الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه0%

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه مؤلف:
تصنيف: دواوين
الصفحات: 345

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه

مؤلف: حيدر محلاتي
تصنيف:

الصفحات: 345
المشاهدات: 75605
تحميل: 6814

توضيحات:

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 345 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75605 / تحميل: 6814
الحجم الحجم الحجم
الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه

الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه

مؤلف:
العربية

هكذا كالنور تفنى

كل أحلامك لبنى

فخذي حظك من دنياك قبل الارتحال(١)

وهكذا كانت بدايات الشاعر. أشعار عاطفية وأبيات في الوجد والحب تفصح عن شعور صادق ، أحاسيس جياشة تبثها نفس الشاعر الشاب في فترة هي من أجمل فترات العمر المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية.

وبدأ الوعي الفكري ينمو في شعور الشاعر ، وأخذت الأفكار تستحوذ على أدبه ، فبدأ ينظم قصائد رصينة المعنى ، محكمة البناء ، قويمة المحتوى والمضمون وهو في سن التاسعة عشرة من عمره. وتستوقفنا أربع قصائد نظمها الشاعر في هذه السن ، الاولى : قصيدة « التقاليد » التي قال في مطلعها :

تقاليدٌ تجرّ لك الشجونا

واوضاع تجرعك المنونا(٢)

وقد نقد الشاعر في هذه القصيدة التقاليد السقيمة التي كانت تجور على نظم الاصلاح الدينية والاجتماعية وتحول دون تقدم المجتمع ورقيّه.

أمّا القصيدة الثانية فهي قصيدة « وادي السلام » ، وفيها وصف رائع ودقيق لمقبرة النجف الشهيرة. وتعد هذه القصيدة من أروع قصائد الشاعر التي قالها وهو في هذه السن لما تحمل من أوصاف رائعة وأفكار فلسفية تفصح عن نضج فكري مبكر تمتع به الشاعر ولما يزل في نضارة العمر. ومن أبيات هذه القصيدة :

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ٢٠.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

١٠١

على الذكوت البيض من جانب الوادي

قفا ساعةً واستنطقا الأثَر البادي

فكم فيه معنىً لا يفي ببيانه

لسان فصيح أو يراعةُ نُقّاد

وكم عبرة خرسا بها نطق البلى

فأفصح تبياناً على غير معتاد

الى ان يقول :

فيا صفحة الوادي وأنت سجله

أتدرين كم مرّت قرون على الوادي

وكم قد تلاشت في ثراه مفارق

وكم طويت فيه أكاليل أسياد

وكم صولجان قد تداعى كيانه

به وعروش دكها الزمن العادي

ورب لسان مفصح عاد أخرساً

وخانتهُ للتعبير قوّة ايجاد

وكان محالاً عنده الصمت فاغتدى

لسلطانه الجبار أطوع منقاد

فهل طويت منه الفصاحة في الثرى

وهل أخمدت في أثرها روعة النادي(١)

والقصيدة الثالثة قصيدة « العقل » وهي كسابقتها من حيث متانة الأفكار ، وقوة المعاني والمضامين. يقول الشاعر في بعض أبياته :

وازِن بعقلك فالحجى ميزان

وزنت به عرفانها الأذهان

وانهج على منهاجه كيما ترى

حججاً عليها ينهض الوجدان

فيه فلاسفةُ الوجود تمكنوا

من حد مالا يدركُ الأنسان

عرفوا به كنه الأثير فحللوا

ذّراته في ذاتها وأبانوا

واستخرجوا روح النبات وماله

من جوهر ينمو به الحيوان

حتى أرونا للذوات حقائقاً

كشف الغطا عن نورها البرهان(٢)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٩٧ ، ٢٩٨.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨٤.

١٠٢

أمّا القصيدة الرابعة فهي بعنوان « بلبل الروض » وقد بث فيها الشاعر حسراته على أيام الطفولة التي كان ينعم بهنائها وصفائها مبتعداً عن الأحزان والآلام :

والهفتاهُ على عصر مضى هدراً

عصر الطفولة أنت اليوم مفقود

اذ كنت فيك عن الآلام مبتعداً

واليوم قلبي من الآلام محشود

فلا أرى سولة لي عنك تنعشنى

وكيف يسلو معنّىً وهو معمود(١)

وأول قصيدة بدأ يسطع نجم الشاعر من أفقها هي قصيدة « الحقيقة » التي نظمها عام ١٩٣٨ م ، وألقاها في الحفلة التي عقدها السيد محمد رضا الصافي(٢) في بيته احتفاءً بزفاف الأديب السيد محمد علي البلاغي صاحب مجلة الاعتدال. وقد نالت تشجيعاً أدبياً قيماً في حفل محتشد برجال العلم والادب. وفي القصيدة اشارة الى مواطن التخلف والجهل التي شقي بها الشرق ، ودعوة الى النهوض واليقظة لمسايرة ركب المدنية والحضارة :

أما آن عن وجه الحقيقة ينجاب

سجاف عليها قد أذيل وجلباب

ألا ينجلي هذا الظلامُ بمشعلٍ

لتهدى عقول تائهاتٌ وألباب

الى كم بهذا الجهل تشقى عقولنا

ويخدعنا من خلّب الغي جذاب

وحتامَ نبقى والقشور نصيبنا

وقد اوصدت فوق الحقيقة أبواب

لقد ضللت تلك العقول فلم تجد

سناً تهتدي فيه اذا هي تنتاب

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٢ - السيد محمد رضا الصافي ( ١٢٩٨ - ١٣٦١ ه ). سياسي قدير ، وأديب رقيق الروح. كانت له مساهمات فعالة في العمل السياسي والوطني. ( شعراء الغري ، ج ٨ ، ص ٣٩٢ ).

١٠٣

وكيف ترى نهج الحقيقة والهدى

وقد جللته للأضاليل أثواب

وحتى متى تنجو من الجهل أمة

بها علقت من آفة الجهل أنياب(١)

أما عن طريقة النظم التي تَميّز بها الشاعر عن سائر شعراء عصره ، فيقول عنها : « نظمت الشعر في العقد الثاني من عمري ، وطريقتي في نظم الشعر نادرة إذ اني أنظم القصيدة الطويلة على لوحة خاطري وتبقى أياماً مرتسمة في حافظتي ثم اكبتها واصلح ما يلزم إصلاحه منها. وبسبب هذه المنحة التي منّ بها المنعم أصبح من السهل على إلقاء قصائدي في الاحتفالات بدون ورق شبه المرتجل وإعادة مواردها مراراً من أي موضع يطلبه المستعيد وإن كنت في آخر القصيدة كأنها مرسومة في ورقة أمام ناظري(٢) ».

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨

١٠٤

ثانياً : المؤثرات

لا يخفى أنّ الشاعر بحكم احساسه المرهف وروحه الرقيقة يتأثر بعوامل عديدة تنعكس على عواطفه وخواطره وتلقي بظلالها على شعره وأدبه. وتشكل هذه العوامل الحدر الاساس في بناء أدب الشاعر وتكوين هيكليته وأساسه. والشيخ الفرطوسي وهو الشاعر الذي حمل بين حنايا ضلوعه قلباً حساساً وروحاً شاعرة وعاطفة ثائرة كان لا بد ان يتأثر بالعوامل المحيطة به وأن يعكسها على مرآة شعره وأدبه. ومن هذه العوامل :

١ - المحيط* :

لا شك أنّ للمحيط الأثر الأكبر في بلورة شاعرية الشاعر وتحديد معالم أدبه وشعره. وكما قال الفرطوسي : « إنّ للمحيط الذي يتشبع ذهن الانسان بخواطره وتملأ عينه بمناظره. والحياة التي يعيش في رغد نعيمها أو نكد جحيمها. والنكبات التي تفاجئه بها الحوادت فيتلقاها بالثبات او يستسلم لسلطانها. والاتجاهات العاطفية التي تسير بالنفس الى شواطيء رغباتها. كل هذه العوامل لها أثر واقعي في توجيه أدب الشاعر وتكييفه لان الأدب موهبة من مواهب النفس ، والنفس تتأثر بهذه الدواعي فلابد وأن يظهر لونها على الأدب(١) ».

ولون الأدب عند الفرطوسي هو لون الحزن والألم بل قل لون العذاب

__________________

* - ليس المقصود من الميحط هنا البيئة التي عاشها الشاعر وتأثر بأجوائها. فهذا موضوع سبق أن بحث في الباب الأول من هذه الدراسة. وانما المقصود من المحيط هو العوامل غير البيئية التي حدقت بالشاعر وأثّرت عليه وشاركت في حوك نسيجه الشعري المتميز.

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٦.

١٠٥

والشقاء فقلما أحس الشاعر ساعة هناء أو استساغ فمه طعم نعيم خلال العقود السبعة التي عاشها وما أصعبها من عقود. وعن أسباب هذا الحزن يقول الشاعر : « أعيش في زوايا مظلمة من بيت قديم متداعي لا تجد الشمس فيه مدخلاً سهلاً لأشعتها ومتى ضاقت النفس من سجن هذا القفص وطلبت التمتع بالفضاء الرحب والنسيم الطلق ذهبت الى « وادي السلام » وماذا بالوادي غير قبور بالية ومناظر حزينة باكية تستعرضها فتمر في ذهنك ذكريات عشرات من القرون الغابرة طويت أجيالها في صفحاتها ويهيمن على نفسك وأنت تستطلع الطريق بين أرمالها سكون ذلك الوادي الرهيب وروعته وجلاله. كما أني أرتاد في كل عام بعض المناطق القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء متحشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء محتشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في نفسي من هذه وتلك ألوان من الصور الكئيبة وتحز في قلبي مدى من آلامها(١) ».

ويستشف من شعر الفرطوسي الكثير الكثير من ضروب البؤس والشقاء التي تقاطرت على الشاعر من كل حدب وصوب وبحلقات متسلسلة ومتواصلة :

حياتُك واليأس صُنوٌ لها

ومنها الرّدى فَرقاً يفزع

حياة الجحيم على ما بها

الى جنبها رغدٌ ممتع

حياةٌ ترقُ لها الحادثات

ويرثي لها الألم الموجع

عجبت لقلبك يحيى بها

وفي كلّ آن له مصرع

حياتُك يا منبعَ العاطفات

ضروبُ الشقاء بها تنبع

له ألفُ مطلع حزن يُرى

وما للسرور بها مطلع

وأنت على ما بها من عناً

يقض له الجنب والمضجع

أراك ولوعاً بآلامها

فرفقاً بنفسك يا مولع

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٦ ، ٢٧.

١٠٦

فهل عندك الألم الموجع

هو الأملُ الباسم الممرع(١)

وقصيدة « قلبي » التي نظمها الشاعر عام ١٩٥٢ م تصور وبكل وضوح وشفافية حياة البؤس والنكد التي واكبت مسيرة الشاعر في مختلف أدوار حياته :

قلبي لمستك جمرة في أضلعي

صعّدتها لفمي فكانت مطلعي

ولمحت نورك موجة في ناظري

طفحت فسالت في شقائق أدمعي

ولقد عهدتك بلبلاً يهفو على

نغم بقيثار الشعور موقع

يهتز للألم الحزين كأنه

أملٌ يسامره بلحن ممتع

ويطير من اُفق خصيب كيفما

يهوى الى افق خصيب المرتع

وأراك في افق الخيال وقد دجا

شبحاً ضئيلاً هامداً في بلقع

فعلمت انك من جمودك جثة

اضحى لها قفص هامداً كمصرع(٢)

واضافة الى القصيدة ذاتها فأنّ تعبير الشاعر في مقدمة القصيدة يفصح عن عمق الحزن الذي تخلل قلب الشاعر ولم يترك فيه فسحة للنعيم والهناء :

« غارس يزرع الأمل ويحصد الألم ، حقل ينبت الورد ويجتني الشوك. جدول يروي الظماء من معين الحياة ويموت ملتهباً ظامئاً. بلبل سجين في قفص مظلم يطرب السامع من الحانه الكئيبة وهو باك حزين. روح يوحي السعادة ويعيش بشقاء. هذا هو قلبي فأين السعادة والنعيم من هذا الشقي المعذب ».

ولم يحن لمسلسل البؤس ان ينتهي. فقد نكب الشاعر بحشد من النوائب وافواج من المصائب بددت أعز أفراد أسرته ، وأجهزت على خيرة أهله وأحبائه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٢٣ ، ١٢٤.

٢ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٣ ، ١٣٤.

١٠٧

ففي عام ١٣٦١ ه نكب الشاعر بمصرع أخيه الشاب « جبار » إثر عملية جراحية فاشلة. ولم تمض سنة حتى نعي بوفاة ولده « عبدالرزاق » وذلك عام ١٣٦٢ ه وما هي الاّ سنوات ويفقد الشاعر طفله « علي » عندما كان يمرح مع أترابه في ملعب الطفولة. ثم يأتي عام ١٣٧٢ ه ليفجعه بأخيه الأكبر الشيخ عبدالزهراء.

وعلى الرغم من كل ما قاسى الشاعر من مصاعب وآلام ، وما تحمل من شقاء وعذاب ، فانه بقي صلب العود ، قوي الايمان ، راضياً بقضاء الله ، غير قانط من رحمته ، متحلياً بالصبر في كل حال من احواله :

لقد شهد الدهر المحددُ نابهُ

علي بأني قد أبنت به الكسرا

وما أنكرت مني الصروف صلابة

تعودتها ما اقبلت زمراً تترى

وكنت اذا جازت مساحة اصبع

إلي صروف الدهر جاوزتها شبرا

تتوق لانغام الخطوب صبابة

وتهتز نفسي من تقاطيعها بشرا

وتنعم عيني بالظلام كأنما

سواد الدجى كحل لمقلتها العبرى

تأملت في هذي الحياة فلم أجد

بها لي الاّ مسلكاً موحشاً وعرا

كأن خطوب الدهر آلت وأقسمت

على نفسها أن ترغم الفطن الحرا

رضيً بقضاء الله إن كان قد قضى

علي بأن اشقى وطوعاً لما اجرى

وصبراً يراعَ الحر انّك مثلُهُ

غريب فلا تستعظم الخطب والأمرا

تروم بأن تحيا من الدهر مطلقاً

ويحكم إلاّ أن تموت به أسرا(١)

ولا ننسى ونحن نستعرض ألوان الشقاء التي اصطبغت بها حياة الشاعر أن نذكر نكبته ببصره حيث حرم النور ولما يبلغ الخمسين من عمره. وقد كان وقع هذا الخطب على نفسه عظيماً حيث أثار لواعج احزانه وجدد قديم آلامه وأشجانه.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، ٢٥٧.

١٠٨

ومن أليم قوله في هذا الشأن : « أفق حزين أطبقت عليه ظلمة اليأس وهو منبع النور والأمل يقتات من بقايا الصور الخيالية المرتسمة على مرآة الذهن فهو مصباحه ، ويستاف من زفرات قلبه المحترقة عبيره ونفحاته ، فهو حقله ومجمره. ويستمد من وعي الروح المنطلق قوته ونشاطه فهو حياته يحدق في النجم فلا يرى غير الضئيل من شعاعه ويرمق الزهرة فلا يدرك سوى اللون الواضح من جمالها يرنو للوجه الحسن فلا يحس بغيرالروعة البارزة من قسماته. هذا هو بصري وهذه صور من الألم أرسمها على صفحات هذا اللوح الكئيب :

ربيعَ العمر والآمال تجلى

وأنت الخصب قد أجدبت محلا

ويا أفق الحياة ظلمت نجما

أشاب اليأس من عينيه طفلا

أهذا الجو للغربان ملك

فحيث تحل منه لها أحلا

وأقفاص البلابل وهي تشدو

لها قد أصبحت سجناً وغلا

أحدق بالنجوم دجى فتخفى

على طرف بداج الاُفق ضلا

كأن الليل مدّ عليه سجفاً

وألقاه على عيني ظلا

فلا نجم يلوح ولا شعاع

لعين بافتقاد النور ثكلى

أرى الوجه الجميل ولا أراه

وأسلوه وكيف الحسن يُسلى

وأمتع بالشذى الفياح شوقاً

الى النفحات حين أرود حقلا

وألمس ورده بيديّ لما

حُرمت جماله لوناً وشكلا »(١)

ومن هنا أصبح لون الحزن والألم مميزاً في شعر الفرطوسي يتجلى في معظم نظمه ويشيع في أغلب قصائده. ولا غرو في ذلك فمن يمّر بمثل ما مّر به الفرطوسي ، ويتجرع الغصص التي تجرعها لحقيق بأن تظهر عليه آثار الحزن ومظاهر الألم.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، ١٣١.

١٠٩

٢ - العقيدة :

للعقيدة الدينية مكانتها الخاصة في شعر الفرطوسي. فقد اهتم الشاعر في منهجه الأدبي بالجانب العقائدي اهتماماً كبيراً هيمن على جلّ نتاجه الشعري. ويشكل هذا الأهتمام اتجاهاً واضحاً في مسيرة الشاعر. فقد دأب الشيخ في الألتزام وحرص على توظيف أدبه في خدمة الدين ونشر الثقافة الاسلامية المتمثلة بمبادىء الرسالة المحمدية ، ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام .

ومن المعروف أنّ التزام الشيخ الفرطوسي هو التزام ديني قبل ان يكون التزاماً أدبياً. فقد عرف الشيخ في الأوساط الدينية ب « الانسان التقي الذي تعيش التقوى في كل مواقع حياته وفي كل دوائر علاقاته وفي حسن العبادة وخشوعها وابتهالها ، وفي كل آفاق الالتزام الديني الذي يجعله يحتاط فيه ، ويحتاط له حتى يشتدد على نفسه ليتأكد انّه قد أدّى واجبه امام الله بشكل كامل غير منقوص(١) ».

ويبرز الالتزام العقائدي عند الشاعر اكثر فأكثر حين ينظم قصائد المديح والرثاء في النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأهل بيتهعليهم‌السلام . وقد اكثر الشاعر النظم في هذا المجال حتى شمل ثلث ديوانه ، هذا بالاضافة الى موسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي تجاوزت الأربعين ألف بيت.

ومرجع هذا التفاني في احياء الفكر الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام انما يعود الى التربية الاسلامية التي نشأ عليها الشاعر وتربى في احضانها وترعرع في ظلها الوارف.

وتتجسد العقيدة الدينية في شعر الفرطوسي من خلال رؤيته الواضحة

__________________

١ - محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام ، ص ٣.

١١٠

ومعرفته الدقيقة للدين الاسلامي. فهو من هذا المنظار يعرف جيداً كيف يلقي الضوء على العقائد الاسلامية ، ويصورها في شعره من الزاوية التي يجب أن تصور وفي الاتجاه الصحيح والسليم.

ومن مميزات الصورة التي يرسمها الشاعر في شعره العقائدي انّه عندما يتناول موضوعاً في هذا المجال يمهد له في باديء الأمر بمقدمات تكون ضرورية في الغالب لبسط الموضوع ودرك فحواه. وبعد أن يستوفي الغرض في المقدمات يعرج على ذكر البراهين والحجج التي يمكن عن طريقها التوصل الى الحقيقة المنشودة ، والغاية التي من اجلها أنشد قصيده. وفي مثل هذه المواضع يكثر الشاعر من ايراد الشواهد والأمثلة التي من شأنها أن تساعد على استيعاب الموضوع بأسهل صورة ممكنة.

فمثلاً عندما يتناول الشاعر موضوع ولاية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، يذكر في البداية مقدمات في مناقب الامام وفضله وكذلك مواقفهعليه‌السلام التي حفظت للدين الاسلامي عزته وكرامته :

لك بالامامة واضحات دلائل

بنهارها يُمحى ظلام الباطل

كالسيف تشهر وهي أعظم سطوة

في وجه كل معاند ومجادل

يا واحدَ الدنيا المخّلدَ ذكرُه

بخلائق قدسيَّةٍ وشمائل

خلّدت للاسلام مجداً باذخاً

يربو على افق السما المتطاول

وأشدت للدين الحنيف منازلاً

لولا حسامُك لم تكن بأواهل

وبنور نهجك وهو منبع حكمة

متدفق اوضحت ايَّ مشاكل

أوردتنا فيه نميراً صافياً

يمنى لخير موارد ومناهل

أحكمته بقواعد حكمية

كفلت بيان اصول كل مسائل

١١١

تقف العقولُ أمامه مسحورة

ببيانه وبنسقه المتواصل

انت المحيطُ معارفاً لكنما

لم تحوِ غيرَ جواهر وفضائل

ومن ثم ينتقل الشاعر الى اثبات ولاية الامامعليه‌السلام بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة مستشهداً بأحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الخصوص :

عيد الغدير وأنت أعظم شاهد

بانت به للحق خيرُ دلائل

يومٌ به قام النبيّ مبلغاً

من ربّه نصّ البلاغ النازل

والناس بعضهم غدا متواصلاً

بالبعض في حشد عظيم حافل

نادى بهم والحق يشهد انّه

لولا الحقيقة لم يكن بالقائل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاهُ بالنص الجليّ الكامل

هذا اميرُ المؤمنينَ اميرُكم

وخليفتي فيكم بقول شامل

لكنما غشيت عميً وضلالة

تلك البصائر بالضلال الحائل

نبذوا الكتاب وراءهم وتنكبوا

عن منهج الحق الصريح الفاصل

عدلوا عن الحبل المتين غواية

وتمسكوا من غيّهم بحبائل

ويواصل الشعر ردّه على شبهات المعاندين بكثير من المناقب والفضائل التي خص بها الامام دون غيره من الصحابة والتابعين :

قل للمعاند قد ضللت جهالة

سفهاً لعقلك من عنود جاهل

أعماك غيك أن ترى نور الهدى

فتسير في نهج البصير العاقل

أمن العدالة أن يؤخرَ سابقٌ

ويقدَم المفضولُ دون الفاضل

هذي فضائله وذي آثاره

سطعت بآفاق الهدى كمشاعل

فتصفح التأريخ فهي بوجهه

غرر صباح نظّمت كسلاسل

١١٢

ينبئك من واسى النبيّ محمداً

بمواقف مشهورة وغوائل

وفداه عند مبيته بفراشه

في نفسه فوقاه شر الباطل

ومن الذي اردى الوليد وشيبة

في يوم بدر بالحمام العاجل

وبيوم احد من طغت عزماته

فرست جبالاً في الزحام الهائل

من فرق الأحزاب حين تجمعت

فرقاً وما في القوم غير الناكل

ورمى على وجه الثرى اصنامها

لما رقى من فوق أشرف كاهل

وبكفه حصن اليهود قد اغتدى

متلاطماً كالموج فوق الساحل

ومن الذي ردت له شمس الضحى

لما أشار لها ارجعي في بابل

وفضائل ليست تعد و« هل اتى »

و« النجم » و« النبأ العظيم » دلائلي

عميت عيون لا ترى شمس الضحى

عند استقامة كلِ ظل مائل

عيد الغدير وأنت اكرم وافد

وافى من البشرية بخير رسائل

عيد به الاسلام اضحى حافلاً

فرحاً بتتويج الامام العادل

عيدٌ به شمس الحقيقة أشرقت

والحق اطلق من شباك الباطل

ما جادت الدنيا لنا في مثله

أبداً ولا تأتي له بمماثل

حقّاً يُخلَّد ذكرهُ وعلاؤهُ

وبه يُخلَّد ما تخط أناملي(١)

وعلى هذا النحو تتمثل العقيدة الاسلامية في شعر الفرطوسي بأوضح صورها وأتم معالمها ، مما لا تدع مجالاً للشك في اخلاص الشاعر تجاه دينه ومعتقده الذي حرص على أدائه بأكمل ما يمكن من وجوه الدقة والكمال.

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١١٧ - ١١٩.

١١٣

٣ - التاريخ :

لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله.

وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :

عزائم العرب ثوري وانضي فينا

الى الوغى وأعيدي مجد ماضينا

ورفرفي يا بنودَ الحقِّ خافقةً

بالنصر واستقبلي دنيا أمانينا

قد آن أن تملأ الدنيا عزائمنا

ناراً موقدة تُصلي أعادينا

فتلك أوطاننا أضحت بها علناً

بشائرُ النهضة الكبرى تحيّينا

ثارت فلم يبق في دنيا الفخار فمٌ

للعرب إلاّ ولبّاها تلاحينا

وطاف في الشرق صوت الحق فابتهجت

له النفوسُ ولبّته مواضينا

واستنهض المجد من أبناء نجدته

عزائماً بعثت روح الإبا فينا(١)

ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :

يا أمة خانها في الشرق طالعها

فعاد في صفقة الخسران مغبونا

سلي الحوادث عن تأريخ نهضتنا

«واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا»

____________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٧.

١١٤

كم نهضة في سبيل المجد خالدةٍ

جبارة قد أقامتها مواضينا

هاتيك « أندلس » للآن ما برحت

آثارنا في ضواحيها تنادينا

غداة سرنا ونصر الله يصحبنا

وراية الحق والاسلام تعلونا

« فما انثنينا ولا فلت عزائُمنا »

حتى فتحنا وأمست طوع أيدينا

وكيف نثنى ولم يُرفع لنا علمٌ

إلاّ وعاد بنصر الله مقرونا(١)

ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :

يا ثورة العشرين يوُمكِ غُرةٌ

في جبهة التاريخ لا تتغير

ميلاد نجمك بين أحضان الضحى

والشمس مولدها الصباح المسفر

أفق الفرات ومهده قد أنجبا

فية وها هو بالارومة يفخر

حملته وهو المجد بين ضلوعها

اُمٌ ولودٌ كالعفرنى تزأر(٢)

حتى اذا وضعته في لجج الدِما

كرها وعاصفة المنية تجأر

حضنته جارتُها وأضحت تدعي

فيه وهل تلد العقيمُ وتثمر

وتفيأت منه الظلالَ وامّه

تصلى برابعة الهجير وتُصهر

واستثمرته كأنما هو غرسةٌ

منها اجتناها الغارس المستثمر(٣)

وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني.

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٩.

٢ - أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٨٥ ).

٣ - ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

١١٥

ثالثاً : الخصائص

١ - التوظيف والألتزام :

لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي(١) .

أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام .

ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة :

__________________

١ - محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص ٩.

٢ - محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص ٤٤٢.

١١٦

أفيقوا يابني وطني عجالا

فما يجدي الرقادُ النائمينا

وهبّوا فيه للاصلاح كيما

نراكم للتمدن ناهضينا

أليس ثقافة الجنسين فرضاً

تقوم به الرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريق يقتفيه السالكونا

جمال الشعب يوماً أن نراه

يسير الى الثقافة مستبينا

وان ثقافة الأحلام نورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا(١)

وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :

يا غارس الورد حاول أن تنسّقه

في خير سلك من التنظيم موزون

ايّاك ايّاك أن تسعى بتفرقة

بين الشقيقين من تلك الرياحين

فضمّ ما عشت ورد الاقحوان الى

ورد الشقيق خدود الخرد العين

واشفق على النرجس الذاوي بجنبهما

اني لأخشى عليه ساعة الهون

هذي الازاهير وهي الحسن أجمعه

فيها تمتع من حين الى حين

وخلّ عنك أعاصير الهموم فقد

أفنيت عمرك في تلك الميادين

ما أنصفت أممٌ جبارةٌ غصبت

منك الحياة بظلم غير مسنون

هل العدالة تقضي أن تضام بها

أم تلك حكمة هاتيك القوانين(٢)

وهكذا دواليك في باقي قصائده الاجتماعية والسياسية الكثيرة من مثل « الحقيقة » و« فلسطين » ، و« الى الاغنياء » ، و« مآسي الحرب » ، و« اليتيم » ، و« السعادة ». وهذه الأخيرة تعد من خيرة قصائد الشاعر الاجتماعية التي تناول فيها الفوارق الكبيرة بين طبقتي الاغنياء والفقراء مصوراً فيها حياة البؤس والشقاء

__________________

١ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣١٧ ، ٣١٨.

١١٧

التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء.

هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى - ملحمة أهل البيتعليهم‌السلام - التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهمعليهم‌السلام .

ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيتعليهم‌السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيتعليهم‌السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله:

على حبّكم يا آل بيت محمدٍ

ترعرعت في مهد الطُفولة ناشيا

وعندي من وحي الولاء عواطف

عرفت بها حبّي لكم وولائيا

صهرت بها روحي هدى وعقيدة

وأفعمت بالايمان منها فؤاديا

فؤادٌ بكم غالى هوىً وصبابةً

فأصبح فيكم مغرماً متفانيا

أغذيه عذباً من غدير ولائكم

يعب به عباً ويصدر ظاميا

وأعجبُ من قلب يعب معينه

ويصدر ريّاناً من الحب راويا(١)

ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيتعليهم‌السلام .

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٥٢.

١١٨

٢ - الواقعية والموضوعية :

سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة.

وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :

إنّها الحرب أضرمتها سعيراً

بلظاها الأحقاد والبغضاء

قد أشابت حتى الجمادات هولاً

وهي بكرٌ فتيّةٌ عذراء

تخذوها الى المطامع جسراً

كونته الأغراض والأهواء

ظلموا العالَم الوديعَ اغتصاباً

ليفوزوا بها فخاب الرجاء

ألقحوها وهم شقوا بلظاها

ويظنّون أنّهم سعداء

كم أساؤا الى الحضارة فيها

ليتهم أحسنوا كما قد أساؤا(١)

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٩.

١١٩

وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :

رُحماك يا مصلح الأخلاق بالبشر

لم يبق فيه لقوس الصبر من وتر

انّ الفضيلةَ لم نبصر لها وضحاً

وهل تُحسُّ بلا عين ولا أثر(١)

ومنبتُ الخير قد غاضت منابعهُ

وموقد الشر يطغى من لظى الشرر

والكون مجزرةٌ تبدو لناظرها

من الضحايا بها آلاف محتضر

ومعرض حاشد بالبؤس قد مثلت

به الفضائعُ أشكالاً على صور

ضاعت مقاييس إصلاح منظمة

لكلّ وضعٍ من الإفساد منتثر

فأختلّ منّا نظامُ الاجتماعِ لها

حتى بدا فيه نقصٌ غيرُ مستتر

وأُبعد النبلُ عن قوم به عرفوا

وقرّبوا بعد عرف الحق للنكر

وكل شيء على عكس المرام بدا

مشوه الشكل بعد المنظر النضر

ولا نحسّ لهذا النقص من سببٍ

سوى اختلال نظام العالم البشري(٢)

ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام ١٩٦٣ م بمناسبة مولد الامام الحسينعليه‌السلام والتي قال فيها :

__________________

١ - الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٢٣ ).

٢ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

١٢٠