة قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخي أعد فأعاد فقال: إنّ له لحلاوة و إنّ له لطلاوة و إنّ أعلاه لمثمر و إنّ أسفله لمعذق و ما هو قول البشر.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: ليس لله في عباده أمر إلّا العدل و الإحسان.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن عمرو بن عثمان قال: خرج عليّعليه‌السلام على أصحابه و هم يتذاكرون المروءة فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا أميرالمؤمنين في أيّ موضع؟ فقال: في قوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ

٣٧٤

بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضّل.

أقول: و رواه العيّاشيّ عن عمرو بن عثمان العاصي عنهعليه‌السلام ، و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن النجّار في تاريخه من طريق العكلّي عن أبيه عنهعليه‌السلام و لفظه: مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدّثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أ و ما كفاكم الله عزّوجلّ ذاك في كتابه إذ يقول الله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ) فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضّل.

أقول: و قد ورد في عدّة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين و تفسير الإحسان بالولاية: و في اُخرى إرجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) الآية، قال: قالعليه‌السلام : القنوع.

و في المعاني، بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قيل له: إنّ أبا الخطّاب يذكر عنك أنّك قلت: إذا عرفت الحقّ فاعمل بما شئت، فقال: لعن الله أبا الخطّاب و الله ما قلت هكذا و لكنّي قلت له: إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت من خير يقبل منك إنّ الله عزّوجلّ يقول:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجنّة يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) و يقول:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) .

أقول: و هو ما قدّمناه في معنى الآية.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ - إلى قوله -يَتَوَكَّلُونَ ) فقال: يا محمّد يسلّط و الله من المؤمن على بدنه و لا يسلّط على دينه قد سلّط على أيّوب فشوّه خلقه و لم يسلّط على دينه، و قد يسلّط من المؤمنين على أبدانهم و لا يسلّط على دينهم.

قلت له: قوله عزّوجلّ:( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: الّذين هم بالله مشركون يسلّط على أبدانهم و على أديانهم.

أقول: و رواه العيّاشيّ عن أبي بصير عنهعليه‌السلام . و إرجاع ضمير( بِهِ ) إلى

٣٧٥

الله أحد المعنيين في الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عبّاس: في قوله:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) قال: قالوا: إنّما يعلّم محمّداً عبدة بن الحضرميّ و هو صاحب الكتب، فقال الله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن عزامة الصيرفي عمّن أخبره عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها و ليست بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى(١) :( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ) و هو لسان أبي فكيهة مولى بني الحضرميّ كان( أعجميّ ) اللسان و كان قد اتّبع نبيّ الله و آمن به، و كان من أهل الكتاب فقالت قريش: هذا و الله يعلّم محمّداً علمه بلسانه، يقول الله:( وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

أقول: و الروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية أنّه أبو فكيهة مولى بني الحضرميّ، و في الرواية السابقة أنّه عبدة بن الحضرميّ، و عن قتادة أنّه عبدة بن الحضرميّ و كان يسمّى مقيص، و عن السديّ أنّه كان عبداً لبني الحضرميّ نصرانيا، كان قد قرأ التوراة و الإنجيل يقال له أبوبشر، و عن مجاهد أنّه ابن الحضرميّ كان أعجميّا يتكلّم بالروميّة، و عن ابن عبّاس أيضاً في رواية أنّه كان قينا بمكة اسمه بلعام و كان عجميّ اللسان فكان المشركون يرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل عليه و يخرج من عنده فقالوا: إنّما يعلّمه بلعام.

و المتيقّن من مضامينها أنّه كان رجلاً روميّاً مولى لبني الحضرميّ يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنّه يعلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الضحّاك

__________________________________________________

(١) هذا الّذيل مذكور في تفسير البرهان نقلاً عن العيّاشيّ لكنّه غير موجود في النسخة المطبوعة أخيراً من التفسير.

٣٧٦

في الآية قال: كانوا يقولون: إنّما يعلمه سلمان الفارسيّ، فأنزل الله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ) .

أقول: و هو لا يلائم كون الآية مكّيّة.

و فيه، أخرج ابن الخرائطي في مساوي الأخلاق و ابن عساكر في تاريخه عن عبدالله بن جراد: أنّه سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثمّ أتبعها نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن العبّاس بن الهلال عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أنّه ذكر رجلاً كذّاباً ثمّ قال: قال الله:( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

٣٧٧

( سورة النحل الآيات ١٠٦ - ١١١)

مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٠٦ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ١٠٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( ١٠٨ ) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ١٠٩ ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١١٠ ) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١١١ )

( بيان)

في الآيات وعيد على الكفر بعد الإيمان و هو الارتداد و وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله، و فيها تعرّض لحكم التقيّة.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ ) الاطمئنان السكون و الاستقرار، و الشرح البسط، قال في المفردات: أصل الشرح بسط اللحم و نحوه، يقال: شرحت اللحم و شرّحته، و منه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهيّ و سكينة من جهة الله و روح منه، قال تعالى:( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ) ( أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) ( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ ) و شرح المشكل من الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه. انتهى.

٣٧٨

و قوله:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) شرط جوابه قوله:( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ) و عطف عليه قوله:( وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) و ضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط( مَنْ ) لكونه بحسب المعنى كلّيّا ذا أفراد.

و قوله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) استثناء من عموم الشرط و المراد بالإكراه الإجبار على كلمة الكفر و التظاهر به فإنّ القلب لا يقبل الإكراه و المراد أستثني من اُكره على الكفر بعد الإيمان فكفر في الظاهر و قلبه مطمئنّ بالإيمان.

و قوله:( وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ) أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى و وعاه، و الجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فإنّ المعنى ما اُريد بقولي:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ) من اُكره و قلبه مطمئنّ بالإيمان و لكن اُريد به من شرح بالكفر صدراً، و في مجموع الاستثناء و الاستدراك بيان كامل للشرط، و هذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط و الجزاء و عدم تأخيره إلى أن تتمّ الشرطيّة.

و قيل: قوله:( مَنْ كَفَرَ ) بدل من( الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ ) في الآية السابقة، و قوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) جملة معترضة، و قوله:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) استثناء من ذلك و قوله:( وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ ) مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله:( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ) .

و المعنى - على هذا - إنّما يفتري الكذب الّذين كفروا من بعد إيمانهم إلّا من اُكره و قلبه مطمئن بالإيمان و عند ذلك تمّ الكلام ثمّ بدء فقال: و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.

و الذوق السليم يكفي مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) بيان لسبب حلول غضب الله بهم و ثبوت العذاب العظيم عليهم و هو أنّهم اختاروا الحياة الدنيا و هي الحياة المادّيّة الّتي لا غاية لها إلّا التمتّع

٣٧٩

الحيوانيّ و الاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة الّتي هي حياة دائمة مؤبّدة في جوار ربّ العالمين و هي غاية الحياة الإنسانيّة.

و بعبارة اُخرى هؤلاء لم يريدوا إلّا الدنيا و انقطعوا عن الآخرة و كفروا بها و الله لا يهدي القوم الكافرين و إذ لم يهدهم الله ضلّوا عن طريق السعادة و الجنّة و الرضوان فوقعوا في غضب من الله و عذاب عظيم.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) إشارة إلى أنّ اختيار الحياة الدنيا على الآخرة و الحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الّذي يوصف به الّذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و الّذين يسمّون غافلين.

فإنّهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم و حرمانهم من الاهتداء إلى الاُخرى انقطعوا عن الآخرة و تعلّقوا بالدنيا و جعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسّهم و عقلهم فيها دون أن يتعدّياها إلى ما وراءها و هو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به و لا يسمعون عظة يتّعظون بها و لا يعقلون حجّة يهتدون بها إلى الآخرة.

فهم مطبوع على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فلا تنال قلوبهم و لا سمعهم و أبصارهم ما يدلّهم على الآخرة، و هم غافلون عنها لا يتنبّهون لشي‏ء من أمرها.

فظهر أنّ ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرّف لما في هذه الآية من الطبع و من الغفلة فعدم هداية الله إيّاهم إثر ما تعلّقوا بالدنيا هو معنى الطبع و الغفلة، و الطبع صنع إلهيّ منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة و الغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.

قوله تعالى: ( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) لأنّهم ضيّعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في اُخراهم، و قد وقع في نظير المقام من سورة هود:( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) هود: ٢٢، و لعلّ وجه التشديد هناك أنّه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك أنّهم صدّوا عن سبيل الله فراجع.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا

٣٨٠