الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86877
تحميل: 10321


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86877 / تحميل: 10321
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنْ فَضْلِهِ ) ، و لعلّه لذلك لم يذكر ههنا جزاء المتخلّف من تبعيّة البرهان و النور، لأنّه بعينه ما ذكر في الآية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانياً بعد الإشعار بأنّ جزاء المتّبعين ههنا جزاء المتّبعين هنالك، و ليس هناك إلّا فريقان: المتّبعون و المتخلّفون.

و على هذا فقوله في هذه الآية:( فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ) يحاذي قوله في تلك الآية:( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ) و هو الجنّة، و أيضاً قوله في هذه الآية:( وَ فَضْلٍ ) يحاذي قوله في تلك الآية:( وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) و أمّا قوله:( وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) فهو من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران: ١٠١).

١٦١

( سورة النساء آية ١٧٦)

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُوا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَمْ يَكُن لَهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّوا وَاللّهُ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ( ١٧٦)

( بيان)

آية تبيّن فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسّرها به السنّة، كما أنّ ما ذكر من سهام الكلالة في أوّل السورة سهام كلالة الاُمّ بحسب البيان النبويّ، و من الدليل على ذلك أنّ الفرائض المذكورة ههنا أكثر ممّا ذكر هناك، و من المستفاد من الآيات أنّ سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.

قوله تعالى: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) ، قد تقدّم الكلام في معنى الاستفتاء و الإفتاء و معنى الكلالة في الآيات السابقة من السورة.

و قوله:( لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) ظاهره الأعمّ من الذكر و الاُنثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده. و قال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد و لا والد، و إنّما أضمرنا فيه الوالد للإجماع، انتهى. و لو كان لأحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.

و قوله:( وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) سهم الاُخت من أخيها، و الأخ من اُخته، و منه يظهر سهم الاُخت من اُختها و الأخ من أخيه، و لو كان للفرضين الأخيرين فريضة اُخرى لذكرت.

على أنّ قوله:( وَ هُوَ يَرِثُها ) في معنى قولنا: لو انعكس الأمر - أي كان الأخ مكان

١٦٢

الاُخت - لذهب بالجميع، و على أنّ قوله:( فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و هو سهم الاُختين، و سهم الإخوة لم يقيّد فيهما الميّت بكونه رجلاً أو امرأة فلا دخل لذكور الميّت و اُنوثته في السهام.

و الّذي صرّحت به الآية من السهام سهم الاُخت الواحدة، و الأخ الواحد، و الاُختين، و الإخوة المختلطة من الرجال و النساء، و من ذلك يعلم سهام باقي الفروض: منها: الأخوان يذهبان بجميع المال و يقتسمان بالسويّة يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد بالجميع، و منها الأخ الواحد مع اُخت واحدة، و يصدق عليهما الإخوة كما تقدّم في أوّل السورة فيشمله( وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً ) على أنّ السنّة مبيّنة لجميع ذلك.

و السهام المذكورة تختصّ بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده، أو كلالة الأبوين وحده، و أمّا إذا اجتمعا كالاُخت لأبوين مع الاُخت لأب. لم ترث الاُخت لأب و قد تقدّم ذكره في الكلام على آيات أوّل السورة.

قوله تعالى: ( يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ، أي حذر أن تضلّوا، أو لئلّا تضلّوا و هو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم:

( فعجّلنا القرى أن تشتمونا) .

( بحث روائي)

في المجمع، عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ قال: اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي - أو سبع - فدخل عليّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا رسول الله أ لا اُوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن، قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثمّ خرج و تركني و رجع إليّ فقال: يا جابر إنّي لا أراك ميّتاً من وجعك هذا، و إنّ الله قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهنّ الثلثين.

قالوا: و كانوا جابر يقول: اُنزلت هذه الآية فيّ.

أقول: و روي ما يقرب عنه في الدرّ المنثور.

١٦٣

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ضريس و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقيّ في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) .

أقول: و روي فيه عدّة روايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الصحابة كانوا يسمّون الآية بآية الصيف، قال في المجمع: و ذلك أنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و اُخرى في الصيف، و هي هذه الآية.

و فيه، أخرج أبوالشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلالة فقال: ما خلا الولد و الوالد.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن بكير، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إذا مات الرجل و له اُخت لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت، و النصف الباقي يردّ عليها بالرحم إذا لم يكن للميّت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاُخت أخ أخذ الميراث كلّه لقول الله:( وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) فإن كانتا اُختين أخذتا الثلثين بالآية، و الثلث الباقي بالرحم، و إن كانوا إخوة رجالاً و نساء فللذكر مثل حظّ الاُنثيين، و ذلك كلّه إذا لم يكن للميّت ولد أو أبوان أو زوجة.

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره ذيل الرواية في عدّة أخبار عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن بكير قال: دخل رجل على أبي جعفرعليه‌السلام فسأله عن امرأة تركت زوجها و إخوتها لاُمّها و اُختاً لأب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، و للإخوة من الاُمّ الثلث: سهمان، و للاُخت للأب سهم.

فقال الرجل: فإنّ فرائض زيد و ابن مسعود و فرائض العامّة و القضاة على غير ذا، يا أبا جعفر! يقولون: للاُخت للأب و الاُمّ ثلاثة أسهم نصيب من ستّة يقول: إلى ثمانية.

١٦٤

فقال أبوجعفر: و لم قالوا ذلك؟ قال لأنّ الله قال:( وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) فقال أبوجعفرعليه‌السلام : فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجّون بأمر الله؟ فإنّ الله سمّى لها النصف، و إنّ الله سمّى للأخ الكل فالكلّ أكثر من النصف فإنّه تعالى قال:( فَلَهَا النِّصْفُ ) و قال للأخ:( وَ هُوَ يَرِثُها ) يعني جميع المال( إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) فلا تعطون الّذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئاً و تعطون الّذي جعل الله له النصف تامّاً؟.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و ابن المنذر و الحاكم و البيهقيّ عن ابن عبّاس: إنّه سئل عن رجل توفّي و ترك ابنته و اُخته لأبيه و اُمّه فقال: للبنت النصف و ليس للاُخت شي‏ء، و ما بقي فلعصبته فقيل: إنّ عمر جعل للاُخت النصف فقال ابن عبّاس: أنتم أعلم أم الله؟ قال الله:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) فقلتم أنتم: لها النصف و إن كان له ولد.

أقول: و في المعاني السابقة روايات اُخر.

١٦٥

( سورة المائدة مدنيّة و هي مائة و عشرون آية)

( سورة المائدة الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلّا مَا يُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ( ١) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلّوا شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن رَبّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى‏ وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ٢) حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السّبْعُ إِلّا مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٣)

( بيان)

الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبّر في مفتتحها و مختتمها، و عامّة الآيات الواقعة فيها، و الأحكام و المواعظ و القصص الّتي تضمّنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق الحقّة كائنة ما كانت، و التحذير البالغ عن نقضها و عدم الاعتناء بأمرها، و أنّ عادته تعالى جرت بالرحمة و التسهيل و التخفيف على من اتّقى و آمن ثمّ اتّقى و أحسن و التشديد على من بغى و اعتدى و طغا بالخروج عن ربقة العهد بالطاعة، و تعدّى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.

١٦٦

و لذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود و القصاص، و على مثل قصّة المائدة، و سؤال المسيح، و قصّة ابني آدم، و على الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل و نقضهم المواثيق المأخوذة منهم، و على كثير من الآيات الّتي يمتنّ الله تعالى فيها على الناس باُمور كإكمال الدين، و إتمام النعمة، و إحلال الطيّبات، و تشريع ما يطهّر الناس من غير أن يريد بهم الحرج و العسر.

و هذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنّها آخر سورة مفصّلة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر أيّام حياته و قد ورد في روايات الفريقين: أنّها ناسخة غير منسوخة، و المناسب لذلك تأكيد الوصيّة بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده و للتثبّت فيها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) العقود جمع عقد و هو شدّ أحد شيئين بالآخر نوع شدّ يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله، و لازمه التزام أحدهما الآخر، و عدم انفكاكه عنه، و قد كان معتبراً عندهم في الاُمور المحسوسة أوّلاً ثمّ أستعير فعمّم للاُمور المعنويّة كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، و كجميع العهود و المواثيق فاُطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الّذي عرفت أنّه اللّزوم و الالتزام فيها.

و لمّا كان العقد - و هو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينيّة الّتي أخذها الله من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصليّة و الأعمال العباديّة و الأحكام المشرّعة تأسيساً أو إمضاءً، و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضاً جمعاً محلّى باللّام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كلّ ما يصدق عليه أنّه عقد.

و بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالعقود العقود الّتي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع و النكاح و العهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.

و كذا ما ذكره بعض آخر: أنّ المراد بها العهود الّتي كان أهل الجاهليّة عاهد

١٦٧

بعضهم بعضاً فيها على النصرة و المؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، و هذا هو الحلف الدائر بينهم.

و كذا ما ذكره آخرون: أنّ المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة و الإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شي‏ء منها من جهة اللّفظ. على أنّ ظاهر الجمع المحلّى باللّام و إطلاق العقد عرفاً بالنسبة إلى كلّ عقد و حكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.

( كلام في معنى العقد)

يدلّ الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على الأمر بالوفاء بالعقود، و هو بظاهره عامّ يشمل كلّ ما يصدق عليه العقد عرفاً ممّا يلائم الوفاء. و العقد هو كلّ فعل أو قول يمثّل معنى العقد اللّغويّ، و هو نوع ربط شي‏ء بشي‏ء آخر بحيث يلزمه و لا ينفكّ عنه كعقد البيع الّذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكاً بحيث كان له أن يتصرّف فيه ما شاء، و ليس للبائع بعد العقد ملك و لا تصرّف، و كعقد النكاح الّذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتّع منها تمتّع النكاح، و ليس للمرأة أن تمتّع غيره من نفسها، و كالعهد الّذي يمكّن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده و ليس له أن ينقضه.

و قد أكّد القرآن في الوفاء بالعقد و العهد جميع معانيه و في جميع معانيه و في جميع مصاديقه و شدّد فيه كلّ التشديد، و ذمّ الناقضين للمواثيق ذمّاً بالغاً، و أوعدهم إيعاداً عنيفاً و مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

و قد أرسلت الآيات القول فيه إرسالاً يدلّ على أنّ ذلك ممّا يناله الناس بعقولهم الفطريّة، و هو كذلك.

و ليس ذلك إلّا لأنّ العهد و الوفاء به ممّا لا غنى للإنسان في حياته عنه أبداً، و الفرد و المجتمع في ذلك سيّان، و إنّا لو تأمّلنا الحياة الاجتماعيّة الّتي للإنسان وجدنا جميع المزايا الّتي نستفيد منها و جميع الحقوق الحيويّة الاجتماعيّة الّتي

١٦٨

نطمئنّ إليها مبنيّة على أساس العقد الاجتماعيّ العامّ و العقود و العهود الفرعيّة الّتي تترتّب عليه، فلا نملّك من أنفسنا للمجتمعين شيئاً و لا نملك منهم شيئاً إلّا عن عقد عمليّ و إن لم نأت بقول فإنّما القول لحاجة البيان، و لو صحّ للإنسان أن ينقض ما عقده و عهد به اختياراً لتمكّنه منه بقوّة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أوّل ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعيّ، و هو الركن الّذي يلوذ به و يأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام و الاستثمار.

و لذلك أكّد الله سبحانه في حفظ العهد و الوفاء به قال تعالى:( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) (إسراء: ٣٤) و الآية تشمل العهد الفرديّ الّذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد و الذامّة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعيّ الدائر بين قوم و قوم و اُمّة و اُمّة، بل الوفاء به في نظر الدين أهمّ منه بالعهد الفرديّ لأنّ العدل عنده أتمّ و البليّة في نقضه أعمّ.

و لذلك أتى الكتاب العزيز في أدّق موارده و أهونها نقضاً بالمنع عن النقض بأصرح القول و أوضح البيان قال تعالى:( بَراءَةٌ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَ أَنَّ الله مُخْزِي الْكافِرِينَ وَ أَذانٌ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ الله بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى‏ مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (براءة: ٥) و الآيات كما يدلّ سياقها نزلت بعد فتح مكّة و قد أذلّ الله رقاب المشركين، و أفنى قوّتهم و أذهب شوكتهم، و هي تعزم على المسلمين أن يطهّروا الأرض الّتي ملكوها و ظهروا عليها من قذارة الشرك، و تهدر دماء المشركين من دون أيّ قيد و شرط إلّا أن يؤمنوا، و مع ذلك تستثني قوماً من المشركين بينهم و بين المسلمين عهد عدم التعرّض، و لا تجيز للمسلمين أن يمسّوهم بسوء حينما استضعفوا و استذلّوا فلا

١٦٩

مانع من ناحيتهم يمنع و لا دافع يدفع، كلّ ذلك احتراماً للعهد و مراعاة لجانب التقوى.

نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الّذي نقضه و يتلّقى هباءً باطلاً، اعتداءً عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ الله وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ - إلى أن قال -لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (براءة: ١٢)، و قال تعالى:( فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا الله ) (البقرة: ١٩٤)، و قال تعالى:( وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا الله ) (المائدة: ٢).

و جملة الأمر أنّ الإسلام يرى حرمة العهد و وجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرّر بعد ما أوثق الميثاق فإنّ رعاية جانب العدل الاجتماعيّ ألزم و أوجب من رعاية أيّ نفع خاصّ أو شخصيّ إلّا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه و الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإنّ في ذلك خروجاً عن رقّيّة الاستخدام و الاستعلاء المذمومة الّتي ما نهض ناهض الدين إلّا لإماطتها.

و لعمري إنّ ذلك أحد التعاليم العالية الّتي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانيّة في حكمها و التحفّظ على العدل الاجتماعيّ الّذي لا ينتظم سلك الاجتماع الإنسانيّ إلّا على أساسه و إماطة مظلمة الاستخدام و الاستثمار، و قد صرّح به الكتاب العزيز و سار به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيرته الشريفة، و لو لا أنّ البحث بحث قرآنيّ لذكرنا لك طرفاً من قصصه عليه أفضل الصلاة و السلام في ذلك، و عليك بالرجوع إلى الكتب المؤلّفة في سيرته و تاريخ حياته.

١٧٠

و إذا قايست بين ما جرت عليه سنّة الإسلام من احترام العهد و ما جرت عليه سنن الاُمم المتمدّنة و غير المتمدّنة و لا سيّما ما نسمعه و نشاهده كلّ يوم من معاملة الاُمم القويّة مع الضعيفة في معاهداتهم و معاقداتهم و حفظها لها ما درّت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم و نقضها بما يسمّى عذراً وجدت الفرق بين السنّتين في رعاية الحقّ و خدمة الحقيقة.

و من الحريّ بالدين ذاك و بسننهم ذلك فإنّما هناك منطقان: منطق يقول: إنّ الحقّ تجب رعايته كيفما كان و في رعايته منافع المجتمع، و منطق يقول: إنّ منافع الاُمّة تجب رعايتها بأيّ وسيلة اتّفقت و إن دحضت الحقّ، و أوّل المنطقين منطق الدين، و ثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعيّة الهمجيّة أو المتمدّنة من السنن الاستبداديّة و الديموقراطيّة و الشيوعيّة و غيرها.

و قد عرفت مع ذلك أنّ الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمّم حكمه إلى كلّ ما بني عليه بناء و يوصي برعايته و لهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إلخ الإحلال هو الإباحة و البهيمة اسم لكلّ ذي أربع من دوّاب البرّ و البحر على ما في المجمع، و على هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الإنسان و جنس الحيوان، و قيل: البهيمة جنين الأنعام، و عليه فالإضافة لاميّة. و كيف كان فقوله:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، و قوله:( إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إشارة إلى ما سيأتي من قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ) (الآية).

و قوله:( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) حال من ضمير الخطاب في قوله:( أُحِلَّتْ لَكُمْ ) و مفاده حرمة هذا الّذي اُحلّ إذا كان اصطياده في حال الإحرام، كالوحشيّ من الظباء و البقرة و الحمر إذا صيدت، و ربّما قيل: إنّه حال من قوله:( أَوْفُوا ) أو حال من ضمير الخطاب في قوله:( يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) و الصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أنّ

١٧١

الحرم بضمّتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً ) خطاب مجدّد للمؤمنين يفيد شدّة العناية بحرمات الله تعالى.

و الإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة و المنزلة، و يتعيّن معناه بحسب ما اُضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها و تركها، و إحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته و القتال فيه، و هكذا.

و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و كأنّ المراد بها أعلام الحجّ و مناسكه. و الشهر الحرام ما حرّمه الله من شهور السنة القمريّة و هي: المحرّم و رجب و ذوالقعدة و ذوالحجّة.

و الهدي ما يساق للحجّ من الغنم و البقر و الإبل. و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلّد به الهدي في عنقه من نعل و نحوه ليعلم أنّه هدي للحجّ فلا يتعرّض له. و الآمّين جمع آمّ اسم فاعل من أمّ إذا قصد، و المراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. و قوله:( يَبْتَغُونَ فَضْلًا ) ، حال من( آمِّينَ ) و الفضل هو المال، أو الربح الماليّ فقد اُطلق عليه في قوله تعالى:( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ) (آل عمران: ١٧٤) و غير ذلك أو هو الأجر الاُخرويّ أو الأعمّ من المال و الأجر.

و قد اختلفوا في تفسير الشعائر و القلائد و غيرهما من مفردات الآية على أقوال شتّى، و الّذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، و لا جدوى في التعرّض لتفاصيل الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) أمر واقع بعد الحظر لا يدلّ على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، و الحلّ و الإحلال - مجرّداً و مزيداً فيه - بمعنى و هو الخروج من الإحرام.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) يقال: جرمه يجرمه أي حمله، و منه الجريمة للمعصية لأنّها محمولة من حيث

١٧٢

وبالها، و للعقوبة الماليّة و غيرها لأنّها محمولة على المجرم. و ذكر الراغب أنّ الأصل في معناها القطع. و الشنآن العداوة و البغض. و قوله:( أَنْ صَدُّوكُمْ ) أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، و محصلّ معنى الآية: و لا يحملنّكم عداوة قوم و هو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم.

قوله تعالى: ( وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ ) المعنى واضح، و هذا أساس السنّة الإسلاميّة، و قد فسّر الله سبحانه البرّ في كلامه بالإيمان و الإحسان في العبادات و المعاملات، كما مرّ في قوله تعالى:( وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) الآية: (البقرة: ١٧٧) و قد تقدّم الكلام فيه. و التقوى مراقبة أمر الله و نهيه، فيعود معنى التعاون على البرّ و التقوى إلى الاجتماع على الإيمان و العمل الصالح على أساس تقوى الله، و هو الصلاح و التقوى الاجتماعيّان، و يقابله التعاون على الإثم الّذي هو العمل السيّئ المستتبع للتأخّر في اُمور الحياة السعيدة، و على العدوان و هو التعدّي على حقوق الناس الحقّة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم و قد مرّ شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا ) الآية: (آل عمران: ٢٠٠) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

ثمّ أكّد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثمّ و العدوان بقوله:( وَ اتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقابِ ) و هو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.

قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ ) هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام و النحل و هما مكّيّتان، و سورة البقرة و هي أوّل سورة مفصّلة نازلة بالمدينة قال تعالى:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الأنعام: ١٤٥) و قال تعالى:( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ

١٧٣

لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (البقرة: ١٧٣).

و الآيات جميعاً - كما ترى - تحرّم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية و تماثل الآية أيضاً في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها و بين تلك مؤكّدة لتلك الآيات.

بل النهي عنها و خاصّة عن الثلاثة الاُول أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير أسبق تشريعاً من نزول سورتي الأنعام و النحل المكّيّتين، فإنّ آية الأنعام تعلّل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنّه رجس، فتدلّ على تحريم أكل الرجز، و قد قال تعالى في سورة المدّثّر - و هي من السور النازلة في أوّل البعثة -:( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (المدّثّر: ٥).

و كذلك ما عدّه تعالى بقوله:( وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ ) جميعاً من مصاديق الميتة بدليل قوله:( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنّما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة و مزيد بيان للمحرّمات من الأطعمة من غير أن تتضمّن الآية فيها على تشريع حديث.

و كذلك ما عدّه الله تعالى بقوله:( وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) فإنّهما و إن كانا أوّل ما ذكراً ذكراً في هذه السورة لكنّه تعالى علّل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، و قد حرّم الفسق في آية الأنعام، و كذا قوله:( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) يدلّ على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثماً، و قد دلّت آية البقرة على تحريم الإثم، و قال تعالى أيضاً:( وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ ) (الأنعام: ١٢٠)، و قال تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) (الأعراف: ٣٣).

فقد اتّضح و بان أنّ الآية لا تشتمل فيما عدّته من المحرّمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدّم عليها من الآيات المكّيّة أو المدنيّة المتضمّنة تعداد

١٧٤

محرّمات الأطعمة من اللّحوم و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) المنخنقة هي البهيمة الّتي تموت بالخنق، و هو أعمّ من أن يكون عن اتّفاق أو بعمل عامل اختياراً، و من أن يكون بأيّ آلة و وسيلة كانت كحبل يشدّ على عنقها و يسدّ بضغطة مجرى تنفّسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة و أمثالها دائرة بينهم في الجاهليّة.

و الموقوذة هي الّتي تضرب حتّى تموت، و المتردّية هي الّتي تردّت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر و نحوهما.

و النطيحة هي الّتي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، و ما أكل السبع هي الّتي أكلها أي أكل من لحمها السبع فإنّ الأكل يتعلّق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه و السبع هو الوحش الضاري كالأسد و الذئب و النمر و نحوها.

و قوله:( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة منها كما إذا كانت فيها بقيّة من الحياة يدلّ عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفّس و نحو ذلك و الاستثناء كما ذكرنا آنفاً متعلّق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيّد بالتعلّق بالأخير من غير دليل عليه.

و هذه الاُمور الخمسة أعني المنخنقة و الموقوذة و المتردّية و النطيحة و ما أكل السبع كلّ ذلك من أفراد الميتة و مصاديقها، بمعنى أنّ المتردّية أو النطيحة مثلاً إنّما تحرمان إذا ماتتا بالتردّي و النطح، و الدليل على ذلك قوله:( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) فإنّ من البديهيّ أنّهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، و إنّما تؤكلان بعد زهوقها و حينئذ فإمّا أن تذكّيا أو لا، و قد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلّا إذا ماتتا عن تردّ أو نطح من غير تذكية، و أمّا لو تردّت شاة - مثلاً - في بئر ثمّ اُخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلاً أو كثيراً ثمّ ماتت حتف أنفها أو ذكّيت بذبح فلا تطلق عليها المتردّية، يدلّ على ذلك السياق فإنّ المذكورات فيها ما إذا هلكت، و استند هلاكها إلى الوصف الّذي ذكر لها كالانخناق و الوقذ و التردّي و النطح.

١٧٥

و الوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربّما يسبق إلى الوهم أنّها ليست ميتة بناءً على أنّها أفراد نادرة منها و الذهن يسبق غالباً إلى الفرد الشائع، و هو ما إذا ماتت بمرض و نحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرّح تعالى بهذه الأفراد و المصاديق النادرة بأسمائها حتّى يرتفع اللبس و تتّضح الحرمة.

قوله تعالى: ( وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) قال الراغب في المفردات: نصب الشي‏ء وضعه وضعاً ناتئاً كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيب الحجارة تنصب على الشي‏ء، و جمعه نصائب و نصب، و كان للعرب حجارة تعبدها و تذبح عليها قال:( كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) ، قال:( وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) و قد يقال في جمعه: أنصاب قال:( وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ ) . و النُصب و النَصب: التعب.

فالمراد من النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستنّ بسنن الجاهليّة في ذلك فإنّهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجاراً يقدّسونها و يذبحون عليها، و كان من سنن الوثنيّة.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) و الأزلام هي القداح، و الاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور - أو بهيمة اُخرى - على سهام ثمّ يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممّن لا سهم له، و في تشخيص نفس السهام المختلفة و هو الميسر، و قد مرّ شرحه عند قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) الآية: (البقرة: ٢١٩) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسماً و قسمة، و قسمة الميراث و قسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال:( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ( وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ ) و استقسمته سألته أن يقسم، ثمّ قد يستعمل في معنى قسم قال:( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) ، و ما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنّما هو بحسب الانطباق مصداقاً، و المعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام الّتي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتّب عليها فيصدق الاستفعال.

١٧٦

فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهيّ عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور و نحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.

و أمّا ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير و الشرّ في الأفعال، و تمييز النافع منها من الضارّ كمن يريد سفراً أو ازدواجاً أو شروعاً في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها ممّا لا خير فيه - قالوا: و كان ذلك دائراً بين عرب الجاهليّة، و ذلك نوع من الطيرة، و سيأتي زيادة شرح له في البحث الروائيّ التالي - ففيه: أنّ سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، و ذلك أنّ الآية - و هي مقام عدّ محرّمات الأطعمة، و قد اُشير إليها قبلاً في قوله:( إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) - تعدّ من محرّماتها عشراً، و هي: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به و المنخنقة و الموقوذة و المتردّية و النطيحة و ما أكل السبع و ما ذبح على النصب، ثمّ تذكر الاستقسام بالأزلام الّذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، و من معناه استعلام الخير و الشرّ في الاُمور، فكيف يشكّ بعد ذلك السياق الواضح و القرائن المتوالية في تعيّن حمل اللفظ على استقسام اللحم قماراً؟ و هل يرتاب عارف بالكلام في ذلك؟.

نظير ذلك أنّ العمرة مصدر بمعنى العمارة، و لها معنى آخر و هو زيارة البيت الحرام، فإذا اُضيف إلى البيت صحّ كلّ من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لله ) البقرة: ١١٩ إلّا المعنى الأوّل، و الأمثلة في ذلك كثيرة.

و قوله:( ذلِكُمْ فِسْقٌ ) يحتمل الإشارة إلى جميع المذكورات، و الإشارة إلى الأخيرين المذكورين بعد قوله:( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) لحيلولة الاستثناء، و الإشارة إلى الأخير و لعلّ الأوسط خير الثلاثة.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) أمر الآية في حلولها محلّها ثمّ في دلالتها عجيب، فإنّك إذا تأمّلت صدر الآية أعني قوله تعالى:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ - إلى قوله -ذلِكُمْ فِسْقٌ ) و أضفت إليه ذيلها أعني قوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وجدته

١٧٧

كلاماً تامّاً غير متوقّف في تمام معناه و إفادة المراد منه إلى شي‏ء من قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) إلخ أصلاً، و ألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدّم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سورة الأنعام و النحل و البقرة المبيّنة لمحرّمات الطعام، ففي سورة البقرة:( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) و يماثله ما في سورتي الأنعام و النحل.

و ينتج ذلك أنّ قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقّف عليه لفظ الآية في دلالتها و بيانها، سواء قلنا: إنّ الآية نازلة في وسط الآية فتخلّلت بينها من أوّل ما نزلت، أو قلنا: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي أمر كتّاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين و اختلافهما نزولاً. أو قلنا: إنّها موضوعة في موضعها الّذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولاً، فإنّ شيئاً من هذه الاحتمالات لا يؤثّر أثراً فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلّل معترضاً إذا قيس إلى صدر الآية و ذيلها.

و يؤيّد ذلك أنّ جلّ الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلّها، و هي أخبار جمّة - يخصّ قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ بالذكر من غير أن يتعرّض لأصل الآية أعني قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) ، أصلاً، و هذا يؤيّد أيضاً نزول قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) إلخ نزولاً مستقلّاً منفصلاً عن الصدر و الّذيل، و أنّ وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى تأليف المؤلّفين بعده.

و يؤيّده ما رواه في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد عن الشعبيّ قال: نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية - و هو بعرفة -:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) و كان إذا أعجبته آيات جعلهنّ صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلّمه كيف ينسك.

ثمّ إنّ هاتين الجملتين أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) و قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) متقاربتان مضموناً، مرتبطتان مفهوماً بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفّار من دين المسلمين و بين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب،

١٧٨

و قبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركّبا مضموناً واحداً مرتبط الأجزاء، متّصل الأطراف بعضها ببعض، مضافاً إلى ما بين الجملتين من الاتّحاد في السياق.

و يؤيّد ذلك ما نرى أنّ السلف و الخلف من مفسّري الصحابة و التابعين و المتأخّرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متّصلتين يتمّ بعضهما، بعضاً و ليس ذلك إلّا لأنّهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، و بنوا على نزولهما معاً، و اجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.

و ينتج ذلك أنّ هذه الآية المعترضة أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ - إلى قوله -:وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) كلام واحد متّصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتّت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل، فإنّ ذلك لا يؤثّر البتّة في كون هذا المجموع كلاماً واحداً معترضاً لا كلامين ذوي غرضين، و أنّ اليوم المتكرّر في قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، و في قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، اُريد به يوم واحد يئس فيه الكفّار و اُكمل فيه الدين.

ثمّ ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ ) ؟ فهل المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته فيكون المراد أنّ الله أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين و أتمّ عليكم النعمة و أيأس منكم الكفّار؟.

لا سبيل إلى ذلك لأنّ ظاهر السياق أنّه كان لهم دين كان الكفّار يطمعون في إبطاله أو تغييره، و كان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين ممّا طمعوا فيه و آمن المسلمين و أنّه كان ناقصاً فأكمله الله و أتمّ نعمته عليهم و لم يكن لهم قبل الإسلام دين حتّى يطمع فيه الكفّار أو يكمله الله و يتمّ نعمته عليهم.

على أنّ لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدّم قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ) ، على قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، حتّى يستقيم الكلام في نظمه.

أو أنّ المراد باليوم هو ما بعد فتح مكّة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش

١٧٩

و أذهب شوكتهم، و هدم فيه بنيان دينهم، و كسر أصنامهم فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، و يضادّوا الإسلام و يمانعوا نفوذ أمره و انتشار صيته؟

لا سبيل إلى ذلك أيضاً فإنّ الآية تدلّ على إكمال الدين و إتمام النعمة و لمّا يكمل الدين بفتح مكّة - و كان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، و كم من حلال أو حرام شرّع فيما بينه و بين رحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

على أنّ قوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعمّ جميع مشركي العرب و لم يكونوا جميعاً آيسين من دين المسلمين، و من الدليل عليه أنّ كثيراً من المعارضات و المواثيق على عدم التعرّض كانت باقية بعد على اعتبارها و احترامها، و كانوا يحجّون حجّة الجاهليّة على سنن المشركين، و كانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتّى بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهليّة.

أو أنّ المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب تقريباً، و عفت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين و مناسك الحجّ أحداً من المشركين، وصفا لهم الأمر، و أبدلهم الله بعد خوفهم أمناً يعبدونه و لا يشركون به شيئاً؟

لا سبيل إلى ذلك فإنّ مشركي العرب و إن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة و طيّ بساط الشرك من الجزيرة و إعفاء رسوم الجاهليّة إلّا أنّ الدين لم يكمل بعد و قد نزلت فرائض و أحكام بعد ذلك و منها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، و قد اتّفقوا على نزولها في آخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و فيها شي‏ء كثير من أحكام الحلال و الحرام و الحدود و القصاص.

فتحصّل أنّه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع ممّا يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الإسلاميّة أو ما بعد فتح مكّة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلّا أن يقال: إنّ المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها، و هو يوم نزول السورة إن كان قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، معترضاً مرتبطاً بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة

١٨٠