الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91174 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، و يؤيّده ظاهر قوله في الآية اللّاحقة:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ - إلى قوله -إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) فإنّ ذلك تقرير لتهديد المنافقين، و الخطاب فيه للمؤمنين، و يؤيّده أيضاً ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله:( وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) فأثبت لهم شيئاً من ذكر الله تعالى، و هو بعيد الانطباق على المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم قطّ.

قوله تعالى: ( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً ) استفهام إنكاريّ ثمّ جواب بما يقرّر الإنكار فإنّ العزّة من فروع الملك، و الملك لله وحده، قال تعالى:( قُلِ اللهمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (آل عمران: ٢٦).

قوله تعالى: ( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ - إلى قوله -مِثْلُهُمْ ) يريد ما نزله في سورة الأنعام:( وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (الأنعام:) ٦٨ فإنّ سورة الأنعامّ مكّيّة، و سورة النساء مدنيّة.

و يستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنيّة وجّه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، و المراد بها ما يعمّ الاُمّة.

و قوله:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنّكم إذا قعدتم معهم - و الحال هذه - تكونون مثلهم، و قوله:( إِنَّ الله جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جميعاً ) بيان للتماثل و أنّ التماثل من حيث اختتام الأمر بالاجتماع في جهنّم.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ الله ) ، التربّص: الانتظار. و الاستحواذ: الغلبة و التسلّط، و هذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنّهم إنّما حفظوا رابطة الاتّصال بالفريقين جميعاً: المؤمنين و الكافرين، يستدرّون الطائفتين و يستفيدون ممّن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنّا كنّا معكم فليكن لنا سهم ممّا اُوتيتموه من غنيمة و نحوها، و إن كان للكافرين نصيب قالوا: أ لم نغلبكم و نمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به و الاتّصال بهم فلنا سهم ممّا

١٢١

اُوتيتموه من النصيب أو منّة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.

قيل: عبّر عمّا للمؤمنين بالفتح لأنّه هو الموعود لهم، و للكافرين بالنصيب تحقيراً له فإنّه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أنّ لهم الفتح و أنّ الله وليّهم، و لعلّه لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.

قوله تعالى: ( فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) الخطاب للمؤمنين و إن كان سارياً إلى المنافقين و الكافرين جميعاً، و أمّا قوله:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله ) ، فمعناه أنّ الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، و لن ينعكس الأمر أبداً، و فيه إيئاس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.

و يمكن أن يكون نفي السبيل أعمّ من النشأتين: الدنيا و الآخرة، فإنّ المؤمنين غالبون بإذن الله دائماً ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٣٩).

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ الله وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني.

و قوله( وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم و يؤول المعنى إلى أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، و الاقتراب من المؤمنين، و الحضور في محاضرهم و مشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين فيستدرّوا منهم بظاهر إيمانهم و أعمالهم من غير حقيقة، و لا يدرون أنّ هذا الّذي خلّى بينهم و بين هذه الأعمال و لم يمنعهم منها هو الله سبحانه، و هو خدعة منه لهم و مجازاة لهم بسوء نيّاتهم و خباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) هذا وصف آخر من أوصافهم و هو القيام إلى الصلاة - إذا قاموا إليها - كسالى يراؤون الناس، و الصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، و لو كانت قلوبهم متعلّقه بربّهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل و التواني في التوجّه إليه و ذكره، و لم يعملوا عملهم

١٢٢

لمراءاة الناس، و لذكروا الله تعالى كثيراً على ما هو شأن تعلّق القلب و اشتغال البال.

قوله تعالى: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ ) ، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حرّكته فتحرّك فهو كتحريك شي‏ء معلّق (انتهى). فكون الشي‏ء مذبذباً أن يتردّد بين جانبين من غير تعلّق بشي‏ء منهما، و هذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الّذي ذكر من الإيمان و الكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، و لا إلى الكفّار فقط كالكافرين محضاً.

و قوله:( وَ مَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب تردّدهم بين الجانبين من غير تعلّق بأحدهما أنّ الله أضلّهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.

و لهذه العلّة بعينها قيل:( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ) و لم يقل: متذبذبين أي إنّ القهر الإلهيّ هو الّذي يجرّ لهم هذا النوع من التحريك الّذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ) (إلى آخر الآيتين) السلطان هو الحجّة. و الدرك بفتحتين - و قد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكنّ الدرج يقال اعتباراً بالصعود، و الدرك اعتباراً بالحدور، و لهذا قيل: درجات الجنّة و دركات النار، و لتصوّر الحدور في النار سمّيت هاوية (انتهى).

و الآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتّصال بولاية الكفّار و ترك ولاية المؤمنين، ثمّ الآية الثانية تعلّل ذلك بالوعيد الشديد المتوجّه إلى المنافقين، و ليس إلّا أنّ الله سبحانه يعدّ هذا الصنيع نفاقاً يحذّر المؤمنين من الوقوع فيه.

و السياق يدلّ على أنّ قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا ) ، كالنتيجة المستنتجة ممّا تقدّم أو الفرع المتفرّع عليه، و هذا كالصريح في أنّ الآيات السابقة إنّما تتعرّض لحال مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان من المؤمنين و يسمّيهم المنافقين، و لا أقلّ من شمولها لهم ثمّ يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى و لا يتعرّضوا لسخط الله، و لا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجّة واضحة فيضلّهم و يخدعهم و يذبذبهم في

١٢٣

الحياة الدنيا، ثمّ يجمع بينهم و بين الكافرين في جهنم جميعاً، ثمّ يسكنهم في أسفل درك من النار، و يقطع بينهم و بين كلّ نصير ينصرهم، و شفيع يشفع لهم.

و يظهر من الآيتين أوّلاً: أنّ الإضلال و الخدعة و كلّ سخط إلهيّ من هذا القبيل إنّما عن حجّة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة و المجازاة، و حاشا الجناب الإلهيّ أن يبدأهم بالشرّ و الشقوة من غير تقدّم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله:( أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) ؟ يجري مجرى قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦).

و ثانياً: أنّ في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، و لا محالة يشتدّ بحسبها عذابهم يسمّيها الله تعالى بالدركات.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِالله وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله ) استثناء من الوعيد الّذي ذكر في المنافقين بقوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (الآية) و لازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، و لحوقهم بصفّ المؤمنين، و لذلك ذيّل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، و ذكر ثواب المؤمنين جميعاً فقال تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) .

و قد وصف الله هؤلاء الّذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، و ليست تنبتّ اُصول النفاق و أعراقه إلّا بها، فذكر التوبة و هي الرجوع إلى الله تعالى، و لا ينفع الرجوع و التوب وحده حتّى يصلحوا كلّ ما فسد منهم من نفس و عمل، و لا ينفع الإصلاح إلّا أن يعتصموا بالله أيّ يتّبعوا كتابه و سنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا سبيل إلى الله إلّا ما عيّنه و ما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.

و لا ينفع الاعتصام المذكور إلّا إذا أخلصوا دينهم - و هو الّذي فيه الاعتصام - لله، فإنّ الشرك ظلم لا يعفى عنه و لا يغفر، فإذا تابوا إلى الله و أصلحوا كلّ فاسد منهم و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق و اهتدوا قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢).

١٢٤

و يظهر من سياق الآية أنّ المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضاً المخلصون للإيمان، و قد عرّفهم الله تعالى بأنّهم الّذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله، و هذه الصفات تتضمّن تفاصيل جميع ما عدّه الله تعالى في كتابه من صفاتهم و نعوتهم كقوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (إلى آخر الآيات): (المؤمنون: ٣)، و قوله تعالى:( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ) الآيات (الفرقان: ٦٤)، و قوله:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥).

فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقاً من غير قرينة تدلّ على خلافه.

و قد قال تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) و لم يقل: فاُولئك من المؤمنين لأنّهم بتحقّق هذه الأوصاف فيهم أوّل تحقّقها يلحقون بهم، و لن يكونوا منهم حتّى تستمرّ فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( ما يَفْعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ ) ، ظاهره أنّه خطاب للمؤمنين، لأنّ الكلام جارٍ على خطابهم و إنّما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغضّ عن إيمانهم و فرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.

و هو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، و أنّهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر و الإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنّه لا ينتفع بعذابهم حتّى يؤثره، و لا يستضرّ بوجودهم حتّى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم نعمة الله بأداء واجب حقّه و آمنتم به و كان الله شاكراً لمن شكره و آمن به، عليماً لا يجهل مورده.

و في الآية دلالة على أنّ العذاب الشامل لأهله إنّما هو من قبلهم لا من قبله، و كذا كلّ ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، و لو كان شي‏ء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الّذي يستتبعه أيضاً من قبله لأنّ المسبّب يستند إلى من استند إليه السبب.

١٢٥

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم: عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ) قال: نزلت في عبدالله بن أبي سرح الّذي بعثه عثمان إلى مصر ثمّ ازداد كفراً حين لم يبق فيه من الإيمان شي‏ء.

و فيه، عن أبي بصير قال: سمعته يقول:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (الآية) من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أنّ الزنا حرام ثمّ زنى، و من زعم أنّ الزكاة حقّ و لم يؤدّها.

أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، و من مراتبه ترك الواجبات و فعل المحرّمات، و تأييد مّا لما تقدّم في البيان.

و فيه، عن محمّد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام في قول الله:( وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله - إلى قوله -إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذّب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ عن الرضاعليه‌السلام في قول الله جلّ جلاله:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قال: فإنّه يقول: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجّة، و لقد أخبر الله تعالى عن كفّار قتلوا نبيّهم بغير الحقّ و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن عليّ:( وَ لَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) قال: في الآخرة.

أقول: و قد تقدّم أنّ ظاهر السياق هو الآخرة و لو عمّم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجّة في الدنيا.

و في العيون، بإسناده عن الحسن بن فضّال قال: سألت عليّ بن موسى الرضا

١٢٦

عليهما‌السلام عن قوله:( يُخادِعُونَ الله وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) فقال: الله تبارك و تعالى: لا يخادع، و لكنّه يجازيهم جزاء الخديعة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل: فيما النجاة غداً؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنّه من يخادع الله يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر.

فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثمّ يريد به غيره فاتّقوا الرئاء فإنّه شرك بالله، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.

و في الكافي، بإسناده عن أبي المعزا الخطّاف رفعه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : من ذكر الله عزّوجلّ في السرّ فقد ذكر الله كثيراً، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، و لا يذكرونه في السرّ فقال الله عزّوجلّ:( يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا ) .

أقول: و هذا معنى آخر لقلّة الذكر لطيف.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن عليّ قال: لا يقلّ عمل مع تقوى، و كيف يقلّ ما يتقبّل؟.

أقول: و هذا أيضاً معنى لطيف، و مرجعه بالحقيقة إلى ما مرّ في الخبر السابق.

و فيه: أخرج مسلم و أبو داود و البيهقيّ في سننه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتّى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلّا قليلاً.

أقول: و هذا معنى آخر لقلّة الذكر فإنّ لمثل هذا المصلّي من الذكر مجرّد التوجّه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، و كان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور و الطمأنينة في صلاته.

و المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوّها من اُفق الغروب كأنّه يجعل

١٢٧

النهار و اللّيل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.

و فيه: أخرج عبد بن حميد و البخاريّ في تاريخه و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة و إلى هذه مرّة لا تدري أيّهما تتبع‏.

و فيه: أخرج عبدالرزّاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة.

و فيه: و أخرج ابن أبي شيبة و المروزيّ في زوائد الزهد و أبوالشيخ بن حبّان عن مكحول قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحاً إلّا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

أقول: و الرواية من المشهورات، و قد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق اُخرى.

و فيه: أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال لا إله إلّا الله مخلصاً دخل الجنّة، قيل: يا رسول الله و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.

أقول: و الرواية مستفيضة معنىّ و قد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنّة و الشيعة عن النبيّ و أئمّة أهل البيت (صلّي الله عليهم وسلّم)، و سنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.

و في ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتّتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجري و تطبيق المصداق. و الله أعلم.

١٢٨

( سورة النساء الآيات ١٤٨ - ١٤٩)

لاَ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً( ١٤٨) إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً( ١٤٩)

( بيان)

قوله تعالى: ( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) ، قال الراغب في مادة( جهر ) يقال لظهور الشي‏ء بإفراط لحاسّة البصر أو حاسّة السمع، أمّا البصر فنحو رأيته جهاراً، قال الله تعالى:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً ) ( أَرِنَا الله جَهْرَةً ) - إلى أن قال - و أمّا السمع فمنه قوله تعالى:( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ ) .

و السوء من القول كلّ كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، و شتمه بما فيه من المساوئ و العيوب و بما ليس فيه، فكلّ ذلك لا يحبّ الله الجهر به و إظهاره، و من المعلوم أنّه تعالى منزّه من الحبّ و البغض على حدّ ما يوجد فينا معشر الإنسان و ما يجانسنا من الحيوان، إلّا أنّه لمّا كان الأمر و النهي عندنا بحسب الطبع صادرين عن حبّ و بغض كنّي بهما عن الإرادة و الكراهة و عن الأمر و النهي.

فقوله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ) كناية عن الكراهة التشريعيّة أعمّ من التحريم و الإعانة.

و قوله:( إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، و هذه هي القرينة على أنّه إنّما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبيّن فيه ما ظلمه، و يظهر مساوئه الّتي فيه ممّا ظلمه به، و أمّا التعدّي إلى غيره ممّا ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية.

و المفسّرون و إن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل إنّه الدعاء عليه،

١٢٩

و من قائل أنّه ذكر ظلمه و ما تعدّى به عليه و غير ذلك إلّا أنّ الجميع مشمول لإطلاق الآية فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.

و قوله:( وَ كانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً ) في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ ) ، أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإنّ الله سميع يسمع القول عليم يعلم به.

قوله تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ الله كانَ عَفُوًّا قَدِيراً ) الآية لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنّها تشمل إظهار الخير من القول شكراً لنعمة أنعمها منعم على الإنسان، و تشمل العفو عن السوء و الظلم فلا يجهر على الظالم بالسوء من القول.

فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلاً كإظهار الإنفاق على مستحقّه و كذا كلّ معروف لما فيه من إعلاء كلمة الدين و تشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولاً كإظهار الشكر على المنعم و ذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير و تشويق أهل النعمة.

و إخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء و أقرب إلى الخلوص كما قال:( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) (البقرة: ٢٧١).

و العفو عن السوء هو الستر عليه قولاً بأن لا يذكر ظالمة بظلمه، و لا يذهب بماء وجهه عند الناس، و لا يجهر عليه بالسوء من القول، و فعلاً بأن لا يواجهه بما يقابل ما أساء به، و لا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا الله ) (البقرة: ١٩٤).

و قوله:( فَإِنَّ الله كانَ عَفُوًّا قَدِيراً ) سبب اُقيم مقام المسبّب و التقدير: إن تعفوا عن سوء فقد اتّصفتم بصفة من صفات الله الكماليّة - و هو العفو على قدرة - فإنّ الله ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، و أمّا إبداء الخير و إخفاؤه أي إيتاؤه على أيّ حال فهو أيضاً من صفاته تعالى بما أنّه الله تعالى، و يمكن أن يلوّح إليه الكلام.

١٣٠

( بحث روائي)

في المجمع، قال: لا يحبّ الله الشتم في الانتصار إلّا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم ممّا يجوز الانتصار في الدين: قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .‏

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الجارود عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه.

و في تفسير القمّيّ: و في حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح فلا تقبله منه و كذّبه فقد ظلمك.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن الفضل بن أبي قرّة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( لا يُحِبُّ الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ) قال: من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه:

أقول: و رواه في المجمع، عنهعليه‌السلام مرسلاً، و روي من طرق أهل السنّة عن مجاهد.

و الروايات على أيّ حال دالّة على التعميم كما استفدناه من الآية.

١٣١

( سورة النساء الآيات ١٥٠ - ١٥٢)

إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً( ١٥٠) أُوْلئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً( ١٥١) والّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً( ١٥٢)

( بيان)

انعطاف إلى حال أهل الكتاب، و بيان لحقيقة كفرهم، و شرح لعدّة من مظالمهم، و معاصيهم و مفاسد أقوالهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَ رُسُلِهِ ) ، هؤلاء أهل الكتاب من اليهود و النصارى فاليهود تؤمن بموسى و تكفر بعيسى و محمّد، و النصارى تؤمن بموسى و عيسى و تكفر بمحمّد صلى الله عليهم أجمعين، و هؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله و ببعض رسله، و إنّما يكفرون ببعض الرسل، و قد أطلق الله عليهم أنّهم كافرون بالله و رسله جميعاً و لذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَ رُسُلِهِ ) .

و لذلك عطف على قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ ) ، قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الله وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) بعطف التفسير و نفس المعطوف أيضاً بعضه يفسّر بعضه، فهم كافرون بالله و رسله لأنّهم بقولهم:( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) يريدون أن يفرّقوا بين الله و رسله فيؤمنون بالله و بعض رسله و يكفروا ببعض رسله مع كونه رسولاً من الله، و الردّ عليه ردّ على الله تعالى.

ثمّ بيّن ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ

١٣٢

يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ) أي سبيلاً متوسّطاً بين الإيمان بالله و رسله جميعاً، و الكفر بالله و رسله جميعاً، و هو الإيمان ببعض و الكفر ببعض، و لا سبيل إلى الله إلّا الإيمان به و برسله جميعاً فإنّ الرسول بما أنّه رسول ليس له من نفسه شي‏ء و لا له من الأمر شي‏ء، فالإيمان به إيمان بالله و الكفر به كفر بالله محضاً.

فالكفر بالبعض و الإيمان بالبعض و بالله ليس إلّا تفرقة بين الله و بين رسله، و إعطاء الاستقلال للرسول فيكون الإيمان به غير مرتبط بالإيمان بالله، و الكفر به غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفاً لا وسطاً، و كيف يصحّ فرض الرسالة ممّن لا يرتبط الإيمان به و الكفر به بالإيمان بالله و الكفر به.

فمن البيّن الّذي لا مرية فيه أنّ الإيمان بمن هذا شأنه و الخضوع له شرك بالله العظيم، و لذلك ترى أنّه تعالى بعد وصفهم بأنّهم يريدون بالإيمان ببعض الرسل و الكفر بالبعض أن يفرّقوا بين الله و رسله و يريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً ذكر أنّهم كافرون بذلك حقّاً فقال:( أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) ثمّ أوعدهم فقال:( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) .

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) ، لمّا كفّر اُولئك المفرّقين بين الله و رسله، و ذكر أنّهم كافرون بالله و رسله ذكر من يقابلهم بالإيمان بالله و رسله على سبيل عدم التفرقة تتميماً للأقسام.

و في الآيات التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير في قوله:( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) ثمّ إلى الخطاب في قوله:( أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) ، و لعلّ الوجه فيه أنّ إسناد الجزاء إلى المتكلّم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى الغائب.

و يفيد هذه الفائدة أيضاً الالتفات الواقع في الآية الثانية فإنّ توجيه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الوعد الجميل و هو يعلم بإنجازه تعالى يفيد القرب من الوقوع‏.

١٣٣

( سورة النساء الآيات ١٥٣ - ١٦٩)

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى‏ سُلْطَاناً مُبِيناً( ١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيِثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقاً غَلِيظاً( ١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غَلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيلاً( ١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى‏ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً( ١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلّا اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً( ١٥٧) بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً( ١٥٨) وَإِن مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلّا لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً( ١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً( ١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( ١٦١) لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُؤلئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً( ١٦٢) إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا

١٣٤

أَوْحَيْنَا إِلَى‏ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسى‏ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنَا دَاوُود زَبُوراً( ١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً( ١٦٤) رُسُلاً مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى‏ اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً( ١٦٥) لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً( ١٦٦) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلّوا ضَلاَلاً بَعِيداً( ١٦٧) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً( ١٦٨) إِلّا طَرِيقَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيراً( ١٦٩)

( بيان)

الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوماً، و نجيب عن مسألتهم.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ) ، أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد و عليه فالسائل هو الطائفتان جميعاً دون اليهود فحسب.

و لا ينافيه كون المظالم و الجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصّة باليهود كسؤال الرؤية، و اتّخاذ العجل، و نقض الميثاق عند رفع الطور و الأمر بالسجدة و النهي عن العدو في السبت و غير ذلك.

فإنّ الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد و هو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى و عيسىعليهما‌السلام و إن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم و العرب و

١٣٥

الحبشة و مصر و غيرهم، و ما قوم عيسى بأقلّ ظلماً لعيسى من اليهود لموسىعليهما‌السلام .

و لعد الطائفتين جميعاً ذا أصل واحد يخصّ اليهود بالذكر فيما يخصّهم من الجزاء حيث قال:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) و لذلك أيضاً عدّ عيسى بين الرسل المذكورين بعد كما عدّ موسىعليه‌السلام بينهم و لو كان وجه الكلام إلى اليهود فقط لم يصحّ ذلك، و لذلك أيضاً قيل بعد هذه الآيات:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ.

و بالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعاً و وجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة القوميّة و هو التحكّم و القول بغير الحقّ و المجازفة و عدم التقيّد بالعهود و المواثيق، و الكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختصّ منهم طائفة بشي‏ء خصّ الكلام به.

و الّذي سألوه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء، و لم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن و تلاوته عليهم كيف و القصّة إنّما وقعت في المدينة و قد بلغهم من القرآن ما نزل بمكّة و شطر ممّا نزل بالمدينة؟ بل هم ما كانوا يقنعون به دليلاً للنبوّة، و لا يعدّونه كتاباً سماويّاً مع أنّ القرآن نزل فيما نزل مشفّعاً بالتحدّي و دعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، و يونس، و هود، و البقرة النازلة جميعاً قبل سورة النساء.

فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن إلّا سؤالاً جزافيّاً لا يصدر إلّا ممّن لا يخضع للحقّ و لا ينقاد للحقيقة و إنّما يلغو و يهذو بما قدّمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيّد بقيد أو يثبت على أساس، نظير ما كانت تتحكّم به قريش مع نزول القرآن، و ظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله سبحانه عنهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) (يونس: ٢٠)( أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) (إسراء: ٩٣).

و لهذا الّذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم (أوّلاً): بأنّهم قوم متمادون في الجهالة و الضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم و إن عظمت، و الكفر و الجحود و إن جاءت البيّنة، و عن نقض المواثيق و إن غلظت و غير ذلك من الكذب و البهتان و أيّ ظلم، و من

١٣٦

هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله و الإقبال على ما اقترحه.

و (ثانياً): أنّ الكتاب الّذي أنزله الله و هو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه و ملائكته و هو الّذي يفصح عن التحدّي بعد التحدّي بآياته الكريمة.

فقال تعالى في جوابهم أوّلاً:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) أي ممّا سألوك من تنزيل كتاب من السماء إليهم( فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً ) أي إراءة عيان نعاينه بأبصارنا، و هذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة و الهذر و الطغيان( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) و القصّة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٥ - ٥٦) و سورة الأعراف (آية: ١٥٥).

ثمّ قال تعالى:( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) و هذه عبادة الصنم بعد ظهور بطلانه أو بيان أنّ الله سبحانه منزّه عن شائبة الجسميّة و الحدوث، و هو من أفظع الجهالات البشريّة( فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً ) و قد أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله عنهم و لمّا يتمّ التقتيل و لمّا يقتل الجميع، و هو المراد بالعفو، و آتى موسىعليه‌السلام سلطاناً مبيناً حيث سلّطه عليهم و على السامريّ و عجله، و القصّة مذكورة في سورة البقرة (آية: ٥٤).

ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ ) و هو الميثاق الّذي أخذه الله منهم ثمّ رفع فوقهم الطور، و القصّة مذكورة مرّتين في سورة البقرة (آية ٦٣، ٩٣).

ثمّ قال تعالى:( وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) و القصّتان مذكورتان في سورة البقرة (آية: ٥٨ - ٦٥) و سورة الأعراف (١٦١ - ١٦٣) و ليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعاً إلى القصّتين و إلى غيرهما فإنّ القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكرّراً كقوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) الآية: (البقرة: ٨٣)، و قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) (البقرة: ٨٤).

قوله تعالى: ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) ، الفاء للتفريع و المجرور متعلّق بما سيأتي بعد عدّة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ ) و الآيات مسوقة لبيان

١٣٧

ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيويّ و الاُخرويّ، و فيها ذكر بعض ما لم يذكر من سننهم السيّئة أوّلاً.

و قوله:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق و لما لم يذكر من المواثيق المأخوذة منهم.

و قوله:( وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ الله ) تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسىعليه‌السلام و بعده قصّ القرآن كثيراً منها، و من جملتها الموردان المذكوران في صدر الآيات أعني قوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً ) ، و قوله:( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ) و إنّما قدّما في الصدر، و اُخّرا في هذه الآية لأنّ المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإنّ صدر الآيات متعرّض لسؤالهم تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك و عبادتهم العجل أنسب به و ألصق، و هذه الآية و ما بعدها متعرّضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا أجابوا دعوة الحقّ و ذكر أسباب ذلك و الابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا المقام و أقرب.

و قوله:( وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) يعني بهم زكريّا و يحيى و غيرهما ممّن ذكر القرآن قتلهم إجمالاً من غير تسمية.

و قوله:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ ) جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة النبويّة، و قبول الحقّ لو دعيت إليه، و هذه كلمة ذكروها يريدون بها ردّ الدعوة، و إسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنّهم كانوا يدّعون أنّهم خلقوا غلف القلوب، أو أنّهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى اختيارهم و صنعهم.

و لذلك ردّ الله سبحانه عليهم بقوله:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) فبيّن أنّ إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقّة مستند إلى صنع الله لكن لا كما يدعون أنّهم لا صنع لهم في ذلك بل إنّما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم و جحودهم للحق، و كان أثر ذلك أنّ هذا القوم لا يؤمنون إلّا قليل منهم.

و قد تقدّم الكلام في هذا الاستثناء، و أنّ هذه النقمة الإلهيّة إنّما نزلت بهم

١٣٨

بقوميّتهم و مجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، و مطبوع على قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، و لا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.

قوله تعالى: ( بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) و هو قذفهاعليه‌السلام في ولادة عيسى بالزنا، و هو كفر و بهتان معا و قد كلّمهم عيسى في أوّل ولادته و قال:( إِنِّي عَبْدُ الله آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ) (مريم. ٣٠).

قوله تعالى: ( وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) قد تقدّم في قصص عيسىعليه‌السلام في سورة آل عمران أنّهم اختلفوا في كيفيّة قتله صلباً و غير صلب فلعلّ حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أوّلاً ثمّ ذكر القتل و الصلب معاً في مقام الردّ و النفي لبيان النفي التامّ بحيث لا يشوبه ريب فإنّ الصلب لكونه نوعاً خاصّاً في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائماً، و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفيّة قتله فمجرّد نفي القتل ربّما أمكن أن يتأوّل فيه بأنّهم ما قتلوه قتلاً عاديّاً، و لا ينافي ذلك أن يكونوا قتلوه صلباً فلذلك ذكر تعالى بعد قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ ) قوله:( وَ ما صَلَبُوهُ ) ليؤدّي الكلام حقّه من الصراحة، و ينصّ على أنّهعليه‌السلام لم يتوفّ بأيديهم لا صلباً و لا غير مصلوب، بل شبّه لهم أمره فأخذوا غير المسيحعليه‌السلام مكان المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإنّ القتل في أمثال تلك الاجتماعات الهمجيّة و الهجمة و الغوغاء ربّما أخطأ المجرم الحقيقيّ إلى غيره و قد قتله الجنديّون من الروميّين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أنّ الله تعالى ألقى شبهه على غيره فاُخذ و قتل مكانه.

و ربّما ذكر بعض محقّقي التاريخ أنّ القصص التاريخيّة المضبوطة فيهعليه‌السلام و الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكّام و الدعاة تنطبق على رجلين اثنين مسمّيين بالمسيح - و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدّم منهما محقّ غير مقتول، و المتأخّر منهما مبطل مصلوب،(١) و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب. و الله أعلم.

____________________

(١) و عند هذا المحقّق يكون التاريخ المشتهر فعلا بالميلادي مشكوكاً في صحتّه.

١٣٩

و قوله:( وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) أي اختلفوا في عيسى أو في قتله( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) أي في جهل بالنسبة إلى أمره( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) و هو التخمين أو رجحان مّا بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.

و قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه اُخبرك خبر يقين، و ربّما قيل: إنّ الضمير في قوله:( وَ ما قَتَلُوهُ ) راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم يقيناً. و قتل العلم لغةً تمحيضه و تخليصه من الشكّ و الريب، و ربّما قيل: إنّ الضمير يعود إلى الظنّ أي ما محّضوا ظنّهم و ما تثبّتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.

قوله تعالى: ( بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و قد قصّ الله سبحانه هذه القصّة في سورة آل عمران فقال:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) فذكر التوفّي ثمّ الرفع.

و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادّعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضاً أنّ الّذي ادّعي إصابة القتل و الصلب إيّاه، و هو عيسىعليه‌السلام بشخصه البدنيّ هو الّذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنّه توفّي ثمّ رفع روحه إليه تعالى فهذا ممّا لا يحتمله ظاهر الآية بمقتضى السياق فإنّ الإضراب الواقع في قوله:( بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ ) لا يتمّ بمجرّد رفع الروح بعد الموت الّذي يصحّ أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.

فهذا الرفع نوع التخليص الّذي خلّصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفّي عند ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوفّ حتف الأنف و لا قتلاً و صلباً بل بنحو آخر لا نعرفه أو كان حيّاً باقياً بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكلّ ذلك محتمل.

و ليس من المستحيل أن يتوفّى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما يقتصّه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكلّ ذلك يجري

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444