الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86781
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86781 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( بقيّة سورة النساء)

( سورة النساء الآيات ٧٧ - ٨٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصّلاَةَ وَآتُوا الزّكَاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى‏ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٧٧) أَيْنَ ما تَكُونُوا يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِن عِندِكَ قُلْ كُلّ مِنْ عِندِ اللّهِ فَمَالِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً( ٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً( ٧٩) مَن يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّى‏ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً( ٨٠)

( بيان‏)

الآيات متّصلة بما قبلها، و هي جميعاً ذات سياق واحد، و هذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة اُخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان و فيها عظة و تذكير بفناء الدنيا، و بقاء نعم الآخرة، و بيان لحقيقة قرآنيّة في خصوص الحسنات و السيّئات.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ - إلى قوله -أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) كفّ الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الّذي يقع فيه من عمل الأيدي، و هذا الكلام يدلّ على أنّ المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشقّ عليهم ما يشاهدونه من

١

تعدّي الكفّار و بغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك و لا يقابلوه بسلّ السيوف فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، و إقامة شعائر الدين من صلاة و زكاة ليشتدّ عظم الدين و يقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، و لو لا ذلك لانفسخ هيكل الدين، و انهدمت أركانه، و تلاشت أجزاؤه.

ففي الآيات لومهم على أنّهم هم الّذين كانوا يستعجلون في قتال الكفّار، و لا يصبرون على الإمساك و تحمّل الأذى حين لم يكن لهم من العدّة و القوّة ما يكفيهم للقاء عدوّهم فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدوّ و هم ناس مثلهم كخشية الله أو أشدّ خشية.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ) ، ظاهره أنّه عطف على قوله:( إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) ، و خاصّة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع( يَخْشَوْنَ النَّاسَ ) إلى الماضي( قالُوا ) فالقائل بهذا القول هم الّذين كانوا يتوقون للقتال، و يستصعبون الصبر فاُمروا بكفّ أيديهم.

و من الجائز أن يكون قولهم( رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ ) محكيّاً عن لسان حالهم كما أنّ من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فإنّ القرآن يستعمل من هذه العنايات كلّ نوع.

و توصيف الأجل الّذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلّص عن القتل، و العيش زماناً يسيراً بل ذلك تلويح منهم بأنّهم لو عاشوا من غير قتل حتّى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلّا عيشاً يسيراً و أجلاً قريباً فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتّى يبتليهم بالقتل، و يعجّل لهم الموت؟ و هذا الكلام صادر منهم لتعلّق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا الّتي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتّع به ثمّ ينقضي سريعاً و يعفى أثره، و دونه الحياة الآخرة الّتي هي الحياة الباقية الحقيقيّة فهي خير، و لذلك اُجيب عنهم بقوله( قُلْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ) إلخ أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيويّ اليسير على كرامة الجهاد

٢

و القتل في سبيل الله تعالى، و محصّله أنّهم ينبغي أن يكونوا متّقين في إيمانهم، و الحياة الدنيا هي متاع يتمتّع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، و الآخرة خير لمن اتّقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة الّتي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنّهم مؤمنون و على صراط التقوى، و لا يبقى لهم إلّا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم و يظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، و ليس لهم ذلك فإنّ الله لا يظلمهم فتيلاً.

و قد ظهر بهذا البيان أنّ قوله:( لِمَنِ اتَّقى‏ ) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم، و دعوى انطباقه على المورد، و التقدير - و الله أعلم -: و الآخرة خير لكم لأنّكم ينبغي أن تكونوا لإيمانكم أهل تقوى، و التقوى سبب للفوز بخير الآخرة فقوله:( لِمَنِ اتَّقى‏ ) كالكناية الّتي فيها تعريض.

قوله تعالى: ( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) البروج جمع برج بضمّ الباء - و هو البناء المعمول على الحصون، و يستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدوّ به و عنه، و أصل معناه الظهور، و منه التبرّج بالزينة و نحوها، و التشييد الرفع، و أصله من الشيد و هو الجصّ لأنّه يحكم البناء و يرفعه و يزيّنه فالبروج المشيّدة الأبنية المحكمة المرتفعة الّتي على الحصون يأوي إليها الإنسان من كلّ عدوّ قادم.

و الكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتّقى به المكروه، و جعله مثلاً لكلّ ركن شديد تتّقى به المكاره، و محصّل المعنى: أنّ الموت أمر لا يفوتكم إدراكه، و لو لجأتم منه إلى أيّ ملجإ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهّموا أنّكم لو لم تشهدوا القتال و لم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت، و فاته إدراككم فإنّ أجل الله لآت.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ الله ) إلى آخر الآية جملتان اُخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم، و أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الأمر فيما يصيب الإنسان من حسنة و سيّئة.

و اتّصال السياق يقضي بكون الضعفاء المتقدّم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين

٣

ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم، و لا بدع في ذلك فإنّ موسى أيضاً جبّه بمثل هذا المقال كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الأعراف: ١٣١) و هو مأثور عن سائر الاُمم في خصوص أنبيائهم، و هذه الاُمّة في معاملتهم نبيّهم لا يقصرون عن سائر الاُمم، و قد قال تعالى:( تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (البقرة: ١١٨) و هم مع ذلك أشبه الاُمم ببني إسرائيل، و قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهم لا يدخلون جحر ضبّ إلّا دخلتموه) و قد تقدّم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.

و قد تمحّل في الآيات أكثر المفسّرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود و المنافقين، و أنت ترى أنّ السياق يدفعه.

و كيف كان فالآية تشهد بسياقها على أنّ المراد بالحسنة و السيّئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه، و قد أسندوا قسماً منه إلى الله تعالى و هو الحسنة، و قسماً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو السيّئة فهذه الحسنات و السيّئات هي الحوادث الّتي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذ في ترفيع مباني الدين و نشر دعوته و صيته بالجهاد، فهي الفتح و الظفر و الغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب و المغازي، و القتل و الجرح و البلوى في غير ذلك، و إسنادهم السيّئات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معنى التطيّر به أو نسبة ضعف الرأي و رداءة التدبير إليه.

فأمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجيبهم بقوله:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله ) فإنّها حوادث و نوازل ينظمها ناظم النظام الكونيّ، و هو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنّما تنقاد في وجودها و بقائها و جميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن.

ثمّ استفهم استفهام متعجّب من جمود فهمهم و خمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة و فهمها فقال:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) .

قوله تعالى: ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ، لمّا ذكر أنّهم لا يكادون يفقهون حديثاً ثمّ أراد بيان حقيقة الأمر، صرف الخطاب

٤

عنهم لسقوط فهمهم، و وجّه وجه الكلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيّئة لذاك الشأن، و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه خصوصيّة في هذه الحقيقة الّتي هي من الأحكام الوجوديّة الدائرة بين جميع الموجودات، و لا أقلّ بين جميع الأفراد من الإنسان من مؤمن أو كافر، أو صالح أو طالح، و نبيّ أو من دونه.

فالحسنات و هي الاُمور الّتي يستحسنها الإنسان بالطبع كالعافية و النعمة و الأمن و الرفاهيّة كلّ ذلك من الله سبحانه، و السيّئات و هي الاُمور الّتي تسوء الإنسان كالمرض و الذلّة و المسكنة و الفتنة كلّ ذلك يعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضموناً من قوله تعالى( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأنفال: ٥٣) و لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات و السيّئات بنظر كلّي آخر إليه تعالى كما سيجي‏ء بيانه.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ) ، أي لا سمة لك من عندنا إلّا أنّك رسول وظيفتك البلاغ، و شأنك الرسالة لا شأن لك سواها و ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى تؤثّر في ميمنة أو مشأمة، أو تجرّ إلى الناس السيّئات، و تدفع عنهم الحسنات، و فيه ردّ تعريضيّ لقول اُولئك المتطيّرين في السيّئات( هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) تشأماً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أيّد ذلك بقوله( وَ كَفى‏ بِالله شَهِيداً ) .

قوله تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ) ، استئناف فيه تأكيد و تثبيت لقوله في الآية السابقة( وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ) ، و بمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلّا رسولاً منّا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله، و من تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظا.

و من هنا يظهر أنّ قوله( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ) ، من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للإشعار بعلّة الحكم نظير ما تقدّم في قوله( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) و على هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله( وَ أَرْسَلْناكَ ) ، إلى الغيبة في قوله( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ) ، ثمّ إلى الخطاب في قوله( فَما أَرْسَلْناكَ ) .

٥

( كلام في استناد الحسنات و السيّئات إليه تعالى)

يشبه أن يكون الإنسان أوّل ما تنبّه على معنى الحسن تنبّه عليه من مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الّذي هو اعتدال الخلقة، و تناسب نسب الأعضاء و خاصّة في الوجه ثمّ في سائر الاُمور المحسوسة من الطبيعيّات و يرجع بالآخرة إلى موافقة الشي‏ء لما يقصد من نوعه طبعاً.

فحسن وجه الإنسان كون كلّ من العين و الحاجب و الاُذن و الأنف و الفم و غيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركّب في نفسه عليها، و كذا نسبة بعضها إلى بعض، و حينئذ تنجذب النفس و يميل الطبع إليه، و يسمّى كون الشي‏ء على خلاف هذا الوصف بالسوء و المساءة و القبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدميّ كما أنّ الحسن معنى وجوديّ.

ثمّ عمّم ذلك إلى الأفعال و المعاني الاعتباريّة و العناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع و هو سعادة الحياة الإنسانيّة أو التمتّع من الحياة، و عدم ملاءمتها فالعدل حسن، و الإحسان إلى مستحقّه حسن، و التعليم و التربية و النصح و ما أشبه ذلك في مواردها حسنات، و الظلم و العدوان و ما أشبه ذلك سيّئات قبيحة لملاءمة القبيل الأوّل لسعادة الإنسان أو لتمتّعه التامّ في ظرف اجتماعه و عدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك، و هذا القسم من الحسن و ما يقابله تابع للفعل الّذي يتّصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الأفعال ما حسنه دائميّ ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم.

و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات فالضحك و الدعابة حسن عند الخلّان لا عند الأعاظم، و في محافل السرور دون المأتم، و دون المساجد و المعابد، و الزنا و شرب الخمر حسن عند الغربيّين دون المسلمين.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إنّ الحسن و القبح مختلفان متغيّران مطلقاً من غير

٦

ثبات و لا دوام و لا كليّة، و يستدلّ على ذلك في مثل العدل و الظلم بأنّ ما هو عدل عند اُمّة بإجراء اُمور من مقرّرات اجتماعيّة غير ما هو عدل عند اُمّة اُخرى بإنفاذ مقرّرات اُخرى اجتماعيّة فلا يستقرّ معنى العدل على شي‏ء معيّن فالجلد للزاني عدل في الإسلام و ليس كذلك عند الغربيّين، و هكذا.

و ذلك أنّ هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، و اشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، و لا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه.

و الإنسان على حسب تحوّل العوامل المؤثّرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعيّة دفعة أو تدريجاً و لا يرضى قطّ بأن يسلب عنه وصف العدل، و يسمّى ظالماً، و لا بأن يجد ظلماً لظالم إلّا مع الاعتذار عنه، و للكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهمّ منه.

ثمّ عمّم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجيّة الّتي تستقبل الإنسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل و هي الحوادث الفرديّة أو الاجتماعيّة الّتي منها ما يوافق آمال الإنسان، و يلائم سعادته في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة من عافية أو صحّة أو رخاء، و تسمّى حسنات، و منها ما ينافي ذلك كالبلايا و المحن من فقر أو مرض أو ذلّة أو إسارة و نحو ذلك، و تسمّى سيّئات.

فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحسنة و السيّئة يتّصف بهما الاُمور أو الأفعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن و القبح وصفان إضافيّان، و إن كانت الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة، و في بعضها متغيّرة كبذل المال الّذي هو حسن بالنسبة إلى مستحقّه و سيّئ بالنسبة إلى غير المستحقّ.

و أنّ الحسن أمر ثبوتيّ دائماً و المساءة و القبح معنى عدميّ و هو فقدان الأمر صفة الملاءمة و الموافقة المذكورة، و إلّا فمتن الشي‏ء أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة و عدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلاً.

فالزلزلة و السيل الهادم إذا حلّا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم و هما نازلتان سيّئتان عليهم أنفسهم، و كلّ بلاء عامّ في نظر الدين سرّاء إذا نزل بالكفّار

٧

المفسدين في الأرض أو الفجّار العتاة، و هو بعينه ضرّاء إذا نزل بالاُمّة المؤمنة الصالحة.

و أكل الطعامّ حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلاً، و هو بعينه سيّئة محرّمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحلّ الله، و المباشرة بين الرجل و المرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلاً، و سيّئة محرّمة إذا كان سفاحاً من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الإلهيّ فالحسنات عناوين وجوديّة في الاُمور و الأفعال، و السيّئات عناوين عدميّة فيهما، و متن الشي‏ء المتّصف بالحسن و السوء واحد.

و الّذي يراه القرآن الشريف أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الشي‏ء ما خلا الله - عزّ اسمه - مخلوق لله قال تعالى:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) و قال تعالى:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (الفرقان: ٢) و الآيتان تثبتان الخلقة في كلّ شي‏ء، ثمّ قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) (السجدة: ٧) فأثبت الحسن لكلّ مخلوق، و هو حسن لازم للخلقة غير منفكّ عنها يدور مدارها.

فكلّ شي‏ء له حظّ من الحسن على قدر حظّه من الخلقة و الوجود، و التأمّل في معنى الحسن (على ما تقدّم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإنّ الحسن موافقة الشي‏ء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه، و أجزاء الوجود و أبعاض هذا النظام الكونيّ متلائمة متوافقة، و حاشا ربّ العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه، و يبطل بعضه بعضاً فيخلّ بالغرض المطلوب، أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الّذي يبهت العقل و يحيّر الفكرة. و قد قال تعالى:( هُوَ الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (الزّمر: ٤) و قال تعالى:( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) (الأنعام: ١٨) و قال تعالى:( وَ ما كانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً ) (فاطر: ٤٤) فهو تعالى لا يقهره شي‏ء و لا يعجزه شي‏ء في ما يريده من خلقه و يشاؤه في عباده.

فكلّ نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى، و كذلك كلّ نازلة سيّئة إلّا أنّها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى و إن كانت بحسب نسبة اُخرى سيّئة، و هذا هو الّذي يفيده قوله تعالى:( وَ إِنْ

٨

تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ الله وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (النساء: ٧٨) و قوله:( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الأعراف: ١٣١) إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا جهة السيّئة فالقرآن الكريم يسندها في الإنسان إلى نفس الإنسان بقوله تعالى في هذه السورة:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية (النساء: ٧٩) و قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى: ٣٠) و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الرعد: ١١)، و قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الأنفال: ٥٣) و غيرها من الآيات.

و توضيح ذلك أنّ الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيّئة كالحسنات اُموراً حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيّئة إلّا أنّها لا تلائم طباع بعض الأشياء الّتي تتضرّر بها فيرجع الأمر بالآخرة إلى أنّ الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضرّرة بما تطلبه و تشتاق إليه بحسب طباعها، فإمساك الجود هذا هو الّذي يعدّ بليّة سيّئة بالنسبة إلى هذه الأشياء المتضرّرة كما يوضحه كلّ الإيضاح قوله تعالى:( ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (فاطر: ٢).

ثمّ بين تعالى أنّ إمساك الجود عمّا اُمسك عنه أو الزيادة و النقيصة في إفاضة رحمته إنّما يتّبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه، و ما يمكنه أن يستوفيه من ذلك، قال تعالى فيما ضربه من المثل:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) (الرعد: ١٧) و قال:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (الحجر: ٢١) فهو تعالى إنّما يعطي على قدر ما يستحقّه الشي‏ء و على ما يعلم من حاله، قال:( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك: ١٤).

و من المعلوم أنّ النعمة و النقمة و البلاء و الرخاء بالنسبة إلى كلّ شي‏ء ما يناسب

٩

خصوص حاله كما يبيّنه قوله تعالى:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (البقرة: ١٤٨) فإنّما يولّي كلّ شي‏ء و يطلب وجهته الخاصّة به و غايته الّتي تناسب حاله.

و من هنا يمكنك أن تحدس أنّ السراء و الضرّاء و النعمة و البلاء بالنسبة إلى هذا الإنسان الّذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن اُمور مرتبطة باختياره فإنّه واقع في صراط ينتهي به بحسن السلوك و عدمه إلى سعادته و شقائه كلّ ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.

و القرآن الكريم يصدّق هذا الحدس، قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الأنفال: ٥٣) فلمّا في أنفسهم من النيّات الطاهرة و الأعمال الصالحة دخل في النعمة الّتي خصّوا بها فإذا غيّروا غيّر الله بإمساك رحمته و قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى: ٣٠) فلأعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل و يصيبهم من المصائب، و الله يعفو عن كثير منها.

و قال تعالى:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية (النساء: ٧٩).

و إيّاك أن تظنّ أنّ الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسي الحقيقة الباهرة الّتي أبانها بقوله:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) و قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) (السجدة: ٧) فعدّ كلّ شي‏ء مخلوقاً لنفسه حسناً في نفسه و قد قال:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (مريم: ٦٤) و قال:( لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى‏ ) (طه: ٥٢) فمعنى قوله:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) (الآية) أنّ ما أصابك من حسنة - و كلّ ما أصابك حسنة - فمن الله، و ما أصابك من سيّئة فهي سيّئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده و تشتهيه و إن كانت في نفسها حسنة فإنّما جرّتها إليك نفسك باختيارها السيّئ، و استدعتها كذلك من الله فالله أجلّ من أن يبدأك بشرّ أو ضرّ.

و الآية كما تقدّم و إن كانت خصّت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخطاب لكنّ المعنى عامّ للجميع، و بعبارة اُخرى هذه الآية كالآيتين الاُخريين( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ) (الآية)

١٠

( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ) (الآية) متكفّلة للخطاب الاجتماعيّ كتكفّلها للخطاب الفرديّ. فإنّ للمجتمع الإنسانيّ كينونة إنسانيّة و إرادة و اختياراً غير ما للفرد من ذلك.

فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون و الغابرون من أفراده، و يؤاخذ متأخّروهم بسيّئات المتقدّمين، و الأموات بسيّئات الأحياء، و الفرد غير المقدّم بذنب المقترفين للذنوب و هكذا، و ليس يصحّ ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبداً، و قد تقدّم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

فهذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصيب في غزوة اُحد في وجهه و ثناياه، و اُصيب المسلمون بما اُصيبوا، و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ معصوم إن أسند ما اُصيب به إلى مجتمعة و قد خالفوا أمر الله و رسوله كان ذلك مصيبة سيّئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة و هو فيهم، و إن اُسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهيّة أصابته في سبيل الله، و في طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنّما هي نعمة رافعة للدرجات.

و كذا كلّ ما أصاب قوماً من السيّئات إنّما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن و لا يرى إلّا الحقّ، و أمّا ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.

نعم ههنا آيات اُخر ربّما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ) (الأعراف: ٩٦) و قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (السجدة: ٢٤) و قوله:( وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (الأنبياء: ٨٦) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً.

إلّا أنّ الله سبحانه يذكر في كلامه أنّ شيئاً من خلقه لا يقدر على شي‏ء ممّا يقصده من الغاية، و لا يهتدي إلى خير إلّا بإقدار الله و هدايته قال تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (طه: ٥٠) و قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (النور: ٢١) و يتبيّن بهاتين الآيتين و ما تقدّم معنى آخر لكون الحسنات لله عزّ اسمه، و هو أنّ الإنسان لا يملك حسنة إلّا بتمليك من الله و إيصال منه

١١

فالحسنات كلّها لله و السيّئات للإنسان، و به يظهر معنى قوله تعالى:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (الآية).

فللّه سبحانه الحسنات بما أنّ كلّ حسن مخلوق له، و الخلق و الحسن لا ينفكّان، و له الحسنات بما أنّها خيرات، و بيده الخير لا يملكه غيره إلّا بتمليكه، و لا ينسب إليه شي‏ء من السيّئات فإنّ السيّئة من حيث إنّها سيّئة غير مخلوقة و شأنه الخلق، و إنّما السيّئة فقدان الإنسان مثلاً رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدّمته أيدي الناس، و أمّا الحسنة و السيّئة بمعنى الطاعة و المعصية فقد تقدّم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) (البقرة: ٢٦) في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام، وجدت من شتات القول و مختلف الآراء و الأهواء و أقسام الإشكالات ما يبهتك، و أرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبّر في كلامه تعالى، و عليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض، و تفهّم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة و السيّئة، و النعمة و النقمة، و الفرق بين شخصيّة المجتمع و الفرد حتّى يتّضح لك مغزى الكلام.

( بحث روائي)

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا ) (الآية) أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في سننه من طريق عكرمة عن ابن عبّاس: أن عبد الرحمن بن عوف و أصحاباً له أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا نبيّ الله كنّا في عزّ و نحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة فقال: إنّي اُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلمّا حوّله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفّوا فأنّزل الله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) الآية.

و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان

١٢

اُناس من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هم يومئذ بمكّة قبل الهجرة، يسارعون إلى القتال فقالوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذرنا نتّخذ معاول فنقاتل بها المشركين، و ذكر لنا أنّ عبدالرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك، فنهاهم نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك قال: لم اُومر بذلك، فلمّا كانت الهجرة و اُمروا بالقتل كره القوم ذلك، و صنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى،( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء و تقول، و بقوّتي أدّيت إلي فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك، و ذاك أنّي اُولى بحسناتك منك، و أنت اُولى بسيّئاتك منّي، و ذاك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل، و هم يسألون.

أقول: و قد تقدّم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) (البقرة: ٢٦) و تقدّم البحث عنها هناك.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: ذكر عند أبي عبداللهعليه‌السلام البلاء و ما يخصّ الله به المؤمن، فقال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل، و يبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه و حسن أعماله، فمن صحّ إيمانه و حسن عمله اشتدّ بلاؤه، و من سخف إيمانه و ضعف عمله قلّ بلاؤه.

أقول: و من الروايات المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر.

و فيه، أيضاً بعدّة طرق عنهماعليهما‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ إذا أحبّ عبداً غثّه بالبلاء غثّاً.(١)

و فيه، أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

____________________

(١) الغثّ هو الغمس.

١٣

و فيه، أيضاً عن الباقرعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، و يحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

و فيه، أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب.

و في العلل، عن عليّ بن الحسين عن أبيهعليهما‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو كان المؤمن على جبل، لقيّضّ الله عزّوجلّ له من يؤذيه ليأجره على ذلك.

و في كتاب التمحيص، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا تزال الهموم و الغموم بالمؤمن حتّى لا تدع له ذنباً. و عنهعليه‌السلام قال: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة، إلّا عرض له أمر يحزنه يذكّر ربّه.

و في النهج، قالعليه‌السلام : لو أحبّني جبل لتهافت‏. و قالعليه‌السلام : من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للبلاء جلباباً.

أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه: قد ثبت‏ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له:( لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق) و قد ثبت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( إنّ البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدّمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنّه لو أحبّه جبل لتهافت (انتهى).

و اعلم أنّ الأخبار في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه من البيان.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر، قال: كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء أ لستم تعلمون أنّي رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى قال: أ لستم تعلمون أنّ الله أنزل في كتابه، أنّه من أطاعني فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى‏ نشهد أنّه من أطاعك فقد أطاع الله، و أنّ من طاعته طاعتك، قال: فإنّ من طاعة الله أن تطيعوني، و إنّ من طاعتي أن تطيعوا أئمّتكم، و إن صلّوا قعوداً فصلّوا قعدواً أجمعين.

أقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و إن صلّوا إلخ كناية عن وجوب كمال الاتّباع.

١٤

( سورة النساء الآيات ٨١ - ٨٤)

وَيَقُولُونَ طَاعةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً ( ٨١ ) أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ( ٨٢ ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلّا قَلِيلاً ( ٨٣ ) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلّا نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُوا وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنْكِيلاً ( ٨٤ )

( بيان‏)

الآيات لا تأبى عن الاتّصال بما قبلها فكأنّها من تتمّة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين و فائدتها وعظهم بما يتبصّرون به لو تدبّروا و استبصروا.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ ) إلخ( طاعَةٌ ) مرفوع على الخبريّة على ما قيل، و التقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة، و البروز الظهور و الخروج، و التبييت من البيتوتة و معناه إحكام الأمر و تدبيره ليلاً و الضمير في( تَقُولُ ) راجع إلى( طائِفَةٌ ) أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المعنى - و الله أعلم -: و يقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك دبّروا ليلاً أمراً غير ما أجابوك به و قالوا لك أو غير ما قلته أنت لهم و هو كناية عن عقدهم النيّة على مخالفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ أمر الله رسوله بالإعراض عنهم و التوكّل في الأمر و العزيمة فقال:( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ توكّل عَلَى اللهِ وَ كَفى‏ بِاللهِ وَكِيلًا ) و لا دليل في الآية يدلّ على كون المحكيّ عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الأمر بالنظر إلى اتّصال السياق على خلاف ذلك.

١٥

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتدبّرونَ الْقُرْآنَ ) الآية تحضيض في صورة الاستفهام التدبير هو أخذ الشي‏ء بعد الشي‏ء و هو في مورد الآية التأمّل في الآية عقيب الآية أو التأمّل بعد التأمّل في الآية لكن لمّا كان الغرض بيان أنّ القرآن لا اختلاف فيه و ذلك إنّما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأوّل أعني التأمّل في الآية عقيب الآية هو العمدة و إن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضاً.

فالمراد ترغيبهم أن يتدبّروا في الآيات القرآنيّة، و يراجعوا في كلّ حكم نازل أو حكمة مبيّنة أو قصّة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به ممّا نزلت مكّيّتها و مدنيّتها و محكمها و متشابهها و يضمّوا البعض إلى البعض حتّى يظهر لهم أنّه لا اختلاف بينها فالآيات يصدّق قديمها حديثها و يشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أيّ اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا، و لا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني و المقاصد بكون البعض أحكم بياناً و أشدّ ركناً من بعض كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنّه كتاب منزل من الله و ليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف و ذلك أنّ غيره تعالى من هذه الموجودات الكونيّة - و لا سيّما الإنسان الّذي يرتاب أهل الريب أنّه من كلامه - كلّها موضوعة بحسب الكينونة الوجوديّة و طبيعة الكون على التحرّك و التغيّر و التكامل فما من واحد منها إلّا أنّ امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.

ما من إنسان إلّا و هو يرى كلّ يوم أنّه أعقل من أمس و أنّ ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبّره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيراً أحكم و أمتن ممّا أتا به أوّلاً حتّى العمل الواحد الّذي فيه شي‏ء من الامتداد الوجوديّ كالكتاب يكتبه الكاتب و الشعر يقوله الشاعر و الخطبة يخطبها الخطيب و هكذا يوجد عند الإمعان آخره خيراً من أوّله و بعضه أفضل من بعض.

فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه و ما يأتي به من العمل من الاختلاف، و ليس هو بالواحد و الاثنين من التفاوت و التناقض بل الاختلاف الكثير، و هذا ناموس

١٦

كلّيّ جار في الإنسان و ما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحوّل و التكامل العامّين لا ترى واحداً من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته و أحواله.

و من هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله:( اخْتِلافاً كَثِيراً ) فالوصف وصف توضيحيّ لا احترازيّ، و المعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا و كان ذلك الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الّذي في كلّ ما هو من عند غير الله، و ليس المعنى أنّ المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.

و بالجملة لا يلبث المتدبّرون أن يشاهد أنّ القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانيّة من معارف المبدأ و المعاد و الخلق و الإيجاد، ثمّ الفضائل العامّة الإنسانيّة، ثمّ القوانين الاجتماعيّة و الفرديّة الحاكمة في النوع حكومة لا يشذّ منها دقيق و لا جليل، ثمّ القصص و العبر و المواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، و بآيات نازلة نجوماً في مدّة تعدل ثلاثاً و عشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل و نهار، و من حضر و سفر، و من حرب و سلم، و من ضرّاء و سرّاء، و من شدّة و رخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، و لا في معارفه العالية و حكمه السامية، و لا في قوانينه الاجتماعيّة و الفرديّة، بل ينعطف آخره إلى ما قرّ عليه أوّله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه و اُصوله، يعود تفاصيل شرائعه و حكمه بالتحليل إلى حاقّ التوحيد الخالص، و ينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.

و الإنسان المتدبّر فيه هذا التدبّر يقضي بشعوره الحيّ، و قضائه الجبلّيّ أنّ المتكلّم بهذا الكلام ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيّام و التحوّل و التكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهّار.

و قد تبيّن من الآية (أوّلاً): أنّ القرآن ممّا يناله الفهم العاديّ. و (ثانياً): أنّ الآيات القرآنيّة يفسّر بعضها بعضاً. و (ثالثاً): أنّ القرآن كتاب لا يقبل نسخاً و لا إبطالاً و لا تكميلاً و لا تهذيباً، و لا أيّ حاكم يحكم عليه أبداً، و ذلك أنّ ما يقبل شيئاً منها

١٧

لا مناص من كونه يقبل نوعاً من التحوّل و التغيّر بالضرورة، و إذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف فليس يقبل التحوّل و التغيّر فليس يقبل نسخاً و لا إبطالاً و لا غير ذلك، و لازم ذلك أنّ الشريعة الإسلاميّة مستمرّة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) الإذاعة هي النشر و الإشاعة، و في الآية نوع ذمّ و تعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، و في قوله في ذيل الآية:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله ) إلخ دلالة على أنّ المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، و ليس إلّا خطر مخالفة الرسول فإنّ الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، و يؤيّد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال و لو بقي وحده بلا ناصر.

و يظهر به أنّ الأمر الّذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف الّتي كانت تأتي بها أيدي الكفّار و رسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق و الخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبّر و تبصّر فيوجب ذلك وهناً في عزيمة المؤمنين، غير أنّ الله سبحانه وقاهم من اتّباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.

فتنطبق الآية على قصّة بدر الصغرى، و قد تقدّم الكلام فيها في سورة آل عمران، و الآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبّر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لله وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ - إلى قوله -إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٧٥).

الآيات كما ترى تذكر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - و هو محنة اُحد - إلى الخروج إلى الكفّار، و أنّ اُناساً كانوا يخزلون الناس و يخذّلونهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يخوّفونهم جمع المشركين.

ثمّ تذكر أنّ ذلك كلّه تخويفات من الشيطان يتكلّم بها من أفواه أوليائه، و تعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم و يخافوا الله أن كانوا مؤمنين.

١٨

و المتدبّر فيها و في الآيات المبحوث عنها أعني قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) (الآية) لا يرتاب في أنّ الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصّة بدر الصغرى و يعدّها في جملة ما يعدّ من الخلال الّتي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله:( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ) (الآية) و قوله:( وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ) (الآية) و قوله:( وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ) (الآية) و قوله:( وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ ) (الآية) ثمّ يجري على هذا المجرى قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) لم يذكر ههنا الردّ إلى الله كما ذكر في قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) الآية النساء: ٥٩) لأنّ الردّ المذكور هناك هو ردّ الحكم الشرعيّ المتنازع فيه، و لا صنع فيه لغير الله و رسوله.

و أمّا الردّ المذكور ههنا فهو ردّ الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، و لا معنى لردّه إلى الله و كتابه، بل الصنع فيه للرسول و لاُولي الأمر منهم، لو ردّ إليهم أمكنهم أن يستنبطوه و يذكروا للرادّين صحّته أو سقمه و صدقه أو كذبه.

فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحقّ من الباطل، و الصدق من الكذب على حدّ قوله تعالى:( لِيَعْلَمَ الله مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) (المائدة: ٩٤) و قوله:( وَ لَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) (العنكبوت. ١١).

و الاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز و المعرفة، و أصله من النبط (محرّكة)، و هو أوّل ما يخرج من ماء البئر، و على هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفاً للرسول و اُولي الأمر بمعنى أنّهم يحقّقون الأمر فيحصلون على الحقّ و الصدق و أن يكون وصفاً لهؤلاء الرادّين لو ردّوا فإنّهم يعلمون حقّ الأمر و صدقه بإنباء الرسول و اُولي الأمر لهم.

فيعود معنى الآية إن كان المراد بالّذين يستنبطونه منهم الرسول و اُولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول و اُولي الأمر أي إذا استصوبه المسؤلون و رأوه موافقاً للصلاح، و إن كان المراد بهم الرادّين: لعلمه الّذين

١٩

يستفسرونه و يبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادّين.

و أمّا اُولوا الأمر في قوله:( وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) فالمراد بهم هو المراد باُولي الأمر في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء: ٥٩) على ما تقدّم من اختلاف المفسّرين في تفسيره و قد تقدّم أنّ اُصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أنّ الّذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.

أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم اُمراء السرايا فإنّ هؤلاء لم يكن لهم شأن إلّا الإمارة على سريّة في واقعة خاصّة لا تتجاوزها خبرتهم و دائرة عملهم، و أمّا أمثال ما هو مورد الآية و هو الإخلال في الأمن و إيجاد الخوف و الوحشة العامّة الّتي كان يتوسّل إليها المشركون ببعث العيون و إرسال الرسل السرّيّة الّذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لاُمراء السرايا في ذلك حتّى يمكنهم أن يبيّنوا وجه الحقّ فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.

و أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء - و هم يومئذ المحدّثون و الفقهاء و القرّاء و المتكلّمون في اُصول الدّين - إنّما خبرتهم في الفقه و الحديث و نحو ذلك، و مورد قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ) ، هي الأخبار الّتي لها أعراق سياسيّة ترتبط بأطراف شتّى ربّما أفضى قبولها أو ردّها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيويّة و المضارّ الاجتماعيّة إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأيّ مصلح آخر، أو يبطل مساعي اُمّة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذلّ و المسكنة و القتل و الأسر عليهم، و أيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتّى يأمر الله سبحانه بإرجاعها و ردّها إليهم؟ و أيّ رجاء في حلّ أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟

و أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبابكر و عمر و عثمان و عليّاً فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنّة قطعيّة، يرد عليه أنّ حكم الآية إمّا مختصّ بزمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عامّ يشمله و ما بعده، و على الأوّل كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنّهم هؤلاء الأربعة من بين الناس و من بين الصحابة

٢٠